28 مارس، 2024، والساعة الآن 10:10 مساءً بتوقيت نواكشوط
Google search engine

القبيلة في تجليّاتها المُختلفة

 عبد الودود ولد الشيخ

 [يشكل هذا النص الذي  بين أيدينا خاتمة أطروحة لنيل الدكتوراة نوقشت بجامعة السوربون في شهر اكتوبر 1985، وهي تحت عنوان : ” البداوة والاسلام والسلطة السياسية في مجتمع البيضان قبل الاستعمار: بحث حول بعض أوجه القبلية “. ثلاثة أجزاء تقع 1058 صفحة.]

لقد كان هذا العمل يستهدف إلقاء بعض الضّوء على التنظيم السياسي لمجتمع رعوي يدين بالإسلام  وينقسم إلى قبائل، ألا وهو مجتمع “البيظان” في فترة ماقبل الاستعمار. ولأن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي السياسي لمجتمع “البيظان” قبل 1900 لم يُكتب حتى يومنا هذا، هذا إذا استثنينا بعض الكتابات الأحادية والمشكوك فيها علميا (خصوصا أعمال بول مارتي في السنوات: 1915-1921)، فإن الطابع الشمولي للعمل الذي أردنا انجازه معتمدين أساساً على مخطوطات عربية لم يعرف أكثرها طريق النشر وعلى الروايات الشفاهية، كان لابد أن يُشكّل شغلنا الشاغل. لقد حاولنا في البداية أن نصف البيئة الطبيعية والمناخية التي عاش في كنفها “البيظان” مُبرزين شحاحتها وتفاوتها وعدم ثبات مواردها من الماء والمرعى. وقد كانت طريقة العيش الرعوية السائدة في مجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار تقوم- فعلا- على حركيّةٍ في المكان تزدادُ بفعل تشتت المراعي وسرعة نفادها. وقد أظهرنا التطابق بين طريقة العيش الرعوية هذه وبين ظروف الوسط وكذلك التناسب الوظيفي لعملية الاحتفاظ التقليدي بالمواشي في إطار استراتيجيات الأمن الرامية إلى تحجيم آثار دورات الجفاف والغزوات والجائحات الحيوانية. وأوضحنا تكرار تسلسل الحلقات: جفاف – مجاعة – غزو – وباء. وهو المُسلسل الذي يعيد بشكل درويّ ومُباغت التوازن بين الوجود البشري والحيواني وبين امكانات الأرض.   وخلافا لما كان يُعتقد دائماً فإن الحركة الرعوية كانت بعيدة من أن تكون حرّة كليا وكان الوصول إلى المراعي والماء يرتبط أساساً بظروف سياسية واجتماعية وقانونية تعطي لفكرة الإقليم صعوبة تذكرنا بمفهوم “المسافة البنيوية” كماحدّده (افانس-برتيشار) في حديثه عن “النوير”. وبالفعل فإن حقوق استعمال وامتلاك الأرض ظلت تتعقد وتتداخل مع روابط شخصية وقانونية. وبعد أن تحدثنا عن الحركة الرعوية التي تميزت بشكل خاص بـ “تذبذب بندولي” من الشمال إلى الجنوب، حاولنا جهدنا تحديد مضمون مفهوم الإقليم وذلك بالنظر إلى علاقة هذا المفهوم بالسلطة السياسية كما يؤكد ذلك دوما المختصون في الإناسة وفي العلوم السياسية. وإن هذه الحركيّة التي تُضفي جزئيا على الإقليم خصائصها المتميزة ليست سوى العنصر الأساسي في تنظيم اجتماعي وثقافي تطبعه في الصميم العلاقة القوية والمتعددة الأوجه بين المنمين وقطعان مواشيهم، وهي العلاقة التي نراها واضحة في التقنيات الرعوية وفي العادات الاجتماعية مرورا بالاستعمالات المتعددة للمنتوجات الحيوانية في الغذاء وفي السكن وفي التبادل..