18 سبتمبر، 2025، والساعة الآن 10:01 مساءً بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 16

دين التقليد أو دين الذات

د. السيد ولد أباه

«محمد الطالبي» مؤرخ ومفكر تونسي معروف أسس في السنوات الأخيرة جمعية باسم «المسلمين القرآنيين» خصصها لمناقشة ونشر أطروحاته المثيرة التي أثارت جدلاً واسعاً، رغم أن الرجل الذي وصل في عمره إلى قرابة مائة سنة عرف من قبل بهدوئه وعزوفه عن الحياة العامة.

 

ما يعنيه الطالبي بالمسلم القرآني هو حصر المرجعية الدينية في القرآن الكريم دون السنة التي لا يعتبرها من مصادر الدين بل هي في الصحيح منها (وهو القليل النادر حسب رأيه) شارحة للقرآن ومفصلة له، كما يرفض اعتبار العقوبات البدنية المنصوصة في القرآن من ثوابت الدين بل هي وفق فهمه متصلة بسياق تاريخي ومجتمعي خاص وليست ملزمة للمسلمين اليوم.

 

 

 

 

ليس من همنا استعراض آراء الطالبي المثيرة للجدل، وإنما حسبنا الإشارة إلى جانب واحد منها يتعلق بالموقف التأويلي، أي بالعلاقة التي أقامها التراث الإسلامي مع النص المقدس فهماً وتفسيراً وتنزيلاً، معتبرين أن ما يدعو إليه الطالبي من ضرورة اعتماد الاجتهاد الفردي الحر في قراءة النص ليس بالضرورة وسيلة إلى الإبداع والتجديد في التجربة الدينية المعيشة والمعرفية، بل قد يكون طريقاً لأخطر نزعات الانغلاق والتشدد.

المفارقة الغريبة أن الطالبي نفسه هاجم الحداثيين العرب (محمد أركون وَعَبَد المجيد الشرفي..)؛ في نظرتهم للدين ووصفهم بالانسلاخ من الإسلام، من موقع دفاعي عن التقليد الذي يدعو راهناً إلى القطيعة معه، وإن من مرجعية غيورة على الإسلام ومدافعة عنه (مقابل الأطروحات الاستشراقية التي يتميز الطالبي بالاطلاع الواسع عليها).

 

ما نريد تبيينه هو أن التقليد وإن كان في جانب منه سلطة تأويلية ومعرفية مقيدة وضاغطة، فإنه من وجه آخر يعتبر رصيداً تأويلياً شديد التنوع والاختلاف يعبر عن تجربة ثرية واسعة ويقدم الدليل العملي على قابلية النصوص المرجعية للفهم المتنوع رغم الاتفاق في المصادرات التأويلية الكبرى.

 

التقليد هو في حقيقته حصيلة استيعاب معتقدات الدين وقيمه في السياقات الثقافية للمجتمعات المسلمة، ولم يكن كما يرى البعض مجرد تطبيق إجرائي حرفي لأحكام معيارية مطلقة تتعالى على التاريخ، بل هو نتاج جدلية التفاعل الحي بين النص والواقع التي تصل إلى حد تصور المعتقدات الجوهرية (ومن هنا ما أشار إليه الفقيه والمفكر الفرنسي طارق أوبرو بعبارة لاهوت المثاقفة).

 

إن خطر إلغاء التقليد هو تكريس انفصام النص مع حوامله الثقافية، بما يعني البحث الراديكالي الانتحاري عن علاقة مباشرة مع النص والتماهي معه بإلغاء الوسائط التاريخية والمجتمعية في العلاقة بالنص، وهو الاتجاه الذي نلمسه حالياً لدى النزعات الراديكالية التكفيرية والجماعات المتطرفة العنيفة التي تتسمى بالسلفية.

 

الفرق الكبير بين «السلفيات الجديدة» والمفهوم التراثي للسلفية هو أن هذا المفهوم التراثي تمحور حول مطلب الإصلاح والتجديد من داخل المنظومة التأويلية، بالاستناد إلى أحد أوجه التجربة التاريخية للمسلمين، في حين أن النزعات الراديكالية الجديدة فهمت الخيار السلفي بمعنى محاربة التقليد ذاته من منظور الرجوع إلى «الأصول الأولى» قبل «التحريف»، ومن هنا العلاقة العدائية بالمجتمع وتمثلاته الدينية العامة.

 

إن هذا التصور القطائعي هو في حقيقته مظهر لعلاقة متوترة بالنسق الديني القائم في المجتمعات المسلمة وبالمؤسسة الدينية، ولذا فإنه لا يدخل في ديناميكية الإصلاح الداخلي التي هي من محددات التقليد الإسلامي وتجاربه العادية مهما كانت طبيعتها ووجه الشذوذ أحياناً فيها، وإنما هو مظهر لتصور حداثي ملتبس ومنحرف يخرج الدين من قوالبه المؤسسية الناظمة ليحوله إلى ظاهرة وعي فردي ذاتي خارج أي أطر للتحكم.

 

لقب أثبت الفيلسوف الألماني «غدامير» أن الممارسة التأويلية تحتاج إلى تقليد تستمد منه فرضياتها الموجهة وتنطلق من رصيده المعرفي الذي يتضمن إمكانات ضمنية لا محدودة، معتبراً أن سلطة النص لا تعني بالضرورة القهر والإكراه. ذلك ما أدركه علماء الإسلام في العصور الوسيطة، على عكس دعاة التطرف المعاصرين، وعبّر عنه أبو حامد الغزالي بقوله: «ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وفقاً على أحد من النظار بعينه فهو إلى الكفر والتناقض أقرب».

آفاق الوضع الأمني والسياسي في شمال مالي/ عبد الله ممادو باه

 

منذ اندلاع الحرب الداخلية ذات الأطراف المتداخلة والأهداف المتشابكة في شمال مالي، ظل العالم يتساءل عن المآلات المحتملة لتلك الحرب “الخلفية” الدائرة في إحدى أكثر بؤر العالم فقرًا وبؤسًا وفي ركن قصي من القارة الإفريقية حيث يتعايش الإرهاب مع الفقر والظلم مع الاضطهاد والمعاناة. ذلك أن كلاًّ من الأطراف الثلاثة الرئيسية المباشرة فيها يسعى إلى تحقيق أقصى ما يمكن الوصول إليه إستراتيجيًّا لفرض أمر واقع يدفع ببقية الأطراف إلى الركون إلى حلقة مفاوضات قد تكون طويلة ومضنية يكسب من خلالها الطرف المهيمن (وهو بلا شك الحركات الجهادية السلفية المتحالفة مع أباطرة التهريب وتجار الأسلحة) مزيدًا من الوقت لترسيخ الأمر الواقع بتعزيز مركزه و فرض أجندته.

الحرب المباغتة

بدأت الحرب الدائرة حاليًا في شمال مالي أو في ما يُعرف منذ عقود بإقليم أزواد في أواسط شهر يناير/كانون الثاني 2012. ويُجمع المراقبون على أنها انعكاس مباشر لانهيار النظام الليبي الذي كان يعتبر الحاضنة الأساسية لمختلف الحركات الانفصالية في المنطقة، خاصة الطارقية منها، والتي كانت تنشط في مالي أساسًا وفي النيجر أحيانًا ولو بشكل أقل انتظامًا. كما أنها جاءت لتشكِّل حلقة متقدمة في مسلسل انهيار الدولة في مالي والذي بدأ تدريجيًّا منذ بداية العشرية الحالية بعد عودة الجنرال المتقاعد من الجيش، آمادو توماني توري، إلى الحكم إثر انتخابات الثاني عشر من مايو /أيار سنة 2002، حيث تميز حكمه بالمرونة إلى حد الهوان.

رغم الاحتقان الشديد الذي يخيم منذ أكثر من عقد على التخوم الصحراوية لمالي على طول الخطوط الحدودية التي تربط البلد بكلٍّ من موريتانيا والنيجر والجزائر بفعل سيطرة مجموعات منظمة ولكنها غير مصنفة كشبكات تهريب المخدرات والاتجار بالمحظورات، والناشطة تحت وصاية فصائل المجموعات المحسوبة على الحركات الجهادية المعادية للأنظمة القائمة، لم يكن أكثر المراقبين فطنة يتوقع حربًا من قبيل ما يحدث منذ منتصف يناير/كانون الثاني 2012 في الشمال المالي، خاصة أن موازين القوى كانت مختلة وغاية في الضبابية. ومع ذلك، ظل احتمال نشوب حرب واسعة بمبادرة من تلك الجماعات مستبعدًا، خاصة أن الدولة المالية ظلت تتجاهل الخطر الجاثم على تخومها، معتبرة أنه غير ذي بال ما دام بعيدًا عن المركز في باماكو وعن كبريات المدن؛ مما جعلها تنأى بنفسها عن أية مواجهة مفتوحة مع تلك القوى، تاركة لها حرية التنقل والتصرف في مجالها الواسع والمفتوح على أكثر من منفذ.

ومع أنه بات من شبه المسلَّم به إقليميًّا ودوليًّا أن تحالف الجماعات المسلحة والموسومة بكونها إرهابية ومن ممتهني التهريب تمكّن من بسط سيطرته على مساحة تتجاوز 60% من إجمالي الرقعة الترابية لمالي (أي ثلثا أراضي البلد)، وأنه من  المستحيل القضاء على هذا التحالف وتفكيكه بمجهود دولة واحدة على انفراد؛ لذلك ظلت القوى الإقليمية ودول الجوار تنظر (دون حراك ومع غياب أية إرادة مشتركة لتنسيق جاد يمكِّن من القيام بمبادرة عسكرية تحسم الموقف) بكثير من القلق إلى تحول الصحراء إلى قاعدة خلفية للجماعات المسلحة المتشددة وملاذ آمن لشبكات التهريب العابرة للقارات. هذا ما جعل حكومة آمادو توماني توري تتهرب من مسؤولياتها وتستخدم ورقة انفلات السلطة في شمال بلادها، بما يشكِّله من تهديد للجوار، ورقة ضغط لحمل الجميع على التعاون العسكري العاجل من أجل تحرير “الربع السائب” من مالي. لكن الدول المعنية ظلت تماطل وتختلق الذرائع من أجل التنصل من “الواجب” متجاهلة بذلك الخطر الجاثم. إلا أن تطورات الوضع في ليبيا قلبت، وبوتيرة متسارعة، كل الموازين، وجعلت ما لم يكن في الحسبان على المدى المنظور واقعًا يهدد كافة المنطقة المغاربية-الساحلية، ويطرح إشكالية عصية على المجتمع الدولي برمته؛ فالجماعات الجهادية التي كانت تتخفى في الفيافي والصحاري، طريدة الدول والحكومات وأجهزة المخابرات، تعيش من الفدى المحصلة من ريع اختطاف الرهائن ومن “إتاوات” حماية مسالك التهريب، أصبحت تتحكم في فضاء جغرافي واسع يعادل مساحة دولة كفرنسا.

“الهدية” الليبية والتأطير البربري

ظل نظام معمر القذافي، ولسنوات طويلة، الموجِّه الأساسي لمجريات الأمور في العديد من بلدان الصحراء والساحل، خاصة في النيجر ومالي؛ حيث كان يمسك بملف حركات الانفصال الطارقية المعقد، ويوجهه حسب هواه ومزاجه تبعًا لما يرى أنه صمام أمان يضمن الحفاظ على محورية النفوذ الليبي في المنطقة. ويكمن السر في التأثيرات الليبية على هذا الملف في كون الجماهيرية هي البلد الذي استوعب آلاف الشباب من “الملثمين” بعد موجات الجفاف الماحقة التي ضربت المنطقة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ومكّن ذلك التواجد المكثف لشبان بلا مؤهلات ولا تكوين تربوي يُذكَر الحكومة الليبية من الحصول على مجندين يمكن استخدامهم كمرتزقة في حروبها التوسعية، كما حدث في تشاد ضد نظام حسين حبري في بداية ثمانينيات القرون الماضي، أو لإيفادهم كألوية “مجاهدة” لتحرير فلسطين ولبنان من الغزو الإسرائيلي في نفس الحقبة. كما استُخدموا في حروب استنزاف ضد بعض الأنظمة التي لا تروق توجهاتها لحكام طرابلس المزاجيين حينها. وكثيرًا ما استُخدمت هذه الورقة، خاصة في إفريقيا.

وعندما انحسر الدور الليبي في تلك الصراعات، بدأت المجموعات الطارقية تفكر جديًّا في بعث “روح الثورة” في مطالبها المحلية في دول الأصل؛ مما ولد نزعة متجددة في التوجهات الانفصالية التي أُجهضت مرارًا؛ فكانت حركة التمرد الأولى، بعد تلك المجهَضة في المهد سنة 1960، تلك التي اندلعت في العام 1990 تحت إمرة إياد آغ غالي مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير أزواد والذي تحول بعد ذلك من ثوري يساري إلي شيخ سلفي يقود حركة أنصار الدين، أحد أذرع القاعدة في المغرب الإسلامي الأكثر تطرفًا والأوسع انتشارًا في الأوساط الشعبية الطارقية حاليًا.

لكن الحركة الانفصالية في التسعينيات سرعان ما انقسمت على نفسها لأسباب عقدية أو قبلية محضة، وإن نجحت في فرض نفسها كشريك سياسي فاعل في اتفاق تمنراست لسنة 1991 مع الحكومة المالية تحت رعاية جزائرية. وأفضى نفس الاتفاق إلى توقيع الميثاق الوطني لسنة 1992 مع الحكومة المالية والذي تقبل بموجبه منح صلاحيات محلية موسعة لأقاليم الشمال ووضع خطة تنموية خاصة بها، تشمل زيادة وتوسيع الاستثمار الحكومي في التنمية المحلية بخلق البني التحتية وتأمين مواطن الشغل للمقاتلين الطوارق ودمجهم في المنظومة الإدارية والعسكرية والأمنية للدولة المالية. إلا أن ذلك لم يضع حدًّا للحركات المسلحة المطالبة بالانفصال، حيث عاد التمرد للواجهة سنة 94-95 ثم في مايو/أيار 2006 قبل أن تتدخل الجزائر مجددًا لاحتضان صلح سُمِّي باتفاق الجزائر وُقِّع في 4 يوليو/تموز 2006.

تعهدت ليبيا بإيواء الرافضين للاتفاق الأخير (2006)، وقامت بدمجهم في نسيجها العسكري من خلال إغراق بعض الوحدات الأمنية الليبية بعناصر طارقية. ومن بين هؤلاء، العقيد محمد آغ ناجم الذي أصبح، فيما بعد، أحد قيادات كتائب القذافي الشهيرة. وقد لعب آغ ناجم لاحقًا -إبان الثورة على نظام القذافي- دورًا مهمًّا في تهريب السلاح الليبي نحو الجبهات الخلفية التي كان يتواجد فيها عناصر حليفه إبراهيم آغ باهنغا الذي كان يحضِّر لتوسيع نطاق تمرده المسلح الجديد الذي أطلقه سنة 2006 قبل أن يستأنفه سنة 2009 بالتواطئ مع قوى إقليمية تنظر بعين الريبة والحنق إلى استكانة باماكو في مواجهة القاعدة في المغرب الإسلامي. إلا أن آغ باهنغا لقي مصرعه إثر حادث سير في شهر أغسطس/آب سنة 2011 قبل أن تكتمل رحلة نقل السلاح الليبي إلى معاقل المتمردين في الشمال المالي، وبات لزامًا على أنصاره التأقلم السريع مع معطى غياب “المنظِّر”.

بعد شهرين من وفاة آغ باهنغا، قررت حركتان من الطوارق، هما الحركة الوطنية لأزواد وهي مشكَّلة أساسًا من مثقفين يقيمون في أوروبا وموريتانيا وبوركينا فاسو والفصيل العسكري لحركة آغ باهنغا، المعروف  بـ “تحالف الـ23 مايو لطوارق مالي والنيجر”، الاندماج في الحركة الوطنية لتحرير أزواد. ووُقِّع محضر الاندماج في 16 أكتوبر /تشرين الأول 2011 دون أن يسترعي ذلك انتباه أحد. ولعب المؤتمر الأمازيغي العالمي (الذي يتخذ من باريس مركزًا له) دورًا مهمًّا في الاتفاق، بل وساهم، بشكل فعّال، من خلال آلة إعلامية ضخمة، في فرض وجود الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وتقديمها للعالم كمنظمة تحرير ليبرالية تتبني الفكر الديمقراطي ذا المرجعية العلمانية.

ويتواتر على نطاق واسع أن عناصر الحركة الذين استفادوا من التحاق وحدات كاملة من الجيش النظامي الليبي المدحور، مدججة بالعتاد والسلاح، هي من أطلق شرارة الحرب في 17 يناير/كانون الثاني 2012 من مدينة مناكا حتى ضواحي آغلهوك، وإن كانت قد حصلت، في عملياتها الخاطفة، على سند معتبر من القاعدة وحلفائها في الميدان. و توالت “فتوحات” الحركة حتى سيطرت على كبريات مدن الشمال بمباركة ومساندة حذرة من الحركات الجهادية، وأصبحت بذلك تحكم قبضتها على شريط ممتد على آلاف الكيلومترات من مناكا على حدود النيجر حتى ليرى على مرمي حجر من الحدود الموريتانية.

في نشوة انتصاراتها الخاطفة أمام الجيش المالي المنهار، سارعت الحركة إلى إعلان استقلال إقليم أزواد من جانب واحد في السادس من  إبريل/نيسان 2012، متخذة من غاو عاصمة للدولة الوليدة. كما قامت بتسمية  مجلس انتقالي يضم 28 عضوًا عُهد إليه بالتسيير المؤقت للأمور تحت رئاسة بلال آغ الشريف المنتسب لعائلة أرستقراطية من قبيلة الإيفوقاس والمقرَّب من بوركينا فاسو وبعضوية العقيد آغ ناجم، الضابط السابق في كتائب القذافي، كوزير للدفاع، من بين رموز عدة. لكن الحركة وجدت نفسها في عزلة دولية كبيرة حيث لم تعترف بها أية دولة في العالم، نظرًا للعديد من الاعتبارات والتي من بينها أن الطوارق، رأس حربة الحركة الانفصالية، لا يشكِّلون أكثر من 10% من سكان الإقليم الذي يتقاسمونه مع مجموعات سكانية أخرى كالسونغاي والفلان والعرب؛ إضافة إلى أن الطرح القومي المتزمت الذي يدافع به بعض قادة المنظمة عن مشروع دولتهم أثار الكثير من المخاوف والتحفظات لدى المجموعات الأخرى، بما فيها العرب، التي ترى في جمهورية أزواد مشروع دولة طارقية الثقافة والتوجه وبربرية “الهوية”. كما أن الاتهامات المتواترة من قبل منظمات إنسانية محايدة ضد مقاتلي الحركة بارتكاب فظاعات وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في الشمال المالي (بما فيها مذبحة آغلهوك ضد أكثر من مائة جندي مالي، وغيرها من جرائم القتل والتصفية الجسدية البشعة والاغتصاب) ضد المنحدرين من القوميات الأخرى لم تكن لتخدم صورة المشروع السياسي الأزوادي.

وبعد أقل من ثلاثة أشهر على إعلان الاستقلال، اندحرت القوة “الكاسحة” للحركة الوطنية لتحرير أزواد أمام فلول الجهاديين من أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد، حلفاء القاعدة في المغرب الإسلامي التي أظهرت الأحداث لاحقًا أنها السيد الفعلي في المنطقة. ولم يشفع للحركة الاستقلالية محاولاتها المتكررة للتقارب مع الكتيبة الطارقية للقاعدة، أنصار الدين، لحيازة الشرعية السياسية ميدانيًّا ولا كسب ما يمكن اعتباره مهادنة ضمنية مع الأصوليين الرافضين لفكرة الانفصال من حيث المبدأ والساعين لتحقيق هدفهم المعلن وهو إنشاء دولة الخلافة الإسلامية في كافة ربوع غرب إفريقيا و”تطبيق شرع الله فيها”، ولسان حالهم يردد من أعلى المنابر الإعلامية: “دولة الشريعة لا دويلة الانفصال”!!

“الجهاديون” يكسبون الرهان مؤقتًا

غطت الضجة الإعلامية الكثيفة لحلفاء الحركة الوطنية لتحرير أزواد على كثير من تفاصيل المشهد ميدانيًّا؛ حيث كانت الخلية الناشطة في باريس والمؤازَرة من قِبل الحركة الأمازيغية العالمية و”ملحقات” من الإدارة الفرنسية وناشطين في بعض دول المنطقة كموريتانيا وبوركينا فاسو، تسوق كل الانتصارات المحقَّقة ميدانيًّا كحصيلة للحركة، غاضة الطرف عن الحقيقة الجوهرية المرّة وهي أن مقاتلي القاعدة ومشتقاتها هم الذين يقومون بالعمل الأهم في ساحات المعارك. وقد سلكت القاعدة إستراتيجية ذكية في ذلك، وهي: “دع الخصم الصغير يتلذذ بأوهام انتصاراته المزعومة للوقيعة بمن هو أكبر منه”. وفعلاً كان لمخططيها ما أرادوا في الجولة المستمرة حتى الآن من السجال، فأخلت غاو وكافة الشمال من أتباع الحركة الانفصالية التي لجأت إلى مرتفعات زكاكة شمالي كيدال حيث يعسكر مقاتلوها انتظارًا لإعادة تجميع الصفوف. وتقدِّر بعض التقارير الصحفية عدد المقاتلين المنضوين تحت لواء الحركة بقرابة 600 متطوع.

ولما أنقشع غبار المعركة للسيطرة على الشمال وظهرت الموازين على حقيقتها، بدت منطقة أزواد كإقليم مستباح يدرك المرء، للوهلة الأولي على الأقل، أن الغلبة فيه للجماعات الجهادية المؤطَّرة تحت إمرة مختار بلمختار أحد زعماء القاعدة في المنطقة وهو المنسق الرئيس لأنشطة التنظيم ومسيِّره الميداني. وتعتمد هذه الحركات على قرابة ألفي مقاتل يتوزعون كالنحو التالي: القاعدة: 600 مقاتل، أنصار الدين: 700 مقاتل، حركة التوحيد والجهاد ومتطوعو بوكو حرام: 300 مقاتل. إضافة إلى متطوعين توافدوا مؤخرًا على الإقليم من آسيا، خاصة من الباكستان والهند وأفغانستان ومن بعض الدول العربية. ويُقدَّر عدد هؤلاء بقرابة 300 متطوع. وقد شرعت فصائل من هذه الحركات في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بإقامة الحدود في حالات زنا وسُكْر وسرقة، رغم إخفاقها الجلي في توفير الخدمات اليومية الأساسية وتأمين الناس وتسهيل أساليب الحياة لهم؛ مما جعل أعداد النازحين من الماليين نحو دول الجوار تزداد يوميًّا لتتجاوز أكثر من نصف مليون شخص موزعين أساسًا بين الجزائر والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو.

ويبدو من خلال تطورات الوضع وتقلباته أن وراء الحرب الخاطفة التي دارت في الشمال المالي تفاهمات مبدئية مسبقة بين السلفيين الجهاديين بتفريعاتهم الثلاثة (أنصار الدين، التوحيد والجهاد، القاعدة) وتنظيم الحركة الوطنية لتحرير أزواد على أن تضع الأطراف خلافاتها جانبًا حتى يتم التخلص من القبضة العسكرية المالية ثم التفرغ بعد ذلك لإيجاد أرضية للتفاهم والعمل المشترك. لكن تلك التفاهمات انهارت فجأة عندما أرادت الحركة العلمانية، بإيعاز من سندها القوي في باريس وبعض دول المنطقة، احتواء القاعدة ومحاولة حصر دورها في الميدان تمهيدًا لطردها من الإقليم، طبقًا للإستراتيجية التي تم اعتمادها في باريس ونواكشوط، على الأقل، كشرط لدعم الحركة الأزوادية منذ انطلاقتها. ولكن ما حصل هو أن القاعدة وأخواتها عززت من مركزها وضاعفت من خطورة التهديد الذي ظلت تمثله على المنطقة والعالم بعد أن خلت لها الساحة وبدأت العمل كدولة تسيطر على ربوع تمتد على أكثر من 830 ألف كيلو متر مربع.

“المركز” في كف عفريت

أدى تهاوي “الدفاعات الأمامية” للجيش المالي والانهيار الكامل لوحداته أمام تحالف الانفصاليين الطوارق والحركات الجهادية إلى سقوط كبريات مدن ومن ثَمَّ قرى الشمال المالي تباعًا؛ مما ولَّد موجة استياء واسعة في كافة الأوساط السياسية والشعبية والأمنية في البلد. وبدأت أصابع الاتهام توجَّه للرئيس آمادو توماني توري “بالتولي يوم الزحف” وبإضعاف الجيش وغض الطرف عن المتمردين الطوارق وحتى بالتواطؤ مع القاعدة والتستر على رشى كان يقدمها التنظيم الموسوم بالإرهابي لكبار الضباط والموظفين لبسط نفوذه وإحكام سيطرته على النسيج الاقتصادي للمنطقة.

في 21 مارس/آذار 2012 قامت وحدة عسكرية من القبعات الخضر المتمركزة في ثكنة كاتي بضواحي باماكو بمهاجمة القصر الرئاسي الواقع على مرتفعات كولوبا في قلب العاصمة المالية. ولم ينج الرئيس تورى بجلده إلا بدعم من السفارة الأميركية التي أرسلت له سيارة مدرعة وآوته بعدما نجح شبان من حرسه الخاص في إخراجه خلسة من القصر. وتبني المنقلبون على الرئيس (الذي كان يستعد لتنظيم انتخابات رئاسية في إبريل/نيسان 2012 ثم ينقل بعدها السلطة لرئيس جديد منتخب) خطابًا شعبويًّا يرتكز على الشروع الفوري في إعادة تنظيم الجيش المنهار وتسليحه، ووضع كافة الإمكانيات تحت تصرفه من أجل استعادة الشمال وطرد الجماعات المسلحة منه.

أمام ارتباك القادة الجدد في تحديد معالم وآليات تطبيق برنامجهم، بدا بديهيًّا، منذ الأيام الأولى بعد الإطاحة بالرئيس توماني تورى، أن ما حدث في باماكو لم يكن، في حقيقته، سوى استغلال لتعطش بعض صغار الضباط للسلطة من قبل بعض القوي السياسية لقلب الموازين الانتخابية التي كانت تميل لصالح أنصار الرئيس المنتهية ولايته والحيلولة بذلك دون تنظيم الاستحقاق المنتظر. عمّق الانقلاب هوة الخلافات الداخلية وصرف الأنظار عن تقدم المتمردين والجهاديين على كافة جبهات القتال في الشمال بعد إرباك ما تبقى من الوحدات العسكرية التي ظلت تحاول الدفاع عمّا يمكن حمايته وتقاتل من دون قيادة مركزية. كما ترك الانقلاب المدنيين الذين يعيشون في ولايات الشمال الثلاث (كيدال، غاو، تمبكتو) وحدهم في مواجهة سطوة ما يسمى الإرهاب ونقمة الانفصاليين في ظل أزمات متلاحقة جرّاء تناقص للمواد الضرورية للحياة كالماء والدواء والكهرباء وغيرها. ولم يزد الفرض القسري لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على السكان الأمر إلا سوءًا وتعقدًا.

وحيال هذا التطور المعقد، أجمعت كافة الأطراف الدولية المؤثرة والوازنة كالأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الأوروبي وكافة دول الجوار على إدانة الانقلاب. وشكَّلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا -التي جمدت عضوية مالي- لجنة للاتصال برئاسة الرئيس البوركيني، بليز كومباوري، عُهِد إليها القيام بمجهود الوساطة للتوصل إلى حل توافقي ينهي الأزمة الدستورية والسياسية في الجنوب ويفضي إلى استرجاع الوحدة الترابية للبلد. ونددت المنظمة الإقليمية بمساعي الانفصال وهددت باللجوء للقوة بغية فرض عودة الأجزاء المحتلة لسيطرة السلطة المركزية في باماكو. إلا أن الاستقطاب الحاد في الجنوب، بين المؤيدين للانقلاب ومناوئيه، أربك الحسابات الدبلوماسية للوسيط البوركيني الذي نجح، بعد جولات مضنية من المباحثات، في التوصل إلى صيغة دستورية لحل الأزمة بتطبيق حيثيات الدستور، وتحجيم دور الانقلابيين، وتشكيل حكومة انتقالية تتولى تسيير الأمور تمهيدًا لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية والعمل على خلق الظروف المناسبة لاستعادة الشمال.

وبمقتضى الخطة، عُيِّن السيد جاكوندا تراوري، رئيس الجمعية الوطنية والمقرب من الرئيس المخلوع، رئيسًا انتقاليا للدولة؛ في حين سمى الفيزيائي-الفلكي موديبو جارا، صهر الرئيس السابق، الجنرال موسي تراوري (الذي أطاح به آمادو توماني توري في انقلاب عسكري سنة 1991 بعد 23 سنة من الحكم) والمقرَّب من الانقلابيين، رئيسًا للوزراء لفترة انتقالية. وأدى تلكؤ معسكر العسكر إلى تعثر المساعي وشل العمل الحكومي؛ بل إن الرئيس الانتقالي تعرض لاعتداء جسدي بشع في مقر عمله برئاسة الجمهورية، في 21 مايو /أيار 2012، على أيدي متظاهرين محسوبين على العسكر وعلى القوى السياسية الرافضة لخطة قيادة تراوري للمرحلة الانتقالية، مما استدعي نقله إلى باريس لتلقي العلاج. وبعد ما يربو على شهرين من “المنفى الاستشفائي”، عاد الرئيس تراوري في 27 يوليو /تموز 2012 إلى باماكو حاملاً معه خطة سياسية جديدة للتعجيل بمسلسل الخروج من الأزمة ومن دوامة التجاذب الذي منح لمحتلي الشمال الوقت الكافي لترتيب أوراقهم تحسبًا لأي عمل عسكري قد يوجه ضدهم.

وتقوم الخطة التي عرضها الرئيس الانتقالي على الشعب عبر خطاب علني يوم 29 يوليو /تموز 2012 على تشكيل مجلس أعلى للدولة يضم الرئيس ونائبين يتولى أحدهما الشؤون السياسية، خاصة منها الترتيب لتنظيم انتخابات عامة في أسرع ما يمكن؛ في حين يعهد للثاني بتنسيق العمل الأمني وإصلاح المؤسسة العسكرية مع صلاحيات خاصة لوضع خطة لاسترجاع الشمال. ويتم كذلك تعيين حكومة وحدة وطنية تضم مختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية لضمان حسن سير العمل الحكومي في هذه المرحلة ومنح المجتمع الدولي شريكًا مقبولاً يمكن الاعتماد عليه بجدارة. كما عرض الرئيس تشكيل مجلس وطني انتقالي تتم استشارته في القضايا الملحة، يضم ممثلي كافة الأطياف والتوجهات السياسية والفكرية والاجتماعية في البلد.

وفي مسعى لمنح فرصة للحلول التفاوضية لتجاوز معضل الانفصال في الشمال، اقترحت خطة الرئيس إنشاء لجنة وطنية للمفاوضات تكلف بالتنسيق مع الوساطة الإقليمية بمفاوضة الجماعات المسلحة بغية إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية للأزمة قد تكفي كافة الفرقاء شر اللجوء للقوة لحسم الموقف في أي اتجاه.

وأخيرًا جدد الرئيس ثقته في قوى الأمن المالية التي فرطت في سلامته سابقًا بإعلانه تأكيد توليها تأمين سلامة المؤسسات والشخصيات السياسية في باماكو؛ مما يُستَشف منه رفضه الضمني لمقترح المنظمة الإقليمية بنشر قوات خاصة لتأمين المؤسسات الانتقالية وضمان سلامة القيمين عليها من الرسميين.

وحتى كتابة هذا المقال، لا تزال المساعي والمفاوضات جارية لتطبيق الخطوات الأولى للخطة، وهي إنشاء وتشكيل الهيئات المقترحة والتي ستتمتع بالشرعية المطلوبة لتحريك الملف بصورة جدية على كافة الصعد، خاصة منها العسكرية.

الجوار وتناقض المصالح

وقفت دول الجوار المالي مواقف تتأرجح بين القلق والحذر حيال الحرب الدائرة شمالاً والأزمة السياسية  المستفحلة جنوبًا، وظلت كل دولة تتمسك بأجندة مصالحها الخاصة معمقة بذلك الخلافات الدفينة التي حالت دائمًا دون إمكانية الانخراط في تنسيق جدي لمواجهة مخاطر ما بات يعرف بالإرهاب في المنطقة. فرغم آلية “دول الميدان” التي تجمع مالي نفسها بكل من موريتانيا والجزائر والنيجر وما تقوم عليه من إرادة معلنة لمواجهة التحدي الأمني، لا تزال مستويات التفاعل مع تطورات الوضع الميداني محدودة. ذلك أن الجزائر التي تعتبر القوة العسكرية الإقليمية الأهم ترفض، وبشكل شبه مقدس، أي عمل عسكري خارج حدودها. كما تعترض على كل صيغة للتعاون مع أطراف أخرى من خارج دول الميدان قد يكون من انعكاساتها المباشرة نشر قوات أجنبية على حدودها. ويعتقد بعض المراقبين أن الجزائر التي صدَّرت الظاهرة إلي الجوار من أرحام حركتها الإسلامية الراديكالية في التسعينيات لا تريد أية محاصرة عسكرية للمقاتلين الجهاديين الذين سيُرغمون، تحت الضغط العسكري، على هجر مواقعهم في الصحاري والأحراش المالية النائية والعودة إلى الداخل في العمق الجزائري والتصعيد من وتيرة ضغطهم المتواصل على الأمن الجزائري.

وقد حاولت الجزائر، مبكرًا، ربط اتصالات مباشرة ومتكررة مع جماعتي أنصار الدين والتوحيد والجهاد في مسعى إلى مهادنتها من أجل الحصول على تحرير دبلوماسييها الثلاثة المختطفين من قنصليتها في غاو يوم 5 إبريل /نيسان 2012. ولم تفلح الضغوط الفرنسية المتواصلة والتي كان آخرها في 5 يوليو/تموز 2012 بمناسبة زيارة وزير الخارجية الفرنسي الجديد، لوران فابيس، في حمل الجزائر على مراجعة موقفها من العمل العسكري المحتمل لتحرير الشمال المالي و”تطهيره” من العناصر الجهادية. ولا تزال الجزائر تصر على تغليب الحلول السياسية والدبلوماسية لتجاوز الأزمة السياسية في باماكو ومشكلة الشمال المالي مع إمكانية النظر في السبل الأخرى الكفيلة بتحجيم القاعدة في المنطقة عندما تكون الظروف مواتية. وتحسبًا لأي طارئ، عمدت الجزائر إلي إرسال ما يزيد على عشرة آلاف جندي لإغلاق المنافذ الحدودية الفاصلة بينها وبين كل من النيجر ومالي وموريتانيا مع مهمة خاصة بتطويق المسالك الصحراوية المهجورة.

من جهتها، ظلت موريتانيا، إلى وقت قريب، الدولة الوحيدة في المنطقة التي دفعت بقواتها المسلحة لمقارعة القاعدة في أعماق الأراضي المالية ردًّا على هجمات سابقة ضدها في لمغيطي (2005) والغلاوية (2007) وتورين (2008)، وغيرها من العمليات النوعية كاغتيال السياح الفرنسيين في ألاك (2007)، واغتيال مواطن أميركي في نواكشوط (2009)، ومحاولات تفجير فاشلة في نواكشوط والنعمة، إضافة إلي عمليات اختطاف لرهائن غربيين من التراب الموريتاني. وكان الهدف المباشر المعلن للعمليات العسكرية الموريتانية هو إبعاد نقاط تجمع عناصر القاعدة من الخطوط الحدودية مع موريتانيا.

كما ظلت الحكومة الحالية تأخذ على النظام المخلوع في باماكو عدم جديته في محاربة الإرهاب وتركه الشمال المالي تحت سيطرة “الجماعات المارقة”. وأدى هذا الموقف إلى تبني الحكومة الموريتانية إستراتيجية مساندة الحركات الانفصالية في الشمال تأطيرًا وتمويلاً، في محاولة لخلق بديل عن الحكومة المركزية في باماكو يمكن الاعتماد عليه لاحقًا لاحتواء القاعدة وطردها من الإقليم. وليس إذًا من الصدفة أن تكون نواكشوط هي المركز الأول لتواجد قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد والعاصمة السياسية المؤقتة لدولة أزواد، حيث يستفيد قادة الانفصال فيها من عامل القرب من الميدان. كما يحظون بمساندة معتبرة وعلنية من العديد من الحركات والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المحلي وبعض الشخصيات الوازنة في توجهات النظام الحاكم.

وقد قلب الانهيار المذل لمقاتلي الحركة الوطنية لتحرير أزواد أمام عناصر القاعدة كل الحسابات الموريتانية حتى إن قادة البلد الذين كانوا يُعتبرون، حتى وقت قريب، من أشد المتحمسين لعمل عسكري كاسح ضد القاعدة وحلفائها، أصبحوا يناشدون الأطراف تغليب الحلول السياسية والدبلوماسية للخروج من المأزق وينأون بأنفسهم عن احتمال المشاركة في أي عمل عسكري في الشمال المالي ما بقي “الجهاديون” بعيدًا عن الحدود مع موريتانيا!!

الواقع أن القلق الموريتاني نابع أساسًا من عدة عوامل، من أهمها الحضور النسبي الكبير لعدد الموريتانيين المنخرطين في صفوف المنظمات الجهادية، وعلى الأخص في كتيبة الملثمين بقيادة بلعور أو في كتيبة عبد الحميد أبو زيد. كما بدؤوا في تولي مهام ومسؤوليات قيادية مؤثرة في تنظيم التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا على غرار مفتيه، حمادة ولد محمد خيرو. وما تخشاه موريتانيا كذلك هو أن يتحول التأثير المتنامي لرعاياها في التنظيمات الجهادية الناشطة في مالي إلى نقطة استقطاب للشباب في العمق الداخلي للنسيج العقدي والسياسي في البلد لما قد يكون له من انعكاس على العديد من الأمور وليس أقلها شأنًا القفز على الدور التاريخي للإسلام الصوفي المنتشر وتجاوزه إلى قراءات “دخيلة” تغذي بؤر التوتر والتجاذب داخل المؤسسة الدينية المحلية.

ومع احتمال تحول البلد إلى ملاذ للجماعات الجهادية في حال مهاجمتها من قبل بعض القوى الإقليمية، بادرت الحكومة إلى إغلاق الحدود مع مالي منذ اندلاع المعارك فيها، مكتفية بفتح نقاط محدودة لاستقبال اللاجئين النازحين من الشمال المالي الذين بلغ عددهم قرابة المليون لاجئ. كل ذلك في ظل تواتر الأنباء حول وضع القوى العسكرية في حالة تأهب قصوى مع وجود عناصر من الجيشين الفرنسي والأميركي للدعم الفني والتأطير.

أما النيجر فحساباتها أكثر دقة وتأثيرًا على المشهد؛ حيث تعتبر منطقة آزواغ الآهلة ببعض السكان من الأصول الطارقية عرضة لعدوى الانفصال، تمامًا كما حدث في التسعينيات عندما أطلق حركيون من الطوارق، أسوة بأشقائهم في مالي، حركات تمرد ضد الحكومة المركزية في نيامي. ورغم الاختلافات الطفيفة التي لا تكاد تكون ملموسة في الواقع بين حال الطوارق في مالي والنيجر، فإن الحكومة في نيامي تبدو أكثر استعدادًا وتنظيمًا من نظيرتها في باماكو لاحتواء أي حراك داخلي مرتقب. ولذلك لم تتردد  نيامي لحظة في الانخراط في صف الدول المنادية بالتعجيل بإجراءات اللجوء للقوة العسكرية لدحر الانفصاليين الطوارق والقضاء على القاعدة وفروعها. ولتمرير ذلك التوجه، ما فتئ النيجر يعبئ على كافة الجبهات، سواء في إطار المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا أو في إطار تنسيق دول الميدان، إضافة إلى المساعي المنفردة في الإطار الثنائي سواء مع فرنسا أو مع الولايات المتحدة أو مع الاتحاد الأوروبي.

وفي كل الأحوال، لم تخف الحكومة النيجرية استعدادها للمشاركة بوحدات من قواتها المسلحة في أي مجهود عسكري، دولي أو إقليمي، لطرد القاعدة من الشمال المالي وإجهاض مشروع الانفصال الذي يُعتبر انتهاكًا لمبدأ الإبقاء واحترام الحدود الموروثة عن الاستعمار كما أقرته منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963.

المجهود الدولي وشبح الحرب

يبدو المجتمع الدولي في حيرة من أمره حيال ما يجري في مالي نظرًا لتداخل بعدي الأزمة السياسية في باماكو ومشكل الانفصال شمالاً مع معطى سيطرة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على الإقليم الشمالي بالكامل. فبينما تسعي المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية جنوبًا لتجاوز الأزمة السياسية وخلق أكبر إجماع ممكن يمكن التأسيس عليه للمطالبة بتدخل عسكري في الشمال، تبدو بقية الأطراف الدولية، بما فيها بعض دول الجوار، متشائمة إلى حدٍّ بعيد من نتائج أي تدخل عسكري محتمل. فوحدها فرنسا تضع كل ثقلها في الميزان من أجل الدفع نحو الحل العسكري السريع من خلال التعهد بتقديم كل الوسائل العسكرية والمالية المطلوبة لجيوش المنطقة التي تخطط من جانبها لإرسال حوالي 3300 جندي للقيام بالمهمة، شرط أن تكون مالي قد استرجعت فعلاً شيئًا من عافيتها السياسية واستقرار مؤسساتها، وشرعت جديًّا في إعادة ترتيب وضع مؤسستها العسكرية المتداعية.

كما أن ذلك التدخل يبقي مرهونًا بمظلة دولية عبر قرار من مجلس الأمن، سعت المنظومة الإقليمية المعنية إلى استصداره على مرتين دون جدوى، ذلك أن الخطة العسكرية المقدمة وآجال التدخل ومصادر التمويل والأهداف المنشودة ما زالت غامضة في أذهان العديد من الفاعلين الدوليين المؤثرين، كالولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة ذاتها.

ويلاحظ المراقبون عدم تحمس الولايات المتحدة، هذه المرة، للاندفاع في العمل العسكري المباشر في مسألة قد يُصنَّف أحد شقيها بأنه من باب مكافحة ما بات يعرف بالإرهاب، مفضلة التريث وانتظار ما ستؤول إليه المساعي الإقليمية بشأن التحضير للتدخل العسكري. وربما يكون لموقف دولة كالجزائر وزنه في التقديرات الأميركية للوضع. وفي كل الأحوال، تستطيع الولايات المتحدة، إن أرادت ذلك، أن تشارك بفعالية في المجهود الحربي ضد القاعدة في المغرب العربي من خلال ترسانتها الضخمة وتواجدها الخفي ولكنه مكثف في  العديد من دول المنطقة عبر نشر الجنود وعمل الطائرات الشبح من دون طيار، إضافة إلي مهام الإسناد والتأطير لصالح الجيوش المشاركة في العمليات. غير أنه وحتى تحرير هذا المقال، تبقى الولايات المتحدة على موقف الساعي إلى تجنب الحل العسكري وتشجع على العمل في المجال السياسي والإنساني لاحتواء الأزمة.

