29 مارس، 2024، والساعة الآن 1:27 مساءً بتوقيت نواكشوط
Google search engine

العروي مؤرخ الفلاسفة وفيلسوف المؤرخين

د. السيد ولد أباه

لا خلاف في أن منح جائزة الشيخ زايد للكتاب للمفكر المغربي «عبد الله العروي» تكريم مستحق لأبرز أوجه الثقافة العرب الأحياء وأحد أهم رموز الفكر العربي المعاصرين. إذا كانت عبارة «مفكر» تستخدم على نطاق واسع في الكتابات العربية السيارة للحديث عن المثقفين والأكاديميين والكتاب، فإنها بدلالتها الدقيقة تصدق على العروي أكثر من غيره، بالنظر إلى أن هذه العبارة التي برزت في عصور التنوير الأوربية تعني الفيلسوف الملتزم المشتغل بهموم عصره ومجتمعه. ومع أن العروي يعزف دوماً عن صفة الفيلسوف رغم اطلاعه الواسع على الفلسفة قديمها وحديثها، فإنه لم ينفك يمارس النظر الفلسفي من خلال السياق التاريخي عبر منهجه المزدوج في تحليل الأيديولوجيات وتحليل المفاهيم.

 

الكتاب الأول الذي كرس شهرة العروي هو «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» الذي ظهر في نهاية الستينيات في سياق الجدل الواسع الذي خلفته هزيمة 1967 وانتكاسة المشروع الناصري، ليقدم مقاربة شاملة في عوامل تشكل وتعثر الحركة التحديثية العربية من خلال وجوهها الثلاثة: الفقيه الإصلاحي، والسياسي المناضل، وداعية التقنية. لقد كان الهم الذي سيطر على العروي في تلك الحقبة هو إبراز الانزياح الواسع بين الخطابات الأيديولوجية والسياقات التاريخية الموضوعية، مبيناً أن السبب الأساسي لفشل المشاريع النهضوية والتحديثية العربية هو هذه الهوة التي منعت الفكر العربي من استيعاب الديناميكية التاريخية للحداثة في محدداتها المترابطة المتلازمة، أو بعبارة أخرى يرجع المأزق إلى دخول العرب الحداثة عن طريق الأيديولوجيا لا الفكر، إكراهات التاريخ لا أفق التاريخانية.

لم يكن هذا النقد مألوفاً في الفكر العربي أوانها الذي هيمن عليه براديغم «الثورة» بمفهومها اليساري الراديكالي، بينما اعتبر العروي وقتها أن الماركسية التي تحتاج إليها الساحة العربية ليست ماركسية القطيعة الثورية بل الماركسية التي تستوعب القيم الليبرالية التي يتطلبها المجتمع العربي للنهوض والتحديث.

وقد زامن العروي بين الكتابة التاريخية التي ركز فيها على التجربة المغربية موسعة إلى بلاد المغرب العربي الكبير، وبين التأسيس النظري من خلال سلسلة المفاهيم التي كتبها حول الحرية والدولة والأيديولوجيا والعقل والتاريخ. في الكتابة التاريخية تناول العروي ظروف تشكل الوطنية المغربية ونمط التحديث السياسي في المغرب، وقدم صياغة تأليفية عامة لتاريخ المغرب العربي في مختلف مراحله، مستكملاً هذه الأعمال التاريخية الهامة بيومياته التي تابع فيها الأحداث الجارية ونشرها على مراحل متفاوتة.

 

وفي أعماله النظرية، بلور العروي منهجية خاصة تقوم على رصد المفاهيم في سياقات ثلاث هي: سياقها الفلسفي، وإطار تنزيلها التاريخي، ووظائفها العملية في السياق الاجتماعي، معتبراً أن تأويلية الأفكار لا يمكن أن تنحصر في التجريد النظري اللاتاريخي، وإن كان من اللازم استجلاء أبعادها التصورية.

 

لقد أقر العروي في أحد كتبه الأخيرة بشغفه القديم بعلم الكلام الحاضر بقوة في أعماله الفلسفية، خصوصاً كتابيه «مفهوم العقل» و«السنة والإصلاح»، وأظن أنه لو اتجه إلى الكتابة في هذا المنحى في علاقته بالتجربة الدينية وتأويلية النص الديني، لقدم إضافات نوعية في الفكر الإسلامي. بيد أن موانع عديدة حالت دون اقتحامه هذا المجال، في مقدمتها رفضه لعزل الخطاب النظري، ولو كان دينياً أو فلسفياً، عن سياقه التاريخي الذي يمنحه المعنى.

 

والواقع أنه في كتابه «السنة والإصلاح» قد اختبر نمطاً جديداً من التأمل الفلسفي بالنظر في النص والتأويل، مبيناً عن حب كبير للثقافة الإسلامية وانتماء عميق لها، رغم نقدية المفكر ونسبية المؤرخ.

 

لقد أراد الخروج عن الثنائيات العقيمة التي شلت الفكر العربي الحديث في تصوره لمقتضيات التحديث ومقاربته للمسألة التراثية، مبيناً -على عكس منهج الجابري وأركون- أن العلاقة بالنص ليست علاقة ابستمولوجية تنحصر في نسقه الدلالي وأدواته المعرفية، وإنما علاقة مركبة يدخل فيها التاريخ عنصراً حاسماً محدداً، ومن هنا فإن خيار الإصلاح الذي بدأ مع رواد النهضة اصطدم دوماً بانغلاق التقليد، لا بمعنى جمود النص وانغلاقه وإنما ضيق وانسداد التجربة التاريخية للمجتمع المسلم واتخاذه التأصيل خطاً للدفاع عن الهوية والذات.

 

ومع أن العروي اقترب في فترات متعددة من العمل السياسي، مناضلا في صفوف اليسار، كما أوكل له الملك الراحل الحسن الثاني بعض المهمات الاستشارية والدبلوماسية، فإنه آثر إطلالة المؤرخ والفيلسوف على الحقل السياسي، وتلك إحدى سماته الخصوصية في المسألة الفكرية العربية.

اقرأ أيضا على مبدأ
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة