29 مارس، 2024، والساعة الآن 1:03 مساءً بتوقيت نواكشوط
Google search engine
الرئيسية بلوق الصفحة 17

فعاليات اختتام الدورة التي نظمها المركز حول برنامج “Sphinx”

0

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية (مبدأ) بمقره دورة حول تقنيات الاحصاء مكبقة على برنامج اسفينكس .

الدورة شارك فيها ثلاثون طالبا من جامعة نواكشوط و شملت عدة تخصصات من بينها علم الاجتماع و الجغرافيا

 

https://www.facebook.com/mebdae/videos/994676910662892/

إصدار: السياسة والإجتماع في موريتانيا.. دراسة تأصيلية تحليلية

صدر مؤخرا عن المركز الموريتاني للأبحاث ودراسة السياسات “مبدأ” كتاب جديد للباحث الدكتور محمد دده محمد الأمين السالك يتناول بالتأصيل والتحليل مجمل المواضيع الإشكالية المتعلقة بالحياة السياسية الموريتانية.

الكتاب الذي يقع في ١٦٨ صفحة من الحجم المتوسط يمثل عصارة جهد بحثي قام به المؤلف دام عدة سنوات اعتمد فيه التأصيل العلمي والبحث الميداني.

ويمثل الكتاب المعنون بـ “الاجتماع والسياسة في موريتانيا: دراسة تأصيلية تحليلية” مقاربة فكرية حاول الباحث محمد دده من خلالها أن يقارب مواضيع الشرعية، والنخبة، والمجتمع والدولة، والثقافة السياسية في موريتانيا بشيء من الاجتهاد المؤصل.

يذكر ان الكاتب حاصل على دكتورة في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس وله اسهامات كثيرة فى مجالات الاعلام والسياسة والفكر.

أساليب هشام جعَيْط

 هشام جعَيْط

إعداد وتنسيق الملف – ساسي جبيل

الملحق الثقافي – الاتحاد

-1-

أساليب هشام جعَيْط

 «الأسلوب هو الإنسان»… هذه العبارة الشّهيرة مقتطفة من الخطاب الّذي ألقاه بوفون Buffon في الأكاديميّة الفرنسيّة في يوم استقباله بها يوم 25 أغسطس 1753، وهذا الخطاب معروف بعنوان «خطاب في الأسلوب». أمّا عبارة «الأسلوب هو الإنسان» فما فتئت تؤوّل على أساس كونها قد قيلت في مديح أصالة الكتّاب العظام، وتبرير شغفهم المتأجّج بالكتابة.

 والمتأمّل في كلّ ما كتبه المفكّر والمؤرّخ التونسيّ هشام جعَيْط لا بدّ أن يلاحظ تنوّع المواضيع الّتي طرقها، والتي تتوزع على محاور ثلاثة: كتب ذات طابع فكري فلسفي ثقافي، وكتب في الكتابة التّاريخيّة، وكتب في الدّين.

   والسّؤال: هل اقتضى هذا التنوّع تنوّعاً في أساليب الكتابة؟ أم أنّ المواضيع المطروقة عولجت دائماً بنفس الأسلوب، هو أسلوب جعَيْط في الكتابة؟

من هذا التّساؤل يمكن أن نشتقّ فرضيّتين:

 أولاهما أنّ الأسلوب هو الإنسان: ونفترض أنّ كلّ ما كتبه المؤلّف جعَيْط إنّما يحيل على«الإنسان» جعَيْط الّذي بدأت تطفو، منذ كتابه الأوّل«الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي»، مقاطع من سيرته الفكريّة. والحقّ أنّه توجد قرائن كثيرة تدلّ على أنّ سيرة هذا المفكّر والمؤرّخ الفذّ متناثرة في متونه تارة على نحو صريح شبيه بالاعترافات، وطوراً على نحو مباغت تنبثق فيه العبارة عفو الخاطر. ولعلّ مقدّمات الكتب هي المواضع البارزة الّتي كانت «أنا» المؤرّخ تتجلّى فيها على نحو سافر، من قبيل «انطلق هذا التّفكير أساساً من تجربتي كإنسان تونسيّ […] إنّني لم أكن في تونس مرتاحاً إلى أيّ محيط معيّن»، أو«ومن واجبي أن أقول للقارئ، إنّ المقصود هنا هو كتاب وضعه رجل تربّى في كنف التّقليد الإسلامي.

 ولا نرى فائدة في الإكثار من هذه الأمثلة، فالغاية من إيراد بعضها هو إظهار هذا الطّابع الذّاتي الّذي وسم أسلوب جعَيْط في بعض ما كتب. وهو في الواقع طابع لا يرسم قلق ذات كانت تستشعر«أزمة الثّقافة الإسلاميّة»، وهي تطرق أبواب الحداثة بعوائق كثيرة، بقدر ما يسم أزمة خطاب جديد هو الخطاب الجامعيّ، أو خطاب الجامعة، الّذي كان يجاهد لافتكاك حقيقة قد سكنت طويلاً في رحاب الجامع، وانقطعت بانكفائها الطّويل على نفسها عن حركة التّاريخ. هذا الانتقال من«خطاب الجامع» إلى«خطاب الجامعة» هو انتقال ثوريّ من خطاب أنتجه «مفكّرو الإسلام القدامى» في فضاء الجامع إلى خطاب أنشأه«مفكّرو الإسلام الجدد»في رحاب الجامعة. وهو لا محالة خطاب جديد غايته فهم الطّرق الّتي بفضلها استطاع الإسلام أن ينبني تاريخيّاً، وإخضاع المعرفة القديمة للنّقد و«مقاربة مختلف أوجه تلك الحقيقة الحيّة الّتي تدعى الإسلام من منظور مناهج البحث العلميّ وأسئلة العلوم الإنسانيّة». ضمن هذا الخطاب الجامعيّ تتنزّل كتابات هشام جعَيْط، رفقة كوكبة من مفكّري الإسلام الجدد.

 هذا الأسلوب يقودنا إلى الفرضيّة الثّانية الّتي تحملنا على تأويل لفظ الأسلوب بوصفه طريقة مخصوصة في التّفسير. ولا نعني من لفظ التّفسير كلّ أنواع التّفسير الّتي ضبطتها إبستمولوجيا العلوم، وإنّما نوع واحد فقط هو التّفسير التّاريخيّ، أو التّفسير الّذي اعتنت به إبستمولوجيا الكتابة التّاريخيّة. في هذا المجال يمكن أن يفاجأ القارئ بتنوّع التّفاسير التّاريخيّة عند جعَيْط.

 هذا التنوّع هو الذي فرض علينا أن نجعل عنوان هذا الملفّ «أساليب جعَيْط»، واقتضى منّا تنويعاً في المقاربات والاختصاصات لقراءة مدوّنة جعَيْط من زوايا نظر مختلفة لا غاية من هذا التّنويع سوى الإجابة عن سؤال:

كيف كتب جعَيْط ما كتب طيلة أربعين سنة ونيف؟ علّنا من خلال الجواب (أو الأجوبة) نضيء مشكلاً يخصّ كلّ الكتّاب الكبار: هل للمؤلّف في أيّ مجال من مجالات الإبداع أسلوب واحد في الكتابة والتّفكير؟ أم له أكثر من أسلوب؟

 ثانيهما أنّ الأسلوب هو الإنسان: هي فرضيّة تحيل على تنّوع أساليب الكتابة عند جعَيْط كلّما تغيّر موضوع الكتابة، سواء في التّاريخ أو الفكر أو الدّين. فأسلوب المؤرّخ المحلّل للوقائع والأحداث التّاريخيّة، غير أسلوب المفكّر المتفلسف في علاقة الإسلام بأوروبا وسائر الحضارات، وكلاهما غير أسلوب المؤرّخ المسلم، وهو يعيد قراءة السّيرة بأسلوب المؤمن العقلانيّ.

 بقيت الإشارة إلى أن المشاركين في هذا الملف هم: حسونة المصباحي ونسرين السنوسي وألفة يوسف ومحمد بن الطيب والعادل خضر وفوزي البدوي ونبيل خلدون قريسة، وقد قرأ كل منهم منجز جعَيْط بطريقته..

 مؤلفاته

 * ولد المفكّر والمؤرخ التونسي هشام جعَيْط في تونس العاصمة في السادس من شهر ديسمبر- كانون الأول 1936.

 * درس في «المدرسة الصادقيّة» وهناك تعلم الفرنسية

 * التحق بدار المعلمين العليا في باريس، وحصل على شهادة التبريز عام 1962.

 * عمل أستاذا في كلية الشريعة وأصول الدين لمدة خمسة أعوام.

 قدم للمكتبة العربية مجموعة قيمة من المؤلفات والدراسات والبحوث منها:

 * الشّخصيّة العربية الإسلامية والمصير العربي.

 * أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة.

 * أزمة الثقافة الإسلاميّة.

 * الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية.

 * الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر

 * في السيرة النبوية1- الوحي والقرآن والنّبوّة.

* في السيرة النبوية 2 – تاريخية الدعوة المحمدية.

 ، في السيرة النبوية 3 – مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام.

-2-

الباحث عن الحقيقة

حسونة المصباحي

 

منذ ستينيّات القرن الماضي، تمكن التونسي هشام جعَيْط من خلال مؤلفاته المتعددة من أن يفرض نفسه في نفس المكانة المرموقة التي يحتلها مفكرون مغاربة كبار مثل عبد العروي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون.

 ورغم الصعوبات التي اعترضته عبر مختلف مراحل مسيرته، ظلّ محافظاً على استقلاليته الفكرية، متخذاً مواقف جريئة وشجاعة غالباً ما سببت له مضايقات ومشاكل مع النظام. ويتميز هشام جعَيْط بحس نقدي رفيع، وبمعرفة واسعة بالتاريخ العربي- الإسلامي، وبالتاريخ الأوروبي، وبالفلسفة الغربية منذ الإغريق وحتى العصر الحاضر. فالرجل معروف بقراءته المعمقة، وبحرصه الشديد على مواكبة كلّ ما يجدّ من جديد في المجالات الآنفة الذكر. وربما لهذا السبب، نأى بنفسه منذ البداية عن الهيجان السياسي والأيديولوجي الذي كان ولا يزال يعصف بالعلم العربي منذ الخمسينات من القرن الماضي، ليوجّه اهتماماته وجهوده إلى القضايا الحارقة والموجعة على جميع المستويات. كما أنه أعاد قراءة التاريخ العربي- الإسلامي مقدماً أفكاراً وأطروحات جديدة وفريدة من نوعها في هذا المجال.

 وينتمي هشام جعَيْط إلى عائلة من البورجوازية المحافظة. وكان والده من كبار شيوخ جامع الزيتونة، وفيه درّس الفقه وعلوم اللغة. يقول عن عائلته: «وسطي العائلي كان بالفعل وسطاً متديّناً ومحافظاً. لكنه كان أيضاً مكتسباً لثقافة عتيدة. فوالدي كان شيخاً في جامع الزيتونة. وجدي كان من كبار الكتّاب بحسب النمط القديم. وفي صباي، تعلمت الكثير من جدي الذي كان متصوفاً ينتمي إلى الطريقة «التيجانيّة» عارفاً بالشعر والأدب، ومولعاً بقراءة الحديث بصوت عالٍ عن ولَعٍ تقيٍّ وليس عن ولَعِ فضول». وقد اختار الشيخ الوالد أن يدخل ابنه وهو في الخامسة من عمره الى المدرسة العصرية المتمثلة في «المدرسة الصادقيّة» التي أنشأها المصلح الكبير خير الدين باشا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لرغبته في أن يتعلم ابنه الفرنسية مثلما كان حال أبناء البورجوازية في تلك الفترة. وحتى سن الثامنة عشرة، ظل الفتى هشام جعَيْط منسجما مع الوسط العائلي، مقتدياً بنواميسه وتقاليده. ومع اقترابه من سنّ العشرين، شرع الفتى هشام جعَيْط يظهر تمرداً على الوسط العائلي بتأثير قراءاته للكتب الفلسفية، والكتب التي تتحدث عن الثورة الفرنسية. وقد أحدث اكتشافه للفلسفة منعرجاً حاسماً في مسيرته. يقول: «كان اكتشاف الفلسفة بالنسبة لي بمثابة الفتح والتجلي. ولست أعني بذلك الميتافيزيقا فقط، بل وأيضاً علم النفس والمنطق والأخلاق. غير أن الفلسفة المثالية أدخلت الاضطراب في نفسي، إذ إنها تضع مسألة وجود الكون على محكّ التساؤل. وصار هذا التساؤل يلازمني طوال حياتي تقريباً. كما انفتحت على علم النفس الفرويدي. وعندئذ بدأت تذوب عندي بديهيّات أساسيّة. ثم اكتشفت علم البيولوجيا، ونظرية التطور. وهذا كله أثار إعجابي واندهاشي في نفس الوقت. وأعترف أن قراءاتي في مجال الفلسفة سببت لي أزمة قوية أنهكتني على مدى أشهر».

بعد إحرازه شهادة البكالوريا، انطلق هشام جعَيْط إلى باريس ليلتحق بدار المعلمين العليا التي يدرس فيه ألمع الطلبة. وقد وجد في الأوساط المثقفة والأكاديمية هناك ما ساعده على تعميق قراءاته التي لم تقتصر على مؤلفات سارتر وكامو ونيتشه وهيدغر وشوبنهاور وهيغل، بل تعدت ذلك لتشمل التاريخ العربي- الإسلامي. وعن ذلك يقول: «في فترة الدراسة في فرنسا، اخترت في وقت ما الابتعاد عن الميتافيزيقا لأنها حيّرت ذهني لأنغمس في قراءات معمقة عن التاريخ العربي- الإسلامي. ويمكنني أن أقول: إن التاريخ لعب دوراً هاماً وأساسيّاً في تركيب قناعاتي وبلورتها. وربما لهذا السبب لا زلت مهووسا بمعجزة وجود العالم، ووجود الحياة».

  بعد حصوله على شهادة التبريز عام 1962، عاد جعَيْط الى تونس ليعمل أستاذاً في كلية الشريعة وأصول الدين. وعلى مدى خمسة أعوام، ظلّ مواظباً على القيام بهذا العمل معانياً ما سوف يسميه في ما بعد بـ «المنفى الداخلي». فقد بدت له تونس بلداً يعيش تخلفاً فكرياً وثقافياً مرعباً، لذا كان عليه أن يعيش متوحداً بنفسه منصرفاً إلى القراءة، وصارفاً اهتمامه في هذه المرة إلى أعمال المؤرخين الكبار من أمثال الطبري وابن خلدون وابن سعد. وتحت تأثير قراءاته، أصبح يولي اهتماماً كبيراً للخطاب السياسي والحضاري في تونس، وفي بلدان المشرق العربي، وفي ما يسمى بالعالم الثالث. كما اهتم بالفكر الديني وبالفكر القومي، وتأثر في أواخر الستينات من القرن الماضي بأفكار ميشال عفلق، وعبد الله العروي ومحمد اقبال الذي بدا له متقدما على الفلاسفة الفرنسيين في بعض أطروحاته، إذ إنه كان عارفاً بفلسفة كل من نيتشه وهيغل.

وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي، أصدر كتاباً مهماً آخر: «أوروبا والإسلام» لاقى رواجا واسعاً في البلدان الغربية وترجم إلى اللغتين الإسبانية والإنجليزية. وهو يقول إن كتابه المذكور لم يكن يهدف إلى تقديم انجازات اوروبا بطريقة مدرسية وإنما هو استقراء للثقافة الغربيّة، وتأمل في مصيرها. وقد صدر كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق في نفس السنة محتوياً على تحليل لافت للانتباه، لكن جعَيْط يرى أن إدوارد سعيد لم يكن يعرف الاستشراق وما كتبه عنه ليس بذي قيمة. بل واعتبره «سطحيّا» و «تهجمياً» و«أيديولوجياً»، لكنه اعترف مع ذلك أن في الاستشراق جانباً غير منصف للإسلام وللعرب.

 في الثمانينات من القرن الماضي، أصدر جعَيْط كتابه الرفيع الآخر عن تاريخ الكوفة ليقدم من خلال تاريخ هذه المدينة رؤية جديدة للتاريخ الاسلامي. وبعدها انشغل بسيرة الرسول، وبقضية الوحي منجزاً حول هذا المجال كتباً مثيرة للاهتمام.

 ومنذ بداية ما سمي بـ«الربيع العربي»، لم ينقطع الدكتور هشام جعَيْط عن التدخل في الجدل القائم حول العديد من القضايا الملتصقة بالديمقراطية، ونظام الحكم، وغير ذلك.

-3-

العروي وجعَيْط وحداثة السبعينيّات

التاريخ و«المستقبل الممكن»

كتابة: إدريس الجباري

ترجمة :نسرين السنوسي

 «عندما يقول هشام جعَيْط: «والمفكّرون الجيّدون يعقّدون الأمور […] بالطبع أستثني في عمق التّفكير عبد الله العروي…»، فإنّ هذا الكلام ليس من قبيل المجاملات أو الإعجاب، وإنّما هو رأي ذو طابع معرفيّ فيه الكثير من الاحترام للمفكّر المغربي الّذي خصّص له جعَيْط بضع صفحات من كتابه أوروبا والإسلام.

 ولا عجب في ذلك، فالرّجلان، جعَيْط والعروي، كالتّوأم متشابهان في الاختصاص والصّناعة، وبين مسارهما البيوغرافي، ومسيرتهما الفكريّة نقاط تقاطع كثيرة حاول إدريس الجبّاري إبرازها وتفسيرها في هذه المقالة الّتي لم يترجم منها إلاّ المقاطع الّتي تظهر وجوه الشّبه هذه.

إنّ عبد الله العروي وهشام جعَيْط كانا بلا شكّ نتاج عصرهما الموسوم بتحوّلات اجتماعيّة عميقة، وبمناخ سياسيّ مضطَّرب. لذلك تحدّد على نحو منطقيّ تمثيلهما وظيفة المثقّف الاجتماعيّة بهذا السّياق، كما سعت كتاباتهما إلى الموازنة بين طموحاتهما والقيود الّتي أنتجتها وقائع المغرب المستقلّ.

 فقد أكّد عبد الله العروي منذ الصّفحة الأولى من أزمة المثقّفين العرب أنّ «المثقّف العربيّ، والثّوريّ، والمسؤول» مُدَانٌ بـ [حتميّة] الاختيار بين توجّهات لا يستطيع الأخذ بها في آن واحد: أي أن يختار بين الوظيفة البيداغوجيّة، أو الالتزام النّضاليّ في الميدان السّياسيّ، أو الإبداع الثّقافيّ الأدبيّ أو الفلسفيّ.

 وفي اليوم التالي لـ «مظاهرات الخبز» الّتي هزّت تونس في 1984، كان هشام جعَيْط يصوغ ملاحظة شبيهة [بما يراه العروي] تخصّ دوره باعتباره مثقّفا: «إنّي أتوجّس خيفة من أجل هذا البلد… وهذا يأتي دائماً من فقدان الذّكاء والشّخصيّة. فليتحمّل أولئك الّذين يشعرون بأنّهم مسؤولون مسؤوليّتهم. وللمثقّف مسؤوليّته الخاصّة به، مسؤوليّة أن يفكّر وأن يمنح جوهر فكره».

 لقد استحضر جعَيْط مفهوم المسؤوليّة ليصف وظيفة المثقّف الاجتماعيّة، ويمكن أن نضيف إليها وظيفة السَّطْوَة [العلميّة] وامتلاك المعرفة، والاستقلاليّة. ولأنّه لا يمكننا فحص كلّ مُتَغَيَّر منها بما يلزم من عناية سنركّز [النّظر] في المسؤوليّة الّتي تُلْزِمُ هذَيْن المثقّفيْن بالتّدخّل في الجدل الفكريّ، وفي الجهود والضّغوط الّتي سُلِّطَت ضدّ استقلالهما والّتي ظهرت في صلتهما بالسُّلَط السّياسيّة. وسنتبيّن أنّ تلك السّنة 1974 كانت أوج المسارات الشّخصيّة حيث اصطدمت أفكار «التّقدّم» المثاليّة الّتي تشكّلت في الخارج بالواقع الوطنيّ، بعد العودة إلى البلد الأمّ. وسنؤسّس رابطاً بين مسيرتَيْهما الخاصَّتَيْن وطبيعة التزامهما. ونرجو أن نبيّن أنّ موقفهما الفكريّ، المتجرّد من السّياسة في الظّاهر، والموسوم بـ «عدم الالتزام النّضالي» كان يسعى في الواقع إلى إعادة بناء دور المثقّف في المجتمع وصورته، مع تأكيد قدرته على إنتاج خطاب نافع.

 روح المجتمع.. شعاراته

إننا لا نبحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان ولا مكان، بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير وحسب، بل لأننا نعتقد أن نجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء. لهذا السبب نحرص على البدء بوصف الواقع المجتمعي: آخذين المفاهيم أولاً كشعارات تحدد الأهداف وتنير مسار النشاط القومي، وانطلاقا من تلك الشعارات نتوخى الوصول إلى مفاهيم معقولة صافية من جهة، ونلتمس من جهة ثانية حقيقة المجتمع العربي الراهن، رافضين البدء بمفاهيم مسبقة نحكم بها على صحة الشعارات، إلى جانب تخلينا عن لعبة تصور واقع خيالي نعتبره مثلاً أعلى نقيس عليه الشعارات، لأننا نعتقد أن أيسر مدخل إلى روح أي مجتمع هو مجموع شعارات ذلك المجتمع.