أما دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، فيبدو أن جناح الدول المنادية بالحرب والتي يتقاطع موقفها مع التوجهات الفرنسية، يكثف المشاورات والتنسيق من أجل إقناع المنظومة الدولية بضرورة القيام بعمل عسكري واسع لاستئصال الإرهاب من الساحل ووأد النزعات الانفصالية فيه؛ ففي اجتماع لهم في باماكو يومي 12 و13 أغسطس/آب 2012، تبنى قادة الجيوش لدول المجموعة خطة عسكرية تنفذ على ثلاث مراحل:

  • المرحلة الأولى: نشر قوات برية في باماكو وفي المناطق المحاذية للشمال لتأمين المؤسسات والقيام بمهام الاستطلاع والتحضير.
  • المرحلة الثانية: تشكيل القيادة الموحدة التي سيعهد إليها بالتنسيق الميداني للعمل العسكري. ومن المرتقب أن تكون نيجيريا هي التي تقود ذلك الأمر نظرًا لكونها الدولة  الوحيدة القادرة على تأمين الغطاء الجوي لأي عمليات ميدانية في المنطقة.
  • المرحلة الثالثة: الشروع الفعلي في العمليات العسكرية باستهداف معاقل الحركات المسيطرة على الأرض لتأمين تحرير الشمال المالي من قبضتها.

ولا تستبعد بعض الأوساط أن تطلب المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا مساعدة في مجال الإسناد الجوي واللوجستي من الناتو. ولا يُتوقع أن يقبل الناتو المشاركة، ولو رمزيًّا، في أي نشاط عسكري في المنطقة بغياب قرار من مجلس الأمن يتبنى العمل العسكري ويجيزه. وهذا يعيدنا إلى المربع الأول: هل ستكون الحكومة في باماكو جاهزة في الآجال المطلوبة من قبل المجموعة الدولية للقيام بالمبادرات السياسية والدبلوماسية اللازمة لتحريك مساطر مجلس الأمن الطويلة والمعقدة في مثل هذه الأوضاع؟

مهما يكن، فإن منطقة الساحل مقبلة على تطورات خطيرة ستكون لها انعكاسات كبيرة وتأثيرات مخيفة على كافة دوله، ذلك أن المد السلفي الجهادي المتنامي في إفريقيا السمراء وانتعاش نزعات التجزئة والانفصال الفئوي لا يعرف الحدود ولن يقتصر حتمًا على مالي وحدها.

عبد الله ممادو باه – كاتب صحفي وباحث في حقوق الإنسان- مهتم بالشؤون الإفريقية

هل خسرت الدولة ملف العبودية ؟

د. البكاي ولد عبد المالك

قد لا يجد المتتبع لملف العبودية في موريتانيا كبير عناء في إدراك حقيقة مفادها أن حكومة المهندس يحي ولد حدمين قد خسرت أو أنها بالأحرى بصدد خسارة ملف العبودية على الرغم من المجهود الإعلامي الذي تقوم به قطاعات حكومية متعددة مثل مفوضية حقوق الإنسان ووزارتا العدل والشؤون الإسلامية التي باتت استراتيجياتها في هذا المجال تشكل نوعا من الاستجابة الشرطية ورد الفعل تجاه الآلة الإعلامية القوية التي تمتلكها الأطراف المناوئة لها والتي أصبحت خطاباتها ومواقفها شئنا ذلك أم أبينا تثير اهتماما متزايدا لدى الرأي العام الدولي ولدى بعض الأطراف ذات الأجندات الخاصة في الجوار الإقليمي.

مظاهر خسارة هذا الملف خارجيا على الأقل متعددة وأصبحت بادية للعيان فهي تبدو أولا من خلال تدويل الملف بحيث أصبح علينا من الآن فصاعدا أن نتعامل معه كموضوع يتجاوز الشأن المحلي. وتتجلى خسارة هذا الملف أيضا من خلال الكثرة المرضية للأنشطة السياسية والحقوقية المحسوبة عليه حقا أو باطلا : خارجيا تظهر خسارة الملف من خلال الأزمة “الصامتة” حول الملف مع معظم الشركاء الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية بالإضافة إلى بعض الهيئات التابعة للأمم المتحدة والكثير من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان وهو ما يظهر في مواقف تلك الدول والهيئات وتزايد التقارير والبيانات الصادرة عنها وفي طريقة احتفائها بالمنظمات الحقوقية المناوئة للحكومة .أما على المستوى الداخلي فإن الحكومة بصدد خسارة الملف أيضا بسبب اتباعها لسياسة الفوضى الخلاقة التي لن تؤدي على المدى البعيد إلى خسارة الملف فحسب وما يمكن أن ينجر عن ذلك من أوضاع لا يمكن التنبؤ بعواقبها بل وإلى دفع المهتمين بالقضية(المعتدلين منهم والمتطرفين على حد سواء) والذين سئموا من الاستخفاف ببعضهم والتلاعب بالبعض الآخر إلى موقف موحد قد لا يكون بالضرورة في صالح الحل السلمي والعادل للقضية. أصبحت سياستنا في الموضوع أشبه ما تكون بدور رجال الإطفاء نطفئ نيرانا كنا قد أشعلناها بأنفسنا وأحيانا نطفئها بإشعال نيران أخرى فماذا لو عجزنا يوما عن إطفاء تلك النيران كلها ؟ّ! فعوضا عن القدرة احتواء الخصوم والأطراف المعارضة وجعلها جزءا من مشروعنا نقوم على العكس من ذلك بخلق العداوات والصراعات الوهمية بين القوى السياسية والمنظمات فيما بينها وحتي بين مكونات الشعب ذاته ونعمل على مقاومة التطرف بالتطرف حتى وصل بنا الأمر إلى نوع من الفئوية المعممة التي لم تعد تستثني أي مكون من مكونات شعبنا .

إن ساحة المعركة الحقيقية ليست – كما هي العادة دائما – نخبة الحراطين السياسية والفكرية وتموضعاتهم داخل النظام أو خارجه بل هي تلك الجماهير الموجودة في تجمعات “آدوابه” وتلك الكثرة البائسة في هوامش المدن الكبرى المتعطشة إلى الإنصاف والعدالة والتي لا تعني لها تلك النخبة الشيء الكثير بالنظر إلى حجم معاناتها واستمرارها. ليس المهم كم عدد “ممثلي” هذه الشريحة أو غيرها في هذه الحكومة أو تلك بل المهم هو ما تقوم به الحكومة لضحايا الإرث الإنساني للاسترقاق مما ينعكس على حياتهم بشكل ملموس بعيدا عن خطابات السياسة السياسوية وممارساتها.

وفي تقديرنا أن الاعتماد المطلق على المقاربة الأمنية والسياسية للملف بالعمل على تمزيق القوى السياسية واختراق المنظمات الحقوقية وتأليب بعضها على البعض الآخر وتجاهل المقاربة الصحيحة للموضوع وهي المقاربة الاقتصادية – التربوية : هو الذي أدى إلى خسارة الحكومة للملف كل ذلك يحدث تحت أنظار المجتمع الدولي الذي أصبح يتابع الموضوع باهتمام بالغ.

والحال أن المتتبع لهذا الملف لا بد أن يلاحظ علاوة على التغير الواضح في الخطاب الرسمي حول المسألة انحسار جهود مقاومة آثار الاسترقاق وتراجعها بصورة دراماتيكية في المأمورية الثانية للرئيس محمد ولد عبد العزيز وهو ما يظهر من خلال جملة من المؤشرات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

– اختفاء خارطة الطريق لمحاربة مخلفات الرق في أدراج الحكومة الحالية واختزالها في حملات “التوعية” ضد مخاطر العبودية التي تستهدف ضحايا الاسترقاق في حين أول من يحتاج إليها في الواقع هم الفقهاء والأئمة أنفسهم الذين لا تعكس قناعاتهم الداخلية وخطبهم في بعض الأحيان سياسة الدولة ولا المنظومة التشريعية المتعلقة بالموضوع .

وفي اعتقادنا أن تطبيق بنود خارطة الطريق بشكل صحيح هو الحل الأمثل ولا يعنى أبدا كما قد يظن البعض الرضوخ للإرادة الأجنبية أو الانتقاص من سيادتنا الوطنية لأن الحكومة الموريتانية هي التي قامت بصياغتها فقرة بفقرة بما يتوافق مع رؤيتها للقضية وبحسب ما تفرضه الوقائع على الأرض وليس بحسب المزايدات والأجندات الخاصة لبعض الأطراف المحلية والأجنبية لذلك فإن تنفيذها والعمل بمقتضاها هو قبل كل شيء عمل استراتيجي يصب في خانة الاستقرار والتماسك المجتمعي ويجنب المجتمع مخاطر الفوضى والحرب الأهلية.

– اختفاء مشروع المناطق ذات الأولوية التربوية (ZEPP) الذي خصصت له الدولة بعض المليارات من الأوقية والذي هو أيضا من مقتضيات خارطة الطريق وذلك في إطار معركة كسر العظم مع الحركات السياسية والمنظمات الحقوقية المعنية بالموضوع والحقيقة أن من نكسر عظمه في الواقع هو جزء كبير من مجتمعنا يعاني من الجهل وانعدام البنية التعليمية الملائمة كما وكيفا ومن الفقر وقلة الحيلة.

– من بين تلك المؤشرات أيضا محدودية الدعم الذي يحصل عليه المزارعون خصوصا في ميدان الزراعة المطرية وأتحدث هنا عن غياب سياسة زراعية متكاملة تعمل على توفير الوسائل التي تساهم في تحقيق الأمن الغذائي للدولة بصفة عامة وتضمن للمزارعين الاستفادة القصوى من نشاطهم الاقتصادي : تعميم القروض الزراعية مع كل الضمانات المطلوبة التي تضمن استعادتها، شراء المحاصيل الزراعية (حبوب وخضروات..)، بنوك الحبوب ، تعميم الأسيجة لحماية الحقول الزراعية ولتفادى النزاعات التي تحدث بين المزارعين والمنمين من حين لآخر، توفير الآلات الزراعية الحديثة و توفير الأسمدة بأسعار مناسبة ومدعومة…إلخ هؤلاء القوم البسطاء من المزارعين وغيرهم من العاملين في قطاعات أخرى كالصيد التقليدي وغيره قوم لا يبحثون عن شيء سوى حقهم في العيش الكريم والحصول على نصيبهم من الثروة الوطنية من خلال خلق مشاريع حقيقية تعطي الأولوية للمجالات التي لها انعكاس مباشر على حياتهم.

– ابتعاد وكالة التضامن عن الأهداف التي أنشأت من أجلها وهي محاربة الفقر الناجم عن مخلفات الرق. والحال أن الأنشطة التي تقوم بها وكالة التضامن إذا لم تكن موجهة بالأساس للقضاء على الهوة التي تفصل بين ضحايا الاسترقاق وبين غيرهم تكون لا معنى لها ويصدق عليها المثل الشعبي : “هاذ سهمي وهاذِ خريجتي وهذا نسّابقولو وحولِ بيه” ! فلا يمكن أن تكون محاربة الفقر بما هو فقر هدفا لوكالة التضامن لأن هناك قطاعات حكومية مكلفة بهذا الموضوع، ولا يمكن لبناء المدارس في حدا ذاته أن يكون هدفا لهذه الوكالة لأن بناء المدارس هو من من صلب اهتمام قطاعات وزارية أخرى رصدت لها ميزانيات خاصة لذلك الغرض فأين ذهبت تلك الميزانيات ؟ وما الذي يجعلنا ننفق مرتين ونصرف ميزانيات مزدوجة في وقت نحتاج فيه إلى ترشيد النفقات العمومية ؟! هذه السياسات حولت وكالة التضامن في الواقع إلى وكالة سياسية بامتياز بعيدا عن الأهداف الأصلية التي أنشئت من أجلها ويتعلق الأمر بسياسة التمييز الإيجابي لإنصاف ضحايا الاسترقاق والقضاء على الهوة التي تفصلهم عن غيرهم من مكونات المجتمع اقتصاديا وتربويا على الأقل وتلك هي الأهداف التي تم تسويق الوكالة في الداخل والخارج على أساسها وهو ما جعلها تلاقي في البداية استحسان الجميع.

والحقيقة أن الخطاب الرسمي حول موضوع الاسترقاق ينطوي على نوع من التناقض : نحن نقر بوجود عبودية في الماضي القريب جدا وربما لا تزال توجد منها بعض الحالات لكننا لا نتخذ التدابير اللازمة للقضاء على مخلفاتها بالطرق المتعارف عليها في النظم السياسية والأعراف الدولية وفي معالجة الهوة التي خلقتها في مجالات الثروة والمعرفة والسلطة ونخضع الموضوع برمته للمقاربة الأمنية والسياسية شعارنا في ذلك : نحن نعالج الفقر الذي يعاني منه الجميع وكل من يهتم بالموضوع لا بد أنه من أصحاب الأجندات الخاصة!

والحال أن الفقر كما أشرنا إلى ذلك في مناسبات عديدة يوجد بالفعل في أوساط كثيرة من المجتمع لكن أسبابه مختلفة ومتعددة وكذلك طرق معالجته يجب أن تكون مختلفة الفقر قد يوجد لأسباب عرضية تصيب هذا الشخص أو تلك المجموعة لظروف طبيعية أو اجتماعية أو تاريخية مختلفة يزول بزوالها لكنه قد يوجد أيضا لأسباب جوهرية تتعلق باستتباعاتها ونتائجها تعلقا ضروريا وحتميا مثل العلاقة السببية بين العبودية وانعدام الملكية وبالتالي الفقر المتوارث ومن ثم انخفاض الحظوظ في التعلم الملائم في عالم ليبرالي يتراجع فيه دور الدولة الراعية . لهذه الأسباب نقول إن الفقر الموجود في شريحة الحراطين هو فقر متوارث بسبب غياب حالة المساواة الأصلية الشرط الأساسي لوجود العدالة في أي مجتمع من المجتمعات وهذا الأمر لا يمكن معالجته إلا بتطبيق التمييز الإيجابي وإلا فستظل الهوة قائمة وستؤدي على الدوام إلى حدوث توترات اجتماعية تزداد خطورتها بزيادة مؤشر الوعي في أوساط الضحايا مثل كرة الثلج وإذا استمر الوضع على ما هو عليه أخشى أن نضطر يوما ما إلى مواجهة الأسوأ. ومثلما ساهم تهميش المعتدلين في هذه القضية وتصفيتهم من طرف “المحافظين” إلى صعود المتطرفين أخشى أن يؤدي الاحتكاك بين المتطرفين والمحافظين إلى ما لا تحمد عقباه نظرا لعدم وجود أرضية مشتركة للتلاقي .لقد آن الأوان إلى تغيير سياستنا في هذه المسألة و أن نواحه قضايانا بحكمة وتبصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فشعبنا لا زالت تنتظره رهانات أكبر ولا يزال مصيره معلقا بسبب انشغال نخبته السياسية والفكرية بالتفكير في يومها وفي كسب قوتها وفي مصالحها الأنانية الضيقة.

بحوث مغربية في الفكر الإسلامي، تأليف عباس الجراري

صدر مؤخرا عن مطبعة دار المعارف بالرباط، كتاب – للدكتور عباس الجراري تحت عنوان “بحوث مغربية في الفكر الإسلامي؟. ويقع هذا الكتاب في 191 صفحة من القطع المتوسط، ويلاحظ القارئ، وهو يتتبع مختلف الموضوعات الواردة في هذا الكتاب، أن غاية المؤلف تكمن في توضيح بعض الجوانب من الفكر الإسلامي، فيما يرتبط منه بالتراث أو يمس الواقع، وهي جوانب تكشف منظورا مغربيا، انطلاقا من عوامل التأثير البيئية، أو لما له من صلات بمميزات الموروث الحضاري والثقافي.

لدق أراد الدكتور عباس الجراري أن يكشف من خلال كتابه عن الهوية والكيان والشخصية المغربية ويؤكد على مدى حضور الفكر المغربي بكل مقوماته الثابتة والمتحركة، الإبداعية، والمتجددة. وقد تميز الدكتور الجراري، مع قليلين جدا، بأمانة الموقف وعلمية المنهج، وعلانية القناعة، وهو يتناول بالدراسة والتحليل التراث الحضاري المغربي، وكذا الفكر الإسلامي، ومن ثم جاءت أحكامه موضوعية، وتمخض عنها الموقف العلمي النزيه الذي تميز به من غيره. ومن هذا المنطلق واصل الأستاذ رحلته متتبعا لمكامن القوة في الفكر الإسلامي، معززا قناعته بأن للأمة العربية الإسلامية عطاؤها الوفير، وأن العقل العربي الإسلامي له الكثير من الخصوصيات والقدرات على مواكبة العصر، ومن ثم إيجاد الصيغة المناسبة للتزاوج بين التراث والمعاصرة…

ولا شك أن الدعوة الإسلامية تستند إلى منطلقات، وتسعة إلى أهداف تجعلها تجمع بين الرسالة الدينية، وبين تنظيم كيان ينسجم مع هذه الرسالة، وهي بذلك ترتكز على فلسفة متكاملة تتميز بمبادئ قوية، وأداة رابطة، وتنحصر هذه المبادئ في: التوحيد- العدل والمساواة بين الناس جميعا ثم الشورى، أما الأداة فتتمثل في الخلافة التي أحدثت لملء الفراغ الذي واجه المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي واجبة وجوب تطبيق المبادئ.

لكن الجدل القائم حول الخلاقة، جعل الفقهاء يضعون أسئلة حول الخلافة نفسها؟ فبعضهم قال بالجواز بينما رفض البعض الآخر ذلك. ومع هذا، فقد طرح الفقهاء وجوب الخلافة بقولهم: “نصبة الإمام واجبة” وقد استندوا في وجوبها إلى القرآن (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). وقد أكد ابن حزم على ضرورة إسناد الأمر لمن ينوب عن أفراد الأسرة في تدبير شؤونها,. فالدولة في الإسلام لا بد أن يكون على رأسها سلطة تأمر وتنهي وتصدر الأحكام وتسهر على تطبيقها وتنفيذها، وذلك في نطاق التعاون على البر والتقوى ومحاربة الإثم والعدوان. (ص 15).

وإضافة إلى هذا كله، تحدث الكاتب عن ارتباط الخلافة بالشرعية، فهي حلافة واجدة غير متعددة طالما أن الدولة تعيش وحدة متكاملة وتامة، مما جعل فقه السياسة الإسلامي ينتهي إلى أنه “لا يجوز عقد الإمامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة” (ص 16).

فالنص على الوحدة يقتضي وجود الكيان ذي النظام المتكامل والمتماسك وفق النموذج الصحيح الذي عرفته الدولة الإسلامية لأول عهودها. (ص17). فالأساس الذي تقوم عليه أداة الحكم في الإسلام يتجلى في عقد يبرم بين الحاكم والمحكومين، وهذا العقد يعرف بالبيعة، وتعني: “العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه من الأمر على المنشط والمكره..” وعلى هذا النسق – يقول الأستاذ المؤلف – كانت بيعات المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى نفس النسق تمت بيعة الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم. وقد ارتبطت البيعة بظاهرة الترشيح للخلافة، ومثل الأستاذ بكتابة أبي بكر البيعة لعمر ابن الخطاب وتشكيل هذا الأخير لمجلس شورى مكون من ستة أعضاء، ومثل هذا الأسلوب سيعر مرحلة مضبوطة في عهد معاوية حين أخذ البيعة بالخلافة بعده لولي عهده ولده اليزيد، وأمر كهذا، يرى الأستاذ أن دوافعه نابعة من ثقة الأمة في الخليفة. فالبيعة إذن تتم عن رضى واختيار بين طريفين، شرطة رعاية مصالح الأمة والسهر على شؤون أبنائها، والسعي إلى توفير أسباب الأمن والرخاء. وهذا يدل أيضا – كما يقول الأستاذ – على أن الأمة هي مصدر السيادة، وأن الخليفة إنما يستمد نفوذه من خذا المصدر، وفي نطاق هذا التلاحم بين الخليفة والأمة يكمن إدراك سر الخطاب الجمعة الذي جاءت عليه آيات قرآنية كثيرة. وإذا كان هذا الاختيار مرتبطا بالصيغة الإجماعية، فإنه يقوم على شروط لا بد من توافرها في الخليفة وهي أربعة كما حددها العلماء، وهي: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء. مما يؤثر في الرأي والعمل ( ص 21)، أما وجبات الإمام والتزاماته، وحددها العلماء – كما يقول المؤلف – في عشرة أمور وهي: حفظ الدين على الأصول وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وحماية البيعة والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود وتحصين الثغور، وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا: وتقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير تقصير، واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء، وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال…” ( ص22 و 23)..

وهكذا إذا قام الإمام بحق الرعية وجب لهم عليه حقان: الطاعة والنصرة. أما ما يخرج به عن الإمامة فشيآن: الحرج في عدالته والنقص في بدنه، وحتى يؤدي الإمام واجباته كاملة، حدد له الشرع حقوقا تتلخص في السمع والطاعة والامتثال، ومن هنا أحل الله تعالى البيعة مكانة جليلة ومرموقة في قوله عز وجل: (إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله…). ويعتقد الأستاذ أن إلزامية الطاعة هي التي جعلت النبي عليه السلام يربطها بالاستطاعة وما تطيقه الأمة, وهذه الإلزامية تعني وضوح الرؤية إلى جانب وضوح المبادئ والأهداف..ومثل هذا الموقف ينطلق من الحرص على الوحدة والجماعة، وهذه الوحدة قائمة على أساس ثابت وصحيح. وهو الوضع الذي عرفه المغرب، وميزه عن باقي الأقطار العربية الأخرى، “فالمتتبع للتاريخ الإسلامي في المغرب ينتبه إلى بعض الظواهر التي لازمت نظام الحكم فيه، على الرغم من تعدد الدول التي تعاقبت عليه” (ص 28) وهنا يشير المؤلف إلى ثلاثة من تلك الظواهر وهي:

1- ارتكاز النظام على الإمامة الشرعية وإمارة المومنين.

2- مراعاة شروط الإمامة والعلم منها خاصة.

3- اعتماد البيعة في اختيار الإمام وإسناد الأمر إليه، وتنظيم العلاقة بينه وبين الأمة على أساها، ومثل المؤلف لأول بيعة قدمها المغاربة للمولى إدريس إلى البيعة الأخيرة التي تمت في نطاق استكمال الوحدة الترابية. فضلا عن تجديد هذه البيعة في المناسبات، وخاصة في حفل الولاء الذي يقام في اليوم الثاني من عيد العرش. بعد هذا يتحدث الكاتب عن الكيفية التي تتم لها البيعة، :فهي تكون كتوبة وعليها إمضاءات المبايعين، وربما وثقت بالإشهاد العدلي” (ص 30) فهي إذن ليست مجرد عقد صوري. ولكنها تثبت على العطس ممن ذلك مدى تحمل المسؤولية..فالتزام المغاربة بالبيعة هو التزام بالشريعة، وهو هدف لا يقوم إلا إذا توفرت روابط متينة يشد عراها وعي اجتماعي ينطلق من قيم كامنة في العمق بإيمان، وبحث على الانضباط والانتظام في كيان له مصداقيته ومرجعيته” (ص 36).

ولم يفت الكاتب أن ينبه في نهاية هذا العرض إلى تمثل صحيح لفلسفة الحكم في الإسلام، وإلى تحليل علمي لواقع المسلمين اليوم، انطلاقا من تفكير اجتهادي حر، وتوفيق عقلي بين مبادئ الشرع ومقتضيات العصر، وذلك من أجل حياة إنسانية يسودها العدل والمساواة والعزة والكرامة والسعادة..” (ص 37).

 

***

 

وتناول الأستاذ في الموضوع الثاني من الكتاب: “أسباب انتشار المذهب المالكي في المغرب” وهو نص المدرس الذي ألقاه بأمر من صاحب الجلالة إبان الدروس الحسنية الرمضانية لسنة 1985 في الرباط. وقد انطلق فيه الكاتب من الحديث النبوي الشريف “يوشك أن يضرب الناس كباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”. تناول الأستاذ هذا الموضوع من خلال قسمين اثنين مع تمهيد توضيحي. وهكذا أوضح في البداية أن إجماع المغاربة على المذهب الملكي يعتبر ظاهرة التوحد الذي يترجم ميلهم إلى الاتصال والالتقاء، وإلى التجمع والانصهار والاندماج بسبب الاستقرار السياسي متميزة في الفكر المغربي، طالما أن المغاربة ميالون إلى …والفكر، وهذه الاختيار للمذهب المالكي – يقول الأستاذ – قد تم على مرحلتين لا تتمثل الأول في اختيار الخط السين، بينما الثانية فتكمن في اعتناق المغاربة للإسلام عن اقتناع، حيث “وجدوا فيه الحل لمشكل عقدي مزمن، طالما عانوا منه منذ الديانات الأولى التي عرفوها في المراحل البدائية وما شاع فيها من معتقدات”.

أما أسباب اختيار المذهب المالكي، فيطرحها الأستاذ المؤلف من خلال زاويتين اثنتين: أسباب وعوامل داخلية، وأخرى خارجية ذات صبغة تاريخية سياسية. فالأسباب والعوامل الداخلية تنسجم مع الكيان الذهني المغربي الميال إلى الاعتدال والنزوع إلى العمل أكثر من القول، وحدد الأستاذ في هذا المحور خمسة أسباب هي – مكانة الإمام مالك العلمية وانتماؤه للمدينة المنورة – الأمانة العملية التي كان عليها الإمام مالك، وهي صفة جيل عليها المغاربة فضلا عن ضبطهم وما عرفوا به من تحرز وتورع – طبيعة المذهب الذي يعتمد على الأثر والرواية، وهو بذلك يوافق مزاج المغاربة الميال إلى اليسر والوضوح إضافة إلى ما يتسم به المذهب من اعتدال وتوسط – نضالية المذهب التي تتجلى في التحام فقهائه مع الجماهير وقضايا الوطن والأمة والمسلمين – تجدد المذهب باستمرار، خاصة ما يتعلق بالذرائع والمصالح المرسلة وما تعطيه من مرونة وقابلية للتكيف مع أية بيئة وفي أي عصر.

أما العوامل الخارجية، فقد حصرها الأستاذ في خمسة محاور هي:

1 – رحلة المغاربة إلى الحجاز بغية أداء فريضة الحج أو طلب العلم، ولعلهم بذلك، كانوا يستحضرون الحديث النبوي الشريف: “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”.

2- تبادل الوفود والبعثات بين المراكز الثلاثة المهمة في مجال العلم والحضارة بالمغرب الإسلامي، وقد سار هذا التبادل في اتجاهين اثنين: الأول من المغرب إلى الأندلس والقيروان، والثاني من الأندلس والقيروان إلى المغرب.

3- توقيت اختيار المغاربة للمذهب المالكي، إذ إنهم عرفوا ظروفا تاريخية عاش فيها المغرب مخاضا تمثل في وجود الخوارج والاعتزال وذهب أبي حنيفة ومذهب الأوزاعي ولم يتخلص المغاربة من تعدد هذه التيارات إلا بعد مجيء المولى إدريس، إذ رحبوا به وبايعوه تم الاختيار، ويعود سبب ذلك إلى أن المولى إدريس من آل البيت، والمغاربة معروفون بحبهم لآل البيت، فضلا عما يوجد من تعاطف بين الأدراسة والإمام مالك، وهو تعاطف يتخذ مظهرين هما:

أ- أن مالكا يروي في موطاه عن عبد الله الكامل والد المولى إدريس.

ب- أن مالكا له موقف من العباسيين، وهو موقف كان لصالح أخ المولى إدريس المعروف (بالنفس الزكية).

4- تقوية المذهب في ظل المرابطين الذين اعتمدوه واتخذوه حركة تقود نضالهم نحو تحقيق الإصلاح وتصحيح أوضاع المسلمين.

5- استمرارية مساندة الدولة المغربية للمذهب المالكي وحمايته من الانحرافات والتيارات المتطرفة قضاء يوسف بن تاشفين على البورغواطيين، وقضاء المولى إسماعيل على العكاكزة…..ولا شك أن الهدف من هذه الحماية – يقول الأستاذ – وهو الحفاظ على نقاء العقيدة وصفائها وعلى وحدة المغرب وكيانه….

وفي الموضوع الثلاث، تحدث الأستاذ المؤلف عن الدين في وسطيته وتجديده وسياق الشخصية المغربية، انطلاقا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، “لا يزال أهل المغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة….” وهو نص المحاضرة التي شار فيها الأستاذ في الدروس الحسنية في شهر رمضان لعام 1986. وقد تناول المؤلف موضوعه هذا من خلال محورين: أولهما: عن الشخصية في سياقها مع الدين….

ثانيهما: الميل عند المغاربة إلى الوسطية والاستعداد للتجديد

فالشخصية تعني عند الكاتب، الكيان القائم على مجموعة من العناصر المادية والمعنوية تتصل بالجسم والعقل والروح،  والإرادة والشعور، (ص 62) وهي أيضا كيان ذهني يرتكز على قيم ومقومات قادرة على إبراز الخصوصيات المميزة للناس عن غيرهم، وهي خصوصيات تتسم بالثبوت لارتباطها بعوامل تارة، وبالتطور والتغير لخضوعها لعناصر متحركة، إضافة إلا هذا أن الشخصية – كما يقول الأستاذ – تنبثق من مكونات تلتقي على صعيد البيئة، وتنصهر في بوثقة العوامل الفاعلة فيها حضاريا وثقافيا، ( ص 63). ويرى الأستاذ أن هذه البيئة بعنصريها الطبيعي والبشري أفرزت أوضاعا اقتصادية وظروفا إنمائية ونظما اجتماعية. (ص 64) يم ما لبث الكاتب بعد ذلك أن أبرز مختلف مقومات العنصر الثقافي، وهو عنصر تتعدد منابعه وتتنوع مصادره وملامحه الأصيلة القديمة والمستمرة سواء ما يتعلق بالتراث الشعبي أم المدرسي، ويضيف الأستاذ إلى هذا كله، اللغة العربية، وتأتي طليعة هذه المكونات الثقافية.

وهذا يكشف عن “هوية مغربية عربية إسلامية متماسكة لا تعرف التمزق أو التصدع منذ الفتح الإسلامي إلى المرحلة الحديثة؟؟..وعن هذه الشخصية في سياستها مع التدين، يلاحظ الأستاذ أن هذا التدين يدل على ميل فطري إلى الوحدانية. “فالإسلام احتوى الشخصية المغربية احتواء كاملا وأعاد تكوينها بالتصحيح والتقويم..” ومن ثم تتحدد جملة خصائص حصرها الأستاذ المؤلف في خمس نقط هي:

1- الاعتدال وعدم التطرف.

2- التقرب إلى الله وخشيته والاحتراز في العمل والسلوك.

3- تهذيب الغرائز والطبائع وتقويم الضمير الفردي، وتقريبه بوعي للضمير الجمعي.

4- الرضى والقناعة والقدرة على تجاوز تناقضات الواقع.

5- عدم الانشغال بالغيب في اطمئنان لما أخبر الله له، مع الاستعداد للعالم الآخر ويوم الحساب.

فالعقيدة الإسلامية كانت دائما نبراسا للمغاربة، وقاعدة لسلوكهم وعلاقاتهم، ومقياسا يميزون به الفاسد من الصالح، وممن هنا عمل المغاربة على تحقيق التوازن والشمول.

أما عن ظاهرتي الوسطية والتجديد – باعتبارهما من أبرز نتائج التفاعل القائم بين الإسلام والشخصية المغربية- فتتجلى بقول الأستاذ في عدة مظاهر ذكر منها ثلاثة وهي:

1- التمسك بالاعتدال المذهبي ورفض التطرف.

2- الوسطية بني العقل والنقل في مسائل العقيدة.

3- التوازن بين الشريعة والحقيقة.

وقد فصل الكاتب القول في هذه النقط الثلاث مستنتجا في النهاية أن التزام المغاربة بالإسلام في وسطية واعتدال “أتاح لهم أن يكونوا على مر التاريخ مهيئين للحفاظ على الدين، مستعدين لتجديد أمره، على الرغم من اقتران التجديد بالاتباع “الذي يعني أنهم يتبعون الحق ويقتنعون بالدليل”… من غير جرح ولا تعديل، متحملين في ذلك مسؤوليتهم كاملة. وهذا هو الذي حدا بهم للأخذ بالمذهب المالكي الذي أجمعوا عليه وتوحدوا في ظله.

 

***

 

أما الموضوع الرابع فهو “موقف الغزالي عن إشكالية التوفيق بين المحكمة والشريعة، وقد قدم الأستاذ الجراري هذا البحث في الدورة الثانية لأكاديمية المملكة المغربية لسنة 1985.

اعتبر الأستاذ أن عصر الغزالي من أغنة عصور الفكر الإسلامي وأخصبها، إلى جانب ما عرفه هذا العصر أيضا من صراع بين تيارات ومذاهب، وهكذا ظهرت عدة إشكاليات فكرية احتد حولها النقاش، واتخذت فيها مواقف متباينة، وتأتي إشكالي التوفيق بين العقل والنقل في طليعة ما يشغل فكر المسلمين في ذلك العصر”. وهي قضية قديمة ظهرت مع بداية احتكاك الفكر الإسلامي بالفلسفة اليونانية، أدار النقاش حولها أبو يوسف يعقوب الكندي، و”كان أول الذين اتخذوا موقف الملائمة بين الدين والفلسفة”، إلى أن اتسع نطاق هذا البحث التوفيقي على يد جماعة من الفلاسفة أبرزهم أبو نصر محمد الفارابي وأبو علي الحسين بن سينا. أما الغزالي قد تعامل مع هذه الإشكالية من موقع يتسم بالرفض الفلسفة والإعراض على العقل ومعارضته، وهذا لا يعني إنكار أبي حامد الغزالي للفلسفة، بقدر ما يعني سعيه إلى عملية توفيقية يتناول فيها القضايا الفلسفية من متظور إسلامي، وبمنهج نقدي متميز، وقد تأثر الغزالي في ذلك بعوامل ثلاثة:

أولهما: يتمثل في المرحلة التي مر منها تكوينه العملي. ومدى تكور تفكيره.

الثاني: تكشف عنه نوعية القضايا التي شغلت فكر المسلمين.

الثلاث: يكمن في طبيعة تفكير الغزالي وهو يتعامل مع تلك القضايا بموعية انتقادية من غير تصلب في الرأي، ودون لجوء إلى أحكام مسبقة، وهذا التعامل مع إشكالية التوفيق – يقول الأستاذ – يظهر من خلال محورين اثنين هما:

1- رد الغزالي على الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق قبله.

2- تأثره ببعض النظريات الفلسفية الدخيلة.

ويبرز المؤلف أن منهج الغزالي كان يقوم على الشك، “من لم يشك لم ينظر. ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمة والضلال”. فقد تجلى الغزالي عن التقليد. وانتقل منه إلى الحس، ليلجأ فيما بعد إلى العقل فبل أن ينتهي إلى الدوق والكشف المؤديين إلى المعرفة القبلية، فهو يعتمد في منهجه على مقاييس متكاملة. فشكه كان منهجيا، توسل به للوصول إلى اليقين، على أنه في تناوله لقضية التوفيق بين الدين والفلسفة، كأن يجمع بين الشرع والعقل مشبها هذا الأخير بالبصر والقرآن بالشمس.

لقد كان الغزالي – يقول الأستاذ يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف:

الأول: مراجعة الفلاسفة المسلمين في تناولهم لقضية التوفيق بين الدين والفلسفة.

الثاني: تحصين عقيدة العوام.

الثالث: إزالة ما كان للفلاسفة من مكانة في نفوس البعض..

أما محاولته التوفيقية وما فرضت عليه من انتقاد الفلاسفة، فقد سلك في ذلك الموضوعية؛ حيث بدأ بالتعرف إلى مختلف المسائل المطروحة والتعريف بها..وما كان للفلاسفة من آراء ونظريات فيها، ظهر ذلك واضحا في كتابه (مقاصد الفلاسفة) الذي يعتبر تمهيدا لـ (تهافت الفلاسفة). وقد اقتصر الغزالي في انتقاده للفلاسفة على ثلاثة منن علومهم هي: المنطقية والإلهية والطبيعية، لما فيها من تعارض مع الدين، وهنا يقف الأستاذ المؤلف عند أهم القضايا التي ناقش فيها الغزالي الفلاسفة، يتتبع أقوالهم وردودهم، يفند أدلتها التي اعتبرها قائمة على مسلمات ظنية، “والغزالي في مناقشته لهذه المسائل الفلسفية بالبراهين العقلية والرياضية، يعتمد كذلك على النصوص النقلية”. وعلى الغرم ممن انتقاد الغزالي للفلاسفة والرد عليهم، فإنه لم يكن – كما يؤكد الأستاذ – يسعى إلى التشكيك في الفلسفة وتحطيمها، بقدر ما كان يسعى إلى إزالة ما كان مطروحا في سياق يتعارض مع الدين، وهو بذلك يقدم محاولة عميقة للتوفيق بين الحكمة والشريعة. ولا شك أن الغزالي تأثر بالأفلوطينية “التي يبدو في جوانب من تأملاته الصوفية الذوقية، وكأنه يحاول الملاءمة بينها وبين الإسلام…ولعل أبرز تلك الجوانب، إشادته بالعقل..فقد قرنه بذات ملك من الملائكة..كما فسره بالنور معتمدا في ذلك على بعض النصوص من القرآن والحديث, وهكذا يعتبر الغزالي أن الإيمان والمعرفة أنوار تتفاوت في البشر. بعد هذا يعتبر الغزالي أن النور الحق هو الله تعالي، وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له…” ويضيف الأستاذ قائلا بأن الغزالي “لم يكن يجد كبير عناء في التوفيق بين النظرية الأفلوطينية وتأملاته الصوفية الذوقية، وما قادت إليه من التوسل ببعض النصوص للاحتجاج بها…” لقد فتح الغزالي الباب لفكر لإسلامي جديد، يجمع بين الفلسفة والتصوف، مما جعل البغض يأخذون عليه اتجاهه التوفيقي وينتقدونه فيه من أمثال معاصره محمد بن الوليد الطرطوشي وتقي الدين أحمد بن تيمية وغيرهما. ويرى الأستاذ المؤلف في نهاية هذا الموضوع أنه “مهما يكن، فقد عمل الغزالي على إقامة كيان فكري فلسفي إسلامي..” وهو في كل هذا لم يكن متعسفا ولا منحازا ولا راغبا في أن يثبت التوفيق….,لكنه قام بهذا العمل من منطلق العالم المسلم المسلح بتجربة فكرية عميقة، والمتمكن من علوم الفلسفة وأدواتها المنهجية، والمعتز بشخصيته ودينه…” ولم يخف الأستاذ مدى التوفيق الذي صادف الغزالي وهو يطرح على محك البحث النقدي مجموع العناصر التي تناولها في التوفيق، وأعاد تأملها ودراستها، ولا شك أن العصر الذي عاش فيه الغزالي كان أحوج إلى توضيح الأفكار وكشف الزائف منها. والصحيح، وهو ما قام به الغزالي في عمله التوفيقي بين الحكمة والشريعة.

 

***

 

وفي موضوع “استخلاص التصور السليم لمعاملة غير المسلمين في ديار الإسلام في الوقت الحاضر”، الذي كتبه الدكتور الجراري باقتراح من المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن عام 1984، حدد الأستاذ في البداية مختلف المفاهيم الواردة في العنوان، ليخلص فيما بعد إلى نقطة الارتكاز في “التصور” تكمن في “مواطنه تراعي جدلية الدولة والإنسان في ظل الإسلام، من حيث أن لكل منهما طبيعة ذات خصوصيات”، فالدولة الإسلامية لا بد أن تقوم على نظام يستمد روحه وأحكامه من الشرعية، اعتبارا ممن كون الإسلام “رسالة إنسانية سامية تبدأ من الدعوة إلى التوحيد، وتنتهي إلى التبشير بالوحدة التي ينصهر داخل بوثقتها كل الناس تحقيقا للعدل والمساواة والحرية والطمأنينة والسعادة والكرامة”. وفي هذا الإطار – يقول الأستاذ – تشمل الدولة الإسلامية كل الأفراد والجماعات التي تعيش في كنفها، والتي ترتبط ليس بآصرة الجنس أو العنصر أو العصبية؛ ولكن برابطة الروح والفكر والثقافة والقيم والتقاليد وأساليب الاستثمار والإنتاج وأنماط العيش والسلوك”, ويعتبر الإنسان يضيف الأستاذ المؤلف، المنطلق في هذه الرابطة الإنسية باعتباره مجموعة من القدرات والطاقات التي من أهمها غريزته، ثم روحانيته وعقله الذي “يتدخل ليعمل في الوعي والإحساس والإرادة والفكر، فيوجه ويخطط وينقد ويضبط حركية الإنسان، وهذا ما يعطي المواطنة مفهومها الحق”, وهي مواطنة شريفة ومسؤولة، ويقول الأستاذ – وتستمد شرفها ومسؤوليتها من تكريم الله تعالى للإنسان يورى الأستاذ أن هذا التكريم، له عدة مظاهر أبرزها القرآن الكريم، واكتفى المؤلف منها بذكر مظهرين اثنين:

الأول: القدرة على حمل الأمانة، ويرتبط ذلك بتحمل المسؤولية.