إلخ. وقد عرف مجتمع “البيظان” في الوقت نفسه نمو نشاط زراعي يعتمد على أدوات قليلة وضئيلة المردودية. وهو ما أشرنا إليه. أما النشاطات التجارية، التي كانت في البداية منصبةً على التبادل عبر الصحراء الكبرى من قبل أن تصبح عبر المحيط الأطلسي، فقد تكون دُرست بشكل أعمق. ولم نعتبر المعلومات التي توصلنا إليها في هذا الشأن كافية لتبرير القول بأن التجارة عبر الصحراء التي ظلت تقوم على مبادلة الذهب والرقيق والحبوب التي تنتجها بلاد السودان بالملح والمنتجات الكمالية المغربية، قد انتقلت فجأةً إلى تجارة الأطلسي الأروبية القائمة أساساً على الصمغ العربي. ثم تعرضنا بعد ذلك للمراحل الكبرى من التاريخ السياسي للصحراء الغربية بدءاً من حركة “المرابطين” (ق 11م) وهي الحركة التي أدّت إلى دخول البربر الصناهجة (آزناكه) المقيمين في غرب الصحراء، أفواجاً في الاسلام لتشكل فيما بعد نقطة ارتكازٍ رئيسيّة ومرجعاً لتحديد الهوية وأساساً للشرعية الاجتماعية والثقافية لم يزل يرجع إليه البيظان بشكل واسع، حتى اليوم. وفي تاريخ الصحراء الغربية تلت نهاية عهد المرابطين فترة مظلمة لم تُخلّف لنا أيّة وثائق وما بدأت الظلمات تنزاح عنها إلا في حدود القرن الخامس عشر الميلادي. وقد مكنت رسالة توصلنا إليها – وقد بعثها شخص نعتقد أنه كان يسكن قرب ولاتة (الجنوب الشرقي الموريتاني الحالي إلى العلامة المصري السيوطي (م 1505) وذلك في شوال 898 هـ  الموافق ليوليو أغسطس  1493-  من إلقاء بعض الضوء مُجدداً على البنى الاجتماعيّة للصناهجة الجنونبيين، وذلك قبل أن تكتمل السيطرة العربية الحسانية بعشرات السنين (لقد ارتبط العرب واختلطوا بمجموعات بربرية من افريقية الشمالية وعربوها).   ولقد ارتأينا أن نظهر اعتمادا على هذا النص، كيف أن التناقض بين حسان ( المحاربين) والزوايا (الطلبة) الذي خلفه عهد المرابطين والذي كان الغرض أن يلعب دورا أساسياً في مجتمع البيظان، كان قائما قبل نهاية القرن الـ (15 م) أي قبل تعريب هذا المجتمع من قبل بني حسان وقبل أحداث “شرببه” بكثير. وذلك خلافا لرواية تاريخية اعتمدتْ بشكل أعمى على أعمال (مارتي) واعتبرت هذه الأحداث بداية للتمايز الوظيفي بين المحاربين والطلبة في مجتمع “البيظان”.   ولقد أدي توسع سيطرة بني حسان التي اكتملت في بداية القرن السابع عشر إلى إعطاء دفعة قوية للتعريب لغوياً وثقافياً (حلت النسبة الأبوية محل النسبة الصنهاجية إلى الأم وتعريب الأنساب كليّا) داخل السكان البربر الذين كانوا ينتجعون بمواشيهم غربي جنوب تنبكتو. وظهرت في الوقت نفسه إمارات الترارزة والبراكنة وآدرار وتكانت التي نسرد بعض أخبارها السياسية والعسكرية بشيء من الاختصار. كما نقدم في هذا الجزء من عملنا عرضا موجزاً عن أسماء قبائل البيظان وعن أنسابها وتقسيماتها الأساسية وذلك من خلال المخطوطات العربية والتقارير الإدارية. إضافة إلى تحقيقات للأنساب أجريناها على مستوانا الشخصي. وينتهي الجزء الأوّل من الأطروحة بعرض مُجمل الأحداث السياسية في ظل الامارات ويستمر الطابع الأحادي لهذا العمل في الجزئين الثاني والثالث من خلال دراسة المضامين الاجتماعية والتاريخية لمختلف النظم الاجتماعية (حسان – الزوايا – اللحمة – المعلْمين – إيكاون – الحراطين العبيد) ومن خلال سرد بعض الأمثلة الهادفة إلى إبراز الطريقة التي تتشكّل بها القبيلة و “الامارة ” والتأثير السياسي “للمنح التقليدية” التي يدفعها التجار الأروبيون للأمراء الذين كانوا على اتصال معهم ومن خلال حرب “شرببه” أيضاً. والنص الذي قرأنا، زيادة على طابعه الشموليّ فإنه يحاول أن يكون مساهمةً في دراسة وتحليل السلطة السياسية في مجتمع “قبلي”.   لقد حدّدت أربع مجموعات من العوامل المتداخلة فيما بينها لتطوّر السلطة السياسية في مجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار أي تطوّر التنظيم القبليّ و”الأميري” وتتلخص في: – العوامل الطبيعية والاقتصادية. – التجارة عبر الصحراء ثم عن طريق المحيط الأطلسي. – القرابة. – الدين الإسلاميّ.  وتتجلى ديمومة البنى القبلية واستقرارها من خلال مظاهرها السياسية والإديولوجية كعامل يعود إلى القرابة بالدرجة الأولى ويبرز بشكل مميز في هذه الانقسامات والانصهارات التي تتم بشكلٍ آليّ ويطلقُ عليها علماء السلالات مصطلح “الشرائحية” (segmentarité).   لقد تتبعنا بطريقة نقدية تاريخ النظرية التي ارتبطت بملاحظة هذه الظواهر القائمة على التناقض الداخليّ والتي تسبب انفجار الوحدات الأصليّة وتكوين وحدات جديدة مطابقة لنوع التنظيم القبليّ. وبدأنا بـ(إميل دور كايم) الذي يبدو أنّ كتابه “تقسيم العمل الاجتماعي” هو أوّل نصٍ اجتماعيّ جامع تعرض فيه “للمجتمعات الشرائحية” وذلك قبل أن نتعرض للموضوع عند (افانس ابرييتشار) ومن ثمّ عند تلميذهما المُشترك (ارنست جلنير) الذي وسع منظورهما من خلال تحليل ودراسة مجتمع قبليّ مشابه لمجتمع البيظان وهو مجتمع بربر الأطلس المغربي. وقد قام تلميذ لجلنير بدوره كـ( ك. أستيوارت) بتوسيع تصورات أستاذه في محاولة لتفسير النظام الاجتماعي والسياسي لمجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار. وبعد أن أوضحنا أن نظرية دور كايم في التناقض بين التضامن الحيويّ والتضامن الميكانيكيّ (تخضع المجتمعات “الشرائحية” لقواعد التضامن الميكانيكي) تقوم على أسس بيولوجية تنقص إلى حدٍ كبير من أهميتها، حاولنا أن نظهر حدود البناءات النظرية حول “الشرائحية” الموروثة عن افانس بريتشار وذلك في مستوياتها الداخلية والخارجية. ويظهر الفحص المتأني لكتاب هذا الأخير حول “النوير” وجود بعض الصعوبات والضعف في البناءات النظرية وخاصة مايتعلق ببحث ظاهرة الزواج من الأجنبيات. والعلاقات القائمة بين “الشرائحية” السياسية (الاقليمية) و “الشرائحية” السلالية. وتدخل نظرية “الفوضى المنظمة” المبنية على التوازن بين مختلف الخطوط السلالية التي تتميّز بالتناقض والتفاعل في آن واحد “أنا ضدّ أخي وأنا وأخي ضد أبنا عمومتنا وأنا وأخي وأبناء عمومتنا ضدّ الآخرين “. في إطار آراء وأفكار (ريفرس) أو في مايُسميه (لويس ديمون) “نظرية المجموعات ذات الأصول الأحادية النسب” والقائمة على التزاوج بين من الأجنبيات ولكن مجتمع البيظان مجتمعٌ أحادي الزواج بالدرجة الأولى حيث أن المصاهرة الأمثل هي تلك التي تتم مع ابنة شقيق الأب (بنت العم). وأياً كانت التعليلات التي يمكن اعطاؤها لهذا الزواج العربي الذي يصمد في وجه نظرية المجموعات السلالية (descent groups). كمايصمد أمام نظرية لفي سترواش حول المصاهرة بالزواج القائم على تحريم الارتباط بالمحارم، فإنه يصعب الاعتماد عليه في نظام سياسي مشابه لماهو قائم لدى مجتمع “النوير” المتألف من فئات أجنبية الأمهات. وحتى إذا كان يُلاحظ هنا وهناك تطابقٌ في عملية تشكل تشريحية (segmentation) للسلطة في الفوضى القبلية السائدة نفسها. ولكن هل هي الفوضى القبلية نفسها حقا؟ أو أليست أخطاء ورثة افانس ابريتشار تكمن في التحديد في محاولتهم تلك دراسة مجتمعات متباينة بنفس الأساليب والمصطلحات لمجرد أنه توجد “قبائل” في كل الحالات؟ إذا ما انطلقنا من تقديم (مبدلتون) و (تيب) لمؤلفهما المشترك “قبائل بدون سلطة” (Tribes without rulers ) حيث يتجلى أثر (أفانس بريتشار) ويبرز نرى أن نظرية الشرائحية تظهر بالفعل بشكل أوضح في العقيدة الوظيفية كوسيلة لتفسير غياب السلطة السياسية في مجتمعاتٍ يطلق عليها تارة “المجتمعات بلا رأس”- أو المجتمعات الفوضوية” أو “المجتمعات بدون دولة ” تارات أخرى. ولقد لاحظنا مع (بير بونت) أن نظام الشرائحية يُبرز بصورة خاصة “النمو المتوازن” للمجتمعات الشرائحية وهو التوازن الذي يحول دون بروز أيّة تمايزات من شأنها أن تؤدي إلى إعادة ترتيبٍ ينجمُ عنه انبثاق سلطةٍ سياسيةٍ مستقلة، وبهذا تكون المجتمعات الشرائحية تحمي نفسها ضد الدولة. لقد كان مجتمع البيظان يشكل بالفعل نموذجاً للمجتمع الذي يخضع بشكل واسع للنُظم “الشرائحية” التي تحدثنا عنها سابقا، فهو مجتمع تمنح قيه القرابة “الهيكل المدلولي” للوحدات السياسية (القبائل وإلى حدٍ ما الامارات). وينقسم هذا المجتمع إضافة إلى ذلك إلى نُظم اجتماعية مختلفة: (المحاربين، الزوايا، أصحاب الحرف والمغنون، والأرقاء السابقون والأرقاء) وقد بدأت أشكال من السلطة المركزية تظهر بشكل جيبي داخل هذا المجتمع (الامارات). ولكن كيف تم الانتقال من القبيلة إلى شكل من أشكال الدولة؟ وكيف حدث هذا التحول الذي لاتبدو نظرية “الشرائحية” قادرة على استيعابه؟ وإذا مانظرنا إلى الارستقراطية المحاربة (حسان) حيث يتم اختيار الأمراء يمكن أن نكتفي بالقول مع “بونت” أنه الانتقال من “فئوية شرائحية” (قبليّة ومنافية للدولة) إلى “فئوية سياسية” بحيث تتم إعادة ترتيب وتشكيل القبائل المحاربة بصورة دورية وذلك من خلال الصراع على السلطة التي ليس وجودها في “سلالة أميريّة” محل مراجعة ولكن قواعد انتقالها داخل هذه الأسرة غير ثابتة كليا. إنه الانتقال من قبيلة منافية للدولة إلى ” قبيلة الدولة ” ومن سيادة بنى القرابة إلى تحكم البنى السياسية. ولكن كيف حدث هذا التحول “المبشر” بانفصال (جزئي) للبنى السياسية عن بنى القرابة؟ ومادامت البنية السياسية الأميرية تُشرك في ممارسة السلطة قبائلَ الزوايا التي يتحدّد نظامها وصلاحياتها في ما اسميناه بـ “إدارة اللاّمنظور” ومادامت هذه المُشاركة تقوم – عقديا – على تكامل وظيفي وغير مرتبط بالقرابة، فقد ارتأينا اعتبار الدين – أو الإسلام بالتحديد – العامل الحاسم في إحداث تحول السيطرة الذي تحدثنا عنه آنفاً. لقد كان من الممكن أن يُمكن الاسلام مجتمع “البيظان” في فترة ماقبل الاستعمار من “الخروج” من سيطرة القرابة ومن “الشرائحية” لينتقل تدريجيا إلى بنية سياسية سائرة في طريق الاستقلال. وقد وسعنا في هذا الصدد الملاحظات التي أوردها ابن خلدون حول العلاقات الأساسية بين العصبية الناشئة عن الانتماء لجد واحد والتي تزداد فاعليتها عند أهل البادية وبين الدين والدولة، فبالنسبة لمؤلف المقدمة الذي يُلخص جوانب واسعة من تاريخ الاسلام وخصوصا في المغرب، فإن أهل البادية لايمكن أن يبنوا دولة أو يتوصلوا إلى أية نتيجة سياسية عن طريق العصبية إلا إذا خططت هذه العصبية وخضعت لحركة دينية. لقد ظلت نظرية الدولة في الاسلام والنظرة الاسلامية السنية للحكم الشرعي تشكل منذ القرن الـ (11م) على الأقل العنصر الأساسي في الحوار العام حول مسألة السلطة السياسية داخل مجتمع البيظان. وقد حدّدنا الخطوط العريضة لهذه النظرية من خلال مؤلف المارودي الشهير “الأحكام السلطانية”، وذلك قبل نتابع امتداداتها في كتابات بعض علماء البيظان على امتداد القرون الثلاثة الأخيرة. ولكن اهتمامنا بنظرية الامامة لم يكن نتيجة لتأثيراتها المباشرة بقدر ماكان نتيجة لارتباطها بنشأة أساس “كارزمي” شخصي هو أصل “الولي” أو وظيفي يقوم عليه وجود الزوايا. إن زوايا الجنوب الغربيّ الذين حاولوا من خلال “شرببه” ضد تحالف حساني فرض تنصيب إمام أو إقامة حكم تيوقراطي لم يتخلوا أبداً رغم فشل حركتهم عن الحكم على السلطة – أو غياب السلطة – بالقياس إلى السلطة الإسلامية الأصلية كمايتصورونها. وعلى الرغم من محدوديتها في المكان والزمان فإن أحداث “شرببه” والصراع بين الزوايا وحسان والتفسيرات التي أعطيت لها قد شكلت الخيط الأخير في هذه الدراسة حيث حاولنا أن نحدد الدور الفاعل (المؤسس) للقيم الدينية بالنظر إلى الصراع الوظيفي بين المحاربين والزوايا وكذلك في تبرير السلطة الأميرية مع كونها تقوم أساسا لصالح الارستقراطية المحاربة التي تختار بين صفوفها الأمراء. وقد أوضحنا أن “شرببه” لم تكن “أسطورة الأساس” بالنسبة لسيطرة بني حسان كمايزعم “ستيوارت” إلا إذا تعلق الأمر بمجرد رواية وهمية بالدرجة الأولى يُراد بها تبرير النظام الاجتماعي في مجتمع البيظان المعاصر. فكل مانعرفه عن هذه الأحداث وعن الصراع بين الزوايا وحسان ليس كافياً للتأكيد مع “بول مارتي” على أن “شرببه” – المعتبرة منعطفا حاسماً في المواجهة العرقية بين العرب والبربر-  تشكل نقطة الأساس في مجموع البناء الاجتماعي السياسي للبيظان كمايظهر للعيان في نهاية القرن التاسع عشر، إذ أن التناقض الوظيفي بين المحاربين والزوايا والذي تختلف أشكاله ومضامينه السياسية والترتيب التدريجي من إقليم لآخر في أرض البيظان، قد سبق بكثير “شرببه” ولم يقم – خلافا لتأكيدات مارتي – على عداء “عرقي” بين “العرب” والبربر. لقد أظهرنا كيف أن إرجاع هذه الأحداث إلى الأهمية الاقتصادية التي أعطاها “ببكر باري” لم يكن مبررا بشكل كافٍ ولم تكن “شرببه” في الأساس امتداداً سياسيا وعسكريا أو “انعاكسا” للصراع حتى الموت بين بين تجارة أطلسية يمثلها “حسان” وبين “تجارة عبر الصحرء” يعتبرُ الزوايا المستفيدين الوحيدين منها. وبعيداً من “شرببه” فإن الصراع التكامليّ بين المحاربين والزوايا، بين الوظيفة الدينية والوظيفة العسكرية في النظام السياسي لمجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار لم يكن – كما ذكرنا – من الممكن إرجاعه إلى “بنية تحتية” اقتصادية.  