 عبد الله العروي

 كتاب: مفهوم الحرية، ص 5

الالتزام العامّ بوصفه ممارسة تاريخانيّة

المثقَّف بين الفاعلية والانكفاء

كان موقف المؤرّخَيْن الفكريّ موقف انسحاب، وهو موقف ناتج عن تجربتهما أثناء سنوات الستّينيّات المضطربة في المغرب الأقصى وفي تونس، بعد عودتهما من الخارج. ومنذ سفرهما إلى باريس في بداية الخمسينيّات تغيّر المغرب كثيرا في الواقع، بفضل دعم الدّول المستقلّة وتشكيل علاقات قوّة جديدة، وتوظيف خطوط كبرى من سياسات

 التّطوّر.

 ويبدو أنّ التّجربة والحساسيّة المُكتسبَتَيْن خارج بلاد المغرب لم تُعِدَّهُمَا ليواجها واقع البلد تحت أَسْر مخاوف استقلال غير مؤكّد. وقد كانت مكانة المثقّفين في المؤسّسات الوطنيّة الجديدة المغربيّة والتّونسيّة وصلتهم بالسّياسة تمثّل رهانا مهمّا. فأثناء تركيز مصادر السّلطة وأشكالها، كانت الدّولة المستقلّة تنتدب الوطنيّين الّذين اكتسبوا في الخارج مؤهّلات أرقى، مقابل مناصب وامتيازات مادّيّة. وقد التزم المفكّران بمسار أكاديميّ بدأ مع هشام جعيّط سنة 1962، ومع عبدالله العروي سنة 1964. وقد انْتُدِبَا دون عُسر نظراً إلى سنّهما ومؤهّلاتهما وحاجة الدّولة المستقلّة إلى الخبراء، وأسهما في حركة تكوين الجامعات الوطنيّة في المغرب.

  لكن ألا يشهد قرار التّوجّه نحو الجامعة بإرادة الابتعاد عن بيئة سياسيّة قامعة؟ إذ من الممكن أن تبدو الجامعة مثل برج عاجيّ حيث لا تكاد الصّراعات السيّاسيّة– بالرّغم من حضورها– تلمح، أو مثل مكان كانت فيه معايير السّلوك مألوفة عندهما، واتّخذت فيه الصّراعات السّياسيّة شكل نزاعات أفكار. وحتّى إن تعذّر علينا أن نقيس أهميّة النّزاعات السّياسيّة داخل الجامعة فإنّه يمكن أن نحلّل إدراك العرويّ وجعيّط لها، منذ اللّحظة الّتي أخذت فيها الجامعة شكل مكان سياسيّ بامتياز، وبدأ الحرم الجامعيّ يعيش على إيقاع الاحتجاج الطُّلاّبيّ.

سنوات الرّصاص

 كانت هذه الوضعيّة داخل الجامعة تعكس على نحو أوسع الظّرف السّياسيّ في السّتّينيّات، في مجتمع قد عرف منعطف الأنظمة الاستبداديّ، في تونس تماماً كما في المغرب. ففي المغرب أخذ الصّراع بين اليسار والمخزن (الحكومة) بخصوص إعلان الدّستور والزّيادة في المؤسّسات السّياسيّة منعرجاً جديداً بعد مظاهرات الدّار البيضاء يوم 23 مارس 1965 الّتي أوقعت البلاد في فترة استبداد عُرِفَت باسم «سنوات الرّصاص».

 أمّا في تونس، فبعد حملة أولى ضدّ القمع سنة 1963، لاحقت الدّولة في 1968 حركات المعارضة اليساريّة، بينما كانت تواجه انتقادات بخصوص ميزانيّتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وخاصّة فيما يتعلّق بالخطّة الوطنيّة الّتي قام بها الوزير أحمد بن صالح. وفي كلتا الحالتين كان بالإمكان انتظار أن يأخذ المثقّفون موقفاً واضحاً حتّى يشجبوا الاضطهادَ وتوجّهَ الأنظمة السّياسيّة، وذلك إن لم تضع هيمنة الخطابات الرّسميّة أيّ عقبة.

 وكانت هياكل الدّولة تراقب وسائل الاتّصال بالجماهير، وخطابات الحسن الثّاني وبورقيبة، فارضة على نحو منتظم نظرتها لدى عامّة النّاس. وهكذا أسهم بورقيبة «الّذي كان يحكم البلد بخطاب المؤرّخ» حسب عبارة جعَيْط، في أن يجعل من المؤرّخين المحترفين كتّابًا [في يد] الدّولة الّتي تريد المغالطة من أجل إضفاء شرعيّة سياسيّة.

  استهداف المثقفين

وقد قاسم العروي وجعَيْط بقيّة مثقّفي المغرب ذوي الحسّ النّقديّ إحساساً بزوال الوهم، وقد قادهما الضّيق من الجامعة والسّياق السّياسيّ التّسلّطي إلى الانكفاء على الذّات والانعزال. فقد دفع العروي ثمن مظاهر خطابه الماركسيّة، في حين كانت السّلطات المغربيّة تحارب الأيديولوجيا الشّيوعيّة الّتي كانت تراها عاملاً من عوامل الاضطراب، لذلك منع عليه، طيلة سنوات عديدة، أن يُدَرِّس في جامعة الرّباط، حتّى لا تثير أفكاره ضروب توتّر جديد في الأوساط الطّلاّبيّة. لقد كانت الإيديولوجيا الماركسيّة قادرة على جلب الجماهير، بينما كان المخزن قد أقام إستراتيجيّته على إضفاء الشّرعيّة على التّراث، الّذي كان موصولا بقوى العلماء المحافظة.

 وإنّه لفي هذا السّياق ذاته قد عبّر العرويّ عن خيبة أمله في رواية نصف سير ذاتيّة عنوانها الغُرْبَة، تشهد بوضعيّة المفارقة الّتي يكون فيها [الإنسان]، لمّا يجد نفسه مغترباً في وسطه الأصليّ، و[يجد نفسه] فريسة لضرب من المنفى الدّاخليّ.

 أمّا في تونس فقد فسح الحبيب بورقيبة المجال لمشروع وطنيّ حديث قد قام على إصلاح عميق للعقليّات و«نهوض أخلاقيّ» للأُمّة. وقد تكفّلت «الكلمة» بهذا المشروع، أي بوساطة الخطاب العموميّ، حيث كان الزّعيم يتّجه بالقول إلى الشّعب اتّجاها مباشراً بفضل وسائل الاتّصال الحديثة. وهذا بلا شكّ ما يفسّر حدّة القمع المسلّط على حركات الاحتجاج اليساريّة الّتي كانت تدين إيديولوجيا النّظام، متحدّية بذلك حكمَ بورقيبة، لمّا اقترح سياسة المراحل، خاصّة أنّ هؤلاء كانوا من الطّبقات المحظوظة في تونس المعاصرة: من الفرنكوفونيّين، المتعلّمين، الحداثيّين. وفي كلتا الحالتين، استهدفت السّلطات المثقّفين: فقد عدّت تعارضهم في الرّأي منبع انقسام في اللّحظة الّتي كانت فيها تسعى إلى فرض إجماعٍ وضرب من الأدلجة للجماهير الشّعبيّة.

 إلى المُغْتَربات

 ولم يكن العروي وجعيّط قادِرَيْن في هذا السّياق على ممارسة مهنتهما الأكاديميّة بحِسّ نقديّ، وكانا مُحِقَّيْن في الخشية على سلامتهما البدنيّة، لذلك اختار كلاهما الانسحاب من المجال العموميّ بأخذ مسافَة منه. وسنة 1967 دُعِيَ العروي، بعد نجاح كتابه الأوّل الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة إلى أن يشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة لوس أنجلوس المَهِيبة. وقد قبل العرض الّذي مكّنه من الابتعاد عن المغرب.

 أمّا جعَيْط فقد أصبح من جهته صورة من المثقّف الغرامشي الّذي- في وضع قمعيّ غاشم- ينعزل داخل حقل أفكاره عوض أن يتحرّك في الحياة العامّة. وقد أثارت الاضطرابات الّتي كانت الجامعة مسرحاً لها بعد النّكسة العربيّة في 1967 ردَّ فعل السّلطات الّتي نظّمت حملة عامّة ضدّ «المحرّضين على التّخريب». وقد تهجّم بورقيبة نفسه على «الثّائرين» وأعطى تعليمات تقضي بقمعهم. وكان مناضلو حركة آفاق التّونسيّة والقوميّون العرب موضوعَ تتبّعات قضائيّة ومحاكمات يمكن التّنبّؤ بنتائجها. وقد قرّر هشام جعيّط، بعد أن أقحمته السّلطات في هذا الانقلاب الجامعيّ، أن ينقطع عن مساره الأكاديميّ ويرحل شبه منفيّ إلى فرنسا. وقد كانت العودة إلى مسقط الرّأس، بوصفها خيبة أمل واستياءً وقلقا شخصيّا، قد شملت أبعادها كامل نطاق المجتمع: تلك هي لا محالة الخلاصة الّتي خرج بها العروي وجعيّط لمّا صارا واعيين بالمسافة الفاصلة بين مُثُلُهِمَا العُلْيَا والواقع الاجتماعيّ، وبغياب آليات المشاركة، وبمَنَاخ عامّ من الرّكود والتّدهور.

 لحظة المُسَاءَلة

 إنّ الاغتراب، من حيث يدفع الفرد إلى الاستبطان، يغذّي الفكر ويمكن أن يشجّع على أخذ الكلمة. غير أنّه يتطلّب خاصّة الإبداع الفكريّ، حتّى يتمكّن [الإنسان] من إعطاء معنى لما في عالمه من اضطراب داخليّ. وليس من المصادفة أنّ هَذَيْن الكاتبَيْن قد استعملا المقالة بوصفها جنسا من الكتابة: فمن ناحية، تحرّر المقالة الكاتب من عدّة مواضعات أكاديميّة، وتسمح له بتقديم فكره باعتباره إنتاجا قيد الإعداد. ومن ناحية أخرى، تمكّنه المقالة من البحث عن ذاته أثناء الكتابة. وفي كلتا الحالتين ينتقل المفكّران من عدم الالتزام إلى تحمّل المسؤوليّة، وذلك لأنّهما يستخدمان الاغتراب المعيش، ليطوّرا فكراً مكتوباً، وليبرّرا تدخّلهما في الجدل العموميّ.

 ومن الصّعب أن نحدّد اللّحظة الحاسمة، إلاّ أننّا نسجّل تبدّلا في المواقف بُعيْد ذهاب العروي وجعيّط إلى الخارج. لكن بعد ثلاث سنوات قضّاها العروي في كاليفورنيا، قرّر فجأة العودة إلى المغرب، وقد فسّر ذلك بتأكيد خشيته من فقدان هويّته إن هو بقي في الولايات المتّحدة لفترة أطول وفي الأثناء ألَّف [كتاب] أزمة المثقّفين العرب ونشره، وهو تعبيرٌ يواجه وضعاً سياسيّاً قد اشتدّت فيه ممارسات الدّولة الاستبداديّة. فقد أدّت في الواقع محاولتا الانقلاب على الحسن الثّاني في 1971 و1972– وهما محاولتان قد أجهضتهما الدّولة- إلى تصلّب النّظام، وإلى استعمال القمع البوليسيّ وإلى تجميع السّلطات على نحو ما فتئ يزداد بروزا. وقد شملت الاعتقالات الجماعيّة أوساطا «حسّاسة» كالجيش، وكذلك قطاعات اجتماعيّة عُدَّت خَطَرًا على النّظام القائم. وقد تمّ حلُّ جمعيّة الطَّلَبَة المغاربة UNEM وأُوقِفَ بعض أعضائها سنة 1973.

 أمّا جعيّط فقد غادر، من جهته، تونس حيث لم يكن في استطاعته أن يعبّر عن مشاغله: فقد كان يستحضر «العجز» الفكريّ المغربيّ و«المقاومات الدّاخليّة والضّغوط الخارجيّة».

 وفي فرنسا فحسب قرّر أن يتكلّم بدافع القلق والواجب، أمام ما يعتبره بمثابة «استقالة جماعيّة من العقل النّقديّ» من قبل المثقّفين التّونسيّين، وهو حكم قاسٍ، قد اصطبغ إلى حدّ مّا بمثاليّة الموقف الفكريّ. ويبدو أنّ هذه البيئة الجديدة قد حرّرت المفكّر من القيود الّتي كانت تضايق رغبته في التّعبير. ولعلّ الرّجوع إلى الغرب قد أنعش المُثُل العُليا. وسمح المنفى بجعل تحليله راديكاليّا شأنه شأن مفكّرين آخرين من العالم العربيّ على غرار إدوارد سعيد أو محمّد أركون.

 ومع ذلك يُحْتَمَلُ أنّه كان لعزل أحمد بن صالح من الحكومة، وانتهاء التّجربة الاشتراكيّة بتونس في 1969 ضلعا في قرار نشره مقالا. فإذا كانت البحوث الّتي أجراها جعَيْط من أجل كتابه قد أُنْجِزَت في تونس بداية من عَامَيْ 1963 و1964 فإنّ رهان هذا العمل الفكريّ قد أخذ بُعدا جديدا عقب إدانة وزير الفلاحة والماليّة سنة 1970. لقد تراجع بورقيبة بعد أن اعترف بفشل هذا التوجّه السّياسيّ الاشتراكيّ. ومنذئذ كان ينقص النّظام مشروع وطنيّ موجّه لإصلاح تونس والسّير بها نحو الحداثة. وإنّه بهذا العنوان قد أغرت مقالة جعَيْط جمهور القرّاء بوصفها مجموعة اقتراحات متماسكة قد نشرت في منعرج موسوم في الوقت نفسه بمراجعة النّظام لذاته ولإيديولوجيته، وبغياب بديل يمكن الاطمئنان إليه.

 عودة إلى الفاعلية

 وهكذا أضحت المقالة عند العروي وجعَيْط عملا ملتزماً يعرب عن وَعي المؤرّخَيْن الفكريّ. فلم تكن إصداراتهما وسيلة للتّأثير في جمهور مخصوص، ونَيْل العِرْفَان منه، ولا هي تمثّل إنجازاً في المجال الثّقافيّ، وإنّما كانت تُسْهِمُ في ديناميّة التّغيير. فهل لنا أن نستنتج أنّهما قد أصبحا بذلك فاعلَيْن في المجال العموميّ؟ من العسير أن نقدّم إجابة عن هذا التّساؤل. ورغم أنّه من الصّعب تقدير مدى تأثيرهما، فقد منحَتْهُمَا كتاباتهما شُهرة وشرعيّةً مكّنتاهما من أن يعبّرا عن آرائهما علانية، وذلك لأنّهما مؤرّخان، وفي آن واحد لأنّ إسهاماتهما كانت مختلفة من حيث النّوعيّة عن إسهامات الجامعيّين بالمعنى الدّقيق للكلمة.

 لقد كان الكاتبان باختيارهما النّشر في فرنسا، باللّغة الفرنسيّة وبأسلوب معقّد ودقيق ونقديّ، يَحُدَّانِ فورا من جمهور قرّائهما. ولم تُعِرْ سلطات البلدَيْن الكثير من الاهتمام لكتب لم يكن لها تأثير شامل في المَيْدَانَيْن الثّقافيّ والسّياسيّ الوطنيّ التّونسيّ والمغربيّ.

 كان جعَيْط والعروي بإنتاجهما خطاب قطيعة يواجهان جماعات وتيّارات فكريّة جيّدة التّغلغل، كانا يجدان نفسيهما في أغلب الأحيان في خلاف معها. فهل يمكن أن نفسّر ما في مواقفهما من بعض الرّاديكاليّة بصعوبة اندماجهما في فضاء وشبكات فكريّة لم ترحّب بهما؟ ومعلوم في الواقع ما للشّبكات الفكريّة والجماعات من أهميّة في تكوين أفكار جديدة. ويمكن أن نسوق مثال استقبال مقالة كان هشام جعَيْط قد نشرها عام 1976 في مجلّة «أفريقيا الفتيّة» Jeune Afrique عنوانها «خصوصيّة الإسلام وحيويّته»، كان فيها يدافع عن فكرة [مفادها] أنّ الحضارة الإسلاميّة لم تكن سبب الانحطاط ولكنّها بخلاف ذلك يمكن أن تكون منبع تجديد ونهضة. وقد جعله خطاب كهذا يعارض التيّاران اللّيبيراليّ واليساريّ، وكلاهما في غاية اللاّئكيّة في مستوى الجوهر، ويعارض كذلك تيّار الزّيتونة الإصلاحيّ، سواء أكان الأمر يتعلّق بشكله أم بغايته. وهكذا وجد هشام جعَيْط نفسه منعزلا داخل مساره الفكريّ.

 وفي المغرب وجد العروي نفسه في تعارض مع الاتّجاه ما بعد البنيويّ الّذي كان يهيمن على التّيّار التّحديثيّ ذي الأيديولوجيا غير التّقليديّة، في قلب المجال الثّقافيّ، ممثّلا بالأساس بوجوه مثل عبد الكبير الخطيبي، وأعضاء الحركة الثّقافيّة والأدبيّة «أنفاس» souffles.

 وقد وضع العرويّ، بانخراطه في إطار نظريّ ماركسيّ، تطوير البُنَى المادّيّة في مركز تحليله، بدل [طرح] الأسئلة الفلسفيّة للإبستمولوجيا، أو ذات تعبير أدبيّ. لكن يبدو أنّه لم يكن لأفكاره التّأثير المتوَقَّع، بما في ذلك لدى زملائه الجامعيّين الّذين كان وضعهم مشابها. وفي 1974 أي بعد وقت وجيز من أزمة المثقّفين العرب، شارك العروي في جدل نظّمته مجلّة Lamalif برفقة أستاذَيْن شابَّيْن هما عالم الاقتصاد عبدالعزيز بلاّل وعالم الاجتماع محمّد قسّوس. وكان النّقاش، الّذي قد نُشِرَ في شكل مقالة، يتناول موضوع التّخلّف التّاريخيّ والتّراث. وتبيّن فحوى المحادثات أنّ العروي بدفاعه عن قيمة التّفكير التّاريخانيّ، كان يبتعد عن اهتمامات زَميلَيه، ويمكن أن نحدّد هذه اللّحظة بوصفها أصل انكفاء فكره نحو إشكاليّات ذات طابع نظريّ.

 وقد فسح العروي، رغم عزلته النّسبيّة، مجالا للتّفكير مكّن المفكّرين المغاربة الشّبّان النّقّاد من ربط تاريخ الإرث العربيّ الإسلاميّ بتفكير كونيّ. وقد اعترف هشام جعَيْط نفسه بديْنه له. فالمفكّران كلاهما قد جسّما جيلا جديدا من المثقّفين المغاربة. وعلينا الآن أن نعيد الاعتبار إلى طبيعة تحليلهما المتعلّقة بأُسس أزمة الحداثة في المغرب، وإلى الاقتراحات الّتي كوّناها لتجاوز الأزمة. فقد امتدح هذا وذاك، عَبْرَ سَبِيلَيْن مُخْتَلْفَيْن، ضرورةَ إعادة تأريخ المشروع الوطنيّ المغربيّ.

 إعادة تّأريخ المشروع الوطنيّ

 كَيْفَ تُرْجِمَ المَعِيش في نظام التّفكير؟ إنّ تلخيص كلام هذين المفكّرين على مسائل معقّدة جدّا كالتّخلّف التّاريخيّ والحداثة في المغرب– وهي مسائل لا تتطابق إلاّ مع فصل واحد من فصول مقالاتهما الخاصّة- يعرّضنا- بما لا يمكن اجتنابه- إلى فقدان التّدقيق وتحديد الفوارق البسيطة. لقد أقام كلّ من العروي وجعَيْط رابطاً بين فكرة التّخلّف التّاريخيّ في العالم العربيّ وغياب العقلانيّة أمام تغيّر المجتمع: فالأوّل أي العروي قد فضح «التّراث… [بوصفه] أسوأ السّياسات»، متبنّيا موقفا قاطعا يؤيّد به الفكر التّاريخاني الماركسيّ، بينما حدّد جعَيْط شروط الإصلاح الّتي يمكن لها أن تستجيب لحاجات التّغيير، مع بقائه وفيّا لمكوّنات الشّخصيّة التّاريخيّة التّونسيّة.

 الإرث الثّقافيّ.. أساس التّجديد

 لقد تميّز هشام جعَيْط طَوْعًا من العروي في مستوى الرّؤية الّتي انطلاقا منها كان يجيب عن الأسئلة الكبرى: فقد كان في دراسته أكثر وضوحاً، وتبنّى مبدأ الخصوصيّة الثّقافيّة بدلا من كونيّة شاملة. ففي أَثَرِهِ لا تعود أزمة المجتمع التّونسيّ إلى رفض التّغيير، وإنّما هي راجعة إلى تغيير مفرط قد جاء على حساب «شخصيّة» هذا المجتمع التّاريخيّة. وهو يعتبر أنّ المشروع الوطنيّ يضع مصير تونس بين البحث عن القوّة الّتي تميّز الدّولة الوطنيّة الحديثة المتمركزة، ومآل ذاك البحث المأسويّ، الّذي أخذ شكل قلق واغتراب ثقافيّ واجتماعيّ.