الثاني: القدرة على التعايش والتساكن، وقبول المخالفة في العقيدة على أساس التسامح الذي دعا إليه الإسلام وهو نتيجة بالديانات الأخرى، وبالحقيقة التي تمثلها فضلا عن “إيمانه بالحوار، وتفتحه على مجالات الإنسانية في حريتها وحركيتها وسعيها الدائب نحو التطور والتقدم…ثم اعتماده على البحث الدائم في الكون، لإمكان استثمار معطياته وخبراته لصالح البشرية..وهو في النهاية. نتيجة ارتباطه بالمشكلات التي يعانيها الناس في واقعهم المحسوس..”. وهكذا يرسم الإسلام المواطنة كما ينبغي أن تكون في دياره. فهذه المواطنة حسب اعتقاده الأستاذ الجراري تقتضي أسسا أربعة وهي المساواة والحرية والهوية والتنمية, وبعد أن فصل الكاتب القول في هذه الأسس، خلص إلى “أن مواطنة تقوم على هذه الأسس الأربعة، كفيلة بضمان الوحدة في ديار الإسلام، بدءا من الفرد إلى الدولة مرورا بالأسرة والمدرسة وغيرها من الأجهزة والمؤسسات وما يلهم بينهما من علاقات وروابط قائمة على قواعد وقوانين وأعراف..” أما عن الأقلية في المجتمع، خاصة تلك التي تكون على صعيد العقيدة والدين، “فلا تكفي وحدها للتميز عن هذا المجتمع..” بل إنها “لا تكفي لخلق كيان مستقل..فالإدارة المستمرة لجميع أفراد الدولة هي الإرادة الجماعية، وبها يكونون مواطنين أحرارا..:” وفي نهاية هذا الموضوع ينبه الأستاذ إلى المؤامرات التي تدبر للمسلمين، وهي مؤامرات تسعى إلى تجريد الفكر الإسلامي من مفاهيم الدولة والوحدة…وترسيخ الانفصالية والعرقية والطائفية والعشرية..حتى يسهل فرض الهيمنة على ديار المسلمين..” كما ينبه إلى أن الاستعمار يوم كان يلقي بظله على الدول العربية والإسلامية، حاول أن يركز على الأقليات الدينية والجنسية واللغوية لعزلها وضرب الأغلبية بها”. علاوة على هذا، نبه الأستاذ أيضا إلى “أن القوى العالمية..تتجه اليوم إلى إحياء النزاعات القبلية والنعرات العنصرية والخلافات الدينية، لتكريس التشتت والتمزق داخل الكيانات الوطنية…” فموضوع الأقليات – يقول الأستاذ – “يمكن أن يكون مصدر قوة ورخاء إن نظر إليه بروح وطني جماعي وفكر متفتح متعقل، ويمكن في نفس الوقت أن يكون وبالا وخسرانا إن ترك للعابثين بمصير الشعوب يستغلونه..” ومن هنا، يرى الأستاذ أن على المسلمين توجيه هذا الموضوع انطلاقا من تقوية الإيمان وتثبيت السلم، ونشر القيم الخلقية، ومحاربة التمزق، ومواجهة التخلف، حتى تعيش الأجيال القادمة حرة موحدة وكريمة.

 

***

 

أما آخر موضوع في هذا الكتاب، فتتناول فيه الأستاذ المؤلف “خطبة الجمعة وقضايا الفكر الإسلامي”، قدمه في الملتقى العالمي الأول بخطباء الجمعة في المغرب الذي انعقد بفاس سنة 1987. في البداية تحدث الكاتب عن الخطابة كفن من فنون القول، شار عند اليونان والرومان، وازدهر عند العرب نظرا للمكانة التي حظي بها في المجتمع العربي، كما أبرز الكاتب إن فن الخطابة كثيرا مع كان وسيلة الدعوة إلى السلم وإلى إصلاح ذات البين، إضافة إلى هذا، تحدث المؤلف عن الخصائص المميزة في العصر الجاهلي كالقصر والإيجاز والاستشهاد بالشعر، وشيوع السجع، أما في ظل الإسلام، فقد شهد ف الخطابة مزيدا من الازدهار، عملت على إذكائه عدة أسباب تأتي في طليعتها ما كان عليه المجتمع الإسلامي من حرية وشورى وعدل ومساواة، مما أكسب الخلفاء مكانة فاقت منزلة الشعراء، وهكذا تطور هذا الفن، “وكانت فعاليته قوية في نشر الدعوة الجديدة، وبذلك اشتهر كثير من الخطباء يأتي على رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، وفي ظل هذا الازدهار، ظهرت أنواع متعددة من الخطابة، ومن أبرزها خصائص هذا الفن في العهد الإسلامي، فهي نفسها التي عرفت في العصر الجاهلي، إلا ما كان من السجع الذي بدأ يختفي. “واختفاؤه أو تحقيقه لم يحل دون العناية بالخطب وتنقيحها..” ومن السمات الجديدة التي اكتسبتها الخطابة الإسلامية، الطول بخطبة الرسول في حجة الوداع وغيرها، إلى جانب افتتاح الخطب بالتجميد وبالصلاة على الرسول الكريم، واعتمادها على آيات قرآنية وأحاديث نبوية فضلا عن الدعاء.

إن لخطبة الجمعة، يقول المؤلف، كيانا متميزا طالما أنها تتوسل بالكلمة. وهذه الخطبة لم تتوقف لارتباطها بالصلاة رغم تعرضها لمختلف مراحل المد والجزر “وهي من أجل ذلك تتطلع اليوم إلى أن تسترجع مكانتها” تسعا لواقع المسلمين المتحرك وما ينهض به الخطيب ممن دور فاعل في المجتمع، وأيضا ما يعرفه الفكر الإسلامي من تطور وسط إيديولوجيات وتيارات تسعى إلى نسف هذا الفكر، وبث روح التشكيك والإلحاد في نفوس الشباب، ومن هنا يقول الكاتب: “كان على خطيب الجمعة أن يعرف بحقيقة الفكر الإسلامي في مختلف قضاياه – أصولا وتاريخا وواقعا وآفاق مستقبل – مع الإلحاح على خصوصياته ومميزاته..” وذلك حتى يتسنى له رصد كل المشكلات التي تتحدى الفكر الإسلامي، وقد اكتفى الأستاذ بذكر اثنين تقوم كل منهما على أسس مغلوطة ومزيفة، وهما:

الأول: أن الدين متجاوز، وهي مقولة يروجها الفكر الإلحادي.

الثانية: أن الفكر الإسلامي عاجز عن حل المشكلات التي تواجه المسلمين اليوم..

وهكذا، يدحض الأستاذ المؤلف هذه الآراء، ويرد عليها بوعي عميق متبصر، وفهم صحيح؛ مستندا في ذلك على كثير من الحقائق التي تبين إلى أي حد أعمى الحقد قلوب الملحدين وغيرهم ممن ساهموا في ممارسة الضغط على المسلمين مما ترتب عنه تعطيل البحث العلمي وتخلي المسلمين عن أسبابه ومناهجه، وشيوع التقليد. وانتشار الشعوذة والتزييف، وتأخر التعليم…” بعدها أشار الأستاذ إلى المهمة الصعبة التي تقع على عاتق الخطيب والتي تتمثل في كونه مطالب بإلقاء الأضواء الكاشفة على الإسلام ومبادئه وبراهينه وقضاياه، لمزيد من الإقناع به. فمسؤولية الخطيب تكمن في أنه يواجه مرة كل أسبوع جمهورا من المسلمين..مما يجعل هذا الخطيب مطالبا بالتنويع والتجديد، “وهذا ما يفرض عليه العناية بخطبته موضوعا ومحتوى وصياغة وإلقاء..” فإذا حقق نجاحا في مهمته، فسيكون ذلك عاملا فعالا على تشجيع الناس لحضور الجمعة والمواظبة عليها. وحتى يستطيع الخطيب يقول الأستاذ القيام بعبء الخطبة الثقيل، فإن شروطا كثيرة ينبغي أن تتوفر فيه ليكون قدوة يحتذى. ومن هنا كان لا بد من تأطير الخطباء وتزويدهم بكل ما يمكن أن يفيدهم في مهمتهم.

القبيلة في تجليّاتها المُختلفة

 عبد الودود ولد الشيخ

 [يشكل هذا النص الذي  بين أيدينا خاتمة أطروحة لنيل الدكتوراة نوقشت بجامعة السوربون في شهر اكتوبر 1985، وهي تحت عنوان : ” البداوة والاسلام والسلطة السياسية في مجتمع البيضان قبل الاستعمار: بحث حول بعض أوجه القبلية “. ثلاثة أجزاء تقع 1058 صفحة.]

لقد كان هذا العمل يستهدف إلقاء بعض الضّوء على التنظيم السياسي لمجتمع رعوي يدين بالإسلام  وينقسم إلى قبائل، ألا وهو مجتمع “البيظان” في فترة ماقبل الاستعمار. ولأن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي السياسي لمجتمع “البيظان” قبل 1900 لم يُكتب حتى يومنا هذا، هذا إذا استثنينا بعض الكتابات الأحادية والمشكوك فيها علميا (خصوصا أعمال بول مارتي في السنوات: 1915-1921)، فإن الطابع الشمولي للعمل الذي أردنا انجازه معتمدين أساساً على مخطوطات عربية لم يعرف أكثرها طريق النشر وعلى الروايات الشفاهية، كان لابد أن يُشكّل شغلنا الشاغل. لقد حاولنا في البداية أن نصف البيئة الطبيعية والمناخية التي عاش في كنفها “البيظان” مُبرزين شحاحتها وتفاوتها وعدم ثبات مواردها من الماء والمرعى. وقد كانت طريقة العيش الرعوية السائدة في مجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار تقوم- فعلا- على حركيّةٍ في المكان تزدادُ بفعل تشتت المراعي وسرعة نفادها. وقد أظهرنا التطابق بين طريقة العيش الرعوية هذه وبين ظروف الوسط وكذلك التناسب الوظيفي لعملية الاحتفاظ التقليدي بالمواشي في إطار استراتيجيات الأمن الرامية إلى تحجيم آثار دورات الجفاف والغزوات والجائحات الحيوانية. وأوضحنا تكرار تسلسل الحلقات: جفاف – مجاعة – غزو – وباء. وهو المُسلسل الذي يعيد بشكل درويّ ومُباغت التوازن بين الوجود البشري والحيواني وبين امكانات الأرض.   وخلافا لما كان يُعتقد دائماً فإن الحركة الرعوية كانت بعيدة من أن تكون حرّة كليا وكان الوصول إلى المراعي والماء يرتبط أساساً بظروف سياسية واجتماعية وقانونية تعطي لفكرة الإقليم صعوبة تذكرنا بمفهوم “المسافة البنيوية” كماحدّده (افانس-برتيشار) في حديثه عن “النوير”. وبالفعل فإن حقوق استعمال وامتلاك الأرض ظلت تتعقد وتتداخل مع روابط شخصية وقانونية. وبعد أن تحدثنا عن الحركة الرعوية التي تميزت بشكل خاص بـ “تذبذب بندولي” من الشمال إلى الجنوب، حاولنا جهدنا تحديد مضمون مفهوم الإقليم وذلك بالنظر إلى علاقة هذا المفهوم بالسلطة السياسية كما يؤكد ذلك دوما المختصون في الإناسة وفي العلوم السياسية. وإن هذه الحركيّة التي تُضفي جزئيا على الإقليم خصائصها المتميزة ليست سوى العنصر الأساسي في تنظيم اجتماعي وثقافي تطبعه في الصميم العلاقة القوية والمتعددة الأوجه بين المنمين وقطعان مواشيهم، وهي العلاقة التي نراها واضحة في التقنيات الرعوية وفي العادات الاجتماعية مرورا بالاستعمالات المتعددة للمنتوجات الحيوانية في الغذاء وفي السكن وفي التبادل..إلخ. وقد عرف مجتمع “البيظان” في الوقت نفسه نمو نشاط زراعي يعتمد على أدوات قليلة وضئيلة المردودية. وهو ما أشرنا إليه. أما النشاطات التجارية، التي كانت في البداية منصبةً على التبادل عبر الصحراء الكبرى من قبل أن تصبح عبر المحيط الأطلسي، فقد تكون دُرست بشكل أعمق. ولم نعتبر المعلومات التي توصلنا إليها في هذا الشأن كافية لتبرير القول بأن التجارة عبر الصحراء التي ظلت تقوم على مبادلة الذهب والرقيق والحبوب التي تنتجها بلاد السودان بالملح والمنتجات الكمالية المغربية، قد انتقلت فجأةً إلى تجارة الأطلسي الأروبية القائمة أساساً على الصمغ العربي. ثم تعرضنا بعد ذلك للمراحل الكبرى من التاريخ السياسي للصحراء الغربية بدءاً من حركة “المرابطين” (ق 11م) وهي الحركة التي أدّت إلى دخول البربر الصناهجة (آزناكه) المقيمين في غرب الصحراء، أفواجاً في الاسلام لتشكل فيما بعد نقطة ارتكازٍ رئيسيّة ومرجعاً لتحديد الهوية وأساساً للشرعية الاجتماعية والثقافية لم يزل يرجع إليه البيظان بشكل واسع، حتى اليوم. وفي تاريخ الصحراء الغربية تلت نهاية عهد المرابطين فترة مظلمة لم تُخلّف لنا أيّة وثائق وما بدأت الظلمات تنزاح عنها إلا في حدود القرن الخامس عشر الميلادي. وقد مكنت رسالة توصلنا إليها – وقد بعثها شخص نعتقد أنه كان يسكن قرب ولاتة (الجنوب الشرقي الموريتاني الحالي إلى العلامة المصري السيوطي (م 1505) وذلك في شوال 898 هـ  الموافق ليوليو أغسطس  1493-  من إلقاء بعض الضوء مُجدداً على البنى الاجتماعيّة للصناهجة الجنونبيين، وذلك قبل أن تكتمل السيطرة العربية الحسانية بعشرات السنين (لقد ارتبط العرب واختلطوا بمجموعات بربرية من افريقية الشمالية وعربوها).   ولقد ارتأينا أن نظهر اعتمادا على هذا النص، كيف أن التناقض بين حسان ( المحاربين) والزوايا (الطلبة) الذي خلفه عهد المرابطين والذي كان الغرض أن يلعب دورا أساسياً في مجتمع البيظان، كان قائما قبل نهاية القرن الـ (15 م) أي قبل تعريب هذا المجتمع من قبل بني حسان وقبل أحداث “شرببه” بكثير. وذلك خلافا لرواية تاريخية اعتمدتْ بشكل أعمى على أعمال (مارتي) واعتبرت هذه الأحداث بداية للتمايز الوظيفي بين المحاربين والطلبة في مجتمع “البيظان”.   ولقد أدي توسع سيطرة بني حسان التي اكتملت في بداية القرن السابع عشر إلى إعطاء دفعة قوية للتعريب لغوياً وثقافياً (حلت النسبة الأبوية محل النسبة الصنهاجية إلى الأم وتعريب الأنساب كليّا) داخل السكان البربر الذين كانوا ينتجعون بمواشيهم غربي جنوب تنبكتو. وظهرت في الوقت نفسه إمارات الترارزة والبراكنة وآدرار وتكانت التي نسرد بعض أخبارها السياسية والعسكرية بشيء من الاختصار. كما نقدم في هذا الجزء من عملنا عرضا موجزاً عن أسماء قبائل البيظان وعن أنسابها وتقسيماتها الأساسية وذلك من خلال المخطوطات العربية والتقارير الإدارية. إضافة إلى تحقيقات للأنساب أجريناها على مستوانا الشخصي. وينتهي الجزء الأوّل من الأطروحة بعرض مُجمل الأحداث السياسية في ظل الامارات ويستمر الطابع الأحادي لهذا العمل في الجزئين الثاني والثالث من خلال دراسة المضامين الاجتماعية والتاريخية لمختلف النظم الاجتماعية (حسان – الزوايا – اللحمة – المعلْمين – إيكاون – الحراطين العبيد) ومن خلال سرد بعض الأمثلة الهادفة إلى إبراز الطريقة التي تتشكّل بها القبيلة و “الامارة ” والتأثير السياسي “للمنح التقليدية” التي يدفعها التجار الأروبيون للأمراء الذين كانوا على اتصال معهم ومن خلال حرب “شرببه” أيضاً. والنص الذي قرأنا، زيادة على طابعه الشموليّ فإنه يحاول أن يكون مساهمةً في دراسة وتحليل السلطة السياسية في مجتمع “قبلي”.   لقد حدّدت أربع مجموعات من العوامل المتداخلة فيما بينها لتطوّر السلطة السياسية في مجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار أي تطوّر التنظيم القبليّ و”الأميري” وتتلخص في: – العوامل الطبيعية والاقتصادية. – التجارة عبر الصحراء ثم عن طريق المحيط الأطلسي. – القرابة. – الدين الإسلاميّ.  وتتجلى ديمومة البنى القبلية واستقرارها من خلال مظاهرها السياسية والإديولوجية كعامل يعود إلى القرابة بالدرجة الأولى ويبرز بشكل مميز في هذه الانقسامات والانصهارات التي تتم بشكلٍ آليّ ويطلقُ عليها علماء السلالات مصطلح “الشرائحية” (segmentarité).   لقد تتبعنا بطريقة نقدية تاريخ النظرية التي ارتبطت بملاحظة هذه الظواهر القائمة على التناقض الداخليّ والتي تسبب انفجار الوحدات الأصليّة وتكوين وحدات جديدة مطابقة لنوع التنظيم القبليّ. وبدأنا بـ(إميل دور كايم) الذي يبدو أنّ كتابه “تقسيم العمل الاجتماعي” هو أوّل نصٍ اجتماعيّ جامع تعرض فيه “للمجتمعات الشرائحية” وذلك قبل أن نتعرض للموضوع عند (افانس ابرييتشار) ومن ثمّ عند تلميذهما المُشترك (ارنست جلنير) الذي وسع منظورهما من خلال تحليل ودراسة مجتمع قبليّ مشابه لمجتمع البيظان وهو مجتمع بربر الأطلس المغربي. وقد قام تلميذ لجلنير بدوره كـ( ك. أستيوارت) بتوسيع تصورات أستاذه في محاولة لتفسير النظام الاجتماعي والسياسي لمجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار. وبعد أن أوضحنا أن نظرية دور كايم في التناقض بين التضامن الحيويّ والتضامن الميكانيكيّ (تخضع المجتمعات “الشرائحية” لقواعد التضامن الميكانيكي) تقوم على أسس بيولوجية تنقص إلى حدٍ كبير من أهميتها، حاولنا أن نظهر حدود البناءات النظرية حول “الشرائحية” الموروثة عن افانس بريتشار وذلك في مستوياتها الداخلية والخارجية. ويظهر الفحص المتأني لكتاب هذا الأخير حول “النوير” وجود بعض الصعوبات والضعف في البناءات النظرية وخاصة مايتعلق ببحث ظاهرة الزواج من الأجنبيات. والعلاقات القائمة بين “الشرائحية” السياسية (الاقليمية) و “الشرائحية” السلالية. وتدخل نظرية “الفوضى المنظمة” المبنية على التوازن بين مختلف الخطوط السلالية التي تتميّز بالتناقض والتفاعل في آن واحد “أنا ضدّ أخي وأنا وأخي ضد أبنا عمومتنا وأنا وأخي وأبناء عمومتنا ضدّ الآخرين “. في إطار آراء وأفكار (ريفرس) أو في مايُسميه (لويس ديمون) “نظرية المجموعات ذات الأصول الأحادية النسب” والقائمة على التزاوج بين من الأجنبيات ولكن مجتمع البيظان مجتمعٌ أحادي الزواج بالدرجة الأولى حيث أن المصاهرة الأمثل هي تلك التي تتم مع ابنة شقيق الأب (بنت العم). وأياً كانت التعليلات التي يمكن اعطاؤها لهذا الزواج العربي الذي يصمد في وجه نظرية المجموعات السلالية (descent groups). كمايصمد أمام نظرية لفي سترواش حول المصاهرة بالزواج القائم على تحريم الارتباط بالمحارم، فإنه يصعب الاعتماد عليه في نظام سياسي مشابه لماهو قائم لدى مجتمع “النوير” المتألف من فئات أجنبية الأمهات. وحتى إذا كان يُلاحظ هنا وهناك تطابقٌ في عملية تشكل تشريحية (segmentation) للسلطة في الفوضى القبلية السائدة نفسها. ولكن هل هي الفوضى القبلية نفسها حقا؟ أو أليست أخطاء ورثة افانس ابريتشار تكمن في التحديد في محاولتهم تلك دراسة مجتمعات متباينة بنفس الأساليب والمصطلحات لمجرد أنه توجد “قبائل” في كل الحالات؟ إذا ما انطلقنا من تقديم (مبدلتون) و (تيب) لمؤلفهما المشترك “قبائل بدون سلطة” (Tribes without rulers ) حيث يتجلى أثر (أفانس بريتشار) ويبرز نرى أن نظرية الشرائحية تظهر بالفعل بشكل أوضح في العقيدة الوظيفية كوسيلة لتفسير غياب السلطة السياسية في مجتمعاتٍ يطلق عليها تارة “المجتمعات بلا رأس”- أو المجتمعات الفوضوية” أو “المجتمعات بدون دولة ” تارات أخرى. ولقد لاحظنا مع (بير بونت) أن نظام الشرائحية يُبرز بصورة خاصة “النمو المتوازن” للمجتمعات الشرائحية وهو التوازن الذي يحول دون بروز أيّة تمايزات من شأنها أن تؤدي إلى إعادة ترتيبٍ ينجمُ عنه انبثاق سلطةٍ سياسيةٍ مستقلة، وبهذا تكون المجتمعات الشرائحية تحمي نفسها ضد الدولة. لقد كان مجتمع البيظان يشكل بالفعل نموذجاً للمجتمع الذي يخضع بشكل واسع للنُظم “الشرائحية” التي تحدثنا عنها سابقا، فهو مجتمع تمنح قيه القرابة “الهيكل المدلولي” للوحدات السياسية (القبائل وإلى حدٍ ما الامارات). وينقسم هذا المجتمع إضافة إلى ذلك إلى نُظم اجتماعية مختلفة: (المحاربين، الزوايا، أصحاب الحرف والمغنون، والأرقاء السابقون والأرقاء) وقد بدأت أشكال من السلطة المركزية تظهر بشكل جيبي داخل هذا المجتمع (الامارات). ولكن كيف تم الانتقال من القبيلة إلى شكل من أشكال الدولة؟ وكيف حدث هذا التحول الذي لاتبدو نظرية “الشرائحية” قادرة على استيعابه؟ وإذا مانظرنا إلى الارستقراطية المحاربة (حسان) حيث يتم اختيار الأمراء يمكن أن نكتفي بالقول مع “بونت” أنه الانتقال من “فئوية شرائحية” (قبليّة ومنافية للدولة) إلى “فئوية سياسية” بحيث تتم إعادة ترتيب وتشكيل القبائل المحاربة بصورة دورية وذلك من خلال الصراع على السلطة التي ليس وجودها في “سلالة أميريّة” محل مراجعة ولكن قواعد انتقالها داخل هذه الأسرة غير ثابتة كليا. إنه الانتقال من قبيلة منافية للدولة إلى ” قبيلة الدولة ” ومن سيادة بنى القرابة إلى تحكم البنى السياسية. ولكن كيف حدث هذا التحول “المبشر” بانفصال (جزئي) للبنى السياسية عن بنى القرابة؟ ومادامت البنية السياسية الأميرية تُشرك في ممارسة السلطة قبائلَ الزوايا التي يتحدّد نظامها وصلاحياتها في ما اسميناه بـ “إدارة اللاّمنظور” ومادامت هذه المُشاركة تقوم – عقديا – على تكامل وظيفي وغير مرتبط بالقرابة، فقد ارتأينا اعتبار الدين – أو الإسلام بالتحديد – العامل الحاسم في إحداث تحول السيطرة الذي تحدثنا عنه آنفاً. لقد كان من الممكن أن يُمكن الاسلام مجتمع “البيظان” في فترة ماقبل الاستعمار من “الخروج” من سيطرة القرابة ومن “الشرائحية” لينتقل تدريجيا إلى بنية سياسية سائرة في طريق الاستقلال. وقد وسعنا في هذا الصدد الملاحظات التي أوردها ابن خلدون حول العلاقات الأساسية بين العصبية الناشئة عن الانتماء لجد واحد والتي تزداد فاعليتها عند أهل البادية وبين الدين والدولة، فبالنسبة لمؤلف المقدمة الذي يُلخص جوانب واسعة من تاريخ الاسلام وخصوصا في المغرب، فإن أهل البادية لايمكن أن يبنوا دولة أو يتوصلوا إلى أية نتيجة سياسية عن طريق العصبية إلا إذا خططت هذه العصبية وخضعت لحركة دينية. لقد ظلت نظرية الدولة في الاسلام والنظرة الاسلامية السنية للحكم الشرعي تشكل منذ القرن الـ (11م) على الأقل العنصر الأساسي في الحوار العام حول مسألة السلطة السياسية داخل مجتمع البيظان. وقد حدّدنا الخطوط العريضة لهذه النظرية من خلال مؤلف المارودي الشهير “الأحكام السلطانية”، وذلك قبل نتابع امتداداتها في كتابات بعض علماء البيظان على امتداد القرون الثلاثة الأخيرة. ولكن اهتمامنا بنظرية الامامة لم يكن نتيجة لتأثيراتها المباشرة بقدر ماكان نتيجة لارتباطها بنشأة أساس “كارزمي” شخصي هو أصل “الولي” أو وظيفي يقوم عليه وجود الزوايا. إن زوايا الجنوب الغربيّ الذين حاولوا من خلال “شرببه” ضد تحالف حساني فرض تنصيب إمام أو إقامة حكم تيوقراطي لم يتخلوا أبداً رغم فشل حركتهم عن الحكم على السلطة – أو غياب السلطة – بالقياس إلى السلطة الإسلامية الأصلية كمايتصورونها. وعلى الرغم من محدوديتها في المكان والزمان فإن أحداث “شرببه” والصراع بين الزوايا وحسان والتفسيرات التي أعطيت لها قد شكلت الخيط الأخير في هذه الدراسة حيث حاولنا أن نحدد الدور الفاعل (المؤسس) للقيم الدينية بالنظر إلى الصراع الوظيفي بين المحاربين والزوايا وكذلك في تبرير السلطة الأميرية مع كونها تقوم أساسا لصالح الارستقراطية المحاربة التي تختار بين صفوفها الأمراء. وقد أوضحنا أن “شرببه” لم تكن “أسطورة الأساس” بالنسبة لسيطرة بني حسان كمايزعم “ستيوارت” إلا إذا تعلق الأمر بمجرد رواية وهمية بالدرجة الأولى يُراد بها تبرير النظام الاجتماعي في مجتمع البيظان المعاصر. فكل مانعرفه عن هذه الأحداث وعن الصراع بين الزوايا وحسان ليس كافياً للتأكيد مع “بول مارتي” على أن “شرببه” – المعتبرة منعطفا حاسماً في المواجهة العرقية بين العرب والبربر-  تشكل نقطة الأساس في مجموع البناء الاجتماعي السياسي للبيظان كمايظهر للعيان في نهاية القرن التاسع عشر، إذ أن التناقض الوظيفي بين المحاربين والزوايا والذي تختلف أشكاله ومضامينه السياسية والترتيب التدريجي من إقليم لآخر في أرض البيظان، قد سبق بكثير “شرببه” ولم يقم – خلافا لتأكيدات مارتي – على عداء “عرقي” بين “العرب” والبربر. لقد أظهرنا كيف أن إرجاع هذه الأحداث إلى الأهمية الاقتصادية التي أعطاها “ببكر باري” لم يكن مبررا بشكل كافٍ ولم تكن “شرببه” في الأساس امتداداً سياسيا وعسكريا أو “انعاكسا” للصراع حتى الموت بين بين تجارة أطلسية يمثلها “حسان” وبين “تجارة عبر الصحرء” يعتبرُ الزوايا المستفيدين الوحيدين منها. وبعيداً من “شرببه” فإن الصراع التكامليّ بين المحاربين والزوايا، بين الوظيفة الدينية والوظيفة العسكرية في النظام السياسي لمجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار لم يكن – كما ذكرنا – من الممكن إرجاعه إلى “بنية تحتية” اقتصادية.  لقد أردنا خلال دراستنا لتاريخ حرب “شرببه” ومن خلال استقراء نقدي لمُجمل التفسيرات التي اعطيت لهذه الحرب، أن نظهر أن تلك الأحداث لم تكن سوى ظرف زماني ومكاني متميز في  “صراع الترتيب” بين المحاربين والزويا ويبدأ هذا الصراع، وينتهي بالصراع الاقتصادي  للطبقات في سبيل فرض ما اسميناه مع بورديه بمبادئ “ثنائية- رؤية” الواقع وتمثلاته. وقد أوضحنا انطلاقا من دراسة مغامرة ناصر الدين كيف أن منطلقاته تدور حول الدين الإسلامي ومايمثله كأساس ثقافي للسلطة الكاريزمية الشخصيّة وكوظيفة للزوايا وكمرجع أخير لشرعية السلطة الأميرية. إن الاسلام بمنحه أساسا لشرعية “الاشتراك-الصراع” بين الزوايا وحسان داخل البنية السياسية الأميرية، قد لعب دور أداة الانتقال الصعب من القبيلة إلى الدولة على مستوى مجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار. ومع ذلك فإن الملاحظات الواردة حول “شرببه” وحول الصراع بين المحاربين والزوايا وإن مكنت من إلقاء الضوء على عنصر نموذجي في الحقل السياسي للبيظان قبل الاستعمار إلا أنها لايمكن أن تدّعي تغطية كل جوانب هذا الحقل.   ومن ناحية أخرى فإن الملاحظات العامة التي تم إبداؤها مجازفة حول موضوع “الانتقال  إلى الدولة” يجب أن لاتنسينا الطابع الشمولي لعمل يُراد منه في الدرجة الأولى إلقاء بعض الضوء على الأسس التاريخية للقبيلة في الحياة السياسية الموريتانية اليوم. لقد قلنا – فعلا – في الأسطر الأولى من مقدمتنا: أن تفكيرنا ينصب على العلاقات الحالية للدولة الموريتانية مع القبائل وإن لم نتعرض في بحثنا هذا إلا لماضي هذه العلاقات وهو الماضي الذي لم يزل فاعلا في بنى السلطة السياسية الموريتانية كما تتجلى لنا اليوم. وبعيدا عن هذا الخيار الذي يقوم على التناقض بين استحالة ظهور الدولة في مجتمع قبلي شرائحي وبين نظرية الدولة “الأداتية” (الدولة كأداة لهيمنة الطبقة) فقد ارتأينا كيف يرتسم واقع وسط حيث تتداخل البنى القرابة والسياسة في تشابك معقد تعطي فيه الإيدلوجيا اللغة واللغة و (واقع) القرابة حقلا تمثيليا للبنى السياسية التي تبرز سيطرة الطبقة – التي هي هنا طبقة الارستقراطيين المحاربين والزوايا –  بقدر ماتبرز سيطرة ديمومة المبدأ “النسبي” لتوزيع وممارسة السلطة السياسية مازالت فاعلية اليوم وإن كان ذلك عبر أشكال جديدة من “زبونية وجهاتية “. وسواء كان ذلك تحت سلطة حرية المنافسة (المراقبة جداً) بين منتجي الواجهات السياسية ومنتوجات هؤلاء في نهاية الخمسينات من هذا القرن، أو في ظل النظام الذي خلف الاستعمار والذي بلغ اتجاهه التركيزي الرسميّ أوجه اليوم بسيطرةٍ عسكرية لاتجهد نفسها في الظهور بمظاهر التمثيلية التقليدية المرتبطة بالانتخابات (جميعة وطنية، مجالس إقليمية منتخبة بالفعل، بلديات ..) فإن الملاحظ أن اللعبة السياسية الموريتانية لم تزل تعتمد على شبكات القرابة كوسائل لتدعيم شرعية لم تعرف كيف تبرر نفسها بشكل مقبول خارج هذه الدائرة الضيقة. ونحن نتحدث – هنا – عن “الزبونية” وذلك لابراز الطريقة التي يتم بها تحويل الرأسمال الاقتصادي المُدّخر – بيروقراطيا – بواسطة التعويضات المدفوعة منذ فترة “العطايا” للممثلين السياسيين المحليين. أو اقتصاديا عن طريق مايتم اقتطاعه من حركة السلع الصناعية والزراعية المملوكة من طرف الرأسمالية المركزية (التمثيل الخاص، فوائد العمليات التجارية مع الدولة) مستهدفين تفسير كيف يتم تحويل هذا الرأسمال الاقتصادي إلى رأسمالٍ سياسيّ: إلى تمثيلية بدونها ترتطم أيّ محاولة لزيادة الثروة أو الجاه بحاجز يستحيل عبوره. ويبز التداخل بين النجاح الاقتصاديّ الخصوصيّ والتسيير بالأوراق النقدية وبالرجال وهي المعاملات التي يسوق بعضها إلى الآخر في كلا الاتجاهيْن، هذا إذا تركنا جانبا مايسميه حميد الموريتاني بـ “الجزء غير المشروع من الدّخل” للبيروقراطيّة: ناتج الثروة، اختلاس الأموال العامة. فكل صاحب امتيازٍ – أياً كان مستواه – يجب أن تكون له دخوله من فوائد التعامل مع الدولة وأن تكون له شركاته شبه العمومية التي تلعب دور الزبون الرئيسيّ. ويشكل “الامتياز” بداية الانحدار القدريّ لكل سياسي من هذا الحقل. وهكذا تتجلّى تبادلية ضرورية أو تكامل قدريّ بين “التمثيل” في المعنى التجاري و “التمثيلية” في المعنى السياسي والاجتماعي للكلمة. وتشكل القرابة نقطة الالتقاء في هذا المجتمع الذي مازالت البنى القبليّة تتحكّم فيه بشكلٍ كبير، وحيث لاتزيد نسبة العاملين في القطاع الرأسمالي-البيروقراطي على 2% من مجموع السّكان القادرين على العمل. وعلى الأثرياء أو ممتهني السياسة أو المترشحين لامتهانها أن يقوموا لاستمثار أو إطالة عمر “رأسمالهم التمثيلي” بتقديم بعض المساعدة لأكبر قدر ممكن من الزبناء وحتى إن لم يكن ذلك عن طيب خاطر. على أن يبدأوا بالأقارب المباشرين والموالى (العبيد السابقين، المطربين، الصناع) وهي الجماعات التي سيُمكّن تضامنها المبعوث من جديد عن طريق إعادة تقسيم الامتيازات الاقتصادية الناتجة عن “الامتياز” الرأسماليّ والقائم بالإضافة إلى ذلك على أواصر القرابة (في المعنى الواسع) في المقابل من زيادة “تمثيليّة” الممثلين (السياسيين أو “الحاصلين على امتياز”) في قطاع الدولة الرأسماليّ وفي المجتمع وفي الاقتصاد الوطني. ويمكننا أن نتابع تداخل التنظيم القبليّ وإدارة الدولة الموريتانية في إطار الأشكال المحلية للتبعية لنظهر علاقات هذا التداخل، بغض النظر عن الظرف المناخي و الاقتصادي والسياسي بالتشكلة الاجتماعية الموروثة عن الفترة قبل الاستعمارية، وأن نبرز مغزى وديمومة العودة إلى الاسلام في إطار استيراتجيات تبرير السلطة. وأن نلقي الضوء على الآثار الخطيرة والفوائد المتبادلة الناجمة عن تزاوج نظاميْ القبيلة والدولة، في مايمكن أن نطلق عليه “دولة في مفترق الحقب”؛ ولكن كُل هذا يستدعي بحثاً آخر.

التناكر المزمن وحجاب المعاصرة .. قراءة في الأعمال الفكرية الجديدة للكاتب والباحث د. البكاي ولد عبد المالك

صدرت أخيرا للأستاذ الجامعي والباحث الكبير في مجال الفكر، ثم المترجم البارز د. البكاي ولد عبد المالك، خمسة أعمال جديدة انضافت إلى أربعة أعمال صدرت له خلال السنوات الماضية، مما يعني حصيلة بلغت تسعة أعمال ما بين مؤلف مختص وترجمة بكر. ولأنني اطلعت على هذه الأعمال الفلسفية والفكرية والاجتماعية المتنوعة، التي تتعانق فيها الترجمة والأعمال النقدية والدراسة فقد استفزتني للتعليق عليها، وذلك لأربعة أسباب:

أولا: وضوح رؤية المؤلف المبثوثة في ثنايا عمله ترجمة وتأليفا.

ولا تكون الرؤية واضحة عادة إلا عندما يصل الكاتب أو الباحث إلى درجة كافية من الإحاطة بالحقل المعرفي الذي يتحرك فيه. ولا شك لدى في أن من اطلع على هذه الأعمال سيصل إلى نفس الاستنتاج فالكاتب اتسم بالإحاطة الكافية بحقل الدراسات الفكرية والفلسفية الذي عمل فيه.

ثانيا: سلاسة أسلوب الباحث، واسترساله، وقدرته على التعبير عن الأفكار الفلسفية ذات العمق بطريقة واضحة، بعيدا عن التعقيد والالتفاف التعبيري على تلك الأفكار الصعبة، فقد كان الأسلوب واضحا، دقيقا في التعبير عن الأفكار والمفاهيم، محققا للإبلاغ المطلوب، دون ابتذال ولا تهويم.

ثالثا: جدية وجهة العمل الذي اهتم به الكاتب، فقد اهتم بمجال لم يسبقه إليه باحث موريتاني – حسب علمي- حيث اتجه إلى إنجاز أعمال ذات طابع فلسفي لا غبار عليه، توطنت محاور الفلسفة الحديثة عبر تاريخها، واستدرجت أقلام مؤرخيها، واندرجت دائما في عمق المسارات الفلسفية العالمية الكبرى، وشكلت الشاغل الأساسي للكتاب والباحثين الجادين في الفكر الإنساني.

رابعا: أن هذه الأعمال، منوعة تنوعا يوحي بأن لدى باحثنا اهتماما واسعا ومنوعا بأطياف فكرية متعددة، ومناح مختلفة، تتراوح ما بين الفكر الغربي في عمقه الفلسفي المختص جدا، وحقل المدونات والبحوث المحلية ذات الطابع الثقافي والاجتماعي والسياسي في مجالنا الجغرافي الغرب صحراوي.

كما أن ترجمات هذه الأعمال خاصة تظهر لأول مرة باللغة العربية رغم شيوعها العالمي وتداولها المحلي باللغة الفرنسية، بالنسبة لبعض النصوص التي ترجمها الكاتب. ورغم أنني هنا لن أزيد على تعليقات موجزة على بعض المنشورات كأمثلة على غيرها، تطلع القارئ على طبيعة الأعمال، إلى أن يتسنى لي الوقت لمناقشتها باستفاضة، لاستيضاح بعض جوانبها؛ فأنا أراهن على أن أي باحث أكاديمي، أو كاتب مهتم بالفكر في بلادنا سيصل إلى استنتاج مشابه لما وصلت إليه، عند اطلاعه على أعمال الباحث الجاد د. البكاي ولد عبد المالك، إذا لم يحل بينه وبين ذلك ما يدعوه البعض بـ “جحاب المعاصرة”، أو ما أدعوه أنا تجوزا: “التناكر المزمن” بين المتعاصرين في أيامنا هذه.

وإنه لتناكر ملفت للانتباه، مما يستدعي منا إعادة النظر في هذا السلوك الذي لا تخطئه عين أحد مهما كان رمدها، حيث يسود صمت متبادل بين منتجي الثقافة والفكر خاصة في وسطنا الأكاديمي والثقافي، فلا ترى باحثا يذكر عمل باحث آخر بخير حتى يرفعه، ولا بشر حتى يخفضه، فكل ما هنالك هو إنكار متبادل، يندى له الجبين. كأنك إذ تقرأ لأحدنا تقرأ نصا خارج أي سياق.

تقرأ نصا لا زمنيا معزولا، لأنه منعدم التواصل مع محيطه، ومع ما كتب حوله أو قبله من نصوص، فيقدم إليك نفسه في النهاية نصا أصم، لم يحاور غيره من النصوص، ولم يحاوره غيره، ولم يستحضر الآخر في ثناياه.. ليصب في النهاية -وفي أحسن الأحوال- ضمن نهر التجاهل الجاري، والتناكر المرضي المتبادل. ولا أحد يجهل النتيجة النهائية لذلك، ألا وهي ترك الباحث المخطئ يعمه في ضلالته يمينا وشمالا إذ لا أحد ينبهه إلى ما قدم من ضلالات، وإلقاء الباحث الجاد في حيرة من أمره: إذ لا أحد سيقول له أين أخطأ ولا أين أصاب؟

لكن حين يرحل الباحث الخام -بطبيعة عدم إسكان فكره في حيزه المحيط به- فحدث ولا حرج عن سيل الآراء السخية المصبوغة بألوان الحداد الغامقة، وهي آراء لا يمكن إلا أن تكون من جنس التنويه المفرط والتقريظ المشط. وهكذا تضيع حقيقة إنتاج الباحثين والمبدعين متنازعة بين حياة ثقافية مسكوت عنها كلية، وموت بيولوجي ممدوح، يطبعه الضجيج، لكنه ضجيج في “الوقت الضائع”، وحسب أغلب الظن أنه سيستفز الراحل من مثواه فيصرخ في وجوه من أنكروه حيا وأشادوا به ميتا.

إن الساحة الثقافية والفكرية –حسب ما أرى- لن تتعافى من ع عقمها، ما لم تخرج على بدعة التناكر المتبادل، لأن الفكر لا يحيا إلا في فضاء مفتوح من الحوار والتفاعل البناء، والفعل ورد الفعل. بالطبع لا قاعدة إلا وفيها استثناء، ولعل بعض الأعمال الأكاديمية، التي استدعتها الضرورة الدراسية للباحثين قد شكلت استثناء في هذه القاعدة حيث أنجزت دراسات عن كتاب ومثقفين موريتانيين من طرف طلاب دراسات عليا كان البحث عن موضوع ما، هو داعيها الأساس، إضافة بالطبع لميل الأستاذ المشرف.

لكن بالنسبة للكتابة الاختيارية عن الأعمال التي ينجزها كتاب وباحثون موريتانيون سواء كانت جادة أو غير جادة، فحدث ولا حرج عن التجاهل الدائم والصمت المطبق. أما الحوار حولها، وتقديمها، وتقويمها، فهو من المستحيلات العشر، إذا كانت ثمة مستحيلات عشر في الكتابة.. لماذا؟

سؤال وأي سؤال! كسرا لهذا الصمت المريب فإنني سأقدم للقارئ والباحث الموريتاني، وبإيجاز بعض الأعمال التي اعتبرها حدثا في مكتبتنا الوطنية، وذلك لأنها من صنف غير معهود ألا وهو الكتابة والترجمة في الفكر والفلسفة، فحسب اطلاعي –مع سهولة الحصر لضيق المجال- لم أعثر على عمل بحثي اختياري مشابه للعمل الذي بين يدي، سواء فيما يتعلق بالترجمة أو بالدراسة الفكرية المعمقة لأفكار فلاسفة كبار من أمثال: اسبينوزا، ونيتشه، وليبنيتز، وميشل فوكو، وهوبز.. وغيرهم.

وإن مثل هذه الأعمال لسداد لثغرة ملاحظة لدى باحثينا، الذين لاشك في قدرة بعضهم على إنجاز أعمال نظيرة، لكن إرادتهم منصرفة عن هذا المنحى، انصرافا لايعدله إلا انصرافها عن القراءة لبعضهم أيا ما أبدعوا، وأيا ما ترجموا، وأيا ما بحثوا.

إن المبدع وغير المبدع عندنا ينالان نفس القيمة التجاهلية، ومن ترجم أعمالا جليلة كمن لم يترجم أي شيء، ولم يسمع بالترجمة أصلا، والباحث الجاد كمن لم يبحث قط. هذا هو الواقع الذي لا يستطيع أحدنا أن يكابر بأنه غير قائم، لذا كان حلم منتجي الثقافة هو أن يكتب أحد ما عن أعمالهم أي شيء، ولو قال: “صدر اليوم للكاتب أو المترجم، أو للباحث الموريتاني، العمل السيئ الفلاني” فإن المكتوب عنه سيشعر بالسعادة لانكسار دائرة التجاهل حوله. فنتيجة لوطأة التجاهل الممض أصبح الانتقاص والثناء سيان، فالمهم أن يرجع للكاتب أي صدى بأنه أنجز شيئا ما.

إن ظاهرة الصمت المطبق عن المكتوب الثقافي، هي الظاهرة التي يمكن أن نسم بها فترتنا، للأسف، لذا أنتهز هذه الفرصة للتذكير بخطورتها، وأطالب بفتح النقاش حول آثارها المدمرة على الحركة الفكرية والبحثية في البلاد، ما دمنا نصر إصرارا متزايدا على ترسيخها ونحرص أشد الحرص على استفحالها وشيوعها بيننا.

لقارئ هذه السطور أن يتساءل: لماذا أحكم بأن أصدارات الباحث الدكتور البكاي حدث جديد على مكتبنا الوطنية؟

إنها كذلك من وجهة نظري لأنها: – من ناحية الترجمة، أضافت للمكتبة العربية عموما والموريتانية خصوصا، عددا معتبرا من الكتب الجادة في حقلها، لأنها تتسم بالمحورية فهي لفلاسفة ومفكرين عالميين، وهي إما ترجمة بكر لتلك الأعمال الفلسفية نحو اللغة العربية، لأنها تظهر لأول مرة، وإما هي دراسة لزوايا من الفكر الكوني بعين باحث موريتاني يتسم بالجدية والاجتهاد في استيفاء الدراسة متطلباتها البحثية العلمية.

وهذا إسهام موريتاني محمود وبارز في ترجمة وتقديم الفكر الغربي عبر اللغة العربية، لم أطلع على نظير له حتى الآن في أعمال باحثينا الوطنيين، رغم علمي بقدرة بعضهم عليه، لكن القدرة قابلية مساوية لعدمها ما لم تتحول إلى إنجاز عملي، وهم لم يحولوا تلك القدرة قط إلى أعمال ميدانية إلى حد الآن.

تصدق صفة الإضافة في المترجمات التي بين أيدينا على الأعمال التي اطلعت عليها جملة، كما أن للدراسات المنشورة نفس الخاصية مع فارق المجال، ولأنني لست في وارد بسط الأمور هنا، فسأذكر ثلاثة نماذج، حسب نوعيات الأعمال، النوع الأول من الأعمال هو رزمة المترجمات عن الفكر الفلسفي العالمي، وسأقدم منه نموذجا دالا.

والنوع الثاني نوع الدراسات الفكرية العالمية، وسأقدم نموذجا من رزمته، والنوع الثالث نوع المترجمات المحلية وسأقدم نموذجا من رزمته. وسأصحب كل نموذج بتعليق مجمل، على أن أذكر في النهاية بقية المنشورات بصفتها البيبليوغرافية على سبيل الإخبار.

على أن أعود للمدونة الصادرة بالتفصيل متى ما أسعفني الوقت بذلك لاحقا، فهي مدونة معتبرة، تستحق القراءة المتأنية، والتعليق المتبصر، والتوطين الفكري المناسب.

نماذج من رزم الأعمال – النموذج الأول: “مقال في ما بعد الطبيعة” ج. ف. ليبنتز، الذي صدر تحت الرقم 14 من السلسلة المعروفة بسمعتها العلمية ضمن الترجمات العربية “سلسلة النصوص الفلسفية”.

ترجمة للمرة الأولى إلى العربية. تقديم وترجمة د. البكاي ولد عبد المالك.

يعطي المترجم والمقدم إنارة موجزة حول فلسفة صاحب الكتاب المترجم قائلا: “إن فلسفة ليبنيتز هي عبارة عن حقل عرف نموا لاتجاهين فكريين متعارضين في آن واحد: تيار الحداثة.. بما تحمله هذه العبارة من إيمان عميق بقيم الثورة على التقليد، التي تتمثل أساسا في الإيمان بالعقل وفي الإرادة التأسييسية، والقطع عن القديم مهما كلف الثمن، لكننا نجد في ذات الفلسفة نوعا من “الوعي الارتكاسي” تمثل فيما يمكن أن نسميه بـ “التيار المناهض للحداثة” عند لايبنيتز، والذي تمثل في دفاعه المستميت عن بعض الأطروحات المدرسانية، فغالبا ما نجد لديه تلازما بين الهجوم على ديكارت وأصحاب النزعة النزعة الميكانيكية والتفسير الآلي للطبيعة، مع إعادة الاعتبار للمدرسانيين.

” تعليقا على هذا الاستعراض الأنف من د. البكاي، فإنني أرى وبإيجاز شديد: أنه ما من شك في أن فلسفة لايبنيتز بأرضيتيها المختلفتين: العبقرية الرياضية العلمية الصارمة من جهة، والتضلع من التعاليم اللاهوتية المدرسية من جهة أخرى، قد جعلت الثنائية تطبع فكر هذا الفيلسوف بنوع من التباين بين المشتقات الذهنية لفكره خلال استنتاجاته الفلسفية. وهذا التباين قد لا يقتصر على هذا الفيلسوف وحده، إذ هو سمة بارزة لأزمة التباين التي عاشها فلاسفة الحقبة الحديثة وعلماؤها في التوفيق بين اعتقاداتهم الدينية الراسخة، واستنتاجاتهم الباهرة في حقل العلم، وهي أمارة على التمزق الداخلي في النسيج الفكري بين وضعين، كان صدامهما وتنافرهما الأصلي ميزة الفكر الحديث.

وفي رأيي أن هذا التمزق الداخلي، والتباين في الأرضيات، لم يزل يستعيد ذاكرته النشطة في نفوس الفلاسفة والمفكرين لاحقا، لأن الازدواجية أصلية رغم الصيغ التنكرية لدى بعض المنظومات الفلسفية مثل فلسفتي فيورباخ وماركس، وسيبقى هذا الوضع قائما مالم يجد الفكر سبيلا واضحا للتخلص من أحد بعدي الإنسان، بعده الروحي المتسيب على القواعد، وبعده المعرفي الذي يدعي دائما الوصول إلى حقائق، ولو اعترف بأنها نسبية.

-النموذج الثاني : مدخل لقراءة اسبينوزا، وهو من صنف الدراسات تأليف د. البكاي ولد عبد المالك .

تقديم د. محمد أحمد الشريف. يقدم المؤلف في هذه الدراسة مقاربة منهجية أعتبرها موفقة، لأنها اختارت لنفسها زاوية نظر منحتها فسحة لمعالجة موضوعها، فبما أن المداخل عادة من صنف التمهيد الصعب فإن زاوية النظر تتحكم في ما يأتي بعدها، وأصعب خيار يواجهه الباحث هو التحيز في زاوية نظر لا تركن به إلى المتداول الاعتيادي لدى من سبقوه من دارسين كثر.

فإذا كان اسبينوزا، الفيلسوف المثير للانتباه؛ بل والاشتباه أحيانا، قد نال من الاهتمام السالب والموجب ماناله منذ نضجه الفكري المبكر، فإن اقتناص زاوية نظر تضيف للدراسات حول فكر هذا الفيلسوف أي إضافة، يعتبرعملا لا يخلو من صعوبات متسلسلة.

ماهي زاوية النظر التي أتصور أن الباحث د. البكاي قد اختارها لتمهيد مدخله إلى قراءة اسبينوزا وهو الفيلسوف المستعصي على القراءة رغم تراكم قراءاته المتتالية عبر التاريخ الفكري الحديث؟

إن الزاوية التي نظر منها الباحث لفلسفة اسبينوزا، هي استخدام منهج تحليلي، شبه تفكيكي استيحاء من منظورين منهجيين لاحقين على الفلسفات النسقية، رغم أن موضوع الباحث هو فلسفة نسقية صارمة تمثلها الاسبينوزية. المنهجان اللذان تبناهما الباحث في زاوية نظره لمنظومة اسبينوزا، دون أن يصرح بذلك تصريحه بمنهجه العام هما: “جنيالوجيا” نيتشه في تحليل ونقد الأنساق وأصول المفاهيم، وتفكيكية ميشل فوكو في حفريات المعرفة.

إن عناق هذين التوجهين على استحياء كان هو الخلفية التي أعطت لباحثنا فسحة نظرية للقراءة، ولولا نظره من عين مخالفة للنسقية لما استطاع أن يضيف لقراءات اسبينوزا الشيء الكثير، لأن قراءة الأنساق من داخلها تحجب الرؤية عن الباحث مهما كانت فطنته وحذره.

هذا المنطلق جعل الباحث البكاي يتوخى البحث عن التمايز، أو التأشير على الفارق، كسند للقراءة، باعتبار أن المتشابه والمتطابق، والمتناسق، لاتقدم القراءة أيا كانت صرامة وسائلها التقليدية، مثل التحليل، والتركيب، أو الاستنباط والاستقراء.

فالقراءة بمعناها الحديث هي قراءة بالمخالف لا بالموافق، وأهم دليل على هذه الخلفية المنهجية هي بحث المؤلف عما لايريد الفيلسوف قوله. إنه يدين الخطاب النسقي للفيلسوف من خلال هذا البحث المراوغ عما لم يقله اسبينوزا، باعتباره هو مايلحد إلى قوله في نهاية المطاف.

إن ثمة أبعادا أخرى يمكن استنباطها من زاوية نظر المؤلف، لكنها تبعدنا عن القارئ غير المتخصص الذي جاءت هذه السطور لتقديم العمل بما يفهمه من مشتركات الخطاب المتداول فكيف قدم الباحث رؤيته المنهجية كمدخل لقراءة فلسفة اسبينوزا؟

يقول الباحث د. البكاي ولد عبد المالك في:”مدخل لقراءة اسبينوزا نستعرض.., بشكل مبسط أسس العقلانية الاسبينوزية وتجلياتها كما عبر عنها الفيلسوف نفسه وكما أرادها أن تكون. فتناولنا في هذا الكتاب فكرة النسق عند اسبينوزا كما تظهر في العلاقة الوطيدة بين حقول معرفية متعددة مثل الميتافيزيقا والمعرفة والأخلاق. فخصصنا الجزء الأول من الكتاب للأسس الميتافيزيقية للمذهب.

ويعد هذا الجزء أهم أجزاء الكتاب نظرا للأهمية التي يوليها اسبينوزا للمبحث المتعلق بالإله وتصور وحدة الوجود في أعماله الفلسفية لأنه هو مفتاح النسق، والأساس الذي تقوم عليه مختلف التصورات الفلسفية الاسبينوزية في ميادين المعرفة والأخلاق والدين والسياسة.

كما تنبع أهميته من أنه كان ولا يزال موضوعا لسجالات فلسفية لا تنتهى. يتكون الجزء الأول من ثلاثة فصول : تناولنا في الأول منها وحدة الجوهر باعتبارها وحدة إشكالية تستوعب الجزء الأكبر من الصعوبات الفلسفية التي واجهت الاسبينوزية.

فبحثنا عن مصادرها الفلسفية المختلفة ومصادر الفلسفة الاسبينوزية عامة وخاصة الشرقية منها، وصياغاتها المتكررة في أعمال اسبينوزا. وخصصنا الفصل الثاني للتبرير العقلي لوحدة الجوهر كما عرضها اسبينوزا وحللها في نصوصه.

أما الفصل الثالث وهو “مفارقات وحدة الجوهر”، فيحمل طابعا سجاليا نقديا لأنه يستعرض في الواقع المعضلات الفلسفية الكبرى التي انتهت إليها بالفعل وحدة الجوهر عند اسبينوزا.

أما الجزء الثاني المخصص للمعرفة فينقسم إلى فصلين يتناول الأول منهما وهو “نظرية التوازي” دلالة هذه النظرية وأهميتها والحلول الفلسفية التي قدمتها لواحدة من أكبر المعضلات التي عرفتها الفلسفة في تاريخها وهي الثنائية الأنطولوجية.

ويظهر هذا الفصل الارتباط الحميم بين الأنطولوجيا الاسبينوزية ونظرية المعرفة، لأن العلاقة بين النفس والجسم ليست مسألة ميتافيزيقية تظهر نظام الأشياء وبنيتها وتراتبها فحسب، بل هي أيضا مسألة معرفية تظهر نظام الأفكار وترابطها، ولا فرق هنا بين الأنطولوجيا والمعرفة.

أما الفصل الثاني فقد ركزنا فيه على مراتب المعرفة ومسالكها عند اسبينوزا وقد ربطنا بينها وبين مصادرها في الفلسفة الإسلامية من خلال اطلاع اسبينوزا الفيلسوف الماراني الأندلسي على أعمال أبي بكر ابن باجة الأندلسي التي ترجمت إلى العبرية وكانت متداولة في أوروبا على نطاق واسع في تلك الآونة، أو من خلال وساطة ابن ميمون الذي نقل إليه أفكار ابن باجة مباشرة.

أما الجزء الثالث وهو الأخلاق فيتناول جزءًا مهما من فلسفة اسبينوزا العملية. ويظهر من خلاله أيضا فكرة النسق عند الفيلسوف، لأن تحليل الانفعالات ومسألة السعادة لا تنفصل عن المعرفة، مثلما أن المعرفة لا تنفصل عن الأنطولوجيا.

وقد قسمناه إلى أربعة فصول يتناول الفصلان الأولان تحليل الانفعالات وتطور نظرية الانفعال في أعمال اسبينوزا الفلسفية المختلفة، في حين خصصنا الفصل الثالث للعلاقة بين الحرية والضرورة.

أما الفصل الأخير فقد خصصناه للفائدة العملية للأخلاق ودورها في الاكتمال الأخلاقي للفرد و طرق تحصيل السعادة.

وقد سعينا في كل مرة من خلال المنهج التحليلي التركيبي القائم على استقراء النصوص واكتشاف حواراتها الداخلية المباشرة تارة وغير المباشرة تارة أخرى، الصامتة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى، إلى الكشف عن مقاصد الفيلسوف لا فيما يقوله فحسب، بل فيما يريد قوله أيضا.

وبذلنا جهدنا من خلال استخدام بعض الإجراءات المنهجية المتمثلة في عمليات العقل الثلاث : التحليل والنقد والمقارنة، في سبيل الكشف عن مظاهر قوة هذه الفلسفة وعن مظاهر ضعفها في آن واحد.”

تعليقا على هذا التقديم أود أن أستعرض فكرة استدعتها قراءتي لهذا العمل، وذلك زيادة على ما أبديته قبل إيراد الاستشهاد من المؤلف بخصوص هذا النموذج. الفكرة تأتي على أضواء ما ألمح إليه الباحث حول منحى العلاقة بين فلسفة اسبينوزا وفلسفة ابن باجه، أستاذ أستاذه ابن ميمون الأندلسي، وابن عربي صاحب الفتوحات المكية أيضا من وراء ذلك في محل آخر من الكتاب، وهو منحى لا غبار عليه.

ووجه ملاحظتي ليس الكشف عن هذه العلاقة بالتحديد لأنها استنتاج قائم، وإنما ذلك الإصرار المريب من مؤرخي الفكر الغربي على إنكار التأثر بالفكر الشرقي، وهو أمر يدل بجلاء على أن تفكير هؤلاء المؤرخين ليس بخير في كل الأحوال. لقد جرب العرب وهم حملة الفكر في القرون الوسطى مسألة التأثر، لكنهم أعلنوا صراحة عن مصادرهم الفكرية الخارجية، حتى كادوا يدسون فكرهم الذاتي في المنظومة الفلسفية اليونانية حتى سموا أرسطو المعلم الأول، وكذا وصل بهم الأمر إلى إدراج كل (…) الفقهية والكلامية في الحكمة والنظر، بإخضاع وارد الشرع لوارد الحكمة أحيانا كثيرة، من وراء التبني العلني لآلة المنطق، فكيف ينكر سدنة التأريخ للظاهرة الفكرية الغربية الحديثة تأثر أسلافهم بالفلسفة المشرقية ذات الأصول اليونانية، وكما فهمها المشارقة، وأولوها، وبنوا على أساسها تصوراتهم؟ وأنا هنا أتبرأ من النرجسية المعرفية العربية الإسلامية، إنما فقط أستغرب أن يستشري هذا الإنكار بين صفوف المؤرخين للثقافة الغربية، مما يضطرهم أحيانا لغض النظر عمدا أو جهلا عما يوجد خارج دائرة المنطوق الغربي تاريخيا أوفكريا.

لقد أصبحت آلية تتبع الأفكار نشأة، ونضجا، وتمثلا، عبر تتبع الوثائق، والمقارنة، والمقابلة، والشواهد التاريخية المتاحة، بحيث يجري تقديم الأمور في قوالبها الفعلية أمرا لا يمكن التغاضي عنه علميا، وهو ما لايجب أن نحجم نحن عنه متى ما لاحظناه، دون وجل أو تهيب، كما يجب على قراء تاريخ الأفكار الغربيين أن يعلنوه متى ما اتضح لهم بالقرائن دون أي حرج، فالأفكار تتحول من حضارة إلى حضارة، ولكنها تتطور وتتكيف، وتعيد توطنها في المنظومات المعرفية المتجددة، والأمر لايعدو سلوكا خفيا لا بأس فيه لصيرورة الأفكار الكبرى.

إن الأصالة في التفكير تتطلب منا نحن اليوم في الحضارة العربية أن نسند الأفكار الحديثة المستنتجة غربيا إلى أصحابها بكل أمانة. وبالمقابل فعلى مؤرخي الحضارة الغربية أن لا يجدوا غضاضة في أنهم استفادوا من معارف العرب، وفلسفتهم، كما لم يجد المفكر العربي يوما غضاضة في الاعتراف بأصوله الفلسفية اليونانيية وعلومه كذلك.

عدا عن هذا هذا البعد التاريخي الوارد فإن التعاطي الأمين مع واقع تاريخ الأفكار البشرية يفيد تربويا في تخفيف كثافة المركزيات الثقافية أيا كان موطنها ومتعلقها المعرفي، مما يؤهلنا -في العالم القديم جغرافيا- لرؤية مشتركة حول التشارك في سوق الأفكار باعتباره سوقا للجميع، أسهموا فيه حسب سياقات تاريخية، وعليهم أن يتقاسموا هذا الإرث الفكري الذي هو في حقيقته ملك للجميع. وذاك هو المنحى الطبيعي الفطري الذي تنحو إليه الأفكار، وهو الانتشار والشيوع بين البشر جميعا.

إن تطبيق نظريات الاحتكار الاقتصادي على الأفكار الفلسفية والاستنتاجات العلمية ليس واردا في عصر تدور فيه الفكرة بالكون دورة كاملة في أقل من دقيقة.

وأنا أتصور أننا في هذا السجال المزمن بين مؤرخي الأفكار في الغرب والمشرق، نحشر أنفسنا في شرنقة انفلت منها جزء كبير من العالم هو العالم الآسيوي الشرقي، وبعض الشعوب الأخرى، وإن لم نتجاوز هذا السجال التراثي بإحقاق الحق، وتقليص المركزيات الثقافية فنحن سنحبس أنفسنا في جدلية تراثية شاغلة عن الإبداع والتجديد.

لقد كانت قراءة فلسفة اسبينوزا من منظور تاريخاني لدى الباحث د. البكاي ولد عبد المالك، مناسبة لي للحديث عن هذه الفكرة التي أراها مفيدة وواردة لحسم الجدل المزمن حول تأثر المفكرين الغربيين بالفسلفة العربية الإسلامية، وهو أمر لم يتحرج منه أولئك الفلاسفة أنفسهم في فترة معينة، حيث كانت موضة المؤسسين الاطلاع على الفكر العربي الإسلامي وإتقانه؛ لكن علينا نحن بالمقابل أن نفهم أن تلك الأفكار التي استنتجها مفكرون وفلاسفة عرب توطنت في منظومات فلسفية أخرى، وانطبعت بطابعها، وهي ليست ملكا لنا، ننازع فيه كما ننازع في العقارات والأملاك الخاصة، كما أن الأفكار الغربية والمنظومات الفلسفية لم تعد ملكية خاصة للحضارة الغربية التي أنتجتها.

صحيح أنه لا أحد يجهل اليوم تلك النزعة الاحتكارية للعلوم التقنية، والاستنتاجات الرياضية، بداعي التداخل ما بين المصالح السوقية الاحتكارية ونزوع العلم للشيوع، لكن الأيام كفيلة بكسر هذا الاحتكار المتكلف، لأن منطق العلم يحرم الاحتكار، ويمجد حرية الفكرة، سواء كانت ذات قيمة تداولية معرفية أو ذات قيمة تداولية نفعية.

و إن رأى القارئ الكريم أنني حشرت هذه الفكرة المتشعبة في سياق غير سياقها، فإنني أجيبه بأن خصوبة الأفكار تكمن في قابليتها لتوليد أفكار أخرى، وليس في قيمها التاريخية المتجاوزة أحيانا كثيرة.

النموذج الثالث : هو من رزمة المترجمات المحلية المؤلفة من كتابين وعنوانه: دراسات حول الإسلام في موريتانيا. الشيخ سيدي. الفاضلية. إدواعلي.

ويتحدث المترجم في مقدمته عن أهمية الكتاب في سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي، ورواجعه على مجال البحوث الأتنولوجية والأنتروبولوجية، والمنهج الذي اعتمده صاحبه، مستفيدا من نتائج بحثة الميداني الموسع، وملاحظته الدقيقة.

لقد كانت المقدمة مهمة من زاوية تحديد أفق المؤلف، والقيمة العلمية لعمله، وهو تقديم أفاد في تأطير الترجمة الدقيقة الأمينة لهذا العمل الذي ينير جوانب هامة من التاريخ البشري والاجتماعي لثلاث مجموعات نموذجية هي: زاوية أهل الشيخ سيديا، والطريقة الفاضلية في الصوفية، وقبيلة إدوعلي مثالا للقبيلة الموريتانية النموذجية، كل ذلك في سياق التعاطي مع تحد جديد لم يكن متداولا وهو الاستعمار، مما يكسب الكتاب المترجم أهمية بالغة في المكتبة العربية، إن الترجمة التي بين أيدينا تدل من جهة على اطلاع الكاتب الموسع على أعمال المستشرق الفرنسي بول مارتي، ولكنها تدل أزيد من ذلك على الميل إلى منحى الدراسات الإنسانية والفكرية لدى المترجم د. البكاي.

وهنا ألاحظ ملاحظة أولية بخصوص طبيعة الترجمة: ثمة من يعتقد أن الترجمة لاتحتاج إلى الإحاطة الفكرية والرؤية المنهجية، المستندة إلى آخر ما وصلت استنتاجات الباحثين في الموضوع الذي يقوم المترجم بترجمته، ويعتقد أبعد من ذلك أن الخبرة اللغوية وحدها كافية.

وهذا ليس صحيحا بالمرة، فما لم يكن للمترجم رؤية فائضة عن مجال المتداول الفكري والمعرفي عموما، فإنه يبقى حبيس القفص اللغوي، ومحدداته.

ولاشك أن مترجمنا يملك هذا الفائض الفكري الضامن للترجمة الأمينة. هذا ما اتسع له المقام من حديث، ومجموعة الكتب التي لم يتم الحديث هي من صنف ما تم الحديث عنه منهجا، ووضوحا، وإحاطة مما يجعل المجهود الذي بذله الباحث حقيقا بالتقدير والاحترام، وهو نموذج يحتذى من طرف باحثينا للقيام بمثله، أو أقل منه أكثر. المجموعة المتبقية من المؤلفات والترجمات هي ستة نوردها للإطلاع فيما يلي :

أولا : الترجمات :

1- فوكو صحافيا، أقوال وكتابات. ترجمة د. البكاي ولد عبد المالك، وقد صدر عن دار جداول للنشر والتوزيع ، بلبنان ، 2012

2- يهودانية اسبينوزا، تأليف جنيفييف بريكمان ، ترجمة وتعليق د. البكاي ولد عبد المالك، وتقديم محمد أحمد الشريف، صدر عن جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، طرابلس 2010.

3- مقال في ما بعد الطبيعة ، ليبنتز ، ترجمة وتقديم د. البكاي ولد عبد المالك ، دار الثقافة للطباعة والنشر، سلسلة النصوص الفلسفية ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، 2004.

4- حياة اسبينوزا، تأليف جان كوليروس، ترجمة وتعليق د. البكاي ولد عبد المالك، صدر عن جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، طرابلس 2010 (على هامش كتاب: مدخل لقراءة اسبينوزا.

5 – دراسات حول الإسلام في موريتانيا، الشيخ سيديا، الفاضلية ، اداوعلي، صدر عن جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، طرابلس 2010.

6- الإسلام والاستعمار في إفريقيا ، الشيخ حماه الله رجل الدين والمقاومة، تأليف المؤرخ علي اتراوري، ترجمة د. البكاي ولد عبد المالك، صدر عن جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، طرابلس 2010.

ثانيا: قسم الدراسات والبحوث :

8- العقل والحرية في فلسفة هوبز السياسية، تأليف د. البكاي ولد عبد المالك. تقديم صالح مصباح ، وقد صدر عن دار جداول للنشر والتوزيع ، بلبنان ، 2013 .

9- نتشه ، الأخلاق والأصل المزدوج، تأليف د. البكاي ولد عبد المالك وقد صدر عن أكاديمية الفكر، والدار الدولية للطباعة والنشر ، القاهرة، 2006 .

10- مدخل لقراءة اسبينوزا ، تأليف د. البكاي ولد عبد المالك ، صدر عن جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، طرابلس 2010.

وعموما فإن الدراسات والترجمات التي قدمها الباحث والكاتب والمترجم الكبير د. البكاي تجعل الدارسين الموريتانيين يحتفون بمثل هذه السلسلة الجادة التي أثرى بها مكتبتنا الوطنية، وهي مكتبة تفتقر إلى الكتب الكبرى، التي تمنح الدارس والطالب أفقا للبحث والدراسة.

كما هي مدعاة للاعتزاز، إذ أن الباحث الدكتور البكاي عبد المالك أسهم ولأول مرة في جهد المترجمين الكبار الى العربية، بكتب متخصصة في مجال الفكر العالمي، فنتمنى أن تكون هذه الأعمال فاتحة لأعمال كبرى أخرى يقوم بها الباحث وغيره من الباحثين الموريتانيين في مجال الفكر والفلسفة عربيا وعالميا، فنحن قادرون على تقديم مساهمات جادة للقارئ العربي تعرفه على أسباب النهضة الفكرية الكونية.

 

 

قلم د. محمدو ولد احظانا

رئيس اتحاد الكتاب الموريتانيين ، باحث حائز على جائزة شنقيط للإبداع مرتين

الرئيس والحوار السياسي

 

 د . الحسين ولد مدو

خارج العاصمة ، سألني احد المواطنين أصحيح أن الحكومة ستحاور بعض المتهمين بالإرهاب في السجن ، فأجبت بان بعض الوزراء ومجموعة من العلماء دخلوا السجن للتو ليحاوروا السجناء سكت الرجل الستيني برهة واردف سائلا : أما بلغكم ما إذا كانت الحكومة ستحاور المعارضة وبغض النظر عما اذا كان التساؤل صادقا او ماكرا ، استفهاميا او استنكاريا.

فقد عكس الحاجة إلي مباشرة حوار مع طرف رئيس لم يطله الحوار بعد، دون تشكيك في أهمية الحوار الحالي وضرورة متابعته, والحقيقة أن المشهد الحالي تطبعه نزعة من الاستعداد لتجاوز بعض الملفات التي ورثها او زرعها النظام ، و سخر النظام لذلك آلاته ورجالاته و رجال الدين وفقهاء القانون ووساطات الخيرين ورمي بكل ثقله للتجاوز ،وهو ما يؤسس لمشروعية التساؤل عن طبيعة الحوارالمعمول والمأمول ولوجاهة استقراء غائية المسعي وطبيعة الفاعلين. رئيس الجمهورية يعطي الانطباع بالابتعاد عن الحوار و لكنه يعود اليه دون سابق أخطار تتفرس في وجه الرئيس فلا يعكس حوارا ، وتستبطن تصريحاته ـ بخلاف خطاباته ـ فلا تلمس حوارا، ومع ذلك ففي هذه الفترة القصيرة جرب كل أنواع الحوار وطنيا ودوليا مع ترتيب قابل للترتيب، يحاور الفرس والترك والفنزويليين وبينه وإياهم فضاء عربي وإفريقي بخيراته وخبراته ، بامتداده الطبيعي وطبيعية امتداده ، يحاور تنظيم القاعدة و شباب السلفية والمتضررين من أحداث 89 ورجال الأعمال و بينه واياهم سياسيون مهمتهم ـ وفق مهنتهم ـ تكريس الحوار ،فهل كان الرجل مولعا بفتح الملفات الأكثر إثارة أم مطمئنا علي طبيعة الغرماء وبقائهم علي حالهم ولحالهم لحين تفرغه؟ أم هو ترتيب بحساب الاستعجالية في ظل الاعتراف بنسبية مفعول الجغرافيا في العلاقات الدولية ونسبية ترتيب الاولويات في الملفات الوطنية ,تاريخ الوطن مع الحاجة الي الحوار قديم متجدد ، في بعض الحالات السابقة كان الحوار يعني التوافق علي تقاسم الحقائب الوزارية المجوفة ، وحينا اخر قصد بالحوار تقاسم الافكار الجوفاء ، وبالمفهوم الذي ننشده يعني الحوار التطبيع مع نهج التشاور الذي ينبغي ان تقوم عليه الدولة و التمكين للمؤسسات السياسية من اجل الاضطلاع بدورها ضمن سياق حاضن ملائم لمباشرة العملية التنموية بكل تجلياتها وفي الظروف العادية يمثل الحوار امدادا للقضايا التوافقية بالأرضية الاجتماعية وإكسابا للأعمال الخلافية بالصبغة التوافقية . واليوم كثر الحديث عن الحوار ، كلهم يؤمنون به ، لا أحد يرفضه و لا اأحد يريد ان يتحمل فعليا بداياته ، دوليا نحن امام اوروبيين يجعلونه تعويذة أو توصية قبل أو بعد كل تطبيع حسب الزمان ووطنيا نوجد أمام أغلبية تريد سرقة الحوار عبر وسائل الإعلام ومعارضة تريد سرقة النظام عن طريق الحوا في سبيل الحوار تم تنظيم الأيام التفكيرية للأغلبية، و اعتبرت المعارضة ـ التي لم يمنح لها الزمن الكافي للتدليك وتجاوز تشنج العضلة ـ ان المشاركة تعني تلميع نشاط داخلي للأغلبية،  ودعت إلي مباشرة الحوار وفق روح اتفاق دكار وأعلنت جاهزيتها لمباشرته ولاحقا تمت مطاردة المعارضة لجذبها ـ بعد قصرالمؤتمرات ـ الي المنتديات في وسائل الإعلام وظلت متمنعة او رافضة، طلب الي التلفزة اجراء الحوار فاعتذر القادة ، وتقدمت الإذاعة فاعتذر النواب ، تاريخ المعارضة لا يحرضها علي الحلم والطيبوبة ، فمع مرور الزمن وتزايد الشعور بالغبن تولدت لديها مرارات حقيقية وحساسية مفرطة تجاه وسائل الاعلام العمومية ، وعلي الأخيرة ان تتحمل احتمالات اللفظ قبل النلفظ وضريبة الرفض قبل استعادة الثقة ، وهكذا تفهم مطالبة المعارضين ـ بحضور الشك في حضرة وسائل الإعلام ـ بالتحول مؤقتا وفي الوقت ذاته إلى ضيوف و إلى رؤساء تحرير وفنيين ومسيري خطوط هاتف ، فالثقة تحرض علي الشك والشيطان يكبر في التفاصيل ، والحقيقة ان الموقف من الحوار ظل مسكونا بالموقف من الانتخابات الرئاسية الاخيرة فقد تفاوت الطيف المعارض في التعاطي مع تبعاتها.  بعضهم حدد موقعه وتخلص من لحظة الانتخابات بصفاء، آخرون تخلصوا منها في خفاء ، وآخرون تملصوا منها بدهاء ، وبقية المعارضة غاضبة ا ومغاضبة واليوم يبدو ان النظام حاور من لم يكن علي قائمة الحواريين ، وان منسقية احزاب المعارضة التي يقودها احد الاحزاب الحوارية لها قدم راسخة في تحاوز النقطة الأولي وعلي الاثنين ان يبتدعا صيغة جديدة للتجاوز ومباشرة الخطوة الفعلية او إكمال الحوارية التي ينتظرها الراي العام بتلهف , من واجب النظام ان يبادر فورا باطلاق الحوار السياسي واذا لم تتقدم المعارضة الي الحوار فالمحصلة في النهاية هي غياب الحوار والنتيجة واحدة يدفعها الاثنان مع تفاوت في المسؤولية ، وسبيلا لذلك علي النظام ان يتجاوز اعتبار الحوار إقرارا بوجود ازمة وان تتجاوز المعارضة حقيقة ان الحوار يعني التشكيك في شرعية النظام ، وفق رؤية تكاملية تعيد تصالح مفهوم الحوار مع ذاته ومع مباشريه وتؤمن اضطلاع الأخيرين بالمسؤوليات المناطة بهم وفق القانون , ان الحوار السياسي ضرورة وطنية ومكون اصيل من متطلبات البناء، انه الدينامية التي تسري في الجسم السياسي لتحول بينه والتكلس و مرجعيته ينبغي ان لا تقتصر علي اتفاق دكار وحده بل قبل ذلك متطلبات بناء الوطن وواجبات الفعل السياسي المتحضر.

العروي مؤرخ الفلاسفة وفيلسوف المؤرخين

د. السيد ولد أباه

لا خلاف في أن منح جائزة الشيخ زايد للكتاب للمفكر المغربي «عبد الله العروي» تكريم مستحق لأبرز أوجه الثقافة العرب الأحياء وأحد أهم رموز الفكر العربي المعاصرين. إذا كانت عبارة «مفكر» تستخدم على نطاق واسع في الكتابات العربية السيارة للحديث عن المثقفين والأكاديميين والكتاب، فإنها بدلالتها الدقيقة تصدق على العروي أكثر من غيره، بالنظر إلى أن هذه العبارة التي برزت في عصور التنوير الأوربية تعني الفيلسوف الملتزم المشتغل بهموم عصره ومجتمعه. ومع أن العروي يعزف دوماً عن صفة الفيلسوف رغم اطلاعه الواسع على الفلسفة قديمها وحديثها، فإنه لم ينفك يمارس النظر الفلسفي من خلال السياق التاريخي عبر منهجه المزدوج في تحليل الأيديولوجيات وتحليل المفاهيم.

 

الكتاب الأول الذي كرس شهرة العروي هو «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» الذي ظهر في نهاية الستينيات في سياق الجدل الواسع الذي خلفته هزيمة 1967 وانتكاسة المشروع الناصري، ليقدم مقاربة شاملة في عوامل تشكل وتعثر الحركة التحديثية العربية من خلال وجوهها الثلاثة: الفقيه الإصلاحي، والسياسي المناضل، وداعية التقنية. لقد كان الهم الذي سيطر على العروي في تلك الحقبة هو إبراز الانزياح الواسع بين الخطابات الأيديولوجية والسياقات التاريخية الموضوعية، مبيناً أن السبب الأساسي لفشل المشاريع النهضوية والتحديثية العربية هو هذه الهوة التي منعت الفكر العربي من استيعاب الديناميكية التاريخية للحداثة في محدداتها المترابطة المتلازمة، أو بعبارة أخرى يرجع المأزق إلى دخول العرب الحداثة عن طريق الأيديولوجيا لا الفكر، إكراهات التاريخ لا أفق التاريخانية.

لم يكن هذا النقد مألوفاً في الفكر العربي أوانها الذي هيمن عليه براديغم «الثورة» بمفهومها اليساري الراديكالي، بينما اعتبر العروي وقتها أن الماركسية التي تحتاج إليها الساحة العربية ليست ماركسية القطيعة الثورية بل الماركسية التي تستوعب القيم الليبرالية التي يتطلبها المجتمع العربي للنهوض والتحديث.

وقد زامن العروي بين الكتابة التاريخية التي ركز فيها على التجربة المغربية موسعة إلى بلاد المغرب العربي الكبير، وبين التأسيس النظري من خلال سلسلة المفاهيم التي كتبها حول الحرية والدولة والأيديولوجيا والعقل والتاريخ. في الكتابة التاريخية تناول العروي ظروف تشكل الوطنية المغربية ونمط التحديث السياسي في المغرب، وقدم صياغة تأليفية عامة لتاريخ المغرب العربي في مختلف مراحله، مستكملاً هذه الأعمال التاريخية الهامة بيومياته التي تابع فيها الأحداث الجارية ونشرها على مراحل متفاوتة.

 

وفي أعماله النظرية، بلور العروي منهجية خاصة تقوم على رصد المفاهيم في سياقات ثلاث هي: سياقها الفلسفي، وإطار تنزيلها التاريخي، ووظائفها العملية في السياق الاجتماعي، معتبراً أن تأويلية الأفكار لا يمكن أن تنحصر في التجريد النظري اللاتاريخي، وإن كان من اللازم استجلاء أبعادها التصورية.

 

لقد أقر العروي في أحد كتبه الأخيرة بشغفه القديم بعلم الكلام الحاضر بقوة في أعماله الفلسفية، خصوصاً كتابيه «مفهوم العقل» و«السنة والإصلاح»، وأظن أنه لو اتجه إلى الكتابة في هذا المنحى في علاقته بالتجربة الدينية وتأويلية النص الديني، لقدم إضافات نوعية في الفكر الإسلامي. بيد أن موانع عديدة حالت دون اقتحامه هذا المجال، في مقدمتها رفضه لعزل الخطاب النظري، ولو كان دينياً أو فلسفياً، عن سياقه التاريخي الذي يمنحه المعنى.

 

والواقع أنه في كتابه «السنة والإصلاح» قد اختبر نمطاً جديداً من التأمل الفلسفي بالنظر في النص والتأويل، مبيناً عن حب كبير للثقافة الإسلامية وانتماء عميق لها، رغم نقدية المفكر ونسبية المؤرخ.

 

لقد أراد الخروج عن الثنائيات العقيمة التي شلت الفكر العربي الحديث في تصوره لمقتضيات التحديث ومقاربته للمسألة التراثية، مبيناً -على عكس منهج الجابري وأركون- أن العلاقة بالنص ليست علاقة ابستمولوجية تنحصر في نسقه الدلالي وأدواته المعرفية، وإنما علاقة مركبة يدخل فيها التاريخ عنصراً حاسماً محدداً، ومن هنا فإن خيار الإصلاح الذي بدأ مع رواد النهضة اصطدم دوماً بانغلاق التقليد، لا بمعنى جمود النص وانغلاقه وإنما ضيق وانسداد التجربة التاريخية للمجتمع المسلم واتخاذه التأصيل خطاً للدفاع عن الهوية والذات.

 

ومع أن العروي اقترب في فترات متعددة من العمل السياسي، مناضلا في صفوف اليسار، كما أوكل له الملك الراحل الحسن الثاني بعض المهمات الاستشارية والدبلوماسية، فإنه آثر إطلالة المؤرخ والفيلسوف على الحقل السياسي، وتلك إحدى سماته الخصوصية في المسألة الفكرية العربية.

المختار بنعبدلاوي في ضيافة مبدأ (نقاش حول التحول الديمقراطي في المغرب العربي)

ناقش الباحث المغربي د المختار بنعبدلاوي إشكالية الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي خلال ندوة نظمها المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية (مبدأ) ، مشيرا إلى أن هناك 4 مداخل أساسية للتحول الديمقراطي في المغرب العربي.

 

وقال المحاضر المختار بن عبدلاوي ـ رئيس مركز مدى بالمغرب ـ إن الديمقراطية تعني الحق في المشاركة السياسية والسيادة الشعبية والفصل بين السلطات، فضلا عن إقرار دولة القانون والتداول على السلطة، معتبرا أنه لا معنى للديمقراطية إذا كانت هناك سلطة فوق السلطة المنتخبة، إضافة إلى أن الاعتراف بحقوق الأقليات يعد ضرورة ديمقراطية.

 

مداخل التحول

واعتبر بن عبدلاوي أن هناك أربعة مداخل أساسية للتحول الديمقراطي أولها التغيير من القمة “والذي ينتج دائما عن طريق وجود أزمة في هرم السلطة بين قوى إصلاحية وأخرى محافظة، وثانيها التحول الديمقراطي فهو التغيير من القاعدة والذي يتم من خلال انبثاق حركة معارضة واسعة وطويلة النفس، كما قد يحدث التغيير عبر بناء ما يعرف بالتوافقيات “وهنا تتوازن قوى السلطة والمعارضة، وبالتالي يكون الخضوع للمفاوضات بصفتها الحل الوحيد”.

 

وأضاف الباحث المغربي أن المدخل الأخير للتحول الديمقراطي فهو التحول عن طريق التدخل الخارجي كتدخل قوة خارجية لصالح المعارضة، مضيفا أن النظام الجديد قد لا يكتسب طابعا ديمقراطيا بالضرورة وقد يعرف انتكاسة وقد ينتج عنه نظام هجين، لكن في المقابل قد يمضي باتجاه الترسيخ الديمقراطي.

 

الفساد المالي والسياسي

وأكد بن عبدلاوي أن أغلب الأحزاب في دول المغرب العربي تشكل معوقا أساسيا في عملية التغيير أو التحول نحو الديمقراطية الآمنة، وأن الأنظمة مساهمة هي الأخرى، بفعل الفساد المالي والسياسي المستشرى في أغلب النظم القائمة، والخوف لدى الممسكين بزمام الأمور من أي اصلاح قد يعصف بمصالحهم التي رعوها، واحتضنتها لهم البيئة غير الديمقراطية أو النفوذ الذي كانوا يتمتعون به، في ظل إقصاء أهل الكفاءة والخبرة والنزاهة، وتحكيم الأنظمة لعوامل أخرى مثل الولاء أو الجهة أو القرابة أو القرب من مصادر القرار السياسي لبعض الروابط المعروفة في عالمنا العربي.

 

الدور الخارجي

وعن أبرز المعوقات القائمة بالمغرب العربي، قال الأكاديمي المغربي إن التدخل الخارجي، وارتهان النخب السياسية لشروط ومواقف القوى المتحالفة معها، وعجزها عن تقدير المصلحة الوطنية كلها أمور أثرت وتؤثر في مسار عملية التحول الجارية نحو الديمقراطية، وهو ما أدى إلى ارتفاع الكلفة في ليبيا وسوريا واليمن ومصر، بينما كانت تونس أكثر نضجا بفعل التنازل الذي قدمته حركة النهضة، وإيمان القوى السياسية كافة بوجود جهة يحتكم إليها في الصراع السياسي، وهي صندوق الاقتراع.

 

واعتبر أن الجيش التونسي كان جيشا جمهوريا، ومساعدا في حل الأزمة، بدل تعقيدها، وفي أصعب اللحظات السياسية كانت المعارضة والسلطة تدرك أن الحوار والانتخاب هو الحل لأزمة البلاد الداخلية.