لقد أردنا خلال دراستنا لتاريخ حرب “شرببه” ومن خلال استقراء نقدي لمُجمل التفسيرات التي اعطيت لهذه الحرب، أن نظهر أن تلك الأحداث لم تكن سوى ظرف زماني ومكاني متميز في  “صراع الترتيب” بين المحاربين والزويا ويبدأ هذا الصراع، وينتهي بالصراع الاقتصادي  للطبقات في سبيل فرض ما اسميناه مع بورديه بمبادئ “ثنائية- رؤية” الواقع وتمثلاته. وقد أوضحنا انطلاقا من دراسة مغامرة ناصر الدين كيف أن منطلقاته تدور حول الدين الإسلامي ومايمثله كأساس ثقافي للسلطة الكاريزمية الشخصيّة وكوظيفة للزوايا وكمرجع أخير لشرعية السلطة الأميرية. إن الاسلام بمنحه أساسا لشرعية “الاشتراك-الصراع” بين الزوايا وحسان داخل البنية السياسية الأميرية، قد لعب دور أداة الانتقال الصعب من القبيلة إلى الدولة على مستوى مجتمع البيظان في فترة ماقبل الاستعمار. ومع ذلك فإن الملاحظات الواردة حول “شرببه” وحول الصراع بين المحاربين والزوايا وإن مكنت من إلقاء الضوء على عنصر نموذجي في الحقل السياسي للبيظان قبل الاستعمار إلا أنها لايمكن أن تدّعي تغطية كل جوانب هذا الحقل.   ومن ناحية أخرى فإن الملاحظات العامة التي تم إبداؤها مجازفة حول موضوع “الانتقال  إلى الدولة” يجب أن لاتنسينا الطابع الشمولي لعمل يُراد منه في الدرجة الأولى إلقاء بعض الضوء على الأسس التاريخية للقبيلة في الحياة السياسية الموريتانية اليوم. لقد قلنا – فعلا – في الأسطر الأولى من مقدمتنا: أن تفكيرنا ينصب على العلاقات الحالية للدولة الموريتانية مع القبائل وإن لم نتعرض في بحثنا هذا إلا لماضي هذه العلاقات وهو الماضي الذي لم يزل فاعلا في بنى السلطة السياسية الموريتانية كما تتجلى لنا اليوم. وبعيدا عن هذا الخيار الذي يقوم على التناقض بين استحالة ظهور الدولة في مجتمع قبلي شرائحي وبين نظرية الدولة “الأداتية” (الدولة كأداة لهيمنة الطبقة) فقد ارتأينا كيف يرتسم واقع وسط حيث تتداخل البنى القرابة والسياسة في تشابك معقد تعطي فيه الإيدلوجيا اللغة واللغة و (واقع) القرابة حقلا تمثيليا للبنى السياسية التي تبرز سيطرة الطبقة – التي هي هنا طبقة الارستقراطيين المحاربين والزوايا –  بقدر ماتبرز سيطرة ديمومة المبدأ “النسبي” لتوزيع وممارسة السلطة السياسية مازالت فاعلية اليوم وإن كان ذلك عبر أشكال جديدة من “زبونية وجهاتية “. وسواء كان ذلك تحت سلطة حرية المنافسة (المراقبة جداً) بين منتجي الواجهات السياسية ومنتوجات هؤلاء في نهاية الخمسينات من هذا القرن، أو في ظل النظام الذي خلف الاستعمار والذي بلغ اتجاهه التركيزي الرسميّ أوجه اليوم بسيطرةٍ عسكرية لاتجهد نفسها في الظهور بمظاهر التمثيلية التقليدية المرتبطة بالانتخابات (جميعة وطنية، مجالس إقليمية منتخبة