 وقد تناول جعَيْط [مسألتي] التّغيير والهويّة في خطابه العموميّ. وتوجّهت مقاربته إلى إعادة تأهيل التّراث العربيّ الإسلاميّ وإلى البحث فيه عن منهل من مناهل الحركيّة والتّناسق من أجل المشروع الوطنيّ. وقد اقتضى إدماجُ التّراث الثّقافي إعادةَ توظيف الفكر التّاريخيّ في الخطاب العموميّ، لأنّ، ما بعد التّغيير التّاريخيّ، تظلّ بعض الخصائص العميقة باقية، ومعها يبقى «الاستمرار البنيويّ» الّذي يقوم بالضّرورة مقام نقطة الانطلاق في كلّ مشروع مجتمعيّ إصلاحيّ.

 وثمّة أيضا، دون أدنى شكّ، نزوع تنظيميّ عند الدّولة والمجتمع في الإسلام الّذي سيظهر في شكل آخر. وفي انتظار ما يمكن أن يؤول إليه المجتمع الكونيّ في المستقبل، تظلّ مهمّة قوى التّجديد متمثّلة في عقلنة هذه البنية المعطاة في التّاريخ، وفي تحديثها وأنسنتها.

 ورغم ذلك، سعى المشروع الوطنيّ إلى تحقيق قطيعة جذريّة متجاهلا هذه الخصّيصة، متصوّرا الشّخصيّة مجرّد «نقطة انطلاق» تقليديّة، والتّغيّر «نقطة وصول» حديث، في حين أنّ هذين المفهومين يكوّنان علاقة جدليّة مستمرّة.

 ونتيجة لذلك، يشكو المشروع الوطنيّ من تَناقض في مستويَين: أوّلا يواصل النّظام بناءه الوطنيّ بالدّفاع عن الخصوصيّة الوطنيّة في إطار ضيّق، وبالبحث عن العظمة والقوّة، في حين لا يمكن لهذين الهدفَين أن يتحقّقا دون إعادة تأهيل القوميّة العربيّة بشكل أو بآخر، ذلك أنّ «العظَمة [المنشودة]» كانت في الماضي من أُسُس القوميّة العربيّة. وثانيا كان جعَيْط يهاجم عقليّات النّخبة الحاكمة. وهذه النّخبة قد تبنّت الحداثة الغربيّة على حساب الشّخصيّة التّاريخيّة، واختارت أن تتّبع إصلاحا يُهمل واقع الوجود التّونسيّ. إلاّ أنّ هذا الواقع يتطلّب إعادة التّفكير في المشروع الوطنيّ الإصلاحيّ في ثلاثة اتّجاهات لتجاوز العجز عن تحقيق الحداثة: وهي الصّلة بالدّين والفرد وشكل السّياسة.

 مشروع بورقيبة

 بورقيبة «الّذي كان يحكم البلد بخطاب المؤرّخ» حسب عبارة جعَيْط، أسهم في أن يجعل من المؤرّخين المحترفين كتّابًا [في يد] الدّولة الّتي تريد المغالطة من أجل إضفاء شرعيّة سياسيّة.

 لقد فسح الحبيب بورقيبة المجال لمشروع وطنيّ حديث قام على إصلاح عميق للعقليّات و«نهوض أخلاقيّ» للأُمّة. وقد تكفّلت «الكلمة» بهذا المشروع، أي بواسطة الخطاب العموميّ، حيث كان الزّعيم يتّجه بالقول إلى الشّعب اتّجاهاً مباشراً بفضل وسائل الاتّصال الحديثة. وهذا بلا شكّ ما يفسّر حدّة القمع المسلّط على حركات الاحتجاج اليساريّة الّتي كانت تدين أيديولوجيا النّظام.

 تحرُّر.. وتحرير

 ليس من المصادفة أنّ هَذَيْن الكاتبَيْن قد استعملا المقالة بوصفها جنساً من الكتابة: فمن ناحية، تحرّر المقالة الكاتب من عدّة مواضعات أكاديميّة، وتسمح له بتقديم فكره باعتباره إنتاجاً قيد الإعداد. ومن ناحية أخرى، تمكّنه المقالة من البحث عن ذاته أثناء الكتابة. وفي كلتا الحالتين ينتقل المفكّران من عدم الالتزام إلى تحمّل المسؤوليّة، وذلك لأنّهما يستخدمان الاغتراب المعيش، ليطوّرا فكراً مكتوباً، وليبرّرا تدخّلهما في الجدل العموميّ.

 خَيْبَة

 عبّر عبد الله العروي عن خيبته في رواية نصف سيرذاتية بعنوان «الغربة»، كما تبدّت لمحات من اليأس في كتابه «اليتيم» وفي اليوميات..

 يروي في «اليتيم» هذه القصة:

 «لبعض الكتاب الطليان قصة مؤثرة جداً، قصة مناضل قاوم الفاشية وبرهن على شجاعة وثبات ضمنا له إعجاب الجميع. لم يجرؤ خصومه على سجنه أو قتله أو نفيه وتركوه يحمل مشعل المعارضة، ولما توفي سمح لأنصاره أن ينظموا حفلاً تأبينياً. أقيم الحفل وحضره آلاف من الناس، تتابع الخطباء ونوّهوا بإخلاصه ووفاته، والكلمات تتضخم والتصفيقات تحتد والحماس يقوى، ثم يباغت القارئ شعور غريب مؤلم أن الأيام قد حولت ذلك المناضل المقدام في المرحلة الأخيرة إلى دمية ينفخ فيها الريح. تحتمل القصة تأويلات مختلفة. إيجابية وسلبية، لكن يطفو فوق كل تأويل واقع مأساة رجل كان أكبر بكثير من اللباس الذي فصله له القدر».

 عبد الله العروي، اليتيم ص 49

عبد الودود ولد الشيخ: المؤرخ بيير بونت..

0

ترجمة الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب

رحل عنا بيير بونت في يوم الاثنين الموافق 4 نفمبر 2013 وأريد هنا من خلال هذه الأسطر أن أذكِّر ببعض العناصر الأساسية للمسار العلمي والعمل الغزير في المجالين الصحراوي والأنتروبولوجي لهذا الباحث الفذ. ومن أجل ذلك سوف أعتمد على بعض الوثائق التي أعدها بيير بونت نفسه في مناسبات إدارية مختلفة عن سيرته الذاتية –والتي حصلت عليها بفضل عناية ولطف رفيقته آن ماري ابريزبارAnne-Marie Brisebarre- كما أنني استند أيضا إلى الألفة مع هذا الصديق-الذي اختطفه الموت-ومع أعماله وهي ألفة زودتني بها سنوات العشرة والنقاش الطويلين.

ولد بير بونت في يوم 25 أغسطس من سنة 1942 في منطقة Houillère أوويير في شمال فرنسا وتحديدا في Annoeullin أنويلان. كان الوسط الذي ينحدر منه وثيق الصلة بالاستغلال المنجمي الذي كان يعمل فيه عدد كبير من ذويه وكان ذلك الوسط موطنا لتقليد نقابي ونضالي يساري.

كان جد بير بونتهانريبونت Henri Bonte عمدة Annoeullin آنويلان عن حزب SFIO(1890-1971) مثالا له وكذلك كان ابن عمه FlorimondBonte أفلورمونبونت (1890-1977) الذي ظل لعهد طويل رئيس الاتحاد الشمالي للحزب الاشتراكي ورئيس تحرير صحيفة L’Humanité والنائب عن الحزب الاشتراكي الفرنسي حتى سنة 1958. ينحدر بييربونت من أبوينكانا معلمين وقد تربي مع أخواته الثلاثة في عائلة ذات توجه جمهوري ولائكي لا غبار عليه. انغمس وهو لا يزال يافعا في الأحداث والكفاحات التي صنعت قوة ومجد الحزب الاشتراكي الفرنسي حتى بداية السبعينات. شارك بشكل فاعل في مظاهرات عدة مثل مظاهرة Charonne شارون (يوم 8فبراير 1962) ضد منظمة الجيش السري L’OAS وضد حرب الجزائر وهي المظاهرة التي قمعت بشدة من طرف شرطة الحاكم Paponبابونهوخلفت تسعة قتلى). كانت الماركسية التي مثلت ولعهد طويل أحد مصادر إلهامه في الحقل الانتروبولوجي حاضرة إذن في محيطه منذ المهد إن جاز القول.

ظهر اهتمامه بالعالم العربي-الإسلامي الذي تندرج ضمنه أهم بحوثه الميدانية مبكرا هو الآخر-ابتداء من الستينات وقد تعزز ذلك الاهتمام لا حقا بفعل الروابط العائلية (فأخته جاكلين باحثة فى مجال الصحة متزوجة من باحث تونسي فى العمران يدعى محمد الباهي وأحد أبناء رفيقته توما متزوج من فتاة من جبوتي من أصل يمني وكان بيير شديد التعلق بأحفاده الصغار المنحدرين من تلك الصلة) وعلاقات التحاور والتعاون مع باحثين في الحقل الصحراوي المغاربي وكذلك بفعل إدارته للعديد من الأطروحات… إلخ

بعد حصوله على شهادة الباكالوريا في مدينة Lilleليلسنة 1960 التحق بقسم الآداب بجامعة الصربون التي تحصل منها على شهادة الليصانص في علم الاجتماع وقد تابع موازاة مع ذلك دروسا في علم النفس وتحصل على شهادة الليصانص في هذا التخصص سنة (1963-1964). أجرى الجزء المتعلق بالانتروبولوجيا من دراسته في Musée de L’Hommeحيث تابع دروس André Leroi-Gourhanوهو أحد أبرز الوجوه في الانتروبولوجياالفرنسية في ذلك العهد وقد اشتهر كذلك بأعماله حول ما قبل التاريخ والتكنولوجيا المقارنة تحت إشراف آندري لروا. سجل بيير بونت لأطروحة سلكثالث حول طوارق كل أغرس. وقد أقام في النيجير من شهر أكتوبر 1965 إلى شهر مارس 1967 لغرض البحث وقد ناقش رسالته للحصول على شهادة السلك الثالث سنة 1969 حول الإنتاج والمبادلات لدى طوارق كل أغرس في النييجر) تحت إشراف روبير كرسول Robert Cresswell وكان لروا قد تقاعد حينها.

ابتداء من هذا التاريخ بدأ بييربونت سلسلة إقامات في الخارج في إطار مهام تسند إليه من قبل منظمات وطنية أو دولية و/ أو لغرض بحوثه الخاصة. وهكذا أقام في الجزائر (من شهر مارس إلى شهر يونيو من سنة 1969) في إطار بعثة للإدارة الفرنسية للاستصلاح الترابي (DATAR). عاد إلى النيجر عدة مرات لمتابعة بحوثه الخاصة على نفقة المركز الوطني للبحث العلمي CNRSلفترة 12 شهر تمتد من سنة 1968 إلى سنة 1972.

ابتداء من سنة 1969 أصبحت موريتانيا هي مجال بحثه ولم يبرحها أبدا إن جاز القول.

في موريتانيا قام ببحث طويل حول العمال الموريتانيين في شركة مناجم حديد موريتانيا (ميفرما) التي أصبحت بعد تأميمها تسمى شركة أسنيمSNIM، تركز البحث ما بين مدينتي أزويراتوانواذيب. كانت غالبية العمال في ذلك العهد تنحدر من قبائل آدرار (أولاد غيلان، إديشل… إلخ) قام بيير بونتبإحصاء شامل لهؤلاء في سبع جذاذات ضخمة. كانت تلك بداية اهتمام بسكان آدرار الموريتاني وهو اهتمام ظل يتسع ويتعمق حتى آخر أيام حياته. انتهى به المطاف إلى معرفة هؤلاء السكان سلالةسلالة وعائلة عائلة وقد جاب بذاكرته العجيبة المتاهات المعقدة لأنسابهم متعقبا كل صغيرة وكبيرة من تحالفاتهم وصراعاتهم راسما بدقةفى (إمارة إدرار: تاريخ وانتروبولوجيا مجتمع قبلي في الصحراء الغربية زعاماتهم.وتقدم أطروحة الدولة الضخمة (2252 صفحة فى أربعة أجزاء EHSS) والمنشورات الكثيرة التي سبقتها أو لحقتها المعرفة العميقة لبونت ليس بآدرار فحسب بل بموريتانيا عموما.

واصل بيير بونت هذا العمل حول موريتانيا في إطار المركز الوطني للبحث العلميCNRSبعد اكتتابه فيه سنة 1973. وقد قام ببحوث تغطي قرابة عامين من البحث الميداني امتدت فترتها ما بين 1975 إلى 1980، لقد ظل يتردد على موريتانيا من خلال مهام عدة أسندت إليه وهي مهام ترتبط بمشاريع التنمية دراسة RAMS1978-1980مشروع التنمية الحيوانية IIمن 1982 إلى 1995، البنك الدولي/ FAOمن 2002 إلى 2003 البعثة الفرنسية للتعاون من 2005 إلى 2010 إلخ). إجمالا خصص بير بونت لموريتانيا قرابة 7 سنوات من البحث الميداني امتدت عبر 40 سنة.

بعد ذلك زار بيير بونت بلادا قريبة من موريتانيا كانت موضع بحثه (مالي، المغرب) وأخرى بعيدة (تونس) وهو يقوم بمهام مدتها محدودة،أصبح كثير التردد على المغرب خلال السنوات الأخيرة من حياته وكان يدفعه إلى ذلك اهتمامه بالصحراء الغربية الواقعة تحت الإدارة المغربية والمرتبطة تاريخيا واجتماعيا بمجال بحثه الآدراري.

أما الحياة الإدارية لبييربونت فقد كانت كلها في مخبر الانتروبولوجيا الاجتماعية (المركز الوطني للبحث العلمي، كوليجدي فرانس) والذي أسسه كلودلفي ستروس سنة 1960 ودخله هو سنة 1973. ظل بيير بونت يخصص دائما المزيد من الوقت للتأطير والبحث بوصفه مدرسا مشرفا على الأطروحات ومنعشا لفريق بحث بعد أن أصبح مشرفا على البحوث في المركز الوطني للبحث العلمي في سنة 1985. كانت شهرة بيير بونت حينها قد بلغت ما بلغت بوصفه انتروبولوجيا متخصصا في الفضاءات الصحراوية والأنظمة القبلية العربية والطوارقية وبشكل أعم في المجتمعات الرعوية. قدم بشكل منتظم ابتداء من 1996وحتى 2006 دروسا ومداخلات في دروس الدكتوراSeminaires de doctoratفي عدة جامعات منها: (Saint-Quentin-en-Yvelines, Paris I, EHESS, Paris VIII)وكان يخصص بوجه خاص الكثير من الوقت للطلاب الذين يشرف على أطروحاتهم لنيل شهادة الدكتوراه ولم يكن يكتفي بإعطاء هؤلاء معارفه وتوجيهاته بل إنه كان يدعمهم أيضا في كل مساعيهم خلال تحضير أطروحاتهم وفي دمجهم في الحياة المهنية بعد نقاش تلك الأطروحات وقد أشرف بوبت على ما يزيد على ثلاثين أطروحة وشارك في عشرات لجان النقاش خلال حياته المهنية. ويحتل الكثير من الشباب الباحثين اليوم ممن أشرف على تأطيرهم مراكز في الجامعات وفي عالم البحث بفضل سمعته وعلاقاته بالإضافة إلى دعمه القوي لهم.

شارك بيير بونت في العديد من الهيئات العلمية في فرنسا وفي العالم (مجموعات بحث خاصة، مجالس علمية، لجان أخصائيين، هيئات تقييم، لجان تحرير مجلات… إلخ). وقد حرر مجموعة “انتروبولوجيا” دار النشر Kimé(في فرنسا) التي نشرت العديد من الكتب الهامة في الحقل الانتروبولوجي. وقد نظم أو ساهم في تنظيم العديد من الندوات والملتقيات وقدم عشرات المحاضرات في أماكن مختلفة من العالم وأجرى مقابلات مع العديد من الهيئات الصحفية حول مواضيعه الإقليمية المفضلة أو الانتروبولوجية .

ترك بير بونت إنتاجا علميا غزيرا يتضمن 400 عنوانا: 26 كتابا (كتبها بمفرده أو بالتعاون مع غيره) والعديد من فصول الكتب والمقالات في المجلات المتخصصة،والتقارير… إلخ. كان العمل الانتروبولوجي يعني بالنسبة للانتروبولوجيين من جيله ومن نفس التكوين التجربة الميدانية قبل كل شيء.

وقليلون هم بالتأكيد، الانتروبولوجيون الذين سبروا أغوار دروب مجالاتهم البحثية بقدر مثابرته ولفترة تضاهيها طولا واستخلصوا من تلك التجربة المتجددة بالدوام مادة بقدر ثراء المادة التي جمعها وعلى نحو ما هي عليه من الدقة المتناهية في الجمع. ولأنني رافقته في رحلات عبر آلاف الكيلومترات في موريتانيا، ولأنني كنت حاضرا للمآت من المقابلات عبر مسار مشترك دام قرابة أربعين حولا،فلطالما أذهلني التحمل والصبر والمثابرة التي يتحلى بها من أجل الحصول على تفاصيل الأنساب أو الوقائع التي يبحث عنها لدى محاوريه وهو يحترمهم أيما احترام. أولئك المحاورون الذين غالبا ما أبهرتهم سعة المعرفة التي يتمنع بها هذا الانتروبولوجي عن أسلافهم وعن خلافاتهم الداخلية ونزاعاتهم مع الجيران كما لو كان هذا الغريب القادم من بعيد، هذا “النصراني” قد نشأ بينهم.

لا يجد جمع المعلومات الميدانية الذي يوليه بييربونت معناه الحقيقي إلا إذا أخضع للتنظيم من قبل فكر وأشفعبسعي واع لاختياراته المنهجية والنظرية.لقد انطبع جزء كبير من مساره النظري بالتأثير المزدوج للماركسية والبنيوية. وجهت الأسس المادية والتكنولوجية للمجتمعات البشرية وكذلك البحث عن الأسس البنيوية الكونية لتشابه واختلاف إنتاجياتها الرمزية التساؤلات والتأملات التي بدأ بتطبيقها أولا على مجتمعات البدو الرحل التي شاهدها في ميادين بحثه التي زارها بشكل أكثر انتظاما ولفترة أطول ألا وهي: الطوارق والبيظان. لم يتوقف بير بونت عن مساءلة خصوصيات المجموعات الرعوية بدءا من أطروحته حول كل أغرس وانتهاء بتلك التي خصصها بعد ذلك بثلاثين سنة لإمارة آدرار ومن الكتاب الجماعي “الإنتاج الرعوي والمجتمع (باريس وكامبردج 1979) وانتهاء بالكتاب الجميل الأكثر قراء” آخر البداة الرحل” (إفرى سيرسن 2004) Les derniers des nomades(Ivry-sur-Seine, 2004)مرورا من بين مؤلفات أخرى.Herders, Warriors and Traders. Pastoralism in Africa (Boulder, 1991) Galaty..الذي أشرف عليه بالتعاون مع John Galatyومرورا بنخب عالم الرحل الطوارق والبيظان(Aix-en-Provence, 2000)Élites du monde nomade touareg et maureوالمنشور بالتعاون مع Hélène Claudot. كان يتساءل عماذا بإمكان “بساطة” أسسها مادية إذا ما أضيف إليها ببعض التصنع في بنياتها التراتبية وإنتاجاتها الإيديولوجية القانونية أن تنبأ عن العلاقة بين البنيات التحتية والبنيات الفوقية في وقت بدأ فيه موضوع الانعكاس الذي يتشبث به المذهب الأرتودوكسي ما بعد الاستالينييرفض من طرف بعض قطاعات البحث الانتروبولوجي الماركسية الفرنسية التي هو جزء منها. شكلت كل من المقدمة التي كتبها للطبعة الجديدة لأصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لـ.ف. إنجلز والعمل الطموح المتمثل في كتابة “ميتولوجيا العمل” الذي نشر سنة 2004 بالتعاون مع دانيال بكمونDaniel Becquemont، والذي حلل فيه قيم العملعلى ضوء معارفه عن العالم الرعوي إسهامات نظرية كبيرة في تحديد الانتروبولوجيا الاقتصادية انطلاقا من ماركسية هي ذاتها مجددة.

كان بييربونت متفطنا جدا لتأثير الصيرورة التاريخية على الروايات التاريخية وللقراءة المتجددة التي يقوم بها الفاعلون من أجل تعزير ديمومة وشرعية الأنظمة الاجتماعية التي لا تنفك الحركة التاريخية تقلبها وتعيد صياغتها. قد يكون هذا الاهتمام بالنسبة له ذا صلة بتأثير المادية التاريخية حتى ولو كانت طريقته في تناول التاريخ لا تستسلم أبدا لتبسيطات المذهب التطوري والاقتصاداتي الضيقة التي أخذت منحى شعبويا من خلال النماذج الماركسية المهيمنة في عهد شبابه، يظهر هذا الاهتمام بالديناميكية التاريخية في المؤلفات الجماعية التي كان العنصر المركزي فيتأليفها: كالنسب. البحث عن الأصول. الانتروبولوجيا التاريخية للمجتمع القبلي العربي (باريس 1991 مع E. Conte, C. Hamès et A. W. Ould Cheikh)وعبد الودود ولد الشيخ وهامس.

والأمراء والرؤساء وأوجه القرابة والشأن السياسي في العالم العربي. (باريس 2001) بإشراف مشترك بين مع كونت  ودرش،E. Conte et P. Dresch

Émirs et Présidents. Figures de la parenté et du politique dans le monde arabe.

كذلك يمكن ملاحظة ذلك الاهتمام في أعداد المجلات التي أنجزت بالتنسيق معه حول التطور المعاصر للظاهرة القبلية عند ما تقع في شراك العولمة: “القبائل في إفريقيا الشمالية والشرق الأوسط”

.”Tribus en Afrique du Nord et au Moyen Orient”, L’Homme XXVII/102, 1987..

وموريتانياالتحول الديمقراطي؟ السياسة الإفريقية 55. 1994 (مع.H. Guillaume) “القبيلة فيعهد العولمة” دراسات ريفية 184، 2010 (مع .Y. Ben Hounet)، وعدد خاص من مجلة The Maghreb Review35/1-2 et 35/3, 2010  مع (S. Boulay).

لقد قاد بونت البحث في الدور المحوري للقرابة في التشكيلات القبلية الصحراوية الطوارقيةوالبيظانية وهي موضوع بحوثه الأكثر اتساعا إلى مواضيع بحث أخرى. ساهمت تأملاته وفرضياته التي قدمها في تجديد النقاش حول قضايا مهمة بالنسبة للتاريخ الحديث للانتروبولوجيا وكما بالنسبة لفكرة شمولية التبادل –لدى موس ولفى ستروس- وهي الفكرة التي عارضها هو أو بالنسبة لزواج القربى (خاصة حالة “الزواج العربي”). كانت الاعتبارات التي حللها حول هذا الموضوع الأخير ذات أثر على إعادة تعريف السفاح الذي ساهم هو بعد Françoise Héritierفي إعادة صياغة مفهومه المتأتي من البنيات الأولية للقرابة لدى لفي ستروس بشكل عميق ركز بونت جزءا من بحوثه في حقل القرابة هذا لدى الطوارق والبيظان حول دورتحالف الزواج في ديناميكية المجموعات القرابية وقد وسع هذه المنهجية المقارنة لتشمل كل العالم المتوسطي في مساهماته في المؤلفات الجماعية التي أشرف عليها والتي كانت مرجعا في النقاشات حول هذه الموضوعات، يتعلق الأمر خصوصا بالمؤلفات التالية: الابن وابن الأخ، آليات ورهانات القرابة الطوارقية (باريس، كامبردج 1986) نشر بالتعاون مع S. Bernus, L. Brock et H. Claudotالزواج من أقرب الأقارب السفاح التحريم والاستراتجيات الزواجية حول المتوسط (باريس 1994…) و

L’argument de la filiation, aux fondements des sociétés européennes et méditerranéennesParis, 2011.

بالتعاون مع E. Porqueres I Gené et J. Wilgaux).

ودائما انطلاقا من تجربته في المجتمعات الرعوية والتأملات التي أوحي بها إليه تدجين الحيوانات، ساهمبير بونت في إعادة النظر في العلاقات بين الشعيرة والتقنية وذلك بإبراز البعد الثقافي أساسا (وليس البعد التقني-الاقتصادي فحسب) لهذا التدجين. اتسعت المنهجية التي اقترحها لتشمل مسألة وضع القربان في العالم الإسلامي حيث تذبح كل دابة من الناحية الشعائرية لكي تؤكل وحيث يسمح النموذج القرباني لـ” لذبيحة الولد الأول” (النموذجية في الإسلام بمناسبة تخليد الذبيحة المطلوبة من إبراهيم وذبيحة العقيقة) بالربط بين الفرضيات التي تم تقديمها في حقل القرابة وبين فهم الشعيرة القربانية كما بين ذلك في الكتاب الذي أشرف عليه بالتعاون مع أ.م. برزبار و أ. كوكالب: الذبيحة في الإسلام، مكان وزمان شعيرة (باريس1999).

كان بيربونت يتمتع بفكر موسوعي وكان يعمل دونما كلل وكانت قدراته التحريرية محل إعجاب كل الذين عرفوه . حرربيير بونت بالتعاون مع ميشل إزار إحدى المجموعات الانتروبولوجية الأكثر شمولية في النصف الثاني من القرن العشرين، يتعلق الأمر بمعجم الاثنلوجياوالانتروبولوجيا (باريس1991-2000) وقد حرر هو شخصيا زهاء الخمسة عشر مدخلا كبيرا من هذا المعجم. وقد ترجم هذا الكتاب المرجعي إلى خمس لغات من ضمنها العربية. وقد ساهم بونت أيضا وبشكل كبير في مشاريع موسوعية أخرى.

(The Encyclopaedia of Islam, Dictionnaire des faits religieux, Dictionnaire de la Méditerranée.

يتميز العمل الصحراوي المونوغرافي (أحادي الموضوع) لدى بونت بالكثير من الحصافة حتى وإن كان الفصل بين تقديم المعطيات والإعداد النظري من النادر لديه. يتجلى ذلك العمل من خلال كمية المقالات التي ظهرت في مجلات متخصصة مختلفة منذ1969.

تقدم الأطروحتان المذكورتان أعلاه خلاصاتلمراحل ذلك العمل، يتعلق الأمر بالأطروحة حول آدرار الموريتاني التي بدا أنها تقدم أضخم وأدق مجموعة يمكن لباحث أن يجمعها عن منطقة الصحراء. استخلص منها بيير بونت كتابه: إمارة آدرار الموريتاني الحريم التنافس والحماية في مجتمع قبلي صحراوي، وقد ترجمه محمد ولد بوعلبية إلى العربية. وسوف أكتفي بالإشارة أيضا إلى كتابين موجهين إلى جمهور أوسع هما: جبل الحديد. اسنيم. شركة معدنية في الصحراء الموريتانية، في زمن العولمة (باريس 2002) والساقية الحمراء، مهد الثقافة الغرب-إفريقية (الدار البيضاء 2012). كان بيير بونت ينوي أيضا أن يستخلص من ورشته العظمى المتمثلة في أطروحة دكتوراه دولة حول آدرار الموريتاني كتبا أخرى من ضمنها واحد مخصص لأسطورة أصل مجموعات صحراويةمختلفة ذا تأثير، كان فيمرحلة متقدمة عند ما وافاه الأجل.

كان بيير بونت رجل ميدان ومنظر رزين خصب التفكير وكان صاحب أنتروبولوجيا مطبقة على قضايا التنمية. كان كذلك من خلال العديد من الدراسات والتدخلات التي تطلب منه تمهيدا للمشروع كذا أو المشروع كذا أو مواكبة أو تقييم مشاريع أخرى.

لقد كان جديرا بالمهام التي تسند إليه كما لاحظت ذلك من خلال الأعمال التي كان لي الشرف فى الاشتراك فيها معه (دراسة RAMS، مشروع التنمية الحيوانية II، أسنيم إلخ) كان يتمتع فيكل هذه الأعمال بمسافة زمنية من الأحداث تمكنه من حفظ وإثراء معارفه حول مجالات البحث القديمة والحديثة التي كان قد شرع في العمل فيها. وكم كان مع ذلك في سلوكه الميداني المفعم بالاحترام لمحاوريه المحليين وبرغبة في التقرب منهم دونما عجرفةأوديماغوجية. يتميز عن التكبر الذي غالبا ما يلاحظ لدى بعض “الخبراء” الميدانيين مع المجتمعات التي يتخذونها ميدانا لبحثهم. لم يكن بيير بونت يشبه هؤلاء في شيء من ثبات مزاجه ولا في عزمه ولا في دهائه أو في وقته، لقد كان يغض الطرف عن أخطاء وإلحاف شركائه ومحاوريه المحليين. لم يكن استعداده ولطفه يقتصران على المراحل الميدانية ورحالاته المحلية بل إنه كان يقبل “الملاحقة” بطيب خاطر عند ما يعود إلى محل إقامته وعمله حيث يستقبل في منزله كل أنواع الزوار وكان يستجيب لكل طلب بسخاء وتحمل. ترك بونتفيقلوب وعقول أغلب زواره الصحراويين ذكرى لا تمحى أبدا.

باريس. نوفمبر2013

أركون: أنثروبولوجيا الأديان والبحث عن الفكر الإسلامي المعاصر

الكتابة على الكتابة أو النص على النص هو ما فعله المترجم هاشم صالح حين قدّم لكتاب محمد أركون «من فيصل التفرقة إلى فصل المقال… أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟» الصادر حديثاً عن دار الساقي. في التقديم الذي صدَّر به الكتاب، والذي أعطاه عنواناً منفصلاً «الترجمة والعلوم الإنسانية: محمد أركون نموذجاً»، تحدث صالح عن دور المترجم في سبر أغوار النص والقبض على روح المعنى بخاصة في العلوم الإنسانية، ودور المفكر محمد أركون في مشروعه الذي يشتغل على بنية الفكر العربي، وأوضح الصعوبات التي تعترض المترجم في نقل أيّ نص من لغة إلى أخرى، مركزاً حديثه على ما واجهه أثناء نقل نصوص محمد أركون من الفرنسية. كما شرح صالح المرجعيات المكوّنة للمصطلحات الأركونية، مركزاً على مصطلح المتخيّل معتبراً إياه مصطلحاً وافداً من «علم الأنثروبولوجي» وعلم التاريخ الحديث، وقد تمت بلورته كرد فعل على التطرف المادي أو الماركسي في دراسة التاريخ، مفرقاً بين مصطلح متخيل ومصطلح خيال، فالمتخيل هنا «عبارة عن شبكة من الصور التي تستثار في أيّ لحظة في شكل لاواعٍ».

كما قام بشروحات وتوضيحات على نص محمد أركون الأصلي، فصار القارئ بين نصين يتوازيان: نص محمد أركون الذي يبحث عن المشروع الفكري الإسلامي المعاصر، ونص هاشم صالح الذي يقوم بالتعليق والشرح على النص المتن، ووصلت الشروحات التي قدمها المترجم حدَّ أنها كانت تحل محل المركز، فيصير المركز هامشاً، والهامش مركزاً.

 يحاول محمد أركون أن يكشف عن فترات مضيئة من فترات الفكر الإسلامي تألق فيها فلاسفة أمثال ابن رشد والغزالي، ويقارن بينها وبين فترات لاحقة تردى فيها هذا الفكر. يبين حجم الفارق بين جدية المناظرات الفكرية التي حصلت أثناء الفترة الكلاسيكية المبدعة من تاريخ العرب والإسلام، وبين الوضع المؤسف الذي تردى إليه الفكر الإسلامي المعاصر. وحين تحدث عن ابن رشد والغزالي إنما أراد أن يؤكد الوعي الجدلي الذي يطرح الأسئلة ويسائل العالم، ليشير إلى أن روحهما الفكرية القلقة والجادة في البحث عن الحقيقة تبقى ملهمة للمسلمين.

يقدم أركون نماذج تطبيقية من العالم الفكري الإسلامي، ليكون مثالاً واضحاً وعملياً على كيفية الاتصال بالماضي والانقطاع عنه في الوقت ذاته، ليرى المسلمون عالمهم الفكري السابق حتى يبنوا عليه ويقيموا حياة فكرية متوهجة، لا أن يعودوا إلى الماضي يقدسونه تقديساً أعمى من دون إعمال فكر أو مراجعة. وهو في هذا الكتاب يستخدم المنهجية التاريخية – الأنثروبولوجية قبل أن يسمح لنفسه باستخلاص نتائج عامة أو حكم فلسفية.

إنه يستخدم المنهجية المقارنة والمحسوسة التي ترفض أن تسجن الإسلام في خصوصية ثبوتية وجوهرية تكاد تكون عنصرية، كما ترفض الرؤية «الأسطورية»، أو الأيديولوجية التي يشيعها التقليديون عن الإسلام والتي تكاد تزيل عنه كل صبغة تاريخية.

طرح أركون في النص المركَّز قضايا عدة، بعضها متصل بطرق القراءة، حين تحدث عن « تعليم أنثروبولوجية الأديان»، حاول فيها أن يكشف عن بنية المنظومة الفكرية في أنثروبولوجيا الأديان سواء كانت سماوية أو وضعية، كاشفاً عن إشكالياتها، وموضحاً الفارق و«الفصل بين دراسة أديان الوحي وبين دراسة الأديان الآسيوية المتروكة».

وكما فصَّل القول في قضايا الوحي والحركات الإسلاموية – الحركات التمامية والأخلاق والسياسة، أوضح أن طبيعة البنية في أنثروبولوجيا الأديان الوضعية تتشابه مع الأديان السماوية، وأنها بُنيت على مفاضلة لا تبعد عن المفاضلة التي يقيمها المؤمنون في كل دين، وهو ما يجعل «تبنّينا المنهج الحديث لتدريس تاريخ الأديان يصطدم حتماً بالاعتراضات المعروفة للمؤمنين. تقول هذه الاعتراضات بأن المقاربة العلمية للدين هي اختزالية بالضرورة، لأنها تحيّد الإيمان أو تضعه بين قوسين «فلا مفرّ اليوم من أن نعتنق منهجيات الأنتربولوجيا الاجتماعية والثقافية وتساؤلاتها وفضولها المعرفي».

حاول أن يكشف عن «حقيقة أهداف الأديان وعن وظائفها التاريخية وعن منجزاتها الثقافية»، وهو بذلك يراهن على أن المقاربة الأنثروبولوجية الدينية هي المقاربة الوحيدة القادرة على تحرير الإنسان المؤمن وغير المؤمن من سجن المسلمات وأوهام الأيديولوجيا التي تسعى جاهدة إلى تسييرنا وفق أهواء أصحابها، فهذه المقاربة بخلاف غيرها من المقاربات الرؤيوية تقدم تصوراً جديداً للمعرفة الأسطورية والتاريخية وللنقد الفلسفي، فأركون يؤكد أن الأنثروبولوجيا بمختلف فروعها لا سيما الاجتماعية والثقافية أعادت بناء أسس البحث، وذلك عندما «أعادت الاعتبار للمعرفة الأسطورية من طريق تغيير مكانة العقل ذاته»، ما جعل الأسطورة «تلتقط وتجمّع بواسطة التركيب النموذجي للمعنى كل أنواع المثالية والصور الرمزية». وهو ما يجعل مجتمعاتنا تتسم بالحداثة والعقلانية والعلمنة حتى تخرج من إطار «آليات الأسطرة والأدلجة». يؤكد أركون أهمية تجاوز الطرق التقليدية التي تُدرّس بها الأديان معتبرا تلك الطرق القديمة، «غير منتجة وتمثل خطرا يهدّد السلام الاجتماعي».

يولي الكاتب أهمية واضحة لآليات القراءة، ففي هذا المقال وجّه عنايته للآليات التي بها نتجاوز الخطابات التيولوجية التي جعلت من الأديان جزرا منفصلة عن بعضها بعضاً، يعتقد أتباع كل دين أو مذهب أنّهم أصحاب الصراط المستقيم وأن من عداهم ضلَّ وخرج عن الطريق السوي، وهي ما سمّاه بالنزعة الأرثوذكسية التي حولت القراءات الفقهية والكلامية ورسائل الآباء والأحبار إلى سلطة مقدسة، و»أسيجة دغمائية» لا سبيل إلى التحرر من أسرها ما لم نمارس قراءة نقدية شاملة، ذلك أن العقل الديني، سماوياً أو وضعياً، يخضع للآليات نفسها ويقوم على أسس واحدة. ولا يخرج عن هذه الرؤية خطاب الحداثة، فهو قائم أيضاً على دغمائية من نوع مخصوص مفادها أن الإسلام والعلمنة/ العلمانية في عداء، وهو ما اعتبره أركون أحد تجليات الفكر الوضعي، وفي هذا الموقف تجن على الإسلام والمسلمين لا بد من مراجعته بإعادة السؤال عن أسس الفكر الحداثي الغربي وممارسة مقاربة نقدية عليه بالاستفادة من منجزات العلوم الإنسانية، وهي أبعاد سعى أركون إلى التوسع فيها في المقال الثالث الذي منحه عنوان «الإسلام: الوحي والثورات» الذي حدد له أهدافا ثلاثة منها: «تبيان الأضرار الفكرية والثقافية الناتجة عن الفكر العلمانوي والتاريخوي والوضعي عندما اختزل الظاهرة الدينية إلى مجرّد صيغ عابرة زائلة واستلابية وباطلة».

كما استجلى أركون تاريخ النجاة والتاريخ الواقعي الأرضي، فحدّد دلالات المفهومين، وبيَّن أن الغاية من الحديث عن الخلاص في الأديان ليست إبعاد الآخر بقدر ما هي دعوة واضحة إلى تأسيس «تاريخ متضامن تكون فيه كل الشعوب متضامنة لكي نفتح صفحة جديدة في التاريخ ولكي نعيد التفكير جذريا في مسألة النجاة أو الخلاص».

أما عن الشروحات التي قدمها هاشم صالح، فقد قرَّبت فكر أركون للقارئ، فهي نتاج لقاءات وحوارات جمعته بأركون، وبخاصة أنه قام بترجمة معظم كتبه، وليس هذا الكتاب فقط. تتقاطع الحوارات التي قام بها المترجم مع المؤلف في المحتوى، ففي الكثير من الأحيان تكون تعليقات المترجم أو إجابات أركون – في ما يتعلق بالأسئلة- تكرارا لما ورد في هذا الكتاب أو ذاك، وهي طريقة يبدو أن المترجم والمؤلف واعيان بدورها في تقريب فكر أركون من القارئ العربي المسلم، فهي تشرح ما تناوله أركون في مؤلفاته بطريقة وبوسائط تعبيرية وأدوات مختلفة، أو تشرح مفاهيم دقيقة يضيق المتن عن شرحها، كي لا يكون الاستطراد معيقا لاسترسال المؤلف في تأليف الأفكار والتدرج بينها.

إن ما قام به هاشم صالح هو كتابة على الكتابة لا بمعنى الشرح والتوضيح فحسب، وإنما أيضاً باعتبارها محاولة تقديم قراءة تأليفية واضحة المعالم تسهل على القارئ الذي لم يطلع على مشروع أركون الفكري أن يسبر أغوار النص.

المصدر: هويدا طه لصحيفة الحياة اللندنية.

علي حرب: رحلتي إلى الجزائر!

هذه رحلتي الخامسة إلى الجزائر. في المرّات السابقة اقتصرت الزيارة على غربها. فتعرّفتُ إلى العاصمة، وتجوّلتُ في وهران، ثم ذهبتُ إلى مستغانم، والى تلمسان في أقصى الغرب، كما كانت لي زيارة لمدينة سعيدة على تخوم الصحراء. بالطبع كانت الغاية من الزيارة ثقافية: المشاركة في ندوات ولقاءات فكرية. هذه المرة كانت الزيارة لشرق الجزائر، وكان المقصد، بالتحديد، مدينة قسنطينة التي هي الآن موضع احتفاء ومسرح احتفال، كونها اختيرت عاصمةً للثقافة العربية لعام 2015. ورشة فكرية من الأنشطة والملتقيات والندوات في مختلف مجالات الثقافة الأدبية والفنية أو الفلسفية والعلمية، يؤمل أن لا تقتصر على مجتمع النخبة، بحيث تكون لها أصداؤها بين الناس، وأثرها في مجتمع المدينة، وفي المجتمع الجزائري عموماً.

قسنطينة مدينة لا نظير لها
آن للنخب الثقافية، التي تفبرك مجتمعات تتحدث عنها لا صلة لها بالواقع الحي، بتحدياته وتحولاته، أن تعمل على كسر عزلتها، وتخرج من بروجها المتعالية، لكي تتفاعل مع المجتمع الواسع والأوسع. فلا نهوض ولا إصلاح ولا إنماء في أي بلد، ما لم يجرِ انفتاح الحقول والدوائر، بعضها على بعض، لتبادلها الخبرات وتداولها في ما هو شأن عمومي يخصّ جميع المواطنين، كلٌّ في حقل اختصاصه وميدان عمله.
في قسنطينة شاركتُ، في الملتقى الذي عقدته الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، حول دور التواصل الثقافي في تجديد الفكر العربي المعاصر، وكان محور مداخلتي، في ما يتعدّى ثنائية العرب والغرب. في الملتقى مشتغلون بالفلسفة وعلوم الإنسان، جزائريون هم الأكثرية، وعرب من غير بلد، كلهم أكاديميون وكتّاب، ولكلٍّ انتاجه وأعماله. بعد انتهاء أعمال الملتقى، كانت لديّ مهام أخرى، تخصّني وحدي، في مدن أربع. ذهبت أولاً الى قالما برفقة الدكتور عبد الحليم بلواهم، وكان لي فيها لقاءان مع الطلبة والأساتذة في مدرج الجامعة، قدّمني فيهما بلواهم، رئيس قسم الفلسفة في كلية العلوم الإنسانية. ولا أنسى الشاعر محمد خشه الذي افتتح اللقاء الاول بكلمة جميلة عني، مما جعلني أعلّق بالقول أجمل الشعر هو أكذبه. ثم ذهبت الى مدينة سطيف برفقة الدكتور عبد الرزاق بلعقروز، وكان لي فيها أيضا لقاءان في مدرج الجامعة مع الأساتذة والطلبة. ثم كانت لي زيارة لمدينة بجاية، حيث كانت المهمة هي المشاركة في الملتقى الفكري الذي عقد في جامعتها، حول أزمة العلوم الإنسانية. وكان عنوان مداخلتي “رهان الفيلسوف اليوم”. وكان عليَّ الذهاب الى مدينة بسكرة التي تقع هي الأخرى على أبواب الصحراء، لذا وجدتني أقول، بعد كل ما تكبّدته من العناء قبل الوصول: لا بد من بسكرة ولو طال السفر. كانت المهمة إلقاء محاضرة في المنتدى الثقافي، حيث قدّمني الاستاذ أحمد دلباني. وكان المحور في كل هذه الأنشطة ما أنشغل به وأشتغل عليه من القضايا والمسائل التي تتعلق بمهنتي وحرفتي، أو بهويتي ومهمتي.
بعد هذه التنقلات عدت إلى عاصمة الثقافة قسنطينة، مردداً قول الشاعر: ما الحب إلا للحبيب الأول. وفيها أنهيت زيارتي بالمشاركة في الملتقى الدولي الذي عقدته جامعة قسنطينة حول دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في تصور مجتمع عربي مستقبلي. وكان عنوان مداخلتي “أوهام الفلاسفة حول المجتمع”.
بعد ذلك كله كان عليَّ أن أعود إلى العاصمة، لكي ألتقي بالدكتور عبد العزيز يوسف، رئيس قسم الفلسفة في جامعة الجزائر2، ولم يكن لي أن أغادر، من دون أن أجري لقاء في كلية العلوم الانسانية، تناولت خلاصة مداخلاتي حول مشكلات الحقيقة والهوية والحرية والإنسان.
* * *

على الرغم من كل هذه الأنشطة، ما أعددتُ سوى ورقة واحدة مكتوبة، مسبقاً، هي مداخلتي الأولى في ملتقى قسنطينة. ما تلا ذلك، أكان لقاء أم محاضرة، كان مرتجلاً أو أعددتُ له بصورة سريعة، بكتابة خطاطة تتضمن الأفكار الرئيسية التي في وسعي أن أتحدث بها إلى الحضور.
من عادتي، في المدن التي أزورها للمرة الأولى، مخاطبة الحضور، في الملتقيات الفكرية، بقولي: أنتم تعرفون علي حرب “الشخص المفهومي”، عبر نصوصه. الذي ترونه الآن أمامكم يتحدث إليكم، هو علي حرب الآخر، أي الشخصي الحيّ. ولا تفاجأوا إذا وجدتم فرقاً بين الاثنين. فما يكتبه المرء بهدوء وروية، وبعد إنعام النظر، يختلف عما يقوله شفاهة في ندوة أو من على شاشة، حيث عليه أن لا يقرأ نصاً أو ورقة مكتوبة، بل التحدث بصورة مباشرة، حيّة، بأن يوجز ما كتبه أو أعدّه ويحسن عرضه. وقد يوفَّق الواحد، كما قد يخفق. هناك من يتقنون الكتابة ولا يتقنون الحديث. وبالعكس.
* * *

في هذه الزيارة التي استغرقت أكثر من ثلاثة أسابيع، أتيح لي أن أتعرّف إلى غير حاضرة من حواضر الجزائر، هذا البلد الذي يعدّ بمثابة قارة من حيث اتساعه الهائل، ومن حيث تنوعه وغناه الطبيعي والجغرافي أو البشري والمجتمعي. وإذا كانت الجزائر هي عاصمة البلد، فإن كل مدينة تشكّل عاصمة في ولايتها ومنطقتها، شرقاً وغرباً، أو شمالاً وجنوباً. كل مدينة لها طابعها ونكهتها، ولها مزاياها وشخصيتها. وكل مدينة لها عراقتها وعمقها التاريخي. كل مدينة تنفرد بمناظرها الطبيعية الآسرة ومعالمها الاثرية الرائعة. فغالما مشهورة بمدرجها الروماني الذي لا يزال يحتفظ بهيئته الأولى، لكنها مشهورة أيضا وخصوصاً بنوافيرها الطبيعية، حيث المياه تغلي وتفور من باطن الأرض، لتغذي الحمّامات المنشأة قربها. أما سطيف فقد جذبتني فيها سهولها ومروجها وغاباتها، الأمر الذي جعلني أتحسر على لبنان الاخضر، الذي يعمل أهل الجشع والتكالب والفساد على تصحيره بجزّ مساحاته الخضراء. اما بجاية التي تقع على شاطئ البحر، والتي بُنيت على كتف جبل شاهق، فتشكل موقعاً سياحياً قلّ نظيره إذا أُحسن استغلاله. في ما يخص بسكرة المشهورة بتمورها، هي مدينة لها عمقها التراثي كما تشهد زاوية آل عثمان بمدرستها ومسجدها ومكتبتها الجامعة للمصنّفات من كل علم وفن. وهي إلى ذلك كانت محل جذب للأدباء والكتاب إبان الإستعمار الفرنسي.
هذا شأن المدن الجزائرية الأخرى، لكل واحدة أعلامها ورموزها الذين ولدوا فيها أو مرّوا بها، أو احتموا بين أهلها، قديماً وحديثاً، من القديس أغسطينوس إلى الفيلسوف جاك دريدا، ومن الفيلسوف ابن باجة إلى العلاّمة ابن خلدون، ومن الروائي سرفنتس إلى ألبر كامو. ومن الأمير عبد القادر إلى ابن باديس.
بالطبع، لا مدينة تشبه الأخرى، تماماً كما لا فرد يشبه سواه، ولو تشابهت الأسماء. هذا دليل ساطع، لا يُلتفَت إليه أحياناً، على غنى الهوية. صحيح أن الاسم (الجزائر)، هو واحد كما في كل بلد. ولكن بالواحد تجتمع الأشياء وبه تتفرق كما قال ابن عربي. تلك هي لعبة الفرق والجمع، أو معادلة التعدد والوحدة: مَن يتقنها يحسن إدارة علاقته مع الآخر، فرداً أو مجموعة، على سبيل الصداقة والمؤانسة، أو الشراكة والمبادلة. ومَن لا يتقنها يخلق مشكلة لنفسه ويخرّب علاقته مع شركائه أو نظرائه.
لكنْ لقسنطينة شأن آخر. فهذه المدينة تنفرد عن سواها، وخصوصاً من حيث موقعها وتضاريسها، إذ هي بُنيت منذ القدم على كتلتين صخريتين شاهقتين، تفصل بينهما أودية سحيقة. من هنا اشتهرت بجسورها المعلّقة، القديمة والحديثة، الحجرية والاسمنتية، الثابتة أو المتحركة، وكان آخر هذه الجسور قد أُعلي بناؤه، في العام الفائت، ليكون الأطول والأعلى بينها. لذا باتت من أبرز المعالم الأثرية والعمرانية في المدينة. في الحديث مع الجزائريين كنت أتساءل عن السبب الذي جعل قسنطينة تبنى منذ القدم في هذا الموقع وعلى هذا العلوّ الشاهق والخطر. بالطبع يحضر العامل الأمني. فهو الذي دفع أباطرة الصين إلى بناء سورها العظيم. لعلّ السبب نفسه هو الذي وقف وراء بناء قسنطينة على شاكلة البروج المشيّدة. ولكن مع اختراع الطائرات والصواريخ، ما عاد ينفع سور أو برج. الأنفع اليوم هو اتقان لغة المداولة.
* * *

في متحف قسنطينة كانت تنتظر المشاركين في الملتقى الفكري أستاذة التاريخ الدكتورة دحو التي قدمت، طوال ساعة، شرحاً غنياً ووافياً، عن تاريخ المدينة (وتاريخ الجزائر عامة): معالمها الأثرية، طبقاتها الحضارية، ما أقيم فيها أو استولى عليها من الدول والممالك، منذ القدم حتى العصور الحديثة.
لست من هواة المتاحف، لأنني أوثر عليها التجول بين أحضان الطبيعة والاستمتاع بمناظرها الخلاّبة ومعجزاتها الفذة التي يحار العقل أمام تفسيرها. لكني دهشتُ، وأنا أستعرض، في أجنحة المعرض، الآثار التي تركها بشرٌ عاشوا قبل آلاف السنين، على ضوء التفسيرات التي كانت تقدمها السيدة دحو حول نمط حياتهم ومستوى عيشهم: ألبستهم وأزياؤهم، أدواتهم وأسلحتهم، مطابخهم وحمّاماتهم، فضلاً عن خرافاتهم وعقائدهم.
من الأشياء التي استوقفتني، تمثال لامرأة من الزمن الغابر تحمل مرآتها. لما استفسرتُ من السيدة دحو عما إذا كانت المرآة قد اختُرعت في ذلك الزمن السحيق، أجابت وهل عندك شكٌّ في ذلك؟! فقلتُ لها أنتِ الأعلم والأصدق لكونك ابنة حواء، مضيفاً ربما وُجدت المرآة مع المرأة. ثمة آصرة لغوية وصلة دلالية بين المرأة والمرآة، وإن اختلف المصدر بين المروءة والرؤية.
* * *

أعترف بأنني شعرتُ، بعدما خرجتُ من المتحف، على غير ما دخلتُ إليه، لقد أفقتُ من غيبوبتي الحديثة، لأن ما رأيته وأدركته كشف لي عما هو غائر أو مطمور من طبقات وعيي وعناصر هويتي. بهذا المعنى، المتحف هو ذاكرة للبشرية، أكان في قسنطينة أم في أثينا، في القاهرة أم في روما. بذلك ازداد اقتناعي بهويتي المركّبة والملتبسة والمفتوحة على أبعادها الزمانية والمكانية. فما الواحد منا سوى ما يتراكم في عقله من أطوار، أو يتداخل من أبعاد، أو يلتبس من وجوه، أو ينتقش من صور ومشاهد. هذا ما يفسر لنا كيف أن العاقل منا تفاجئه نفسه ومن حيث لا يحتسب، أو كيف نفاجأ اليوم برؤساء وزعماء دول تقف وراء تصرفاتهم ذاكرة مديدة منسوجة من أطياف وصور نيرون والحجاج أو هولاكو وهتلر…
ما خلصتُ إليه وأنا أرى إلى نفسي، من خلال أطواري الأولى، أننا، نحن أهل الحداثة والمدنية، لسنا أرقى من الأسلاف الأُول، إلا من حيث اختراع الأدوات والوسائط والأسلحة. على المستوى الخلقي، ما نشهده من همجية معاصرة تجعل الواحد يخجل من كونه انساناً، بقدر ما يكتشف أن الإنسان البدائي، بل الحيوان، هو أقل منا وحشية وشراسة. الدرس هو أن نتواضع وأن نقتنع بأننا أدنى شأنا، بكثير، من حيث علاقتنا بالقيم والفضائل.
عند نهاية هذه الجولة في المتحف، وقد فزنا خلالها بحصيلة معرفية وافية عن المخزون الرمزي والغنى الحضاري لمدينة قسنطينة، وجدتُني أشكر السيدة دحو وأحيّيها قائلاً: يا لها من حاضرة قسنطينة. إنها مدينة لا نظير لها.
* * *

بعد الخروج من المتحف كانت لنا جولة في قسنطينة أتيح لنا خلالها التعرف إلى خريطة المدينة بأحيائها وساحاتها، بالانتقال من ناحية إلى أخرى، سواء باجتياز الجسور المعلّقة، بين ضفة وضفة، أو بالسير في الطرق اللولبية، بأنفاقها المحفورة في الصخر، وذلك من الأسفل إلى الأعلى، وصولاً إلى القمة، حيث صرح معماري شبيه بقوس النصر في باريس، إذ هو بُني أيام الفرنسيين، ولا يزال الجزائريون يلفظون اسمه بالفرنسية مونومان (Monument). من ساحة هذا المعلم، في وسع المراقب أن يرى إلى قسنطينة من كل الجهات. الأروع من ذلك هو أن في وسعه، وهو ينظر، ليلاً، من الأعلى، أن يرى إلى الجسور التي تتلألأ أنوارها، كيف تتقاطع أو كيف يعلو بعضها فوق بعض، في مشهدٍ بديع لا نظير له في أيّ مكان آخر. هنا وجدتُني أردّد وصفي لقسنطينة. يا لها من مدينة، لا نظير لها.
* * *

عندما أكون في الجزائر، اكون في عهدة الدكتور عمر بوساحة، فهو أول مَن يستقبلني، وآخر مَن يودّعني. وأنا أسير بحسب البرنامج الذي يعدّه لي. هكذا في كل مرة، ومنذ أول زيارة لي للجزائر في شباط 2008، للمشاركة في الندوة التي عُقدت في المكتبة الوطنية. وكانت، يومئذٍ، في عهدة الروائي الدكتور أمين الزاوي.
في قسنطينة كنت في عهدة الدكتور محمد الجديدي، أستاذ الفلسفة في جامعة قسنطينة، وللجديدي محاولات فلسفية قيّمة، ترجمة وتأليفاً. وكانت له مداخلتان: الأولى محاضرته في الجلسة الافتتاحية، درس الترجمة. والأخرى في ملتقى بجاية حول موضوع بات تحدياً يطرح نفسه على الفلاسفة: العلاقة بين الاتيكا والبيوتيكا، بين الخُلُقيات وعلم الجينات.
أقمتُ في قسنطينة الجديدة عشرة أيام في فندق الخيّام، الذي شعرتُ أن وفد الملتقى ووفوداً أخرى، أتت لتحتفي بعاصمة الثقافة، هم أول نزلاء هذا الفندق الذي لا يزال كل شيء فيه بورقته وعلى بكارته: الغرف والمطعم، البهو والكافتيريا، مما يجعل متعة الإقامة فيه مضاعفة. ولكن كان ينقص الفندق شيء واحد هو العامل الذي ينقل حقائب النزلاء إلى غرفهم عبر العربة المخصصة لذلك. ففي الجزائر “الاشتراكية” كل واحد يحمل حقائبه بنفسه. ولا شك أن هذه القاعدة سوف تتغير، لأنها لا تأتلف مع ثقافة السياحة وعصر العولمة.
مع الجديدي ورشيد دحدوح والشريف طاطاو والمولدي عز الدين (الأستاذ في جامعة صفاقس)، عدنا من بجاية، عبر مدينة جيجل بشاطئها الساحر، إلى عاصمة الثقافة. ومنها ذهبنا إلى بسكرة حيث نشأ الجديدي وتعلّم، لألقي محاضرتي في المنتدى الثقافي. ولكي ألتقي بأصدقاء كنت أعرفهم من خلال كتاباتهم الفلسفية، التي هي شرارات فكرية نيتشوية تستلهم فلاسفة ما بعد الحداثة: أقصد الأستاذ أحمد دلباني وشرف الدين شكري.
بصحبة الجديدي وزملاء آخرين كانت لنا، عصر كل يوم، جولة في قسنطينة، لكي نتعرف إلى ما لم نعرف من معالم المدينة ووجوهها وخفاياها.
سأتوقف عند ثلاثة معالم: الأول ضريح بن باديس، وقد فوجئت عندما قرأت “مقبرة” بن باديس. إذ وجدتُ أن هذه الكلمة لا تليق بمقام الرجل. المهم أن بن باديس، الفقيه العلاّمة، كان من أعلام النهوض والتنوير، لذا نراه يتحدث عن “الفكر الحر”، كما قرأنا كلاماً له مسجلاً على جدار الضريح، على النقيض مما يدعو إليه أو يدّعيه الإسلاميون المعاصرون. أما المعلم الآخر فضريح أحد الملوك القدامى، ما سينيسا، الذي أقيم على إحدى تلال قسنطينة، وهو على شكل هندسي مربّع، وله شبيه أضخم منه، مبني بشكل دائري، رأيناه على طريق بسكرة لأحد ملوك الدولة النوميدية، التي سيطرت في أزمنة ما قبل الميلاد، وكلا الضريحين يذكّر بأهرامات مصر. من هنا كان تساؤلي، هل بناء القبور بهذه الطريقة كان شائعاً في ذلك الزمن السحيق تعبيراً عن عقائدهم ونظرتهم الماورائية إلى جسدهم والى مصائرهم في ما بعد الموت؟ وهل كان هناك تواصل بين الفراعنة في مصر، وبين الذين حكموا الجزائر في ذلك العصر، من حيث تبادل العقائد والخبرات الهندسية؟ أما المعلم الثالث فهو المدينة الجامعية رقم 3 من المدن الثلاث في جامعة قسنطينة، ويسمّونها الأقطاب. القطب الثالث، المخصّص للعلوم والتكنولوجيا، لم يفتح بعد. لكنه الأحدث، بل هو فائق الحداثة، ولم أجد له شبيهاً في كل المدن الجامعية في الجزائر، مما جعلني أقول: هذه المدينة الجامعية في قسنطينة لا نظير لها. باختصار، بفضل الجديدي أمكنني أن أزور غير معلم أثري رائع أو مشهد طبيعي ساحر أو انجاز عمراني خارق. لم أكن أتخيّل أن أقضي ثماني ساعات في رحلة العودة من بسكرة إلى قسنطينة. لكن روعة المشاهدة تمحو المتاعب والمشاق. لذا قلت مَن لا يرافق الجديدي لا يفوز بمتعة الزيارة. بل أجدني أقول وسط ما لقيتُ منه ومن أسرته من الحفاوة ومشاعر الود، بأن معرفتي بالجديدي، صديقاً عزيزاً وكاتباً فيلسوفاً، هي من أجمل مصادفات حياتي.
* * *

الجزائر أرضاً للفلسفة

الشغف
لمستُ في كل اللقاءات التي شاركت فيها أو أدرتُها، سواء في قالما وسطيف وبجاية أو في قسنطينة وبسكرة، ثم في الجزائر العاصمة، اهتماماً فائقاً بالشأن الفلسفي. تجلى ذلك في الحضور الكثيف، حيث كانت المدرجات أو القاعات تغصّ، في كل جلسة، بالطلبة الذين أتوا للمشاركة، يحرّكهم قلق الوجود وشغف المعرفة. وتجلى، ثانياً، في العروض الغنية التي قدِّمت في الملتقيات والجلسات بمحاورها وإشكالياتها، أو بالمناقشات الخصبة التي كانت تعقب المداخلات بأسئلتها المربكة التي تفتح الباب واسعاً، لإعادة التفكير في ما طُرح من أفكار أو قُدِّم من معالجات للمشكلات المثارة.
أذكر، أن لقائي في جامعة سطيف استغرق نحو أربع ساعات، ولم تتوقف المناقشة لأن البحث عن الحقيقة، في أي مسألة، لا ينتهي ولا يكتمل. من هنا يغادر الباحث هذه الدنيا وفي نفسه شيء مما كان يبحث عنه. ثمة جانب ثالث يتجلى فيه الاهتمام بالدرس الفلسفي، هو كثرة الأطروحات الجامعية والدراسات الفكرية التي يعدّها ويؤلفها جزائريون، ويُنشر أكثرها في دور النشر اللبنانية. وإذا كانت الجزائر قد تأخرت بسبب محنتها، في العقد الإرهابي الأسود، فإنها تحاول تدارك ما فات. فالعاقل هو الذي يحوّل المِحن والأزمات إلى حقول للدرس والتحليل، لاستخلاص الدروس والعبر، وفتح ممكنات جديدة للتفكير والتدبير، بابتكار ما هو صالح وفعّال من المعادلات السياسية والتسويات المجتمعية، أو من نماذج التنمية وصيغ للعيش.
بالطبع، هذا ما يُنتظر من الأجيال الجديدة، من الأساتذة الذين نظّموا الندوات وقدّموا العروض والمداخلات، أو من الطلاب الذين يعدّون الدراسات والأطروحات: أن تتحول الجزائر إلى أرض للفلسفة: ترجمةً وتصنيفاً، انتاجاً وابداعاً.

وطن آخر
من سعادة المرء أن يكون موضع احتفاء أو تكريم، تقديراً لجهوده في مجال عمله، من جانب الوسط الثقافي، والأكاديمي بشكل خاص، حيث يستقبله رئيس الجامعة أو يشاركه الندوة مدير الكلية أو يقدّمه رئيس القسم. هذه حالي كلما أتيتُ إلى الجزائر يحرّكني الشوق للالتقاء بأصدقائي القدامى، كما يحدوني الأمل للالتقاء بأصدقاء جدد ممن أشاطرهم هموم الثقافة ومشاغل المعرفة. أشعر في الجزائر بأنني في البلد الذي أُقرأ فيه أكثر من أيّ بلد آخر. وإذا كانت الجزائر، شأنها شأن أيّ بلد عربي آخر، وطناً ثانياً لي، فهي وطن أول على المستوى الفكري. الكاتب إنما وطنه حيث تنتشر نصوصه وتُقرأ، أو حيث تشكل اعماله مادة لكتابة الأطروحات الجامعية، أو حيث أدواته المنهجية تُستثمر في كتابة الدراسات الفلسفية أو النقدية، حول كبار الأدباء والمفكرين.
في الجزائر يصدر كتاب عن أعمالك الفلسفية لأكاديميين وكتّاب، في إشراف الفيلسوف الجزائري محمد شوقي الزين. هنا لا يسعني إلا أن أذكر الدكتورة جويدة غانم التي شاركت في هذا الكتاب بمقالة عنوانها “مطارحات العقلانية النقدية في فكر علي حرب”، وكانت من أوائل الذين كتبوا أطروحة جامعية عن أعمالي. وقد التقيتُ بها في بيروت أثناء تحضيرها لأطروحة الدكتوراه، في أحد معاهدها، وهي بعنوان “المنظور النقدي لخطاب ما بعد الامبريالية”. جويدة هي الآن أستاذة في جامعة عنابة، المدينة التي أسفت لعدم زيارتها إذ لم تكن مدرجة في برنامج الزيارة. في الجزائر، فيما أنت تشارك في أحد الملتقيات، تتحدث إحدى المشاركات عن مشروعك النقدي للمثقف، كما فعلت الأستاذة سميرة مرابطين التي تعدّ أطروحة في هذا الخصوص. وفيها تأتي شاعرة وأستاذة أدب، هي السيدة لطيفة حرباوي، لكي تستمع إلى محاضرتك في مدينة بسكرة، وبعد انتهاء المحاضرة تتعرف إليك حاملةً هديةً ديوانها الجميل: “لا شمس على مقاسي”.
هل أنا أبالغ؟ ربما. إذ في الجزائر يقرأك الواحد ويعترف بما يقتبسه أو يفيده، على عكس ما يجري في لبنان، وفي بعض بلدان المشرق، حيث القاعدة ليست الاعتراف، بل السطو على الأعمال والتفنن في إخفاء أعمال السرقة. فالواحد (أو الواحدة) يضع كتابك أمامه يأخذ منه ما شاء له من المقولات والصيغ والعبارات، ثم يستشهد بغيرك أو يهاجمك. فتحية إلى الجزائر من العقل والقلب.

الرئيس يقرأ
في العام 2004 أتى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى بيروت، ليشارك في المؤتمر الذي عقدته “مؤسسة الفكر العربي،” بدعوة من رئيسها الأمير خالد الفيصل، بالطبع في حضور رؤساء لبنان الثلاثة وجمع من الشخصيات السياسية والثقافية. وكانت للرئيس بوتفليقة كلمة تحدث فيها كسياسي معني بالشأن الثقافي، الأمر الذي حملني على أن أقدّم له عبر السيدة خليدة التومي، وزيرة الثقافة الجزائرية يومئذٍ، نسخة من كتابي “العالم ومأزقه”، بالطبع مع كلمة الإهداء التي تليق بمقام الرئيس وتعرّف بالكتاب بوصفه محاولة في الفكر التداولي.
بعد شهور يصلني، عبر الأستاذ فرحان صالح الذي يتردد كثيراً على الجزائر، مغلّفاً من رئاسة الجمهورية، يحتوي على رسالة من الرئيس بوتفليقة تقع في ثلاث صفحات، وفيها يعلّق على الكتاب ويبدي رأيه بالأزمة العالمية، ثم يشكرني على أن أهديتُ إليه كتابي، متمنياً لي أن أواصل جهودي الفكرية، موقّعاً رسالته بتواضع لا يُعهد عن الرؤساء: أخوكم عبد العزيز بوتفليقة. إنها كانت التفاتة كريمة من جانب الرئيس الجزائري، إذ من النادر، في العالم العربي، وربما في العالم، أن يُهدى رئيس كتاباً يقرأه أو يعلّق عليه. وهي تشهد بأن الرئيس الجزائري أولى الشأن الفكري ما يستحقه من الاهتمام.

الانجاز
تشهد الجزائر انجازات لا يمكن المراقب أن يتغاضى عنها أو لا ينوّه بها، إلا إذا كان ذا بصيرة حولاء. يتبدى ذلك في غير مظهر عمراني، من الجسور والأنفاق والسدود، إلى الأوتوسترادات التي تغطي الجزائر طولاً وعرضاً، بالمئات أو بالآلاف من الكيلومترات، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.

المدن الجامعية
أتوقف عند المدن الجامعية، التي تبنى، في العاصمة، وبخاصة في عواصم الولايات، وهي مدن حديثة، أقيمت خارج المدن القديمة، على أراض فسيحة لكي تشكل عالماً قائماً بذاته، بأبنيتها وتجهيزاتها، بفضاءاتها ومساحاتها الشاسعة، من بيوت الطلبة إلى قاعات الدرس، ومن المخابر العلمية إلى المدرجات الواسعة، ومن مقر الرئيس أو العمداء إلى المباني التي تضمّ الكليات والأقسام والشعب. لا أبالغ إذ أشهد أن المدينة الواحدة تكاد تعادل منطقة الحمراء في رأس بيروت. هذا ما شاهدته من قبل في مستغانم وتلمسان ووهران، ثم في غالما وسطيف وبجاية، وخصوصاً في قسنطينة.

المكسب
بالإضافة إلى الإنجاز، هناك المكسب الذي يتمتع به الطالب الجامعي. إذ هو ينتقل إلى الجامعة مجاناً، عبر الحافلة، إذا كان بيته لا يبعد أكثر من خمسين كيلومتراً. وإلا في وسعه الإقامة في بيت الطلبة، وفي وسعه أيضا أن يتناول الغداء بما لا يكفي لشراء علبة كبريت. هذا المكسب لا نظير له، لأي طالب عربي، باستثناء دول الخليج، التي هي أصلاً استثناء من حيث قلة سكانها وثرواتها الهائلة. لهذا كنتُ منذ زيارتي السابقة، أشارك في إحدى الندوات، بمدينة مستغانم، خاطبت الطلبة بقولي: لا عذر لكم بعد الآن، فالعدّة موجودة والشروط متوافرة، ولستم بحاجة إلى استئجار زورق الموت للذهاب إلى أوروبا الغارقة في أزماتها. في إمكانكم العمل هنا، بالاستفادة من الخبرات التي يقدّمها الصينيون والبرازيليون في النهضة العمرانية.
كلما أتيت الى الجزائر أكتشف، أكثر فأكثر، أنها تملك ثروات هائلة، هناك الساحل الممتد من الغرب إلى الشرق بشطآنه الجميلة، كما أتيح لي مشاهدتها، من قبل، في مستغانم ووهران، وكما رأيتها بأمّ العين في بجاية، وفي مدينة جيجل بشكل خاص. وهناك المنطقة الخضراء بسهولها الفسيحة ومروجها الأخّاذة. وهناك المناطق الجبلية العالية بقممها وغاباتها. ولا أنسى الصحراء بنفطها ومناجمها ونخيلها وواحاتها… لكل منطقة من هذه المناطق جمالها وسحرها وغناها. من هنا أرى أن الجزائر بكنوزها ومواردها تكفي من الحاجات لأضعاف سكانها، إذا ما استثمرت هذه الموارد بتشغيل العقول وإطلاق الطاقات الحية. هذا محتاج إلى اعتماد استراتيجيا جديدة في النهوض والإصلاح والإنماء، تتغير معها الأوضاع من غير وجه:
– أولاً: لجهة تحول المجتمع في الجزائر إلى مجتمع منتج وفعال، غني وقوي، بحيث يفكر الجزائري في الإفادة من الخبرات التي يقدّمها الصينيون وسواهم من الذين يبنون المدن الجامعية والفنادق والأوتوسترادات والجسور أو السدود. صحيح لا أحد يستغني، اليوم، عن الآخر، أو يكفي نفسه بنفسه، ولكن ذلك لا يعفي الجزائريين من حمل المسؤولية، بحيث يكون لهم القسط الأكبر في الورشة القائمة الآن.
– ثانياً: تطوير العمل الإداري المتعلق بالحياة اليومية للمواطن. فأنا ما أتيت مرةً إلى الجزائر إلا وتأخرت الطائرة ساعة أو حتى ساعات. المنتظر أن تتحول الدولة إلى مؤسسة فعالة، بقدر ما تنجح في محاربة آفة هدر الجهد والوقت والمال، باستخدام الأحدث والأسرع من الأساليب والوسائل في إدارتها للشأن العام، وخصوصاً أن العالم يدخل اليوم في الزمن المتسارع للحداثة الفائقة التي تتطلب الإنتقال من الثقافة الإيديولوجية والنظام البيروقراطي العمودي إلى الثقافة الديموقراطية، الأفقية والتبادلية.
– ثالثاً: لجهة أعمال التنمية، بحيث تخترع الجزائر نموذجها في هذا الخصوص، لكي تحسن استثمار مواردها الهائلة، وعلى نحوٍ يؤدي إلى تحسين مستوى العيش للجميع، وذلك بابتكار الجديد، البناء والفعال، من المفاهيم والصيغ أو القيم والقواعد.
– ثمة جانب آخر أصبح اليوم محطاً للنظر، هو أن تكون الجزائر، مستقبلاً، مستعدة، ليس فقط لاستثمار الموارد، بل لخلقها، وخصوصاً أن الكثيرين من فلاسفة الاقتصاد والتنمية يقولون لنا بأننا تجاوزنا الثورة الصناعية الأولى لعصر البخار، كما تجاوزنا الثورة الصناعية الثانية لعصر الكهرباء، لأننا أصبحنا على أبواب ثورة ثالثة، قد نستغني فيها عن النفط ومشتقاته، بقدر ما نشتغل بخلق شبكات للطاقة تعمل على تدويرها وإعادة استخدامها.

الإصلاح والثورة
أعتقد أن الجزائر أخذت تكسر منطق المنظومة الإيديولوجية الثورية والحديدية التي تشتغل بالقولبة والتدجين والتطويع. ويؤمل أن تخرج من هذه الحقبة، نحو منطق العلاقات الأفقية المفتوحة، حيث المجتمع هو شبكة تأثيراته المتبادلة وعلاقاته المتحولة باستمرار.
هذا ما تبيّن لي. تسير الجزائر في طريق الإصلاح وحسناً تفعل، لأن الثورة ليست مطلوبة لذاتها. وإنما تحصل في حال الاحباط واليأس من الإصلاح. حتى في المجال السياسي ثمة هامش للحرية في الجزائر، كما يتبين من النقد اللاذع والساخر الذي توجهه الصحافة لسياسة الحكومة ولتصرفات الوزراء. هذا الهامش لم يكن متاحاً في الدول التي انفجرت فيها الثورات العربية، حيث النظام الأمني كان يحصي على الناس الأنفاس، كما كانت الحال في سوريا وتونس وليبيا.
ليس من الحكمة أن ينخرط الواحد في استخدام العنف الثوري لتغيير النظام في بلده، إذا كان ذلك قد يدخله في المجهول، ولا سيما في هذا العصر، حيث نعرف متى تبدأ جولات العنف، ولكن لا نعرف متى تنتهي، إذ عند ذلك يأتي جميع اللاعبين الكبار من الخارج لكي يلعبوا على أرضه، ويحولوها إلى ساحة صراع أو إلى ورقة للمفاوضة أو إلى كعكة لتقاسم الغنيمة.
فلا نكرّرنّ التجارب الفاشلة التي اطاح أصحابها المكاسب، بسبب التهويمات الطوباوية والتشبيحات الإيديولوجية، من جانب المنظّرين، قوميين أو يساريين أو إسلاميين. لهذا يؤمل أن تستمر الجزائر في أعمال الإصلاح والتحديث، بصورة متدرجة، خطوة خطوة، أو قفزة قفزة. فلا ننتظرنّ المعجزة من زعيم أوحد أو بطل منقذ أو داعية مشعوذ. هذه العملة قد تهاوت ودفعت الشعوب أثمانها الباهظة مساوئ ومفاسد وكوارث.

مقتل القضايا
وقد ضربت بلدي مثالاً. فهو كان الملجأ والملاذ والمنبر، للهارب من جور حكومته أو من فقر مجتمعه. مع ذلك كان جيلنا، بسبب العمى الإيديولوجي والتشبيح الثوري، لا يرى المكاسب، فانخرطنا في مشاريع التغيير والتحرير، بعقلية مثالية، طوباوية، نخبوية، بقدر ما قدّسنا القضايا والعناوين حول المقاومة والوحدة والإشتراكية والعدالة. وكانت النتيجة أن انفجرت الحرب الأهلية عام 1975، وهي لم تنته فصولها بعد، بدليل أن لبنان قُبض عليه من جانب الأحزاب السياسية والمنظمات العسكرية المدعومة أو المُسّيرة من جانب الأنظمة العربية أو الإقليمية، مما منع لبنان من أن يعود إلى وضعه الطبيعي، كبلد آمن، مستقر، مزدهر.
الأدهى من ذلك أن الأحوال عادت إلى الوراء، في ما يخص المشكلة الطائفية. فبينما كان هناك من قبل، نوعٌ من التعايش السلمي بين عقلية الطائفة وفكرة المواطنة، في انتظار أن تعلو الثانية على الأولى، تحولت الطائفية إلى مشروع خلاص ونظام حماية لأتباعها في كل طائفة، ولا سيما بعد انفجار الحروب الأهلية في بلدان المشرق العربي بين أصحاب المذاهب الإسلامية.
بذلك تحولت التركيبة المجتمعية، بتعدد مكوّناتها وأطيافها، إلى مصدر للصراع الدائم، مما جعل لبنان يتردد، منذ أربعة عقود بين الحرب والسلم، بين هدنة أو فتنة تطول أو تقصر، وخصوصاً أن ساسته وزعماءه أخفقوا في إدارة الشأن الوطني، إذ لم يعملوا بوصفهم مسؤولين عن بلد أو وطن، بل تصرفوا كأمراء لطوائفهم يتنازعون على الحصص والمكاسب، أو كوكلاء لمرجعياتهم الخارجية العربية أو الإقليمية. هذا في حين أن التعدد هو مصدر غنى وقوة، فيما لو تمت إدراته بعقل تداولي مركّب يُحسن أصحابه عمل الجمع والتأليف، للقوى والعناصر والوسائل، بقدر ما يعملون بمفردات الإعتراف والشراكة في المصير وبحس المسؤولية الوطنية، بحيث لا يكون همّ الحاكم منصبّاً على بقائه في السلطة أو على استغلالها لجمع الثروة، بل العمل على تحسين شروط العيش للكافة، وخصوصاً لمَن هم الأقل حظاً في الثروة والسلطة والمعرفة، فيما هم يشاركون على قدم المساواة، مع الجميع، في أعمال الإنتاج والبناء والإنماء. وتلك هي إشكالية العدالة. ما يصدق في لبنان يصدق في الجزائر وفي كل البلدان ذات التركيب المتعدد. فتقديس القضايا وطرح الشعارات الكبيرة على حساب المطالب المعيشية للناس، والعودة عن منطق الدولة والمواطنة والمصلحة العمومية، للإشتغال بلغة الطائفة أو القبيلة أو الإثنية أو الطغمة أو الجهة، مآله تدمير مكتسبات الحداثة وخنق آمال المجتمعات العربية في صنع حياتها وبناء مستفبلها، بصورة سوية، مدنية، ديموقراطية، نامية، متطورة.

قضايا مصيرية
هنا أثير اعتراض، من جانب الدكتور رشيد دحدوح، مدخلهُ القضية الفلسطينة التي لا يزال يعتبرها قضية العرب الأولى. وكانت لي مداخلة معه من نقطتين: الأولى أن القضية الفلسطينية لم تعد كما كانت عليه، في بدايتها عند إنطلاق المقاومة الفلسطينية في نهاية عقد الستينات من القرن المنصرم. لقد تراجعت هذه القضية في سلّم الأولويات القومية على وقع الحروب الأهلية العربية التي تعمل، بدعم من قوى إقليمية ودولية، على تفكيك وتدمير غير بلد عربي، لإعادة رسم خريطته السياسية والسكانية، بتهجير ملايين الناس من ديارهم، وكما يجري في سوريا والعراق بشكل خاص. هذا واقع جديد لا يمكن القفز فوقه: كنا نريد تحرير فلسطين، فإذا بنا أمام نكبات وكوارث واحتلالات جديدة أكثر فداحة وضرراً. ولا شيء بعد الحدث الكبير يعود كما كان عليه. لذا لا مهرب من قراءة الوقائع والتطورات التي تغيّرت معها المعطيات، لإعادة صوغ الرؤى ورسم الاستراتيجيات.
هكذا يدخل المشرق العربي في طور جديد لا توجد فيه قضية مركزية واحدة لبلد دون سواه. ثمة قضايا عديدة هي كلها مركزية ومهمة، وخصوصاً أن مَن كان يعدّهم الفلسطينيون والعرب، بحكم الأخوّة في الدين، داعمين لتحرير فلسطين، قد أسفروا عن مشروعهم العدواني: التوسع في العالم العربي على شكل غزو واحتلال أو تدخل وتخريب. بهذا المعنى نحن ننتقل من القضية المركزية الفلسطينية الواحدة الى القضايا العربية المصيرية المتعددة، وكلها تشهد على أن العالم العربي مستهدف من طرف كل اللاعبين على مسرحه، أكانوا من الأقرباء والحلفاء أم الأصدقاء والأعداء.
أما النقطة الثانية فأساسها الفرق بيني وبين الدكتور رشيد دحدوح. فهو كجزائري لا يزال ينظر الى الثورة الفلسطينية من بُعد. أما أنا فقد عايشت القضية، وخصوصاً أنني كنت من أشد المتحمسين لها بالموقف والكلمة. مَن يختبر الشيء ليس كمَن لا يختبره، تماماً كما أنه لا شيء يعود كما كان عليه بعد التجارب المريرة.
هذا ما حصل بعد دخول منظمة التحرير الفلسطينية الى لبنان، حيث أقام ياسر عرفات دويلته، كما اعترف في ما بعد، على حساب أمن لبنان ومصالحه ووحدته، كبلد مستقل وآمن، الأمر الذي مزّقه شر تمزق وحوّله الى ساحة سائبة ومفتوحة لكل متدخل أو مشعوذ.
المهم هنا أن العمل إنطلاقاً من لبنان قد فجّر الحرب الأهلية، ولم يفد القضية الفلسطينية التي انشغل أهلها بالصراعات على الساحة اللبنانية، سواء بين المنظمات الفلسطينية نفسها، أو بينها وبين الأحزاب اللبنانية المعارضة لوجودها على أرض لبنان، أو بينها وبين الأنظمة العربية التي أرادت ممارسة الوصاية عليها وتطويعها. من المفارقات أن منظمة التحرير الفلسطينية خرجت من بيروت على يد إسرائيل عام 1982، لتخرج بعد أعوام من طرابلس على يد النظام السوري.
الدرس الذي استخلصه من قراءتي للتجربة، أن شقيقك قد يتسلط عليك ويتحكم بك، إذا ما فوّضت له أمرك، وكما هو سائد حتى الآن في العالم العربي، حيث العلاقات، سواء بين الدول أو بين الأحزاب أو بين الطوائف، لا تحكمها قواعد الديموقراطية والمصلحة المشتركة، بل منطق الصراع والقوة أو مشاعر الخوف وعدم الثقة. هذه هي الحال السائدة بين الفلسطينيين. فهم على توالي مصائبهم لا يرحمون بعضهم بعضاً، كما شهدت النزاعات الدموية بين “فتح” و”حماس” على أرض فلسطين، وكما تشهد الإشتباكات المسلحة التي تنفجر بين الفترة والأخرى، بين المنظمات، لكي تعبث بأمن المخيمات في لبنان وتروّع ساكنيها، إما بسبب الصراع على النفوذ وإما تنفيذاً لأجندات خارجية.
ثمة درسٌ ثانٍ يستفاد من التجربة، هو أن القضية الفلسطينية لا تخدمها الأنظمة والدول التي تدّعي دعمها من غير اقتناع، أو التي ترفع شعار المقاومة كذريعة لاكتساب المشروعية، أو كغطاء للتشبث بالسلطة وغنائمها. مَن يخدم القضية هم أهلها في الدرجة الأولى. لذا هي لا تفلح ولا تتقدم إلا على أرض فلسطين، حيث يكون العمل المقاوم هو الأكثر جدوى وفاعلية، والأكثر إحراجاً وفضحاً لمنطق إسرائيل الإستيطاني والعدواني. هذا ما تثبته الإنتفاضات التي تبتكر كل مرة أشكالاً جديدة من المقاومة، بموجاتها المتلاحقة، المفاجئة وغير المتوقعة .
إنطلاقاً من ذلك، أدعم القضية الفلسطينية على أرضها، كما أدعم الثورة السورية أو اليمنية على أرضها، وكذلك الأمر في كل قضية أعتبرها محقة ومشروعة وانسانية. في المقابل، لا أدعو الى قيام ثورة في البلد الذي لا يثور أهله، لأنهم أولى بهذه المهمة.
الدرس الآخر المستخلص هنا أن لبنان، هذا البلد الصغير، ذا التركيب الطائفي المتعدد، قد مزّقته الصراعات العربية والتدخلات الخارجية والقضايا الفرعية التي تخص هذه الطائفة أو تلك الجماعة. لا يعني ذلك أن لبنان يتخلى عن ميزته كمساحة لحرية التفكير والتعبير، وإنما يعني أن لا يتحول الى منطلق للأنشطة السياسية والعسكرية، دعماً لقضايا وأنظمة ينوء بحملها. لقد أتخمنا قضايا خاسرة ومغامرات كارثية تتم لحساب الأشقاء والأعداء، ولكن على حساب لبنان. فهل يتعظ اللبنانيون ويتعلمون أم فات الأوان، وأصبح الإنخراط في الحروب العربية والإقليمية والدولية هو الاولى؟ هكذا يفكر بعض اللبنانيين الذين يعتقدون أن الفوز في حروب الخارج يترجم مكاسب في الداخل. لكن مثل هذه القاعدة لا تعني إلا تفكيك لبنان مقدمةً لإلغاء دوره وتجريده من ميزته، إن لم يكن زواله، مما يعود وبالاً وخسراناً على الجميع.

الاستعمار
من المسائل التي كانت مثاراً للنقاش، علاقة الجزائر بفرنسا. هنا كان رأيي أن علاقة سوية، تبادلية، بين الجانبين، لا تبنى بلغة الذاكرة أو بعقلية الضحية. فالضحايا إذا لم يحسنوا الاشتغال على ذاكرتهم لتحويلها بصورة إيجابية، يتحولون إلى جلاّدين أو ظالمين أو إرهابيين. كما تشهد تجارب الجماعات التي تعرضت للإضطهاد والإبادة. من هنا فالدرس المستخلص: لا لديكتاتورية الضحايا. لا لممارسة الإبتزاز والإرهاب باسم الضحايا، أو ممّن يتلبسون دور الضحية. في المقابل لا تبنى العلاقة، من جهة فرنسا، على عقدة الدولة الامبريالية التي خرجت مهزومةً من الجزائر، بحيث تتصرف كدولة متقدمة، يمكن أن يفاد من علومها ومعارفها وخبراتها. في الجواب على الذين يقولون بأن فرنسا لا تزال تحاول اللعب على الانقسامات الاتنية في الجزائر، كان ردّي أن فرنسا إذ تفعل ذلك، فإنما تلعب بالنار. فالأولى بها أن تهتم بمشكلاتها المتراكمة.
في ما يخص المكوِّن الأمازيغي، ما أراه أن الحل لا يكون بمنطق الضحية، ولا سيما أن البشر ينخرطون اليوم في واقع معولم يتيح تشكيل هويات متعددة اللغة والجنسية والإقامة. لنحسن تشخيص الواقع حتى نحسن معالجته. فلا وجود لهويات صافية أو لمجتمعات تخلو من التنوع والاختلاف والتعارض، لأن ذلك هو الأصل.
مَن يتعامل مع هويته، فرداً أو جماعة، بوصفه ذلك الثابت الذي يتماهى مع ذاته أو يتساوى مع نفسه، إنما تهمّشه المتغيرات ولا يحسن سوى إنتاج مأزقه وتخلفه. ومَن يعتقد أنه يجتمع أو يتّحد مع غيره، لأنه يشبهه تمام الشبه، لا ينتج إلا وحدة فقيرة، ملغمة، تنتظر ساعة الانفجار. إن الوحدة الناجحة والقوية، هي التي يعترف أهلها باختلافاتهم، السياسية أو الاثنية أو الدينية أو الجهوية، لكي يشتغلوا عليها ويقوموا بتحويلها، بصورة بنّاءة ومثمرة، بقدر ما يتعاملون معها بلغة الحوار والشراكة والمبادلة. والهوية الحيوية.
هويتنا ليست وراءنا، عبئاً نحمله أو إسماً يستعمرنا أو أصلاً يستعبدنا، إنما هي أمامنا، أي قدرتنا على أن نتحول، بإتقان لغة الخلق والفتح والبناء، لكي نمارس حيويتنا الوجودية ونشارك في صناعة الحضارة العالمية.

المهدي المنجرة: المعلومة والسيادة..

عن كتابه : قيمة القيم

إن أكبر تحول على مستوى تطور الإنسانية يخطو أولى خطواته ؛ ويتعلق الأمر بتحويل الحضارة الصناعية إلى حضارة للمعرفة والمعلومة . صحيح أن بذور هذا التحول يتم الإحساس بها حاليا بشكل كبير في البلدان الرائدة في مجال التصنيع ، تلك الدول التي تولي أهمية استراتيجية للبحث العلمي والتكنولوجيات الدقيقة ( المعلوميات ـ التيليماتيك ـ الروبوتيك ـ البيوتكنولوجيا ـ هندسة الوراثة ـ الكيمياء الجزيئية ) ، وتخصص له قرابة 3 % من ناتجها الوطني الخام (PNB) ، غير أن بلدان العالم الثالث اليوم التي لا زالت تضم بين ظهرانيها مليارا من الأميين وتصرف أقل من 3 %  من ناجها الوطني الخام الضعيف على البحث والتنمية ، تتحمل هزات هذه الثورة ، أي ثورة المعلومة .

إن الهوة في ما بين البلدان المصنعة وتلك السائرة في طريق النمو تقدر اليوم بنسبة 1 إلى 20 ، ويعتقد أنه من الممكن أن تصل إلى نسبة 1 إلى 50 من الآن وإلى حدود سنة 2000 ، وذلك بشكل أساسي بفعل التغيرات البنيوية التي تطال النظام الدولي باعتبارها عواقب للتأثيرات السياسية والاقتصادية والسوسيوـ ثقافية للتكنولوجيات الجديدة ، وبخاصة تكنولوجيا المعلومة.

إن ثورة المعلومة هاته تضر بشكل لا محيد عنه بمحتوى المفهومين اللذين يشكلان موضوع مناظرتنا هاته ؛ أي « الإمكانيات الاقتصادية والسيادة » ؛ فالإمكانات الاقتصادية لبلد ما لم يعد من الممكن أبدا اختزالها في الشروح التي نجدها في المختصرات والكتب المدرسية المتعلقة بالجغرافيا والاقتصاد السياسي . إن الموارد الطبيعية تظل دوما معطى هاما ، لكن ما أضحى أكثر فأكثر  حيوية منها هو الموارد البشرية والمعلومة والبحث العلمي ؛ فبدون هذين الأخيرين يستحيل الإعلاء من قيمة الإمكانات الاقتصادية حتى تؤدي إلى تقدم حقيقي ، فتنمية بلد ما ليست مشابهة لعملية حرث حقل من القمح ، إذ هي تمر أكثر من أي وقت مضى عبر تنمية الإنسان وعبر التحكم الاجتماعي في مبتكراته ، وهذا يتلاءم تماما مع أنظمة القيم في المجتمع الإسلامي ومقاصد الإسلام التي تفرد للشخص الإنساني المكانة الأولى والمقام الرفيع.

إن الإمكانيات الاقتصادية لبلد ما هي متمثلة باذئ ذي بدئ في الناس الذين يعمرون هذا البلد ، ولقد ميز الله الإنسان عن الحيوان والنبات عندما حباه بنظام داخلي للإعلام جد معقد يمكنه من الحلق والتفكير والتطور والانتعاش وإصدار الأحكام ، وكل هذا يختزل في نهاية المطاف إلى أن معالجة المعلومات تتطلب عنصرين أساسيين اثنين : المعلومة ذاتها والألغوريتمات التي تعطي بنية ومعنى لهذه المعلومة. إن مصادر المعلومة هي الملاحظة والإدراك والبحث والذاكرة الطبيعية والاصطناعية ، أما الألغوريتمات فهي نتاج العقل والتجربة والحدس والإبداع والخيال والإيمان ، والكتب المقدسة هي منابع للألغوريتمات بالنسبة للمؤمنين من الناس.

إن التقدم الاقتصادي لم يعد مرهونا اليوم باستغلال الموارد المادية وحدها ، لأنه أضحى مرتبطا أكثر بمعالجة المعلومة وبالمعرفة ، فهل تواجدت الإمكانيات الاقتصادية لليابان في سنة 1983 مختزنة في أراضيها ؟ .. إن العالم الثالث يضم عددا كبيرا من البلدان الغنية بالموارد الطبيعية ، لكنها بلدان فقيرة من حيث المعرفة ، وبالتالي فهي بلدان متخلفة . إن لدى إفريقيا من إمكانات اقتصادية هائلة ( بالمعنى التقليدي للكلمة ) ، وذلك بالنظر إلى غنى مواردها الأولية ، غير أنها تظل القارة الأكثر فقرا على مستوى البسيطة. وإذا ما ذهبنا أبعد قليلا بالنتائج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللازمة عن ثورة المعلومة هاته ، فإننا سنفهم بسهولة لماذا أضحى محتوى مفهوم السيادة عرضة للتغيرات في أيامنا هاته.

إن قطاع المعلومة الجديد والمعرفة والخدمات في البلدان المصنعة يمثل اليوم 56 % من الناتج الوطني الخام ببلدان أوربا العشر ، ويشغل 54 % من الساكنة النشيطة بالولايات المتحدة ، لذا فإن الإحصائيات الكلاسيكية المتعلقة بالتجارة الخارجية ، والتي لا تنسحب على ما نسميه الصادرات الخفية ، تجعل التحليل المتعلق بالتجارة الدولية تحليلا مغلوطا ؛ فالولايات المتحدة تعاني ، حسب هذه الإحصائيات ، من عجز في ميزانها التجاري مع اليابان ، وهذا ليس صحيحا ، وذلك لأن اليابان في السنة الأخيرة عرفت عجزا على مستوى الصادرات ” الخفية ” يوازي 18 مليارا من الدولارات على صورة خدمات مستوردة بالأساس من الولايات المتحدة .

إن النظرية الاقتصادية في أزمة ، والتحليل الاقتصادي فقد البوصلة ، فبنيات النظرية الاقتصادية العقلية تجد صعوبة في تصور واستيعاب عواقب ثورة المعلومة هاته ، فهل نعلم أن تكنولوجيا واحدة من تكنولوجيات المعلومة ، كالتكنولوجيا المتعلقة باستعمال الألياف البصرية في مجال الاتصال ، ستخفض صادرات النحاس قبل سنة 1990 بنسبة 40 % .. وأن التطورات التي يعرفها علم الوراثة البيولوجي والبيوتكنولوجيات ستمكن البلدان الصناعية من الاستغناء عن صنف بأكمله من الموارد النباتية التي تستوردها من بلدان العالم الثالث ؟ .. وما ذا نقول عن استغلال الموارد البحرية ؟ .. كل هذا هو نتاج ثورة المعلومة . بدون تكنولوجيات المعلومة لم يكن بإمكان التكنولوجيات الدقيقة الأخرى أن ترى النور ، وهي تتوقف عن الوجود حالما نسحب تكنولوجيات المعلومة من الميدان .

إن البلدان الصناعية لا تشكل فريقا متجانسا في مواجهة التحولات الجارية حاليا ، لذلك فإن ريكاردو بيتريلا ، وهو موظف سام بالاتحاد الأوربي يقول : ” إن صورة العالم التي يمكننا ، نخن الأوربيين ، أن نصنعها لأنفسنا من خلال النظر فقط إلى نتائج وعواقب تكنولوجيات المعلومة الجديدة ، هي صورة مجتمع عالمي يتهدد بلدان المجموعة الأوربية فيه خلال 20 سنة القادمة خطر أن تضع بقاءها على الحياة في خطر باعتبارها اقتصادات صناعية مستقلة ” (1)

وإذا كان هذا ممكنا على مستوى بلدان أوربا العشر ، فماذا سيكون عليه حال بلدان العالم الثالث التي ليست لحد الآن بلدانا مستقلة اقتصاديا أو صناعيا بشكل حقيقي ؟ .. هل هو تعميق التبعية ؟ .. إزاء من ؟ .. إن هذه ليست أسئلة نظرية ، بل هي في صلب موضوعنا .

في عالم تتطور فيه المعرفة العلمية بشكل حثيث وهائل ( حجم المنشورات العلمية سنة 1984 سيكون مساويا لكل ما نشر ما بين عصر النهضة وسنة 1976 ) هل يمكن الحديث عن الإمكانات الاقتصادية من خلال تقدير كمية الاحتياطيات التي تختزنها الأرض فقط ، وخجم المجاري المائية وعدد السدود ومساحة الأراضي الزراعية وعدد رؤوس الماشية وعدد الليالي التي قضاها السياح بالفنادق وكذا معدل تزايد السكان ؟ ..

الجابري: الهوية “الأقوامية”… ومسألة “العروبة”

لم يختلف وضع الهوية العربية كثيراً على عهد الخلافة العثمانية عنه زمن العباسيين. فالهوية الجامعة على مستوى الإمبراطورية بقيت هي الثقافة العربية الإسلامية التي لم يتغير وضعها كثيراً بعد سقوط الدولة العباسية. نعم، لقد افتقد العثمانيون “النسب” العربي الذي كان يستمد منه الخليفة العباسي بعض شرعيته، كما أنهم احتفظوا بلغتهم فلم يتعربوا، لا على مستوى أجهزة الدولة ولا مستوى الثقافة، وبالمقابل لم يحاولوا فرض لغتهم على الشعوب العربية. لقد كانوا يستمدون شرعيتهم من رماحهم: لا الرماح الموجهة إلى الممالك الإسلامية التي كان يتشكل منهما ما عرف بـ”دار الإسلام”، بل الرماح المتجهة صوب “الكفار” في أوروبا. وقد نجح الأتراك العثمانيون في تثبيت شرعية إمبراطوريتهم من خلال استئناف “الفتح الإسلامي” في ذلك الاتجاه، خصوصاً بعد تمكنهم من القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية البيزنطية) سنة 1453، بعد أن كانت قد استعصت على الأمويين والعباسيين. وهذا ما منحهم في نظر فقهاء الإسلام مكانة خاصة.

وبما أن الأتراك العثمانيين لم يكونوا يحملون معهم موروثاً إسلاميّاً خاصّاً، وبما أنهم كانوا يجهلون اللغة العربية، فقد وقع في عهدهم نوع من الانفصال -ولا أقول القطيعة- بين طرفي الزوج الإيديولوجي الذي “سيولد” في أواخر عصرهم: أقصد زوج “العروبة والإسلام”. لقد كان الخليفة العباسي يستند في شرعيته القومية إلى كونه عربي النسب، وفي شرعيته الدينية إلى كونه من سلالة العباس بن عبدالمطلب عم النبي محمد عليه الصلاة والسلام. أما في العهد العثماني فقد استحدثت مؤسسة دينية خاصة هي “مؤسسة شيخ الإسلام”، أقول “مؤسسة” لأن لقب “شيخ الإسلام” قد ظهر من قبلهم وناله كبار علماء الدين ولكن دون أن يكون له أي دور مؤسسي في الدولة، وإنما هو لقب معنوي يعبر عن اعتراف العامة وكثير من الخاصة بكون حامله متبحراً في علوم الدين. أما في الإمبراطورية العثمانية فقد كان منصب “شيخ الإسلام” أحد الأركان الأساسية في نظام الحكم المكون من السلطان (الخليفة) والصدر الأعظم (الوزير الأول)، وشيخ الإسلام (المشرف على الأوقاف والقضاء والتعليم وصاحب النفوذ الواسع الذي قد يمتد إلى عزل السلطان)، ثم قاضي العسكر والدفتردار (ناظر المالية)… الخ. هذا على مستوى رئاسة الدولة (أو”الباب العالي نسبة إلى مقرها في إسطنبول)، أما على المستوى الاجتماعي/الثقافي فقد اعتمدت هذه الإمبراطورية نظام الولايات والأقليات والملل (غير المسلمين).

لم تكن هناك في الإمبراطورية العثمانية هوية جامعة بالمعنى الذي عرفته الإمبراطورية العباسية. وإذا كان الإسلام هو القاسم المشترك الأكبر، وباسمه كانت “الفتوحات في دار الحرب” (القارة الأوروبية) وكان “الحكم والتحكم في دار الإسلام”، فإن نظام الولايات والأقليات والملل قد جعل “الهويات الخاصة”، قومية كانت أو طائفية أو دينية “ملية”، هي التي تحدد شخصية الأفراد والجماعات. كانت الإمبراطورية العثمانية أشبه بخيمة: ضيقة في القمة واسعة عريضة في القاعدة، خيمة يشدها عماد في الوسط، هو السلطان وممثلوه في الولايات، وأوتاد في الأطراف تربطها بأرض الإمبراطورية، مع فجوات تختلف ضيقاً واتساعاً.

بقي الحال كذلك -تقريباً طوال الخلافة العثمانية- إلى أن قام عصر القوميات في أوروبا… حينذاك أخذ الجوار مع أوروبا، وداخل القارة الأوربية نفسها، يفعل فعله في ذلك العالم متعدد الجنسيات والقوميات والطوائف والأديان. لقد أخذ شكل جديد من الشعور بـ”الهوية الأقوامية” ينتشر في أحشاء خيمة “الباب العالي”: شعور الأتراك بقوميتهم الطورانية، وشعور عرب المشرق بوقوعهم خارج هذه القومية، وبالتالي خارج دولتها… الخ. أما بلدان المغرب، وإلى حد ما مصر، فقد بقيت علاقاتها، في الجملة، سواء مع دار الخلافة في بغداد أو في الأستانة (إسطنبول) كما كانت من قبل، علاقة انفصال مع نوع من الاتصال…

والواقع أن الحضارة العربية الإسلامية لم تشهد التغاير أو التمايز أو الانشطار داخل “الهوية العربية الإسلامية” إلا عندما تأثرت النخبة العصرية في تركيا، خلال القرن التاسع عشر، بالحركات القومية في أوروبا، وقام فيها تيار ينادي بتسويد القومية التركية الطورانية على مختلف القوميات المنضوية تحت الخلافة العثمانية، فكان رد فعل النخبة العصرية العربية في سوريا ولبنان (وخاصة المسيحية منها)، أن طرحت شعار المطالبة بالاستقلال عن الترك، الشيء الذي يعني الخروج عن الخلافة العثمانية التي كانت تمثل الإسلام السياسي الموروث. ومن هنا ظهرت فكرة العروبة والقومية العربية (في بلاد الشام خاصة) لا كطرف ينازع الإسلام أو ينافسه بل كتعبير سياسي عن الرغبة في التحرر من هيمنة القومية التركية الطورانية التي كانت تطمح إلى الاستئثار بالسلطة.

وتزامن انتصار دول أوربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي كان الصراع على المستعمرات من أهم أسبابها، تزامن مع دخول الإمبراطورية العثمانية وضعية “الرجل المريض” -وكانت في الصف المنهزم في تلك الحرب- وانتهى أمرها باستيلاء أتاتورك على السلطة في تركيا، فألغى الخلافة وأقام دولة علمانية في أوائل العشرينيات، وبذلك تحول مجرى الأحداث، وأصبح “الآخر” لـ”العرب” ابتداء من الثلاثينيات من القرن العشرين هو الاستعمار الأوروبي الذي أدى التنافس بين أقطابه إلى تكريس نوع جديد من التقسيم والتجزئة داخل العالم العربي؛ وقد اكتست التجزئة مظهراً مأساويّاً في المشرق بصفة خاصة.

ومن هنا أخذت الهوية العربية تتحدَّد، ليس فقط برفض الاستعمار الأوروبي فحسب بل أيضاً بالتنديد بالتجزئة التي فرضها أو كرسها وبعدم الاعتراف بـ”إسرائيل” التي غرسها في فلسطين، ثم بالابتعاد عن الأحلاف العسكرية التي تنشئها القوى الاستعمارية الإمبريالية وفي مقدمتها حلف بغداد CENTO الذي أنشأته بريطانيا عام 1955، ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية. وكان ذلك الحلف يضم ثلاث دول إسلامية كبرى هي باكستان وإيران وتركيا، ودولة عربية واحدة هي العراق، وذلك في إطار استراتيجية الحزام العسكري الذي كانت تقيمه الولايات المتحدة والدول الغربية ضد الاتحاد السوفييتي”…

هكذا وقع الفصل مرة أخرى بين القومية العربية و”الإسلام السياسي” الذي كان يضم هذه المرة حكومات (باكستان وإيران وعراق نوري السعيد…) فضلت مهادنة الدول الاستعمارية والسير في صف الليبرالية الإمبريالية ضداً على الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية من جهة، وابتعاداً عن حركات التحرير في العالم الثالث وضمنه العالم العربي من جهة أخرى. وهكذا وقف بعض تلك الحكومات موقفاً سلبيّاً من القضية العربية، قضية فلسطين وقضية التحرر العربي عامة. وفي خضم هذا الصراع ظهر منظرون وإيديولوجيون حاولوا، تحت ضغط هذه الملابسات، وربما بدوافع أخرى أيضاً، التنظير للقومية العربية مع السكوت عن الإسلام واستبعاده صراحة أو ضمناً. فكان من الطبيعي أن يقوم رد فعل مضاد يعتبر “الإسلام” كمقوم أساسي وأولي للهوية وليس “العروبة”… وللمقال صلة.

الربيع العربي من الإصلاح إلى الثورة – د. المختار بنعبدلاوي*

سيزيف العربي

سخر الكثيرون من أنصار الواقعية السياسية عندما سمع البعض منهم أو قرأ قصيدة: “عابرون في زمن عابر” لمحمود درويش: بصورة خاصة المقطع:

منكم السيف ـ ومنا دمنا

منكم الفولاذ والنار ـ ومنا لحمنا

منكم دبابة أخرى ـ ومنا حجر

منكم قنبلة الغاز ـ ومنا المطر

وعلينا ما عليكم من سماء وهواء

فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا

وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا

وعلينا ، نحن ، أن نحرس ورد الشهداء

وعلينا ، نحن ، أن نحيا كما نحن نشاء!

رغم أن القصيدة كتبت في سياق الانتفاضة الفلسطينية فإن منطقها ينسحب اليوم على الثورات العربية؛ لقد أحرق الرماد المتفحم لجثة البوعزيزي “عرش” بنعلي القائم على أسنة الرماح، ودك أركانه، ولم بفتأ اللهب المنبعث أن امتد لكي يبعث الحرارة في كل مكان، ولكي يصبح مصدر إلهام لعدد من الثورات العربية في مصر والشام والجزيرة العربية وشمال إفريقيا.

إن ضيق ذات اليد لا يفسر وحده واقعة البوعزيزي؛ من يصرخ من أجل الخبز لا يضع حدا لحياته لأن الصراع من أجل الخبز صراع من أجل البقاء… من يطلب الموت بهذه الحدة يعاني أزمة وجود! أزمة معنى وجود! أزمة كرامة!

بهذه الحدة عبرت “الحالة التونسية بصورة مبكرة عن معاناة عربية خالصة، أطلق عليها الشباب الجزائريون قبل ذلك مسمى “الحيطية”، وكانت إحدى أبلغ صورها؛ وقفات عدد من الشباب المغاربة أمام سور “المعاجيز” في طنجة، وهم يرقبون طيلة اليوم، حالمين”، عشرات البواخر المغادرة إلى أوربا من ميناء المدينة.

في العالم العربي، توقف التعليم، منذ عقود، عن أن يكون وسيلة للارتقاء والاندماج الاجتماعيين، كما حصل ذلك في السنوات الأولى لما بعد الاستقلال، وأصبحنا أمام وضعية غير مسبوقة؛ وعي دقيق لدى الشباب بالوضعية الاجتماعية السياسية العامة، وانخراط في مجتمع الاستهلاك من جهة، وحالة إحباط مطلقة، من جهة أخرى، أمام العجز المستفحل، يواكبها غضب عارم بسبب الفساد المستشري، ومظاهر الترف الخرافي التي يرونها في الأحياء المجاورة على بعد عشرات الأمتار من بيوتهم.

ليس أمام هؤلاء الشباب إلا أن يديروا ظهرهم إلى الحيطان وينظروا بعجز إلى ما يدور من حولهم… لقد تحولوا إلى جزء من المشهد فقط وفقدوا صفتهم كبشر… لقد جربوا كل الوصفات الممكنة من التمرد “اليساروي” إلى “الانمحاء” السلفي… وفي كل مرة كانوا يجدون أنفسهم خارج الدائرة وخارج المعنى؛ وحتى عندما وقع انشقاق داخل دائرة القرار الضيقة في الجزائر، وانفلق من داخله أمل بالعودة إلى المجتمع للتحكيم في ألفق بلورة مخرجات جديدة، صودرت كلمة الشعب بمجرد ما تبين أنها تسير في اتجاه ثالث لا يخدم مصالح لا هؤلاء ولا أولئك، وتلتها عمليات إبادة جماعية منظمة، تجاوزت من بعيد ما أرعب العالم في سربرنيتشا… ومع ذلك فإن رائحة النفط أزكمت الأنوف وأعمت الأعين عن رؤية ما يحصل.

الموجة الرابعة: بين نظرية المؤامرة، ومنطق المؤشرات الاجتماعية

لقد جعلت هذه التجربة، وتجارب أخرى، المواطن العربي يدأب على تفسير كل شيء بنظرية المؤامرة. إن هذا التفسير هو الأقرب إلى الذهن بسبب المحن والتجارب التي عاشها العرب مع الغرب، منذ وعد بلفور، ومع أنظمتهم منذ الاستقلال. إن هذا التفسير هو كذلك الأكثر بساطة، والأكثر تطابقا مع منطق الأشياء، ومع أجواء الإحباط المطلقة التي تخيم على المنطقة.

من جهة أخرى فإن ما ميز ردود الفعل عموم المثقفين العرب على انبثاق الحركات الاحتجاجية هو نوع من “فرحة الخلاص”، وكأننا حيال تحقق نبوءة أو حالة إعجاز، في الوقت الذي يبين فيه إلقاء نظرة على المؤشرات الاجتماعية السائدة في معظم البلاد العربية أن هذه التحولات هي أكثر من ذلك؛ إنها جزء من منطق التطور العام الذي عرفته مجتمعاتنا، خارج دائرة وعينا المباشر، والذي أصبحت هذه الثورات بمقتضاه مسألة وقت فقط، بحيث إن “انتحار البوعزيزي” كان فيها مجرد فركة القمقم التي أخرجت المارد من عقاله.

لقد ربطت دراسات إمانويل طود Emanuel Todd منذ عقود بين تضافر عدد من المؤشرات الديمغرافية وبين التحولات الديمقراطية، وإذا وقفنا على التحولات التي عرفتها أوربا في بداية القرن الماضي، فإن العين لن تخطئ الربط بينها وبين ما نعيشه اليوم، من ارتفاع معدلات التمدين (ارتفاع ساكنة المدن) التي أصبحت تتجاوز 60% في مقابل انخفاض ساكنة الأرياف، وامتداد الطبقة الوسطى، وارتفاع نسبة التعليم بصورة تجاوزت معها حاجز 50% إلى جانب ترسيخ الأسرة النووية كوحدة ديمغرافية أساسية، مع ما لذلك من تأثير على صعود النزعة الفردية، وعلى أنظمة السلوك والقيم، وعلى حلول آليات التضامن العضوي في محل التضامن الآلي. إن هذه التحولات لا تلغي تأثير الأزمة الاجتماعية أو تفاعلات العوامل الأيديولوجية بل تستوعبها جميعا؛ فهي بمثابة الوعاء الأساسي للدينامية الاجتماعية؛ فتعمل على تسريعها أو تبطئتها بفعل كثافة أو ميوعة الآليات المشار إليها.

في ظل هذا المشهد، وبروح هذا المنطق، يبدو النظام السياسي في تونس ضحية لنجاحاته؛ لقد كانت وتيرة التمدين والتعليم في تونس، من بين الأسرع في الوطن العربي، كما نجحت الطبقة الوسطى، في هذا البلد، في الحفاظ على موقعها الأساسي في المجتمع، وكان التناقض يزداد في كل يوم بين نضج هذا الجسم الاجتماعي، وبين ضيق رئة الحريات المتاحة، في وقت أصبحت فيه مقارنة الحالات الاجتماعية والسياسية ممكنة في كل لحظة بفضل انتشار الفضائيات، واتساع دائرة الشبكة العنكبوتية التي أتاحت بعدا جديدا للاحتجاج، لا يحتاج فيه المناضل إلى الذهاب إلى مقر الجمعية أو إلى فرع الحزب لعقد الاجتماعات أو الخروج بقرارات، ولا حتى أن يخضع لتوقيت محدد للاجتماع… كل هذا، إلى جانب كون المجتمع التونسي مجتمعا منفتحا بطبيعته، مما وفر الزخم الشعبي الضروري للثورة التونسية.

من جهة أخرى قدمت مصر نموذجا مقابلا (وليس مناقضا) للحالة التونسية؛ صحيح أن مستوى التنمية البشرية ضعيف جدا في مصر، والطبقة الوسطى أكثر انكماشا، والفساد أوسع بكثير، لكن بنية الدولة في مصر هي من أقدم البنيات في العالم، كما وتيرة التمدين هي من بين الأسرع في العالم، مع إبقاء وتعميق الفوارق الاجتماعية. وحتى فيما يخص مؤسسات الدولة المركزية الحديثة فإنها تعود إلى عهد محمد علي، كما أن تركز الساكنة على ضفتي النيل، منذ أقدم العصور، جعل من الكثافة الديمغرافية ثقلا ينوء به أي كيان سياسي، وهو ما أدى إلى خلق هوامش مريفة ruralisés في حواف المدن أدت إلى توتير العلاقة مع المركز، ومع السلطة، بسبب الاكتظاظ السكاني، وانتشار البناء العشوائي والفساد، كما أدت إلى تصادم واضح في المرجعيات القيمية، كأحد تجليات تصعيد المعاناة اليومية، والانحباس العام القابع في الأفق.

كان جميع المصريين يعانون من ضيق هامش الحريات لكن ما وحد الجميع هو امتهان الكرامة الذي عرف تعبيره الأعلى في الشريط المهرب لعميد الأمن الذي كان يخاطب عناصره ويقول لهم: “من يمد يده على سيده فإن يده يجب أن تقطع”… إن هذه الخطاب يعود إلى ثقافة مصر ما قبل الثورة… إلى عهود الإقطاع، وقد طورت الثورة المصرية فيما بعد، وعلى مدى أجيال، خطابا مناهضا تماما لهذه الثقافة لتكتشف فيما بعد أنها لا زالت حية في كل مكان… بين أوساط عدد من رجال الأعمال، وفي أجهزة الدولة والأمن. ولعل صور عشرات المصريين وهو يضربون صور مبارك “بالجزمة” لا يعني إلا هذا: “الرد على الإهانة بالإهانة”.

إننا نادرا ما يمكننا أن نرى مثل هذا المشهد في الغرب… أن تضرب صورة الرئيس ب: “الجزمة” حتى في أكثر صور الكرتون قساوة، لأن الاختلافات هناك تأخذ طابعا سياسيا معقلنا وتتعلق باختلافات في البرامج أو في التدبير، ولا تصل إلى التعبيرات العاطفية والانفعالية. إن المواطن المصري يريد أن يثأر لكرامته أولا ثم يفكر بعد ذلك فيما يريد… إن هذا قد يعتبر مأخذا يدل على أن “الثورة” لا تملك خارطة طريق للإصلاحات؛ لكن لهذا إيجابياته كذلك، لأنه يجعل “فرقاء” المستقبل ينخرطون في معركة واحدة قبل أن يضعوا ركائز المؤسسات التي سوف تعبر عن اختياراتهم اللاحقة.

هل المجتمعات العربية جاهزة للتغيير؟

تهيمن في كل المجتمعات العربية اليوم المتوالية الجبرية المصرية، والمتوالية الهندسية التونسية،[1] ولا تكاد تقف في طريق هذا التحول، في بعض المجتمعات، إلا بعض البنيات التقليدية العصية على التحول (القبيلة والطائفة والاختلافات اللغوية والعرقية)، التي تهدد بتحويل هذه الانتفاضات إلى حروب استنزاف أهلية طويلة المدى.

لقد انتبهتت عدد من النظمة السياسية في العالم العربي إلى خطورة الفئوية، بتعبيراتها المتعددةفي العالم، مع إبقاء وتعميق الفوارق الاجتماع عدد من الأنظمة السياسية في العالم العربي إلى خطورة الفئوية، بتعبيراتها المتعددة، وتعاملت معها بحس أمني يمكننا اعتباره وريثا للأنثبولوجيا الاستعمارية. كلما تزايد الاندماج الاجتماعي، في ظل عمل آليات الدولة الحديثة، إلا وعملت الأجهزة الأمنية بترساناتها القانونية وأبواقها الإعلامية على إيقاظ الأشباح الفئوية بأسمائها المتعددة (دينية، عرقية، لغوية…) لشق المجتمع، وتشتيت تركيزه، وبلبلة أهدافه. شاهدنا هذا في مصر، منذ أحداث الزاوية الحمراء، وقبل ذلك في لبنان السبعينيات، وبعده في سورية الثمانينيات، وأخيرا في المغرب العربي خلال التسعينيات، قبل يرسمه بريمر في العراق، ويحوله إلى مؤسسات قائمة بذاتها. إن المعادلة التي تركن إليها هذه المناورة مباشرة وبسيطة: “إما أن يبقى نظام الحكم الموجد قائما أو أن يعم الطوفان”، أكثر من ذلك يبدو نظام الحكم في هذه الحال بصفته المحافظ على التوازنات الثقافية، والحامي لوحدة البلاد.

تدرك قوى المحافظة والتقليد أن البنيات القائمة على التضامن الآلي Mecanic Solidarity تؤدي إلى خلق انحباسات اجتماعية، في منتهى الخطورة على مآلات الثورات الاجتماعية، لأن التضامنات الآلية التي تخلقها تسير ضد منطق الدينامية الاجتماعية الديمقراطية، التي ترى في قيم المواطنة، وفي أولوية المصالح العمومية، الضمانة الفعلية لحقوقها ولمصالحها الشخصية.

مبيان: المجتمعات التي لا زالت بنيات التضامن الآلي قوية فيها

إن هذه الانتظامات الآلية هي من رواسب الماضي، لكن عددا من الأنظمة السياسية لم تأل جهدا من أجل الإبقاء عليها أو تطويرها لرهن الدينامية الاجتماعية، لكي يجري تبرير الشمولية، وحتى تكون الشعوب مخيرة بين الاستبداد أو الفوضى، ولربما التقسيم.

إن هذه الوضعية هي ما يمدد الصراعات اليوم في ليبيا[2] وفي اليمن[3] كما أن الوضع في سورية ليس أفضل بكثير، حيث تكاد المعالم الطائفية تفقأ العين، في نظام سياسي يفترض أنه يتبنى مرجعية قومية عربية علمانية، وأخيرا في المغرب العربي، حيث يجري تلويث المطالب الاجتماعية والسياسية المتعلقة بقوت الناس وكرامتهم، بمطالب نزوعية عرقية، في مجتمع يكاد يمتنع فيه الجزم بمن هو عربي ومن هو أمازيغي.[4]

في المحصلة، تبدو قوة الدفع داخل الحركة الاحتجاجية العربية في أحسن حالاتها، بسبب المآل البائس الذي عرفه النظامان البائدان في تونس ومصر، والذي كانت إحدى دروسه الرئيسية أنه: في ظل النظام الدولي المعاصر، لا يمكن للأجهزة الأمنية وحدها أن تحمي النظام السياسي ضد إرادة الشعب، وأن خدمة مصالح الغرب أو الانخراط في الحرب على الإرهاب لا يوفر الحصانة الكافية للحاكمين.

إن الصعوبة الوحيدة التي تعوق الحركة التحررية العربية قائمة اليوم في البنيات الاجتماعية المغلقة، التي لا زالت تسود فيها علاقات التضامن الآلي.[5] إن هذه الحقيقة المؤسفة، والثمن الفادح الذي تؤديه القوى الديمقراطية في تونس واليمن، ولربما في سورية، يبين أن التحديث الاجتماعي السياسي أساسي في أي تحول ديمقراطي، وأن الكلفة تزيد بقدر ما تزيد تقليدانية المجتمع.

كما أن عددا من المخاطر الكبرى لا زالت تحف بالثورة المصرية اليوم، هل سوف يقبل الجيش بالخروج من الحياة العامة؟ وبأي ثمن؟ كيف سوف يجري إطفاء الحريق الطائفي الذي تم إيقاده وتغذيته على مدى سنوات؟ هل سوف تستطيع القوى الصاعدة الجديدة تفادي ألغام “الثورة المضادة”؟ وهل سوف تنجح في إثبات جديتها في محاربة الفساد؟ إلى جانب إيجاد متنفسات اجتماعية معقولة، تعطي للناس إحساسا بأن هناك تغييرا جاريا في الأفق؟

****

[1] بالإحالة إلى بطء وإلى تسارع التحولات

[2] حيث لم يتردد القذافي في بعي الورقة القبلية بين قبائل الشرق والغرب بل وإعادة تجنيس قبائل هاجرت من ليبيا إلى مصر منذ قرون، لمحاصرة “خصومه” القبليين.

[3] حيث عمل عبد الله صالح، إلى جانب قوى إقليمية، أبرزها السعودية على إبقاء النعرات القبلية، مع تسليح وتمويل القبائل الموالية.

[4] من أكثر المظاهر طرافة في المغرب أن رموز الحركة القومية العربية مثل الفقيه البصري، أحد مؤسسي جيش التحرير وقادة المقاومة، والمفكر محمد عابد الجابري، وبنسعيد آيت أيدر، ينحدرون من مناطق أمازيغية،

[5] ليبيا، اليمن، وسورية (جزئيا)

*مركز مدى جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء

طَبَقَاتَ المُثَقًفِينَ المُورِيتَانيِيِنَ، المختار ولد داهي

0

تكاد تجمع مجالس ” التقييم و التحليل السياسي و الاجتماعي” العرفي ومنها و “العفوي” خصوصا أن البلد يعاني ” أزمة النخبة المثقفة” و من رواد تلك المجالس من يُصنف تلك الأزمة بأنها “أزمة وجود” و منهم من ينعتها “بأزمة نوعية و جودة” و منهم من يذهب إلي أنها ” أزمة انهزام و انكسار” و منهم من يضعها في خانة ” الإصابة بدرجة حادة من وباء “الموضة العربية و الإفريقية”  المتمثلة في “كساد النخبوية و رواج الشعبوية”،…

و المثقف المقصود في هذه الحروف هو  كل من كان له  حظ من العلم و الفهم و نصيب من  العمل بما عَلِمَ  و قسط من  المثابرة من أجل تبليغ و تعليم ما عَلِمَ حتي ينتفع به عامة الناس و هو ما يعني أن أركان الاتصاف بصفة المثقف ثلاثٌ أولها العلم و ثانيها العمل بالعلم و ثالثها إفشاء العلم و كل ما فُقِدَ أحد هذه الأركان فُقِدَتْ ذات الثقافة و انْتَفَتْ صفة المثقف.

و المتابع للمشهد الثقافي بالبلد يمكن أن يقسم المثقفين الموريتانيين إلي خمس مجموعات:-

أولا: فئة “القابضين علي الجمر”:و يقصد بهم فئة المثقفين الذين لا زالوا حريصين علي تغيير المجتمع نحو الأفضل مع جرأة لافتة في مواجهة “حماة” و “لوبيات” العقليات المضادة لمفهوم الدولة و قيم الجمهورية و مُثُلِ المساواة دافعين في سبيل ذلك أثمانا باهظة من التهميش و الإقصاء  و اللاستهزاءِ و الاستخفاف و الشيطنة و التبخيس ،… و هم يمثلون الفئة الأقل عددا من مجموع فئات المثقفين الموريتانيين، منهم سياسيون محنكون و أدباء نابهون و أساتذة مُبَرًزُون و إعلاميون بارزون و “أَعْمَالِيُونَ ناجحون” و علماء ربانيون و  دعاة “مَنْصُورُونَ” ،…

ثانيا: طائفة “المُكِبِينَ علي وجوههم”:و هؤلاء هم المثقفون الذين يئسوا و قنطوا من هزيمة العقليات المجتمعية و السياسية “الرجعية” فلجأوا إلي الانكفاء و الانعزال و البَيَاتِ  و السير مُكبين علي وجوههم غايتُهم القصوي و هدفهم الأسمي أن يُحصنوا أنفسهم من ” الردة و الارتكاس” و تأثير العقليات المجتمعية المضادة  للتطور و الإصلاح و التقدم،…كأنما شعارهم و لسان حالهم ناطق “بأن ليس عليهم في أيام موريتانيا المَوَاخِضِ هذه إلا أنفسهم”.

ثالثا:طبقة الصداميين و الاستئصاليين: و أعني بهذه الطبقة مجموعة من المثقفين الموريتانيين الذين ينهجون نهجا صداميا مع المجتمع و عقلياته و رموزه و ثوابته غير آبهين بسنة التدرج في التغيير و لا باذلين أدني الجهد لتمييز العقليات الضارة من العقليات النافعة و العقليات غير الضارة و العقليات الأقل ضررا أعدادهم قليلة و مَقْبُولِيًتُهُمْ لدي بعض فئات المجتمع مهزوزة لكن صخبهم الإعلامي كبير  وظهيرهم الدولي أثير منهم سياسيون و حقوقيون  و جامعيون و نِضَالِيُونَ و فاعلون مدنيون،…

رابعا: مجموعة دعاة “التكيف السلبي”:و هم  مجموعة من المثقفين الذين استنتجوا استحالة تغيير العقليات المجتمعية المضادة للتقدم إلا من خلال  الانصهار في المجتمع و التكيف مع هذه العقليات مع الإصرار علي محاولة تغيير و إصلاح ما أمكن منها و قليلٌ من هؤلاء من حقق نجاحا معتبرا و كثيرٌ منهم من تأثر بسلبيات المجتمع أكثر مما أثر و تغير هو سلبا أكثر مما غير إيجابا فجاز أن يطلق علي منهجهم منهج ” التكيف السلبي”؛

رابعا: جماعة “المُتَحَوِلِينَ فكريا”: وهم الأغلبية الغالبة من المثقفين الموريتانيين الذين كفروا عمليا بثقافتهم و أضحوا من أكابر الممارسين و الممجدين للعقليات المجتمعية و السياسية المضادة للتقدم  و العصرنة و الإصلاح كالقبلية و الشرائحية و المناطقية و العنصرية و “الفردانية” و قد مثل هذا “التحول البهلواني” لهذه المجموعة أسوأ دعاية ضد الثقافة و المثقفين حيث أضحي المثقف في مِخْيَالِ جزء عريض من  الرأي العام الموريتاني  سَمِيً المنافق و رديف الحِرْبَائِيِ وصِنْوَ الإِمًعِيِ و مثيل “الزِئْبَقِيِ”،…

و من المتواتر عليه أن موريتانيا أحوج ما تكون  إلي “يقظة نخبوية” تحمل مشروعا مجتمعيا إصلاحيا يرأب صدع  ” اللحمة الشرائحية” و يعيد إلي مربع الفعل الثقافي الإيجابي بكل سرعة وثقة  و قوة و عنفوان و  إيمان صادق بواجب أسبقية و استعجالية تغيير العقليات المجتمعية المضادة و المعادية “للأمن المجتمعي”  فئات ” المُكبين علي وجوههم” و الصداميين الاستئصاليين و “المتكيفين تكيفا سلبيا” و المتحولين فكريا.