بالفعل، بلديات ..) فإن الملاحظ أن اللعبة السياسية الموريتانية لم تزل تعتمد على شبكات القرابة كوسائل لتدعيم شرعية لم تعرف كيف تبرر نفسها بشكل مقبول خارج هذه الدائرة الضيقة. ونحن نتحدث – هنا – عن “الزبونية” وذلك لابراز الطريقة التي يتم بها تحويل الرأسمال الاقتصادي المُدّخر – بيروقراطيا – بواسطة التعويضات المدفوعة منذ فترة “العطايا” للممثلين السياسيين المحليين. أو اقتصاديا عن طريق مايتم اقتطاعه من حركة السلع الصناعية والزراعية المملوكة من طرف الرأسمالية المركزية (التمثيل الخاص، فوائد العمليات التجارية مع الدولة) مستهدفين تفسير كيف يتم تحويل هذا الرأسمال الاقتصادي إلى رأسمالٍ سياسيّ: إلى تمثيلية بدونها ترتطم أيّ محاولة لزيادة الثروة أو الجاه بحاجز يستحيل عبوره. ويبز التداخل بين النجاح الاقتصاديّ الخصوصيّ والتسيير بالأوراق النقدية وبالرجال وهي المعاملات التي يسوق بعضها إلى الآخر في كلا الاتجاهيْن، هذا إذا تركنا جانبا مايسميه حميد الموريتاني بـ “الجزء غير المشروع من الدّخل” للبيروقراطيّة: ناتج الثروة، اختلاس الأموال العامة. فكل صاحب امتيازٍ – أياً كان مستواه – يجب أن تكون له دخوله من فوائد التعامل مع الدولة وأن تكون له شركاته شبه العمومية التي تلعب دور الزبون الرئيسيّ. ويشكل “الامتياز” بداية الانحدار القدريّ لكل سياسي من هذا الحقل. وهكذا تتجلّى تبادلية ضرورية أو تكامل قدريّ بين “التمثيل” في المعنى التجاري و “التمثيلية” في المعنى السياسي والاجتماعي للكلمة. وتشكل القرابة نقطة الالتقاء في هذا المجتمع الذي مازالت البنى القبليّة تتحكّم فيه بشكلٍ كبير، وحيث لاتزيد نسبة العاملين في القطاع الرأسمالي-البيروقراطي على 2% من مجموع السّكان القادرين على العمل. وعلى الأثرياء أو ممتهني السياسة أو المترشحين لامتهانها أن يقوموا لاستمثار أو إطالة عمر “رأسمالهم التمثيلي” بتقديم بعض المساعدة لأكبر قدر ممكن من الزبناء وحتى إن لم يكن ذلك عن طيب خاطر. على أن يبدأوا بالأقارب المباشرين والموالى (العبيد السابقين، المطربين، الصناع) وهي الجماعات التي سيُمكّن تضامنها المبعوث من جديد عن طريق إعادة تقسيم الامتيازات الاقتصادية الناتجة عن “الامتياز” الرأسماليّ والقائم بالإضافة إلى ذلك على أواصر القرابة (في المعنى الواسع) في المقابل من زيادة “تمثيليّة” الممثلين (السياسيين أو “الحاصلين على امتياز”) في قطاع الدولة الرأسماليّ وفي المجتمع وفي الاقتصاد الوطني. ويمكننا أن نتابع تداخل التنظيم القبليّ وإدارة الدولة الموريتانية في إطار الأشكال المحلية للتبعية لنظهر علاقات هذا التداخل، بغض النظر عن الظرف المناخي و الاقتصادي والسياسي بالتشكلة الاجتماعية الموروثة عن الفترة قبل الاستعمارية، وأن نبرز مغزى وديمومة العودة إلى الاسلام في إطار استيراتجيات تبرير السلطة. وأن نلقي الضوء على الآثار الخطيرة والفوائد المتبادلة الناجمة عن تزاوج نظاميْ القبيلة والدولة، في مايمكن أن نطلق عليه “دولة في مفترق الحقب”؛ ولكن كُل هذا يستدعي بحثاً آخر.

اقرأ أيضا على مبدأ
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة