18 سبتمبر، 2025، والساعة الآن 8:18 مساءً بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 4

واقع البحث العلمي في السياق العربي “حالة كورونا أنموذجا”

ورقة تقدير موقف : الشيخ الحسن البمباري، المركز الوريتاني للبحوث والدراسات الانسانية- مبدأ

مقدمة

تمثل حالة جائحة كورونا إنذارا عالميا ووقتا عصيبا تمر به البشرية جمعاء، وهو ما دعى للتعبئة العامة على مختلف المستويات وكل المجالات الحيوية في العالم، وقد وجهت انظار العالم منذ ظهور الفيروس في الصين 2019 الى المراكز البحثية العلمية سواء المستقلة منها او تلك المترتبطة بجامعات ومؤسسات بحثية عمومية، ولم تكن الانتظارات معلقة فقط على مخابر العلوم الطبية البحتة بل كل مراكز البحوث كجزء من حالة الترقب لانتاج خطاب موازي للبحث عن لقاح للفيروس الذي هدد الآلاف في أول أيام انتشاره، خطاب يقدم للساسة وقادة الرأي العالميين الخبرة اللازمة في توجيه الشعوب نحو التعامل مع هذه الجائحة والمساهمة في الحد من انتشارها.

ومع أن مراكز البحث والدراسات في الغرب واكبت بشكل شبه لحظي الحالة وسعت إلى ممارسة دورها الطبيعي في الجوانب المختلفة، فإن نظيرتها في السياق العربي ظلت دائما على وضع الصامت، وانضمت لصفوف الملايين من المواطنين في الدول العربية، الذين تنتظرون فقط ما ستخرج به المؤسسات البحثية الغربية، في حالة تعكس خطورة تغييب الدور الاستراتيجي للبحث العلمي كقوة لازمة لجتمعاتنا اليوم، وتظهر هشاشة واقع الدولة العربية في آكد أساسياتها، فعدى عن بعض الإعلانات الهزلية لأطباء الأعشاب والرقية الشرعية، لم يسمع أي صوت من الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية العربية سواء في المستوى الطبي البحت، أو على المستوى الدراسي الذي يقتصر دوره على الاستشراف والتوجيه والمشاركة في التوعية العامة من مخاطر الجائحة.

فالمراكز البحثية والعلمية لم تتمظهر على الاطلاق بصفتها جزء من بنية السلطة العامة بوصفها (وضع استراتيجي من العلاقات ينشأ في مجتمع ما) حسب مشيل فوكو، عاكسة بذلك صورة أنها حبر على ورق، وجزء من تبعية عامة لوضع المسيطر، بل لا يستبعد أن تكون أول من قرر الالتزام بقانون الجلوس في المنازل بوصفها غير معنية باكشاف علاج أو إنتاج خطاب يساهم في تكريس سلطة الدولة لفرض النظام في هذا الوقت العصيب، مع فيروس ينتقل بكل سلاسة من خلال حركة الأفراد إذ إلى الآن تجاوز ال120 دولة حول العالم بل إن الدول التي لم تعلن إصابات يرجح أنها فقط نظرا لضعف ولوج المواطنين فيها للخدمات الصحية لا غير.

واقع المراكز البحثية العربية

في أوقات الرخاء كانت الحالة تقول إن المراكز البحثية العربية تعيش ثورة خاصة في ما بعد الربيع العربي، إذ كانت شخصياتها من الوجوه الإعلامية الثابتة، كما تم الحديث عن تأسيس العديد من المؤسسات البحثية في مختلف المجالات من خلال مسعى الحد من مدى الدولة[1] في الاستحكام بالفضاء العام.

ومع أن الصين تمثل المورد الأول لمختلف الاحتياجات للشرق الأوسط وإفريقيا حيث تتمركز الدول العربية، فان المجتمعات حين أصيبت الصين بجائحة كورونا، بدأت فقط في الالتفات صوب الغرب للبحث عن مصدر جديد لتوريد المعدات الطبية والأفكار وكذلك المساندة للوجستية على كل المستويات لمواجهة الفيروس المستجد.

المراكز المسؤولة عن إنتاج خطاب يكون سلطة في حد ذاته، وكذلك تستفيد منه السلطات بوصفها شريك في الوضع السلطوي القائم، لم يتم التعويل علها بالأساس في حالة تؤكد ان واقعها لا يسمح لها بأن تشكل أي شراكة فعلية ولا قوة اقتراح للمساعدة في المواجهة، وحتى المجالات التي تنشط فيها المراكز البحثية العربية غالبا “مجال إنتاج الخطاب” لم تستطع فيه تحقيق الآمال المعقودة عليها.

إلا أنها وبوصفها جزء من فضاء عام لا يولى أهمية كبيرة للبحث العملي فإن واقع المراكز البحثية كان تجسيدا لمشاكلها التي تعاني بشكل عام، ففي قائمة الدول الاكثر انفاقا على البحث والتطوير تظهر السعودية في المركز 41 عالميا وهي الاولى عربيا بعد دول كباكستان والبرتغال البرازيل وتيوان وغيرها كثير من الدول التي تتفوق عليها الدول العربية في الموارد، فيما توجد قطر ومصر والبحرين والجزائر وعمان والسودان فقط في المئة الاولى من الترتيب[2]، بينما تتصدر امريكا والصين الترتيب بقيمة 500 مليار دولارتقريبا لكل بلد[3]، والسعودية المتصدرة للترتيب العربي لا تتخطى قرابة 12 مليار دولار كإنفاق على البحث العملي والتطوير معا، بينما انفقت على السلاح نحو 26% من الانفاق الحكومي أي 70 مليار دولار في العام 2017 والثالث عالميا[4] بعد امريكا والصين[5].

المراكز البحثية العربية فشلت وتفشل كل مرة باقناع مستثمرين خصوصيين أو عموميين في الاستثمار في المجال البحثي، وهو ما يجعلها تعيش على منح غير كافية حتى لسد ضوررات البقاء، (الايجار والكهرباء والماء)، هذا الوضع يجعل المراكز البحثية بيئات طاردة للباحثين المبتدئين، في حين أن الباحثين الذين يملكونة خبرة أكثر يسعون وراء مؤسسات ذات عائد مادي.

فحسب الباحث في كلية التجارة في جامعة السليمانية خوشي محمد عبد اللطيف فإن الاتحاد الاوروبي وجه ازيد من 3,9 من ميزانيته، الاجمالية للبحث العلمي، أي قرابة 30 بليون يور كما توجه كوريا الجنوبية حوالي 5% من الناتج القومي للبحث العلمي منذ العام 2012[6].

أما مؤشر اليونيسكو فيرصد خلال 20 سنة (1970-1990) ازدياد عدد المهندسين والعلماء من 124 عالما ومهندسا إلى 363 ممارس للبحث العلمي في الدول العربية، ويبدو هذا الرقم ضعيفا إذا ما قورن مناطق اخرى في ذات الفترة، حيث كان في أمريكا 3359 بينما كان في أوروبا 2206.

فحسب بحث صادر عن جامعة الدول العربية 2006 فإن كل مليون مواطن عربي يقابلهم 318 باحث في حين نجد ان الرقم في أوروبا 4500 باحث لكل مليون شخص.

بعض العوائق أمام المراكز البحثية العربية

العوائق المالية: وإن كان الواقع المالي لهذه المراكز يشكل أحد العوائق الكبيرة أمام مهمتها، فان هذه المشكلة ليست مطروحة للمراكز البحثية في دول الخليج أو في بعض الدول التي تولي اهتماما كبيرا للبحث العلمي.

 فمن الواضح للعيان الصرف الكبير الذي تقوم به الدول الخليجية على البحث العلمي بمختلف مجالاته، ومع ذلك فان المجال العلمي الدقيق يغيب بشكل كبير، وكما أسلفنا فالمراكز المهتمة بالبحوث الإنسانية والاجتماعية … لم تنتج هي الاخرى خطابا يذكر في ظل الازمة، وهو ما يؤكد أن الوضع لا علاقة له بالمؤشر المالي على الاطلاق، وإن كانت مقارنة ميزانية إدارات الأمن ومصاريف السلاح[7] بالثقافة تكفي لمعرفة الهوة التي تعيش المراكز البحثية في المنطقة العربية.

سيطرة الدولة: و في سياق مقاربة وضع السيطرة الذي تخضع له المراكز البحثية من الدول نفسها، نجد أنه كان المشكل الأكبر، حيث لم تولي هذه المراكز البحثية والمختبرات أي اهتمام بالمجالات الحيوية وحالات الطوارئ الوبائية أو غيرها، التي يمكن ان تشهد هذه الدول، فكانت الأولويات متركزة على الحروب والصراعات الداخلية التي تعيشها الدول العربية فقط، لذلك كانت طبيعة هذه المراكز أنها مراكز فقط تنتج حسب أولويات الحكومات، والتي تعيش صراعات “وهمية، واقعية ،مفتعلة” في أحيان أخرى من أجل بقاء الحاكم، فعشرات عناوين البحوث الصادرة عن المراكز العربية، كانت في مجلها حول تسخير الخطاب الديني لتكريس السلطة أو لمواجهة الربيع العربي وضرورة التسليح للدولة العربية… الخ، لذلك نجد ان هذه الدول تتنافس شراء الاسلحة الأجنبية وليس الصرف على الانتاج الداخلي للصحة والثقافة و الجامعات، فحسب تقرير اليونيسكو الاحصائي[8] انفقت الامارات العربية المتحدة 2016 ، 0,96 من الناتج المحلي على البحث العلمي والتطوير، في حين انفقت البحرين 2014، 0,10 فقط بينما الجزائر 0,53 في 2017 وسوريا 2015 انفقت 0,01، الرأس الاخضر 2011، 0,07 السودان 0,30، فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) 2013 ، 0,49 العراق 2017 ، 0,04 الكويت في 2017 ، 0,08 في ما صرف المغرب 2010 ، 0,71 السعودية 2013 ، 0,82، تونس 2016، 0,60 مصر 2017 ، 0,61 عمان 2017، 0,22 قطر 2015 ، 0,51، ولم تتوفر معلومات عن لبنان وموريتانيا الصومال واليمن. ويكفي القول إن منطقة  الشرق الأوسط وشمال افريقيا صرفت مجتمعا في 2012 ، حوالي 0,93 من الناتج المحلي على البحث العلمي والتطوير.

غياب سياسات ثقافية واستراتيجية ثقافية للدول:  فعربيا ليس هناك أي بلد سعى الى وضع سياسات ثقافية بشكل يذكر، الا إذا استثنينا بعض الدول كتونس وان كانت تجربتها تعاني من مشاكل جوهرية[9]، بالرغم من بعض المحاولات التي تقوم بها مؤسسات مستقلة مجموعات للسياسات الثقافية في بعض الدول، في اطار مشروع للمؤسسة المورد الثقافي، فقد وجدت مثلا مجموعة السياسات الثقافية الجزائرية والمغربية … الخ .

ففي بلد كموريتانيا التي تعاني ضعفا حادا في الميزانية العامة للدولة، يلاحظ بشكل واضح أن مشتريات الدولة من السلاح تفوق بدرجات مصاريفها على الصحة العمومية، بالرغم من عدم مواجهة البلاد لحرب بشكل مباشر، ونفس الشيء بالنسبة للسعودية التي وجدت نفسها منذ ست سنوات في المعترك اليمني والتي تشتري السلاح أكثر حتى من مما تشرتي الكتب المدرسية، والوضع نفسه في الامارات وليبيا ومصر وقطر …الخ، كلها في فكرة تكريس سيطرة الدولة وستمرار الحاكم أطول وقت ممكن في مقابل تجاهل شبه كلي للبحث العلمي.

خاتمة

العالم الآن يترقب أن يحصل على علاج لفيروس كورونا، ولكن الأنظار موجهة إلى الصين وألمانيا وأمريكا وفرنسا… الخ، ولا أحد يتوقع من العالم العربي أي شيء في هذا المجال، حتى الدول ذاتها التي تعد الشريك الأول في مجال التوريد وتجارة السلاح[10]، إلا أن مجالات البحث العلمي في أبسط انتاجاتها تنتظر من المركزية الغربية، وليس لدينا أي مساعي لإعادة ترميج الواقع وبناء مراكز موازية، فللصدفة أن السياق العربي منذ 17 من مارس 2020 يتداول بهلع دراسة تناقش تأثير كوفيد 19 على خصوبة الرجال المصابين به، إلا أن مصدر هذه الدراسة هو المراكز البحثية الصينية وليس السياق العربي، وهي الآن مسألة علمية معممة على المنطقة، مع أن ابسط ناظر يدرك أن نمط المعيشة والغذاء يستدعي فعلا دراسة عربية خاصة لإظهار مدى الأضرار الناجمة في السياق العربي، التي قد تكون أكبر بكثير مما يواجه الرجال في مناطق أخرى من العالم مقارنة بمستوى المعيشة والرعاية الصحية وغيرها من العوامل.

ما يؤكده واقع المراكز الحثية والجامعات في المجال العربي أننا أمة تتبع في كل شيء حتى في أخص خوصصياتها، وأننا قررنا أن لا نشارك في شيء للانسانية على الاطلاق، سيقول قائل حتما عن أن معظم المخابر الغربية مليئة بالعرب، علماء ومفكرين وباحثين وأطباء، أقول نعم هو كذلك ولكن السؤال الأهم لماذا لا يوجد هؤلاء في جامعات ومخابر ومراكز بحثية عربية؟، وفي هذه النقطة بالذات أختم  بهذه القصة” حين شاهد الموريتانيون اسم مسؤول الصحة العالمية في لنبان السيدة إيمان الشنقيطي، بدء البحث عنها وهل هي موريتانية أم لا؟ الفكرة لم يكن هناك موريتاني لديه أي علم بوجود شخص إسمه إيمان الشنقيطي” وهذا بالضبط هو واقع العرب في المخابر والجامعات الغربية[11].

حلول عاجلة

  • وضع سياسات ثقافية عمومية في الدول العربية سواء بشكل مستقل أو جماعي.
  • توسيع ميزانية البحث العلمي في الجامعات والمخابر والمراكز البحثية.
  • التوجه نحو القطاع البيولوجي بوصفه هو الوقاية الأهم في المستقل.
  • زيادة التمكين للبحث العلمي في السياسات العامة، والتبويب له في الميزانيات العمومية.
  • مراجعة القوانين المسيرة للمراكز البحثية مما يضمن اداءها وجودتها.
  • التحديد الدقيق لخريطة البحث العلمي في الدول والتوزيع على المجالات البحثية.
  • توجيه أولويات البحث العلمي مقارنة مع الظروف المحلية والاحتياجات الوطنية للدول.
  • خطط خمسية للقضاء على بعض المصاعب المرضية كالكبد الفيروسي وغيره.
  • تعزيز الشراكة بين هيئات المجتمع المدني المختلفة والحكومات بوصفها شراكة متوازنة.
  • جعل المؤسسات التعليمية العمومية جزء من المجتمع العلمي في البلاد مما يساهم في تعزيز وتيرة البحث العلمي.

[1] مدى الدولة مصطلح يستخدمه فرانسيس فوكوياما يقصد به سيطرة الدولة وتخلها في مختلف المجالات، مع الاشارة انه يرى ان مدى الدولة يجب ان يكون ضعيفا وترك المهمة للمؤسسات الخاصة والمجتمع المدني، في حسن تمارس هي درو الرقابة، للتوسع في الموضوع يمكن الرجوع لكتاب بناء الدولة لفرانسيس فوكوياما.

[2] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84_%D8%AD%D8%B3%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%82_%D8%B9%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D9%88%D9%8A%D8%B1

[3] قائمة صادرة عن موقع أرقام المهتم بالاحصاءات، https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/560700

[4] يمكن هنا ملاحظة الانتقال من المركز 47 في مجال الانفاق على البحث الى المركز 3 عالميا حين تعلق الامر بالسلاح، وامام دول كبرى حتى في انتاح السلام وتخوض حروب في ذات الفترة من قبيل روسيا واسرائيل.

[5] – انظر تقرير الاناضول التركية   https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D9%84%D8%AD-%D9%81%D9%8A-2019-%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9-%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D9%8B%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84/1361657

[6] خوشي محمد عبد اللطيف ، واقع البحث العلمي في الدول النامية مقارنة بالدول المتقدمة في توطين التوكنولوجيا (الصين وماليزيا واليابان) أنموذجا، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية، جامعة بابل، 2026 ص 202

[7]  تقرير لدوتشفله الالمانية يؤكد أن – إجمالي الإنفاق العسكري للمنطقة للعربية يقدر بنحو ترليون دولار في السنوات الـ10-15 الأخيرة،

[8] رابط تقرير اليونيسكو ويمكن خلاله مقارنة الدول العربية بالعالم الاخر وخصوصا الصين و الولايات المتحدة الامريكية، https://data.albankaldawli.org/indicator/GB.XPD.RSDV.GD.ZS

[9] حيث تعد القوانين التشريعية الخاصة بتونس قديمة، وفيها الكثير من المشاكل التي سعت العديد من اللجان الثقافية التحسين منها ومازال النقاش جاريا حول تحديثها بشكل شبه تام، حسب وزير الثقافة التونسي السابق مراد اصقلي.

[10] حسب تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” فإن الدول الخليجية تصنق من بين اكبر المشترين للسلاح على الاطلاق. https://www.dw.com/ar/%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%B3%D9%8A%D8%A8%D8%B1%D9%8A-%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%83%D9%84-%D9%87%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD/a-42943027

[11] للتوسع في موضوع الانفاق العربي على السلاح يمكن الرجوع للمقال التالي الذي نشرته الوكالات الروسية، بالاعتماد على معهد اسبيري، https://arabic.rt.com/press/942680-%D9%83%D9%85-%D9%8A%D9%86%D9%81%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A9/

https://arabic.sputniknews.com/military/201801301029626897-%D9%83%D9%85-%D9%8A%D9%86%D9%81%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%83%D9%84-%D8%B9%D8%A7%D9%85/

الفتاوى والتاريخ (دراسة لمظاهر من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال فقه النوازل)

                                                                                الحاج أحمدو **

استهل المؤلف كتابه” الفتاوى والتاريخ (دراسة لمظاهر من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال فقه النوازل)” بتوطئة بين فيها بعض التغيرت التي طرأت على الكتابة التاريخية والاتجاهات الجديدة في كتابة التاريخ، وقسم المؤلف عمله إلى أربعة محاور كما يلي:

المحور الأول: اعتبارات أولية :

وقد تعرض المؤلف في هذا المحور إلى الأسباب التي أدت إلى الاهتمام الملحوظ بدراسة النواحي الاقتصادية والاجتماعية من حياة المجتمعات في نطاق الاتجاهات الجديدة في التاريخ التي راهنت على مجموعة من المسلمات كإزالة الحواجز بين التاريخ وباقي العلوم الإنسانية ،و تفاعل تلك العلوم فيما بينها، و التركيز على المدى الطويل على حساب الحدث ذي الإيقاعات الانفعالية السريعة، وانتقال مراكز اهتمام المؤرخ من الزمن الفردي إلى الزمن الاجتماعي حسب التعبير البرود يلي ،أي “من الحياة السياسية إلى البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنية لإدراك حركية الواقع البشري في مختلف أبعاده وإخراج الكتابة التاريخية من النظرة الوحيدة الجانب لذلك الواقع”.

 وإذا كان توفر هذه المناهج والتقنيات قد مكن مؤرخي الفترتين الحديثة والمعاصرة في البلدان ذات التقاليد العريقة في مجال التوثيق من إحداث ثورة في مجال التاريخ الكمي في الاصطلاح الفرنسي أو التاريخ الاقتصادي الجديد في الاصطلاح الأنغلو ساكسوني  فإن الأمر لم يكن كذلك ـ حسب المؤلف ـ لا بالنسبة لمؤرخي الفترتين القديمة والوسيطة ،والمهتمين بتاريخ الذهنيات في البلدان ذات التقاليد التوثيقية بسبب الغياب الكبير للمعطيات الكمية التي يصعب تعويضها أو بسبب تقطعها في الزمان والمكان، وهو ما دفع ـ حسب المؤلف ـ بعض الباحثين لتعويض هذا النقص في الوثائق إلى استنباط بعض المعطيات الكمية من المصادر القصصية عن طريق استبدال لغة الألفاظ بلغة الأرقام قبل الانتقال إلى  مرحلة ثانية من الرقم إلى الواقع التاريخي المدروس وما ينبغي أن يتخلل مجمل العملية من حيطة واحتراز منهجيين ،وهو ما حدا بالعروي في سياق مقارنته بين التاريخي الكمي و تاريخ الإنتاج وتوظيف كل منهما لمفاهيم الاقتصاد وتقنيات الإحصاء إلى القول :” إن الثروة الحقيقية التي غيرت مسار البحث التاريخي في أواسط الخمسينيات من هذا القرن لم تكن إدخال العدد فحسب بل كانت تطبيق مناهج دراسة الإنتاج على ميادين أخرى باستغلال وثائق غير مؤشرات السوق والمعاش”.

وهكذا دفع النقص الكبير في الوثائق اللازمة لكتابة تاريخ معتبر علميا الباحثين إلى هذا النوع المركب من الرياضة الذهنية أحيانا والدعوة للبحث عن وثائق جديدة أحيانا أخرى لأن تجديد موضوعات وطرق كتابة التاريخ مرتبطة أشد الارتباط بتجديد المصادر.

ومن هذا المنطلق جاء اهتمام بعض الباحثين بالفتاوى والنوازل الفقهية بوصفها مصادر غنية بمعطيات ترتبط كل الارتباط بزمن على  المدى الطويل وبمكان  واسع في أغلب الأحيان إن لم تكن ترتبط بقضية معروفة بعينها وقعت في زمن أو مكان محددين.

واعتبر المؤلف أن الفتاوى والنوازل الفقهية في هذه المنطقة ـ في ظل الاهتمام المتزايد في المنطقة المغاربية بالتاريخ الجديد ـ ما تزال مغموطة وقيمتها الوثائقية مجهولة، بل لم يتسع لها مفهوم الوثيقة في المغرب الأقصى مثلا إلا في سبعينيات القرن الماضي بالنسبة لمعظم المختصين واقتصرت توظيفاتها المحدودة في الأساس على ما يمكن أن يستقى منها من معلومات إخبارية .

ولقد كان هذا الجهل والازدراء بالفتاوى كمصدر تاريخي ـ في مجتمع عربي إسلامي تعتبر حضارته بالدرجة الأولى حضارة فقه وشكلت فيه الفتاوى سلطة مرجعية ـ الدافع حسب المؤلف إلى كتابة هذا البحث المكرس في الأساس لأهمية الفتاوى كمصدر لكتابة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني.

وقدم المؤلف لمحة تاريخية موجزة عن استعمال الفتاوى الأكاديمي لتاريخ المنطقة بوجه عام ولاسيما من قبل المؤرخين التونسيين والمغاربة.

المحور الثاني:الفتاوى كمصدر تاريخي :من حقل الإسلاميات الغربي إلى الحقل الأكاديمي المغربي:

واعتبر المؤلف في هذا المحور أن الفضل يعود في لفت الانتباه إلى الفتاوى والنوازل كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي العربي بشكل عام والمغربي بوجه خاص في الفترة المعاصرة إلى مجموعة من علماء الإسلاميات الغربيين الذين اهتموا بتراث المنطقة الثقافي وبتاريخها في أبعاده الاجتماعية والسياسية والفكرية.

واقتصر اهتمام المؤلف ـ لاعتبارات تاريخية ولغوية حسب قوله ـ على ما قام به الفرنسيون وتمثلت المحاولات الأولى التي قاموا بها في ترجمة بعض النصوص الإفتائية قبل أن ينصب اهتمامهم في مرحلة لاحقة على تلك النصوص لمحاولة استنطاقها لتعويض النقص الذي تشكوه الحضارة العربية الإسلامية فيما يتعلق بوثائق الأرشيف وخاصة الوثائق ذات المنحى الاقتصادي والاجتماعي.

ويعتبر الأستاذ كلود كاهن من أول من نادوا بضرورة إعطاء أهمية خاصة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي، معتبرا أن كتب النوازل تستحق عناية خاصة وكرس لها مجموعة من الدراسات وإلى جانب كاهن اضطلع كل من : ربير برينشفيك و هادي روجي إدريس وجاك بيرك بجهود هامة في مجال الاهتمام بفقه النوازل والفتاوى وتوظيفها.

و”إذا كانت جل أعمال هؤلاء قد ظلت ـ حسب المؤلف ـ أسيرة النهج الوصفي المطل على الواقع من الخارج ومحكومة منهجيا بالإشكاليات التاريخانية للخطاب الاستشراقي النابع من محيط تاريخي تحكمه الذات المركزية الأوروبية ،فإن بعضها قد تحرر نسبيا من تلك المعوقات فعاين الواقع واستفاد من التطور الحاصل في العلوم الإنسانية ومناهجها، وقدم خدمات كبيرة لمؤرخي المغرب سواء على مستوى المضمون أو المنهج “.

واعتبر المؤلف أن أهمية هذه الأعمال لا تكمن في مضمونها فحسب،  وإنما فيما سنته من تقليد في مجال استغلال الفتاوى كمصادر تاريخية وإن كان ذلك الاستغلال قد ظل أحيانا استغلالا إخباريا محضا، وهي الطريقة التي ستهيمن ـ حسب المؤلف ـ على المراحل الأولى من تعامل الباحثين الجامعيين المغاربة مع هذا النوع الجديد من الوثائق التاريخية.

وأعطى المؤلف عناية خاصة لأعمال المؤرخين في الساحتين التونسية والمغربية لما تتميزان به  حسب المؤلف من حيوية وريادة في مجال مواكبة وتوظيف المناهج والأساليب الجديدة للبحث في العلوم الاجتماعية عموما والدراسات التاريخية على وجه الخصوص ، ولما يتوفر عليه المؤلف من معلومات تركيبية عن البلدين وإن تقادم بها العهد تونس1978،المغرب1986.

وتظهر الدراسات التي اطلع عليها المؤلف تفاوتا في الاهتمام بفقه النوازل وفي طرق توظيفه بالنسبة لمؤرخي البلدين ، فمن بين عشرين عملا علميا مكرسا للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي التونسي لم يستفد منها حسب المؤلف من الفتاوى سوى ثمان تتعلق بالفترة السابقة للقرن 16م ،أما الأعمال المتعلقة بالقرون اللاحقة (16 ـ 20)  فلم تشر إليها ببنت شفة وإن وظفت كثيرا الأحكام القضائية.

وأرجع المؤلف الأسباب في ذلك إلى  ندرة المعلومات في الحالة الأولى عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المصادر الأخرى، وتوفر مادة وثائقية غنية بالمعطيات الكمية والكيفية عن مناحي المجتمع لدى الباحثين في الحالات الأخرى.

وقد يكون مرد ذلك إلى التجذر التاريخي للسلطة المركزية في تونس وتغلغل أجهزتها داخل جسم المجتمع وهو ما يتجلى بشكل واضح في هرمية تنظيم الوظيفة العلمية في هذا البلد عكسا لما عليه الحال في البلدان الأخرى.

وقد تعززت تلك الخصوصيات مع استيلاء الأتراك على إفريقية سنة 1574م الذين عمدوا إلى احتكار السلطة والهيمنة على المجتمع جاعلين النظر في النوازل من اختصاص المفتين والقضاة الرسميين.

واعتبر المؤلف أن درجة استفادة المؤرخين التونسيين من الفتاوى والنوازل التي حفل بها العصر الوسيط، ما تزال نسبية باستثناء الجهود التي بذلها الأستاذ محمد الطالبي  والأستاذين سعد غراب ومحمد حسين.

وأشاد المؤلف بجهود الطالبي عميد أخصائي تلك الفترة الذي تنبه حسب المؤلف إلى الأهمية البالغة للمصادر الفقهية بشكل عام والفتاوى على وجه الخصوص في دراسة ماضي المغرب الاقتصادي والاجتماعي والتي وظفها توظيفا بنيويا في جل كتاباته عن تاريخ المنطقة.

واقتصر المؤلف على ذكر بعض الأعمال التي قام بها الطالبي كاهتمامه بدراسة الحياة العسكرية من خلال فصل الجهاد من كتاب النوادر والزيادات على ما في المدونة من غريب الأمهات.

وألقى الطالبي حسب المؤلف نظرة فاحصة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في إفريقية القرنين 9 ـ 10 م باستغلاله لسبعة وثلاثين فتوى من كتاب مسائل السماسرة للأبياني تتعلق بسماسرة الثياب في مدينة تونس التي انتزعت مكانة القيروان في أواخر القرن 9م.

واستقى الطالبي في دراسته لتاريخ إفريقية المؤسسي الاقتصادي والاجتماعي في القرن 3هـ ـ 9م معلوماته من بعض الكتب:كالمدونة لسحنون، وكتاب:الاموال لأبي جعفر أحمد بن نصر الداودي.

واعتمد الطالبي بوجه خاص على المدونة في تحليل جوانب من الحياة الزراعية مثل:الشفعة والقسمة والعارية والمنيحة ، وقد حلل انطلاقا من تلك النصوص ما امتازت به البنيات الزراعية والاجتماعية في القرن 9م من تفاوت كبير سواء على صعيد الهرمية الاجتماعية أو على صعيد توزيع الثروة وما لعبه الأرقاء من دور بارز فيما حققه ازدهار الزراعة آنذاك من رخاء في إفريقية.

وخلص المؤلف إلى أن الطالبي مهد السبيل للولوج إلى التاريخ الصامت للمجتمعات المغاربية من بابه الواسع.

ويذكر المؤلف في مجال التحقيق ما قام به الأستاذ فرحات الدشرواي  من نشر كتاب :أحكام السوق ليحي بن عمر بن لبابه ، وتحقيق :نوازل المزارعة والمغارسة و المساقات والشركة  من المعيار للونشريسي  من طرف محمد حسن موسى، وتحقيق :الأحكام للشعبي من طرف الصادق الجلوي، وقام الأستاذ انس العلاني  بتحقيق السفر الأول والثاني من كتاب الإعلام بنوازل الأحكام لابن سهل.

ويقدم الاستاذ سعد غراب في بحثه: كتب الفتاوى وقيمتها الاجتماعية الجزأ الأول  من نوازل البرزلي.

واستعرض غراب في البداية الآراء المتضاربة بشأن أهمية الكتب الدينية في دراسة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وميل إمام وفقهاء المذهب المالكي إلى الواقعية في الافتاء وتشبثهم بالواقع وابتعادهم عن الافتراضات النظرية والحيل الفقهية، واعتبارهم للعرف والعادة والعمل كأصول فرعية للتشريع قبل أن يتناول أهمية كتب الفتاوى المغربية، وما قيم به من توظيف تاريخي لها ولا سيما نوازل البرزلي وقيمتها الاجتماعية ليخلص إلى القول إن الثروة الكبيرة الموجودة في مثل هذه التصانيف تسمح لنا بتجشم أتعاب النظر فيها ودراستها وربما تحقيقيها علميا إذ ذاك يمكن لكل إنسان أن يفتش عن بغيته في هذا المنجم الخصب.

ويظهر سعد غراب ما تميزت به مواقف بعض الفقهاء في المدن الإفريقية من قساوة تجاه الأعراب بين الطعن في إسلامهم واستغراق ذمتهم اعتمادا على فتاوى لابن عرفة والبرزلي.

وتجلت تلك النظرة الإزدرائية تجاه المجموعات الريفية في اختلاف فقهاء القرن 8م بشأن التعارض القائم بين التعاليم الشرعية وبعض الممارسات الاجتماعية.

وتناول الأستاذ حسن محمد موسى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لهذه المسألة بتعمق وحصافة في دراسته عن الريف المغربي( الريف المغربي في أواخر العصر الوسيط ) إذ تعرض لما منح للتاريخ السياسي والعسكري العربي من عناية وما عاناه التاريخ الاقتصادي والاجتماعي من تهميش نتيجة لصعوبة البحث فيه لغياب أرشيف اقتصادي بالنسبة للمغرب الإسلامي وهيمنة كتب الحوليات والتاريخ على المادة الوثائقية وضحالة المعلومات الاقتصادية والاجتماعية الواردة فيها.

 وتناول أهمية كتب الفقه والفتاوى في هذا المضمار وأسباب عزوف الباحثين مستعرضا شروط استنباط المعلومات من الكتابات الفقهية ليخلص إلى المضمون الاقتصادي والاجتماعي لفصل المزارعة والمغارسة من المعيار إذ عالج بحس تاريخي البنية الفلاحية المغربية والمشكلات التي طرحتها على المجتمع الفلاحي المغربي من خلال دراسة وسائل الإنتاج الفلاحي وعلاقات الإنتاج (الشركات الفلاحية) إذ استعرض الهياكل العقارية وسماتها المميزة وعناصر الإنتاج إضافة إلى ظاهرة الخماس ووظيفته وعلاقاته برب العمل.

وخلص المؤلف إلى أن محدودية استغلال الفتاوى في الكتابات التاريخية هي السمة الغالبة على الانتاج الجامعي التونسي، وهو ما يخالف الوضع في المغرب نظرا لتفاوت تطور الهياكل الاجتماعية وتباين طبيعة الدور؟الاستعماري في حقل الإنتاج التاريخي.

وخلص المؤلف إلى أن خصوصية المغرب الأقصى الاجتماعية والسياسية ستتحكم إلى حد كبير في اهتمامات مؤرخيه وطبيعة الإنتاج التاريخي في فترة ما بعد الاستقلال .

وتطرق المؤلف إلى المراحل التي مر بها الانتاج التاريخي في هذا الحقل، وقد تميزت بمرحلتين أساسيتين هما:

*مرحلة التاريخ الوطني: (56 ـ 1975 ):

وقد هيمنت عليها هموم دحض الاستوغرافيا الاستعمارية وتأكيد الهوية الوطنية.

*مرحلة التاريخ الاجتماعي ( 1975 ـ إلى اليوم ).

وهي مرحلة شكلت حسب المؤلف نقلة نوعية في مجال الإنتاج التاريخي بالمغرب سواء من حيث المنهج أو من حيث مجالات الاهتمام .

وحسب المؤلف فإن جهود الجامعة المغربية أخرت على مدى عشرين عقدا من الزمن عن تخريج نخبة من المؤرخين الشباب المنفتحين على العلوم الاجتماعية الأخرى ومناهج البحث المعاصرة ، ولاسيما مناهج علمي الاقتصاد والاجتماع والواعيين بالمتطلبات الجديدة لمهنتهم وواقع البحث في بلادهم إذ انصب اهتمامهم على التاريخ الاجتماعي ( الكلي بمعناه البروديلي ) بدل التاريخ السياسي الذي هيمن على المرحلة الأولى .

وفي ظل هذا التوجه التحديثي اهتم الباحثون بالفتاوى الفقهية ضمن عملية تنقيب واسعة النطاق عن وثائق جديدة تسمح بإعادة صباغة الماضي صياغة معتبرة بشكل علمي.

ويظهر حضور الفتاوى في الأبحاث الجامعية المغربية إذ ارتبط  ارتباطا وثيقا بتطور البحث التاريخي بشكل عام وبتطور المناهج والاتجاهات الفكرية في الجامعة المغربية بشكل خاص.

وحسب المؤلف فقد ظلت الفتاوى حتى نهاية السبعينيات مستبعدة من قبل المؤرخين كمصدر تاريخي، وابتداء من سنة 1970 طرح الأستاذ عبد الله العروي بطريقة أكثر جلاء ضرورة توظيف الفتاوى في كتابة التاريخ المغربي إذ أن “فقه النوازل هو الكفيل بأن يقربنا أكثر من واقع الأوضاع السياسية والاجتماعية لكن هذا النوع من الكتابات ما زال لم يدرس دراسة شاملة”.

وقد أعطى العروي اتجاهات جديدة للبحث التاريخي وابتداء من ذلك التاريخ سيتبلور اتجاهان في مجال استخدام الفتاوى الفقهية كمصدر تاريخي أحدهما تراثي ببليوغرافي  النزعة ، والآخر بنيوي يعكسان ثنائية منهجية واضحة على مستوى العاملين في حقل البحث التاريخي المغربي، وتوجد قواسم مشتركة بين هذين الاتجاهين تتمثل في التزايد الملحوظ لكم المصادر الفقهية المستخدمة واتساع مجال توظيفها زمنيا ونوعيا بحيث لم يعد يقتصر على الفترة القروسطية، وإنما شمل الفترتين الحديثة والمعاصرة.

وسنقتصر في التمثيل لهذين الاتجاهين على عناصر محدودة لها دورها الريادي تجنبا لمزيد من الإفاضة في عنصر لا يشكل جوهر اهتمامنا الآني.

وحسب المؤلف فقد استمر الاتجاه الأول الذي استمر في استغلال الفتاوى استغلالا إخباريا محضا في مجالات مختلفة ويمثله كل من محمد حجي وإبراهيم حركات وعبد اللطيف الشاذلي.

أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه البنيوي الذي مثل نقلة كيفية في الإنتاج التاريخي المغربي ومن بين من سلكوا هذا النهج :أحمد التوفيق و محمد القبلي ومحمد مزين وعبد الله الحمودي وعبد القادر المؤدن  ومحمد اعفيف…

وخلص المؤلف إلى القول إن الفتاوى إذا كانت قد حظيت باهتمام كبير في مجتمعات لها تقاليدها العريقة في مجال التوثيق وتجاربها في مجال البحث التاريخي ،فإننا في المنكب البرزخي أحوج ما نكون إلى الاهتمام الجاد بهذه المادة الوثائقية الثرة وتوظيفها توظيفا بنيويا ونحن نخطو خطواتنا الأولى في مجال البحث التاريخي المعاصر.

المحور الثالث:الفتاوى الموريتانية من الكم إلى الكيف:

ويتطلب الحديث عن الكم والكيف في الفتاوى المتعلقة بما يعرف بموريتانيا حسب المؤلف التأريخ لتلك الفتاوى في هذا المجال ببعديه الجغرافي والبشري التاريخيين، إذ يرتبط الاستفتاء والإفتاء في هذا المجتمع كما في غيره من المجتمعات الإسلامية بتاريخ اعتناقه الإسلام وحظه من الثقافة العربية الإسلامية.

وإذا كانت التقاليد العالمة المحلية ترجع تاريخ دخول الاسلام إلى صحراء الملثمين إلى النصف الأول من القرن الثاني الهجري فإنه لا جدال في أن هذا الاسلام ظل سطحيا ويفتقر إلى العمق المعرفي حتى أواسط القرن 5هـ على الأقل.

وإذا كانت حركة المرابطين قد وطدت إسلام صنهاجة الصحراء ووضعت له دعائم عقائدية وثقافية ـ ما فتئت تترسخ مع الأيام ـ بقضائها على بقايا المعتقدات السابقة على الإسلام وتوحيدها الجميع في مذهب فقهي وعقائدي واحد وتعميقها المعارف الدينية والثقافية بإقامة المؤسسات التعليمية.فإن المنطقة حسب المؤلف لم تحقق على ما يبدو اكتفائها المعرفي إلا في القرن 10هـ ـ 16م :”إذ لم نعثر ـ يقول المؤلف ـ قبل هذا القرن على فتاوى لمفتين محليين إذ استثنينا ما أوردته الكتب الإخبارية عن الافتاءات التي كان يصدرها شفهيا على الأرجح ابن ياسين من حين لآخر بينما كان الاستفتاء معروفا في المنطقة منذ القرن 5هـ على الأقل”.

وحسب المؤلف فلا يمكن التعويل على الفتاوى كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني قبل الفترة الحديثة خلافا لما عليه الحال في تونس والمغرب.

وكانت أولى الفتاوى المحلية مع اند عبد الله بن سيد أحمد ت1530م وجيله من علماء ولاته و تينبكتو و تيشيت التي كانت من أولى مراكز  الإشعاع الثقافي في المنطقة وستترسخ ظاهرة الإفتاء وتنتشر في عموم البلاد خلال القرون اللاحقة مع الانتشار العمودي والأفقي للمعارف العربية والإسلامية وانتقال مركز الثقل المعرفي من المدن إلى البوادي.

ومن خلال عملية تقص أولية للفتاوى والمفتين المعروفين في الفترة ما بين القرن 16 والنصف الأول من القرن الـ 20 أحصى المؤلف 250 مفت منهم 85 لهم مجامع إفتائية ضخمة أحيانا ومرتبة حسب أبواب الفقه و”ليس لهذه الأرقام حسب المؤلف أية دلالة حصرية”.

 ويعتبر القرن 17 قرن ظهور المجامع الإفتائية الكبرى في موريتانيا مع محمد بن المختار بن الأعمش ( ت1107 /1695 م ) ومحمد بن أبي بكر الهاشم الغلاوي  ( ت 1098 / 1686 م ) والقاضي عبد الله بن محمد بن حبيب العلوي ( 1102 / 1692 م )  والحاج الحسن بن آغبدي الزيدي (ت 1192 / 1711م ) .

كما ظهرت في هذا القرن أولى عمليات تطويع الفقه المالكي للواقع المحلي المعيش بترجيح عرف البلد ـ أحيانا ـ على مشهور المذهب اعتبارا لمقاصد الشرع وحرصها على مصلحة الناس في كل زمان ومكان.

ويظهر الجدول التصنيفي التالي لـ 250 مفت و82 مجمعا إفتائيا تزايدا مضطردا لهم عبر العصور الأخيرة .

الجدول:1

القرن عدد المفتين عدد المجامع الإفتائية
16 5 ؟
17 15 4
18 62 25
19 94 29
النصف الأول من ق:20 74 24
المجموع 250 82

و سنلاحظ أن عموم المناطق الموريتانية قد عرفت الإفتاء إذا حاولنا توزيع هؤلاء المفتين توزيعا جغرافيا وأن هناك ـ على ما يبدو ـ تعالقا كبيرا بين حظ المناطق منه ومستوى إشعاعها الثقافي أو وعيها الفقهي على الأقل ،كما يتضح من الجدول الموالي:

القرن 16 17 18 19 النصف الأول من ق 20 المجموع الجزئي
شرقي البلاد 4 4 26 10 4 48
الوسط 1 1 10 11 13 36
الشمال ـ 5 5 7 3 20
الجنوب الغربي ـ 5 21 66 54 146
المجموع 5 15 62 94 74 250

فالإفتاء في القرن 16 قد اقتصر على المنطقتين الشرقية والوسطى من البلاد حيث كانت لمحور تينبكتو  ولاته تيشيت الهيمنة الاقتصادية والثقافية منذ أواسط القرن 14 م .

ومع التحولات التي عرفتها المنطقة في ملتقى القرنين 16 ـ 17م وما انجر عنها من تبرمات  سياسية وهجرات بشرية ( ولا سيما من المراكز القروية إلى الأرياف ) وزحزحة مسالك التجارة البعيدة المدى نحو الغرب سنلاحظ تقلصا تدريجيا في عدد المفتين في شرق ووسط البلاد وظهورهم بشكل ملحوظ في الشمال والجنوب الغربي.

أما القرن 18م الذي استقرت فيه ـ عموما ـ الخريطة البشرية والسياسية للمنطقة فقد كان نسبيا ـ حسب المؤلف ـ قرن رخاء اقتصادي وازدهار ثقافي تلمس مظاهره المختلفة في مدونات المفتين الذين تكاثر عددهم في ذلك القرن في عموم البلاد ولاسيما في شرقها ووسطها وجنوبها الغربي.

وستستمر نفس الظاهرة في القرن 19م والنصف الأول من القرن العشرين و”إن كنا ـ حسب المؤلف ـ نلاحظ خلال هذين القرنين صعودا ملحوظا لعدد المفتين في المنطقة الجنوبية الغربية أكثر من غيرها من مناطق البلاد الأخرى.

وأرجع المؤلف ذلك إلى “خصوصية العوامل التي أثرت في تطور المنطقة المعاصر أو إلى نقص في المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن ـ يقول المؤلف ـ عن الإفتاء والمفتين  في هذه الفترة ولاسيما في المنطقتين الشرقية والوسطى”.

ولإعطاء فكرة كمية وكيفية أكثر ملموسية عن الفتاوى وأهميتها في دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني اختار المؤلف  عينة من 6 مفتين موزعين على القرون:17،18،19م تشتمل على 1453 فتوى تمثل المسائل المتعلقة بالحياة الاقتصادية منها 27.84% ( 406 فتوى)  في حين تمثل الفتاوى ذات المنحى الاجتماعي 44.87% (652 فتوى) وهو ما يمثل في مجموعه 72.81% (1058 فتوى).

 ويمثل الجدول التالي تلك المعطيات بالتفصيل بالنسبة لكل مفت:

اسم المفتي العدد الإجمالي للفتاوى المصنفة حقل الفتوى عددها النسبة الجزئية النسبة العامة
محمد بن المختار بن الأعمش (1625ـ 1695) 286 فتوى الحياة الاقتصادية 115     40.20%
فتاوى المعاملات 87 75.65%
فتاوى العبادات 28 24.34%
الحياة الاجتماعية 75     26.22%
الأنكحة وما يتعلق بها 45 60%
العلاقات الاجتماعية 30 40%
الحياة الدينيةوالثقافية 96     33.56%
الحياة الدينية 75 78.12%
الحياة العلمية 21 21.87%
سيد عبد الله بن الحاج ابراهيم(1740ـ1818) 333 الحياة الاقتصادية 55 ؟ 16.61%
الحياة الاجتماعية 206 ؟ 61.86%
الحياة الدينية 72 ؟ 21.62%
أحمد بن العاقل 74 الحياة الاقتصادية 25     33.78%
فتاوى المعاملات 9 36
فتاوى العبادات 16 64
الحياة الاجتماعية 18   24.32%
الأنكحة وما يتعلق بها 12 66.66
    العلاقات الاجتماعية 6 33.33  
الحياة الدينية 14 ؟ 18.92%
القضايا السياسية 17 ؟ 22.97%
محنض بابه بن اعبيد (1771 ـ 1860) 280درست منها 203 الحياة الاقتصادية 91     24.32%
فتاوى المعاملات 61 67.03
فتاوى العبادات 30 32.97
الحياة الاجتماعية 52     25.61%
الأنكحة وما يتعلق بها 22 42.30
العلاقات الاجتماعية 30 37.69
الحياة الدينية والثقافية 60     29.55%
الحياة الدينية 40 66.66
الحياة العلمية 20 33.33
الشيخ سيديه بن المختار بن الهيبه ( 1776 ـ 1868) 332 الحياة الاقتصادية 58     18.01%
فتاوى المعاملات 19 32.76
فتاوى العبادات 39 67.24
الحياة الاجتماعية 193     59.94%
الأنكحة وما يتعلق بها 78 40.41
العلاقات الاجتماعية 115 59.58
الحياة الدينية والثقافية 54     16.77%
الحياة الدينية 25 46.30
الحياة العلمية 29 53.70
القضايا السياسية 17 ؟ 05.28%
محمذن فال بن متالي 225 الحياة الاقتصادية 62     27.55%
فتاوى المعاملات 33 53.23
فتاوى العبادات 29 46.77
الحياة الاجتماعية 106     47.11%
الأنكحة وما يتعلق بها 19 17.92
العلاقات الاجتماعية 87 82.08
الحياة الدينية 57 ؟ 25.33%

منزلة الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية من مجموع فتاوى 6 مفتين من أهل القرون:17،18، 19:

إن نظرة إجمالية سريعة إلى الجدول الاستنباطي تظهر أن القضايا الاجتماعية بمعناها الضيق( الأنكحة وما يتعلق بها من ممارسات ،والعلاقات الاجتماعية بين فئات  المجتمع …) قد احتلت الصدارة من الناحية الكمية في إفتائات هؤلاء المفتين ( حوالي:45% من المجموع العام ) على مدى ثلاثة قرون في مناطق مختلفة من البلاد ، وإذا ما أضيف إلى هذا الرقم نسبة الممارسات الدينية والثقافية من تلك الفتاوى فإن نسبة مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية ستصل إلى 72% وهذا يعني أن هذا المجتمع كان أكثر حركية و أقل رتابة مما توحي به النظرة الانطباعية العامة عن واقعه، وأن الحياة الاجتماعية كانت تطرح على سكان المنطقة من النوازل التي تتطلب تأسيسا فقهيا أكثر مما تطرحه حياتهم المادية التي لم تتجاوز نسبتها 28%من تلك المدونة الإفتائية. 

أما إذا أخذنا فتاوى كل مفت على حدة، واقتصرنا على القضايا الاجتماعية المحضة فإننا نجدها قد فاقت غيرها من القضايا في فتاوى كل من سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم والشيخ سيديه بن المختار بن الهيبة، ومحمذن فال بن متالي حيث بلغت نسبتها:56.74% من مجموع فتاويهم بينما تفوقت عليها القضايا الاقتصادية في فتاوى محمد بن المختار بن الأعمش، وأحمد بن العاقل ، ومحنض بابه بن اعبيد.

وأرجع المؤلف أسباب ذلك إلى المحيط الطبيعي والتاريخي لهؤلاء الذين كان عليهم مدار الإفتاء في المناطق التي عاشوا فيها، فقد عاش بن الأعمش في القرن 17م  بمنطقة آدرار الجبلية القاحلة ذات الحجم السكاني المحدود والتي تقوم حياتها المادية في الأساس على زراعة الواحات والتجارة عبر الصحراء، وتحديدا في مدينة شنقيط التي كانت في ذلك الوقت تعرف بداية ازدهارها الاقتصادي، وتألقها الحضاري باعتبارها محطة أساسية في تلك التجارة وملتقى لقوافل الحج  بالمنطقة ومركزا علميا مهما ،ومن الطبيعي في مجتمع كهذا أن تحتل المشكلات ذات الطابع الاقتصادي الصدارة على حساب القضايا الاجتماعية فقد أصدر ابن الأعمش 87 فتيا بشأن المعاملات وحدها (البيع ،السلم ،المطل ، الضمان،العارية ،الشركة،القراض،الإيجار،الجعل،الوديعة… ) منها 30 فتيا تتعلق بالبيع ،و12 بالإجارة،و7 بالمطل،في حين أصدر 44 فتيا بشأن الأنكحة 21 تتعلق بالزواج و20 بالطلاق و3فتيا بالعدة والاسترعاء والحضانة…

أما ابن العاقل فقد عاش جل حياته في القرن 18 بمنطقة اترارزة السهلة الساحلية التي تقوم حياة سكانها على الرعي ( ولاسيما تربية الأبقار) والتجارة والزراعة بدرجة محدودة، وفي منطقة إيكيدي  بوجه خاص ووسط المجتمع الشمشوي المعروف بتمسكه بالمثل الدينية وبنهجه الأخلاقي المتميز.

وقد عرفت المنطقة في عهده استقرارا سياسيا واجتماعيا بعد الاضطرابات والهزة العنيفة التي عرفتها في أواخر القرن 17م جراء حرب شرببه ، وبداية رخاء اقتصادي لعبت فيه عائدات تجارة العلك مع الأوربيين دورا مهما،وإذا كانت فتاويه ذات الطابع الاقتصادي أعلى نسبة من فتاويه ذات المنحى الاجتماعي ( 33.78% مقابل 24.32% من مجموع فتاويه) فإن فتاوى العبادات في الصنف الأول قد فاقت فتاوى المعاملات ( 64%مقابل 36% من الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية.

 وإذا قارنا عدد فتاوى الحقلين الأساسيين في المجالين الاقتصادي والاجتماعي فإن فتاوى الأنكحة أهم بقليل من فتاوى المعاملات (12 مقابل 9).

وعاش محنض بابه خلال القرن 19م بنفس المحيط الطبيعي والبشري الذي عاش فيه أحمد بن العاقل ،وعرفت المنطقة في عهده عصرها الذهبي سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي، وكانت تجارة العلك مع الأوربيين، وما يتولد عنها من نشاطات اقتصادية،وإشكالات فقهية تعيش أوج ازدهارها في عهد هذا المفتي القاضي المركزي للإمارة ،وأخذت تلك الإشكالات حيزا ملحوظا من اهتماماته واهتمامات معاصريه.

وبالعودة إلى فتاويه فقد هيمنت عليها الإشكالات الاقتصادية (44.83%مقابل 25.61% للاستشكالات الاجتماعية) ولاسيما قضايا المعاملات التي استحوذت على 67.03%من الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية.

فقد أصدر 39 فتيا بشأن البيوع وما يتعلق بها من معاملات في حين لم تتجاوز فتاوى الأنكحة ومتعلقاتها 16 وهو ما يمثل نسبة 2.43% وهذا يعني أن الإشكالات التي طرحتها حياة الناس المادية في تلك المنطقة خلال النصف الأول من القرن 19 كانت  أهم من تلك طرحتها حياتهم الاجتماعية.

وارجع المؤلف السبب في ذلك إلى ما عرفه النشاط الاقتصادي في المنطقة من تعقيدات ومستجدات بفعل التغلغل البضاعي في حين ظلت الحياة الاجتماعية تعيش رتابتها التاريخية  حسب المؤلف بمنأى عن المؤثرات الخارجية.

ولتوضيح أهم القضايا ذات الطابع الاقتصادي التي تناولها هؤلاء المفتون يقدم المؤلف فتاوى ابن الأعمش ومحنض بابه والشيخ سيديا فقط التي تمكن من الحصول على جرد شبه دقيق لها كما يظهر من الجدول التالي:

4

موضوع الفتاوى عددها نسبتها الحقلية* نسبتها من المجموع العام**
البيوع وما يتعلق بها 77 29% 7.90%
السلم 10 3.78% 1.02%
القيم وأنواعها 9 3.4% 0.92%
القرض 9 3.4% 0.92%
الضمان 8 3.03% 0.92%
الإجارة والكراء 17 6.44% 1.74%
الشركة 3 1.13% 0.30%
الربا 10 3.78% 1.02%
المداراة 12 4.55% 1.23%
الزكاة 28 10.6% 2.97%
الحبس والوقف 39 14.77% 4%
أشكال من التعاون الاقتصادي ( ونكالة ـ خلط الطعام عند صانعيه) 3 1.13% 0.3%

*  تبلغ فتاوي هؤلاء المفتين الثلاثة ذات الطابع الاقتصادي 264 فتوى .

** مجموع المدونة الافتائية الماخوذة كعينة تبلغ 974 فتوى.

وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الجدول التالي يبين أهم الاستشكالات الاجتماعية المطروحة على هؤلاء المفتين بوصفها تجليات لممارسات المجتمع ونظام قيمه الذهنية .

أهم القضايا الاجتماعية المثارة في فتاوى العلماء الثلاثة.

موضوع الفتوى عددها نسبتها الحقلية نسبتها من المجموع العام
الزواج وما يتعلق به 107 23.44% 10.98%
الطلاق 39 12.18 4%
العتق والولاء 19 5.94 1.95%
المغارم 4 1.25 0.41%
الفداء 3 0.94 0.31%
وضعية الرقيق 5 1.56 0.51%
استغراق الذمة والنظرة إلى بني حسان 17 5.31 1.75%
قضايا التصوف 65 20.31 6.67%
الجنايات 18 5.62 1.85%
القضاء والتقاضي 31 9.69 3.18%
الصدقة والهبة 12 3.75 1.23%

ويقسم المؤلف القضايا الاجتماعية الواردة في هذا الجدول تبعا لحضورها في المدونة الإفتائية إلى ثلاثة محاور هي:

1ـ الأنكحة أو ما يقع بين اثنين .

2ـ الممارسات  السوسيودينية.

3ـ العلاقات بين الفئات الاجتماعية.

وقد شكل المحور الأول المشغل الاجتماعي الأساس في حياة المجتمع آنذاك باستحواذه على 146 فتيا من أصل 320 فتوى (45.62%) وهو ما يعكس حسب المؤلف  تفاعل النصوص الشرعية مع الجانب الاجتماعي بقوانينه الفرعية السائدة وشبكات بناه القرابية والفئوية بمستوياتها المختلفة.

فقد مثل الزواج نسبة 73.28% ( أي 107 فتيا) من فتاوى الأنكحة بينما مثل الطلاق 26.71 % (39 فتيا) وهو ما يشكل حسب المؤلف مؤشرا على أن تفشي ظاهرة الطلاق في المجتمع إذ ذاك كان محدودا نسبيا وأن الحياة الأسرية كانت تتسم بنوع من الاستقرار لاسيما وأن 20من فتاوى الطلاق تتعلق بالقرن 17م وبمفت واحد حسب المؤلف.

واحتلت الممارسات السوسيودينية المنزلة الثانية من الناحية الكمية حيث تناولتها المدونة الإفتائية في 126 فتيا 65 منها مكرسة لقضايا التصوف و31 للقضاء و18خاصة بالجنايات و12 بالصدقة والهيبة.

وأشار المؤلف إلى أن فتاوى التصوف خاصة بالقرن 19 ذلك القرن الذي حققت فيه تلك الظاهرة انتشارا أفقيا لم يسبق له مثيل في الأراضي الموريتانية الحالية ،وأن تلك الفتاوى صادرة عن الشيخ سيديا  الكبير وحده الذي كان رائد القادرية في الجنوب الغربي الموريتاني.

أما محور العلاقات بين الفئات الاجتماعية فقد اشتمل على 48 فتيا (15% من مجموع الفتاوى الاجتماعية) كرست 19 منها لإشكالات العتق والولاء و17 باستغراق الذمة ونظرة الزوايا ـ القيمين على الإفتاء والإنتاج المعرفي بوجه عام حسب المؤلف ـ إلى بني حسان، و5 بالرقيق ووضعيته القانونية في ذلك المجتمع، و4 بالمغارم  و3 بظاهرة الفداء.

المحور الرابع: الفتاوى في الزمان والمكان أو من الفقه إلى التاريخ:

حاول المؤلف في هذا المحور رصد بعض مظاهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتلمس العلاقات الوثيقة بين الأحداث الاجتماعية والمؤشرات الاقتصادية والتفاعل بينهما عبر الزمن البطيء  من خلال تجليات فتاوى علماء القرون الثلاثة الماضية من خلال المدونة الإفتائية التي تعتبر بحق”أرشيف مجتمع بلا أرشيف”.

وستتمحور النماذج المستقرأة حول بعض أساليب التعامل الاقتصادي والممارسات الاجتماعية والعلاقات بين فئات المجتمع.

أـ أساليب التعامل الاقتصادي:

وأكد المؤلف أن هذه البلاد لم تعرف قبل عشرينيات القرن العشرين استخدام العملة وتحديدا سنة 1919، حسب مختلف الشهادات التاريخية ففي القرن 15م يؤكد سادا موستو عدم وجود الدراهم المسكوكة،كما يؤكد ذلك فالانتين فيرناندس في مطلع القرن 16 في معرض حديثه عن سكان الأراضي الموريتانية الحالية حين قال:(إن العرب ليست لديهم عملة باستثناء الفضة التي تأتيهم من بلاد النصارى والتي هي أغلى عندهم من الذهب (…) فليست لديهم وسيلة أخرى للشراء أو للبيع سوى مقايضة مادة بأخرى). ويقول شامبونو في الربع الأخير من القرن17 إن (كل التبادل يتم عن طريق المقايضة دونما استخدام للعملة). كما أكد ذلك الشيخ محمد المامي في القرن19 عندما اعتبر أن (التقويم بالعروض في أرض لا سكة فيها تشهد له الأصول)، وقال بضرورته( في بلادنا التي لا توجد فيها السكة (…) وإنما عروض تغلب في هذا الجزء من البلد وغيرها يغلب في جزء آخر ويتعين التقويم بها). وأشار المؤلف إلى أن الرأي القائل بالتقويم بالعروض ذهب إليه أكثر من مفت في البلاد. و”هكذا ـ يقول المؤلف ـ  ظلت طرق التعامل تسودها المقايضة حيث لعبت المواشي وبعض المواد المحلية دور وسيلة التبادل الأساس في هذه الفترة أو تلك ، وإذا ما تركنا جانبا الدور الذي لعبه الملح والذهب في التجارة الصحراوية (…) فإن الودع وبيصة النيلة والأنعام قد شكلت وسائط التقويم والتبادل الأساسية في البلاد تبعا لخصوصيات كل منطقة”.

ب ـ الممارسات الاجتماعية:

واعتبر المؤلف أن المشغل الاجتماعي كان حاضرا حضورا مكثفا في فتاوى الفقهاء الموريتانيين في القرون الماضية حيث تعكس فتاويهم مشاكل مجتمعهم وممارساته الاجتماعية على اختلاف مظاهرها.

إذ “من الطبيعي ـ يقول المؤلف ـ في مجتمع قبلي من البداة الرحل يعيش تقلبات الظروف الإيكولوجية لمحيط طبيعي  غير مضياف، وشحا في مصادر عيش يعتمد ـ في الأساس ـ على الإنتاج الرعوي المتميز بالقلة ،وتسيبا سياسيا متأصلا ،من الطبيعي إذن أن يعرف هذا المجتمع ضروبا من الفوضى والمظالم ذات الجذور المادية والاجتماعية كالسلب والنهب والمداراة والمغارم”.

وقد احتفظت لنا النصوص الإفتائية منذ القرن 5هـ /11م بمعطيات عن شيوع ظاهرة السلب والنهب في المنطقة واستفتاء أهلها عن موقف الشرع من الأموال المغصوبة إذ استفتى  مرابطوا الصحراء ابن رشد عن مسالة غصب نزلت عندهم.

ويؤكد اللمتوني استمرار تلك الظاهرة في مجتمعه خلال القرن 9هـ /15م وتعج المصادر الإخبارية المحلية في القرون اللاحقة بحوادث السلب وما يصاحبها  عادة من عنف،كما طفحت إفتاءات العديد من الفقهاء في القرون الثلاثة الماضية بمظاهر مختلفة من الإشكالات التي طرحها الغصب والنهب على الناس في مشارق هذه الجزيرة السودانية ومغاربها.

ويختم المؤلف حديثه عن السلب والنهب بالقول “إن الأمر يتعلق بظاهرة ضاربة الجذور في تاريخ هذا المنكب البرزخي (…) فقد مورس في عهد المرابطين (…) وفي عهد الإمارات الحسانية (…) ويمارس اليوم ـ يقول المؤلف ـ في ظل الدولة المركزية على الممتلكات العمومية بشتى الطرق،وليست  الكزرة (القسر) بمظاهرها الاقتصادية والسياسية والعسكرية سوى إحدى التجليات المعاصرة لظاهرة الغصب والنهب المتأصلة في هذه الأرض فالمسلكيات والعقلية المحركة لتلك الممارسة هي نفسها وإن اختلفت الأساليب والطرق باختلاف العصور وأنماط العيش… “. وإذا كان السلب والنهب حاضرين في المجامع الافتائية للعلماء الموريتانيين فإن “المداراة والمغرم” قد شكلت مشغلا بارزا لدى العلماء الموريتانيين وشغلت حيزا كبيرا من مجامعهم الإفتائية في القرون الثلاثة الماضية لكثرة ما طرحت من إشكالات بالنسبة للأفراد والمجموعات في هذا البلد. وقد تولدت هاتان  الظاهرتان عن ظروف الفوضى الأمنية وسيادة قانون الغاب في بلادهم السائبة.

ج ـ العلاقات بين الفئات الاجتماعية:

واقتصر حديث المؤلف في هذا المحور على نظرة الفئة الزاوية ـ القيمة على الإفتاء ـ إلى الفئة الحسانية صاحبة السلطة الزمنية في موريتانيا الأمس ومعالجة الفقهاء لإشكالية العلاقة مع الأتباع والموالي والأهلية القانونية للرقيق.

وإذا كانت آراء المفتين بهذا الخصوص تحاول الاستناد إلى مرجعية فقهية مالكية عامة ـ ولاسيما في قراءتها المغربية فإنها تنطلق في الغالب الأعم من العادات المنبثقة من الواقع الهرمي للمجتمع القائم على تقسيم وظيفي للعمل ، وما انجر عنه عبر الزمن ـ من علاقات اجتماعية  غير متكافئة بين مختلف فئاته.

وركز المؤلف على القضايا التالية:

1ـ نظرة الزوايا إلى حسان: إذ انطلقت مواقف الفقهاء حسب المؤلف من بني حسان(بالمعنى الوظيفي) من مقولة “استغراق الذمة” التي عالجوا من خلالها حسب المؤلف جملة من القضايا تتعلق بمعاملتهم وحكم هداياهم وودائعهم وتصرفاتهم وأحباسهم… ولم يجد هؤلاء الفقهاء بينهم ـ حسب المؤلف ـ كلمة سواء بشأن بني حسان ربما بسبب اختلاف بيئاتهم وتباين سلوك المعنيين فيها،فانقسموا طرائق قددا منها حيث انطبعت مواقف البعض بالتسامح في حين امتازت مواقف البعض الآخر بالتشدد وعدم الإنصاف تجاه تلك المجموعة.

2ـ الفقهاء وإشكاليات العلاقة مع الأتباع والموالي:

إذ اعتبر المؤلف أن الفقهاء ينظرون إلى الأتباع والموالي الذين لا يحمون أنفسهم (بركاب ولا كتاب) نظرة ازدراء ، واعتبر المؤلف أن مصدر تلك النظرة الدونية إلى الأتباع يعود إلى الرغبة في إبقائهم في حالة التبعية للمجموعة الأروستقراطية بقطبيها الزاوي والحساني.

ورأى المؤلف “أن الفقهاء وإن كانوا حريصين عادة على تمثل موقف الشرع المجرد في فتاويهم وأحكامهم يظلون مع ذلك محكومين ـ عن وعي أو غير وعي ـ بظروفهم المكانية والزمانية وواقعهم الاجتماعي وبنيتهم الذهنية التي تؤطر مواقفهم ورؤاهم وهذا ما يفسر ـ يقول المؤلف ـ اتحاد نظرتهم الاجتماعية لهذه المجموعة،واختلاف آرائهم فيما يتعلق بإشكاليات العلاقة معها، وتتبع المؤلف آراء بعض الفقهاء بشأن مال الأتباع، وإشكالية العتق والولاء والأهمية القانونية للرقيق.

وختم المؤلف كتابه بجملة من الملاحق نورد عناوينها مرتبة مع الإحالة إلى الصفحة في الجدول التالي:

رقم الملحق عنوان الملحق الصفحة
1 قائمة المفتين الذين شملتهم عملية التقصي الأولية 137 ـ 145
2 فتوى الشريف حمى الله التيشيتي بشأن النهب 146 ـ 147
3 فتوى الشريف محمد بن فاضل التيشيتي  بشأن المداراة 148 ـ 149
4 صورة أصلية من وثيقة تتعلق بالغصب الناجم عن عدم دفع المغرم ودفع ذلك المغرم 150 ـ 151
5 نموذج لوثائق المداراة التي تكاثرت في القرن19م 152
6 فتوى الشيخ سيدي المختار الكنتي عن حكم الأموال المأخوذة من المحاربين  واللصوص 154 ـ 162
7 فتوى لابن الهاشم الغلاوي بشأن الانتفاع بهدايا الظلمة 163
8 نظم امحمد بن أحمديورة  في الرد على من عاب عليه وعلى قومه الانتفاع بمال الظلمة ومستغرقي الذمم 164 ـ 168
9 فتوى محمدفال بن محمذن (ببها) بشأن إشكال وراثة المستظل بهم من المستظلين أو الانتفاع بأموالهم 169
10 الطعن في أهلية مستغرقي  الذمة القانونية 170 ـ 171

وقد يكون من المفيد أن نختم هذه القراءة بما ختم به المؤلف في المقدمة حين قال”… وعسى أن يساهم هذا العمل في نفض الغبار عن هذا الكنز الوثائقي الثمين الغائب حتى الآن من مصادر واهتمامات مؤرخينا وأن ينير سبل استغلاله المنهجي والتاريخي الكفيل بتعويض جفاف وحدثية مصادرنا التقليدية”.

ولله الأمر من قبل ومن بعد .

……………….

*الفتاوى والتاريخ تأليف د . محمد المختار ولد السعد ، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة نواكشوط (1985-2004)، باحث في دائرة القضاء بدبي منذ العام 2009 ، أستاذ بجامعة عجمان بالإمارات العربية المتحدة ، له أزيد من 10 كتب منشورة منها الإمارات والنظام الأميري الموريتاني، الفتاوى والتاريخ الذي بين أيدينا

** الحاج أحمدو ، باحث في المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية – مبدأ

رؤية القرآن الكريم لترسيخ ثقافة الحوار ومعالجة ظاهرة التطرف

                               الدكتور الشيخ التجاني احمدي*

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على من أفصح من نطق بالضاد جملة وتفصيلا، وبعد

فإن القرآن الكريم حفل بنصوص كثيرة حول الحوار، يأمر به ويحض عليه وينوه بقيمته ويقدم نماذج من حوارات الأنبياء والمرسلين، التي ينبغي أن يتأسى بها كل مسلم ومؤمن بالله، مع مختلف أصناف البشر من أبناء الحضارات. وقد بين الآلية الفريدة لتعامل الإنسان مع قضية الاختلاف، والقبول بالآخر، واستثمار وتوظيف الاختلاف وترشيده بحيث يقود إلى التعارف، ويبعد عن الصراع العنيف والقطيعة الانعزالية والاحتكار الاستبدادي.

والتطرف باعتباره يقوم على إلغاء التعدد الإنساني كلية أو يتجاهله، فإنما يروم محالا ويطلب ممتنعا، ويتمنى مخاطر الشقاق، وقد ناقض القرآن الكريم، لذا كان القرآن الكريم حاسما مع هذا الموقف، وخط المنهج الحواري الذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه، وعرض لأساليبه ونماذج منه، مما يعطي المتأمل فيه نظرة متكاملة عنه، لأن الإسلام دين للعالم جميعا لا يختص بفئة منعزلة متعصبة قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ (الإسراء: 105) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28).

ويمكن تبين رؤية القرآن الكريم لترسيخ ثقافة الحوار ومعالجة ظاهرة التطرف من خلال المبحثين الآتيين:

المبحث الأول: رؤية القرآن الكريم لحل معضلة التطرف بالحوار

تقوم رؤية القرآن الكريم لحل معضلة التطرف على ضرورة كفالة الحريات العامة، وتنمية الوازع الديني والخلقي، ويعتبر الحوار الملتزم بالضوابط والأهداف النبيلة الوسيلة الأمثل لترسيخ هذه المبادئ، ويمكن إيضاح ذلك من خلال المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: الحوار في القرآن وسيلة لكفالة الحريات

إن القرآن الكريم يحترم حريات جميع الفئات، حتى وإن كانت متحفظا عليها، وتاريخ الإسلام في كافة عهوده يشهد بأن المسلمين لم يفرضوا دينهم في البلاد التي فتحوها، وأنه كان من حق أي إنسان أن يظل على دينه الذي يدين به مهما كان هذا الدين وتقوم الدولة بكفالة هذا الحق والدفاع عنه، فعن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بماء فتوضأ منه، فقال: (من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء السماء أطيب منه)، قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية فلما توضأ أتاها فقال: أيها العجوز اسلمي تسلمي بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم بالحق) قال: فكشفت رأسها فإذا مثل الثغامة، فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن، فقال عمر رضي الله عنه( اللهم اشهد)([1]).

وأورد الشوكاني روايات عديدة -مثلها- بيد أن في بعضها زيادة وذلك بعد قول عمر -رضي الله عنه- (اللهم اشهد)، ثم تلا ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([2]).

فلم يقطع عنقها أو يشتمها، بل فوض أمرها إلى حكم الله فحسب.

ولهذا قال العلامة ابن قدامة: «وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه، كالذمي والمستأمن، فأسلم، لم يثبت له حكم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا، مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، فإن مات قبل ذلك، فحكمه حكم الكفار،وإن رجع إلى دين الكفر، لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام»([3]).

فتلك خاصية الإسلام، وتلك هي مرتكزات قبول الآخر واحترام خصوصياته وذلك هو خلاص الأمة من ظاهرة التطرف والإقصاء.

وقد شهد لهذا غير المسلمين حتى قال غوستاف: «إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له، فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي تعرفها الأديان الأخرى»([4]).

وهذا أعظم رد من مستشرق منصف إلى الذين يطبلون بأن هذا الدين قد انتشر بالسيف، وليس بالسلم. . ولم يقتصر على هذا حتى قال: «والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم»([5]).

وها هو السير توماس آر نولد يقول: «لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا لشاهد على هذا التسامح»([6]). وقال أيضا: «لن نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام، أو أي اضطهاد منظم القصد منه استئصال الدين المسيحي»([7]).

وبعد الحرية الدينية، تأتي حرية الرأي والتعبير والتي تعني: الثمرة المنطقية التي ينتجها الفكر السليم والاعتقاد الحر -سواء استقر الرأي نفسه مذهبا ومعتقدا، أو ظل ظنا ومحتملا يتفاعل به صاحبه مع الآخرين- كما أن حرية التفكير لا تعني شيئا ما لم تصاحبها حرية التعبير فالتعبير هو الآلة التي توصل الفكرة، برة كانت أو فاجرة للناس، ولا يقتل الفكرة إلا الصمت، أو خذلانها من الوصول للناس([8]).

ومن هنا فلا ريب أن التفاهم عن طريق الحوار حرية تؤكد كرامة الإنسان أيا كان، ويشجعه على التفكير والعمل والتعايش والتفاعل والتعاون مع غيره، لتحقيق الخير والتقدم للمجتمع، فإذا ما رفض الحوار وحوربت ثقافته سيؤدي بالمجتمع نحو الخراب والدمار وانتهاك حقوق الآخرين وعدم تقبلهم، فضلا عن انتشار التطرف والعنف. لذا فإن حرية الرأي كانت سببا من أسباب وحدة الشعوب وترابطها وتعاونها في مجالات العلوم والفنون المختلفة، وكانت حلقات الحوار تقام في كل المدن الكبرى في المساجد والمعاهد، إذ يقودها علماء ومفكرون ومؤرخون، ويكون من حق أي إنسان أن يشارك فيها بحرية تامة. والقرآن الكريم الذي كفل حرية التعبير يوجهنا إلى خير الأساليب التي تتحقق بها هذه الحرية، فيقول الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الإسراء 53) ويقول: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ (النساء: 9)، ويؤكد على أهمية القول السديد والدعوة الطيبة بقوله: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ (البقرة: 263).

ونحن في هذا العصر ندرك أن الحريات بأنواعها المختلفة، في العقيدة والفكر والرأي والتعبير، تمثل أهم الإنجازات التي حققها الإنسان لنفسه في العصر الحديث، ونؤمن أنها أساس كل حياة إنسانية كريمة ولا غنى عنها لأي حضارة تنشد التقدم العلمي والاجتماعي والإنساني. وهذه الحريات كلها جاء بها الإسلام ودعا إليها وكانت من أهم أسباب القضاء على الانعزالية والتشدد والتقوقع، فضلا عن أهم أسباب تقدم العلوم والفنون والآداب والتاريخ التي قامت عليها الحضارة الإسلامية حتى عصر النهضة.

ونحن حين نقرر ذلك ندرك أن الروح الإسلامية التي نؤمن بها، تدعو وتؤكد على الحوار ولاسيما الحوار المرتبط بالعقيدة والاقتناع، لأننا نعلم أن تقدم الإنسانية وازدهار حضارتنا وسيادة روح الإنسانية، إنما يرتبط أشد الارتباط بما يتحقق لأفراد المجتمع الإنساني من حرية فكرية ودينية، ومن حقوق مقدسة في إبداء الرأي والتعبير، وقد كان ذلك كله من دعائم الإسلام([9]).

وها هو العالم الإنكليزي توماس آرلوند يشهد للحرية التي قررها الإسلام وحضارته والتي وسعت التنوع والاختلاف وأتاحت إنقاذ النصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية البيزنطية حتى يمكن القول: «إن بقاء النصرانية الشرقية هبة الإسلام»([10]).

لذلك فإن الاختلاف بين الأديان وتضارب الآراء حولها، يجب أن لا يؤدي في ضوء ممارسة حرية الرأي إلى حجر على تلك الآراء والتصورات، بل إن ما يجب القيام به هو توحيد تلك الجهود والاستفادة من تعدد الآراء واختلافها، للوصول إلى  قواسم مشتركة، تخدم القضية الإنسانية ولا يفرط بأي حق من الحقوق التاريخية، فاختلاف الآراء وتعددها سنة إلهية في البشر، لكن التعامل معها بإيجابية هو ما يغني حالة الوفاق، فيما يؤدي الاستبداد بالرأي والتفرد باتخاذ القرار إلى تشتيت الجهود وزعزعتها ونثر بذور التشرذم([11]).

وإذا استطعنا أن نستوعب هذا وحركنا قضية الاعتراف بالآخرين وتقبلهم بمعزل عن التشدد والانفعال وتراكم الاحتقان وتعاملنا مع قضية الاعتراف على أساس كونها وسيلة لسلوك الإنسان، ومن ثم القدرة على إبداء ما توصل إليه هذا الفكر دون قيد أو مؤثر، وصولا إلى بلورة منهج حضاري إسلامي في إعمال العقل لنيل المعارف، فإن ذلك سيسهم بلا شك في التوصل إلى حد أدنى من الوحدة الفكرية للأمة، تكون ركيزة للتأسيس والبناء فيما بعد، ولا يمكن أن نتخيل عدالة اجتماعية بدون استقلال فكري ولا بد من أدب في التعامل مع الآخر واحترامه.

ولعل العلاج الأكثر فاعلية في هذا الشأن  هو الحرية الفكرية؛ وذلك لأنه علاج يوجه إلى المحاضن الداخلية التي تنشأ فيها بذور التطرف، وهي محاضن آليات التفكير في ذات الإنسان([12]).

والحرية الفكرية أن تكون حركة العقل من أجل الوصول إلى الحقيقة حركة يتعامل فيها العقل بصفة مباشرة مع الموضوع المراد معرفة الحقيقة فيه تعاملا تتفاعل فيه مكونات العقل الفطرية ومكسوباته اليقينية مع المعطيات الذاتية والأبعاد الموضوعية للموضوع المراد درسه، بعيدا عن كل الموانع التي تمنع تلك الحركة العقلية من أن تنطلق في وجهتها الصحيحة، وتنحرف بها إلى وجهة تقتضيها تلك الموانع، سواء كانت متمثلة في موانع داخلية مثل استبداد الأهواء والشهوات، وسطوة الأعراف والعادات، أو كانت موانع خارجية، مثل الإرهاب الذي يتسلط به على العقول ذوو السلطان الديني أو السلطان السياسي على منهج فرعون في قوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (غافر: 29)، أو الإغواء المتعدد المظاهر الذي يسلط به على النفوس المفسدون في الأرض على منهج إبليس في قوله: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 62).

وربما يكون من أهم ما نقصده بالتحرر الفكري في هذا المقام التحرر الفكري في مجال التربية والتعليم، بحيث تكون حركة عقل التلميذ حرة من التوجيه المسبق الذي يفضي إلى الأخذ بالرأي الواحد والرفض والإلغاء لكل ما سواه، وذلك في حركة حوارية دائبة تقوم بين المتعلمين والمعلمين تفضي إلى تكوين فكر سيد على نفسه.

وكذلك تحرر العقول من الاستبداد الفكري الذي يمارسه على الناس أصحاب الجاه الاجتماعي باسم التقاليد، أو الرهبان والكهنة باسم الدين، لينتهوا جراء هذا الاستبداد إلى تطرف في التشبث بالعهود والرفض لكل ما سواهما، ولذلك جاء القرآن الكريم يصيح في الناس أن يحرروا عقولهم بتحطيم نير الاستبداد الفكري المسلط عليهم، لينظروا فيما عرض عليهم بفكر حر يخرج بهم من دائرة التطرف الرافض، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (الزخرف: 23-24)، وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ (التوبة: 31)، ففي كل من هذا وذاك دفع إلى التحرر الفكري من سطوة المستبدين من أجل الوصول إلى الحقيقة كما يتبينها الفكر الحر، وكما تكون بابا للاعتدال وتحول دون التطرف([13]).

وحرية التفكير أيضا إحدى المسالك الهامة التي تفضي إلى تقبل المخالف من الرأي والمخالف من أصحاب الرأي، وهي من ثم مسلك هام من المسالك التي تحول دون توليد التطرف في النفوس والعقول والسلوك.

ومن معاني التقبل للآخر التقبل النفسي، وهو ما يعني أن لا يعتبر الباحث عن الحقيقة والمتوصل فيها إلى رأي أن من توصل فيها إلى رأي مخالف هو عدو له، وذلك مهما بلغت درجة إيمانه برأيه من يقين، وإنما يعتبر المخالف في الرأي هو باحث عن الحقيقة أصابها أو أخطأها، وهو لذلك جدير بأن يجد له مكانا في النفس يسمح بالتعاطي معه في خصوص رأيه المخالف للحوار في شأنه بالحجة بقطع النظر عما تنتهي إليه تلك الحجة من نتيجة موافقة أو مخالفة([14]).

وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلا منهجيا رائعا في التعامل مع الآخر المخالف تعاملا يقوم على التقبل في مستوياته المختلفة، وذلك ما ورد على سبيل المثال في قوله تعالى مرشدا نبيه وجميع المسلمين من ورائه إلى تقبل المخالفين من أصحاب الديانات الأخرى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (سبأ: 24-25).

ففي هذا الإرشاد الإلهي المنهجي توجيه إلى التقبل النفسي للمخالف، وهو ما يتمثل في تعميم إمكان الهدى والضلال على الفريقين، وبنسبة الإجرام إلى النفس ونسبة مجرد العمل إلى المخالف، وذلك بالرغم من الإيمان بعكس ذلك في الأمرين: ولكن تأنيسا نفسيا للمخالف، وفيه توجيه إلى تقبل حق الوجود والتعبير للمخالف، وذلك ما يدل عليه هذا الحوار الذي يسمع فيه عرض هذا المخالف باهتمام والتعاطي معه بمحاجة لطيفة مؤنسة، وفي هذا التوجيه إيماء أيضا إلى تقبل الاستفادة من رأي المخالف إذا تبين أنه ينطوي على وجه من الحق، وذلك ما يوحي به تعميم إمكان الهدى ليشمل المخالف أيضا، فإذا تبين أن هذا المخالف قد يكون في رأيه شيء من الهدى فإنه يكون إذن مقبولا، فهو إذن منهج يدعو إلى تقبل المخالف للرأي([15]).

من الجماعات الإسلامية الموجودة اليوم جماعات تخرجت في تعليمها وتربيتها من مدارس تقليدية موغلة في التقليدية، في بلاد مختلفة من العالم الإسلامي، وهي تلك المدارس التي تقتصر في برامجها على المذهب الواحد في العقيدة وفي الفقه تقدمه لروادها بطريقة تلقينية خالية من الحوار، وتكاد لا تقدم معه شيئا من المذاهب الأخرى في النطاق الإسلامي، أما العلوم والمعارف الإنسانية العامة فإنها في هذه المدارس منهي عنها أن تكون معروضة على الطلاب للدرس، إذ هي تشوش الأذهان وتفسد المعتقدات الصحيحة.

ونتيجة لهذا الضرب من الاستبداد الفكري تتخرج من هذه المدارس جماعات تتصف بالتطرف، إن على درجة أو أخرى من درجاته، وربما تكون جماعة طالبان مثالا لهذا النموذج، ولا يفوت اللبيب المتابع للساحة الإسلامية أن يرى أمثلة أخرى لهذا النموذج تتطابق معه أو تشابهه، علما بأن مجال هذا التمثيل لا يتعلق بصدق النوايا والإخلاص فيها، أو بقوة الإيمان وصلاح السمت والسلوك، فقد يكون ذلك حاصلا مع حصول التطرف([16]).

وفي مقابل ذلك توجد جماعات إسلامية أخرى في العالم الإسلامي تخرجت من مؤسسات علمية ودعوية بمعارف وعلوم إسلامية غير مقتصرة على مذهب معين، وإنما هي قائمة على المنهج المقارن بين المذاهب، فكانت تطرح فيها كل الآراء للدرس والمقارنة والنقد، كما تخرجت أيضا من تلك المؤسسات أو استكملت من غيرها بمعارف وعلوم إنسانية عامة مذاهب وفلسفات قديمة وحديثة، وأخذتها جميعا بمنهج حواري نقدي، فكان المنهج العام الذي تخرجت به هو منهج التحرر الفكري المنفتح على الاحتمالات المتعددة في البحث عن الحقيقة، فكانت إذن متصفة بقدر كبير من الاعتدال والوسطية في الفكر والسلوك معا([17]).

المطلب الثاني: الحوار في القرآن وسيلة لرد الاعتداء ودرء الشبهات وتنمية الوازع الديني والخلقي

والحوار يتجلى أيضا في قضية التواصل مع الآخر والتفاهم معه، والوسيلة المثلى لذلك الحوار، والحوار في القرآن الكريم –كما تقدم- أسلوب ووسيلة في الدعوة إلى الله، وفي دحض الشبهات والافتراءات، وفي رد الشاردين والجاهلين والغافلين من أبناء المسلمين إلى حياض الإسلام، إذ أن الحوار ترياق فعال لمعالجة داء الاعتداء، فبالحوار تنفتح مغاليق الشبهات، وبالحوار تدرأ الكثير من مكنونات النفس وتراكمات العقائد الباطلة، وللحوار في الإسلام مساحات شاسعة، من بينها حوار المخالفين في الدين لما له من صور وأفعال وأهداف وآثار من مادة علمية لها ظلال عميقة في واقع التطبيق.

والمتتبع للحوار القرآني يجد أن طرحه للخطاب يتمثل في حوار هداية ودلالة وجدل إقناع وإفحام على البراهين العقلية، ولفت الأنظار في الآيات الكونية حتى يهتدوا إلى خالقها فيعبدوه ويعظموه وحده لا شريك له وينبذوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان التي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.

لذا فإن دعوة المحبطين إلى محاربة مسألة الحوار بين الأديان كافة والمسلمين خاصة، هي دعوة للإقصاء ونشر التطرف، ومن ثم العنف، وتحريم التفاعل الإنساني، والثقافي بين أتباع الحضارات بل تهدف إلى انتشار النظرة الاستعدائية. بينما يجد الدارس والباحث المتتبع أن الحوار -مع الآخرين أيا كانوا– هو مدعاة للأمن والاستقرار والنهوض بالمجتمع، وهو شأن ثقافي متطور يتناول آفاق الانفتاح والتواصل الإنساني التي يشترط تحققها الاعتراف بالآخر، وتفهم مشكلاته ومقاصده وإدراكه على قدر المساواة وعدم استهدافه بالتمييز أو التحقير والإلغاء أو محاولة ذلك.

وبحكم عالمية الخطاب الإسلامي، وشموله مفهوم التفاعل الحضاري فإن مسألة الحوار([18]). تشكل أحد أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق التعارف الحضاري، والوصل بوعي الإنسان إلى لحظات الإبداع الحضاري الجماعي الذي يسهم فيه أبناء الإنسانية المخلصين من كل ثقافة ودين وجنس عملا من أجل نفي الخبث الحضاري واستنبات بذور التفاعل الحضاري بوصفه مدخلا للتعارف والتفاهم والتعاون ومواجهة تحديات الحياة في عصر العالمية والعولمة.

إن الاستثمار في مسألة التعارف الحضاري كما يطرحه الإسلام يعد من المداخل الأساسية لتشكيل تفاعل حضاري يدفع بأمتنا وحضارتنا إلى آفاق العالمية الإسلامية، قال الرافعي: «فعالمية الإسلام تجعل الثقافة والحضارة الإسلاميتين منفتحين على حضارات الأمم ومتجاوبتين مع ثقافات الشعوب مؤثرتين ومتأثرتين. . . يهدف أولا وقبل كل شيء إلى الوحدة الإنسانية العامة، والزمالة العالمية الشاملة لأن يكون الناس جميعا إخوة متوادين متحابين متساوين متكافئين حتى يستطيعوا أن يحققوا الرسالة العظمى التي خلقهم الله من أجلها»([19]).

ومن هنا يتطلب الأمر النظر إلى تحريك مسألة الحوار وتنشيطها ليس لمحاربة التطرف فحسب أو بوصف الحوار مجرد عملية تبادل للمعلومات والأفكار والآراء، وليس مجرد نقاش وتناقل للمعاني، وليس مجرد وسيلة للتفاهم الإنساني ولمعالجة المشكلات الإنسانية ولكن فضلا عن ذلك أن ينظر إلى الحوار مع الآخر على أنه مدخل حيوي للتعارف الحضاري والديني والتعليمي، الذي يشكل بدوره نقطة الانطلاق الكبرى في تجديد الذات وتجديد الوعي، ومن ثم الدخول في فعل يقود إلى التفاعل الصادق ويكون مرتكزا لأداء الرسالة إزاء الذات والآخرين معا، ويكون محورا للتربية التعليمية لشخصية الإنسان المتحاور. وبالنسبة للأمة العربية والإسلامية لا يمكن أن تكون هناك رسالة حضارية باتجاه العودة إلى الريادة والسيادة قبل أن تحقق كل شروط الحوار في ذواتنا وفي واقعنا وثقافتنا ومعارفنا ونظمنا التربوية والأسرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية وفي ضوء الإطار التحاوري المخلص الذي يؤسس لإنسانية تتفاعل على أساس التقوى والصلاح والنفع العام للبشرية([20]).

إذن فكيف يمكننا أن نتخلى عن الحوار، والله تعالى يأمرنا بالدعوة إلى إقامة الحجج على الآخرين وبالتي هي أحسن، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (الإسراء: 53).

وهذا يعني وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن. وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشتم والسب، ذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 108) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود، أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيرا شديدا([21]).

وهذا تقدم للحوار والمقابلة من غير تراجع ولا خوف والملاحظ اليوم أن من بين المعضلات الكبيرة التي تواجه الأمة، هو الخوف من الآخر وتجنب الحوار معه، على عكس ما نجده في القرآن الكريم من محاورته للحضارات على لسان الصفوة المختارة وهم الأنبياء وكيف بدأهم الحديث ثم استمر معهم على الحوار، بينما تسعى بعض الفئات الضالة إلى وضع الحواجز أمام أي تقارب مع الآخر وباستمرار؛ خوفا من مواجهته فكريا، وتحصنا ضد انفتاح تابعيه على الرأي الآخر، وخشية ضياع مصالحه، وتقوض سلطته الداخلية على جماعته؛ لذلك حرص بعضهم وباستمرار على مخاصمة الأفكار الأخرى، وعدم دعوة أصحابه وترك إقامة الحجج والبراهين عليهم، بل توجيه التهم لها بالتآمر، عبر تطرفهم وغلوهم وتذرعهم بأدلة تافهة لا نص لها في القرآن الكريم أو السنة النبوية، مما يؤثر سلبا على سماحة هذا الدين الحنيف.

وأخلص بهذا إلى أن إحداثيات الحوار مع أبناء الحضارات تجلت فيها معالم الاستقلالية التامة والحرية المطلقة التي أعطيت لهم كافة إذ قوبل توترهم وردهم العنيف بالدعوة إلى إبداء الدليل العلمي، وإذ عجزوا عنه أقيم عليهم الدليل العملي والواقعي من غير تشدد على بطلان دعواهم دون أن يتعدى ذلك إلى أي شائبة من شوائب الإكراه المادي والنفسي أو الفكري، في حين نرى موقف الإسلام من الحوار مع الآخرين موقفا إيجابيا تاما على الرغم من وجود أديان أخرى ترحب بالحوار أيضا، بيد أن موقف الدين الإسلامي من الحوار أكثر إيجابية وقبولا إلى حد يمكن وصفه بأنه دين الحوار، ذلك أنه دين عام للبشرية وليس دينا خاصا لجماعة دون أخرى، لذا قامت عالمية الإسلام على أساس من عالمية الإله الواحد وعالمية التوحيد ووحدة البشرية، إذ الإله الواحد الخالق إله لكل العالم الذي خلقه، ودين البشرية دين واحد يقوم على أساس من التوحيد وهو عقيدة البشرية جمعاء استنادا لهذا المبدأ اتجه الإسلام إلى استخدام الحوار استخداما جليا في مجال الدعوة الإسلامية، وكان من أولاها الوصول بالإسلام إلى غير المسلمين. إذا ما نظرنا إلى الحوار بهذه النظرة الإنسانية، فإننا نكون قد جعلنا من الحوار ثقافة حضارية وقضية مصيرية يتجدد بها مصير الأمة كلها في حاضرها ومستقبلها وفي صلتها مع ذاتها ومع العالم المحيط بها. ويتحدد به مسار التعايش والتواصل والتعارف الحضاري القادم وعمقه وغاياته وآفاقه.

وإننا بمقدار ما ندرك قضية الحوار –المؤسسة على منظومة التفاهم- بوصفها قضية متجاوزة لكل الشكليات السياسية والثقافية التي تهم كثيرا بتحويل قضية الحوار إلى مجرد وسيلة تهديئية أو تسكينية تعالج بها المشكلات الجزئية بمقدار ما نستعيد القيمة التربوية الحضارية الصحيحة والفعالة للحوار. . ومن هنا وفي ظل وضع الأمة الخطير لا يجوز لنا أن نتصور الحوار بصورته السلبية، ولا يجوز لنا أن نوظفه توظيفا غير سليم، بل علينا أن نعود بالحوار إلى أصوله الكبرى([22]).

لذلك بات لزاما على كلا الطرفين –المحاوَر والمحاوِر- البحث عن سبل التلاقي والتواصل عن طريق البحث عن أرضية مشتركة للتعاون بدل المجابهة والانفتاح بدل الانغلاق، والتفاهم بدل التجاهل. إن هنالك تعاونا اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بين العالم الإسلامي والغربي لكنه ليس كافيا ولا يندرج في غالب الأحيان في السياق العام لمنظومة الحوار الحيوي بين الجانبين، وسبب ذلك –ببساطة- هو أن تنسيق المصالح والمنافع الاقتصادية والسياسية ينبغي أن يسبقه الفهم الحقيقي المتبادل على الصعيد الثقافي والحضاري والديني. . فالعالم اليوم مطالب بالعودة إلى قيم المحبة والحوار والتفاهم، ورفع الظلم والعدوان والاستكبار من أجل تهيئة المناخ الملائم لإقامة جسور الحوار المثمر والبناء، هذا وإن لدراسة مسألة ثقافة الحوار أطرا منهجية أساسية من أهمها، ترسيخ الوعي على ضرورة معالجة المنهجية الاستراتيجية لمسألة التفاعل الحضاري. وإن أهم شيء ينبغي التفكير فيه اليوم هو صياغة الوحدة التحليلية الأساسية أو الإطار التحليلي المناسب لمعالجة قضايا التفاعل الحضاري([23]).

ومن الأطر التي ينبغي النظر إليها ضرورة الوعي بطبيعة تشكيل الإنسانية في وضعها الحضاري العالمي، إذ تعيش الإنسانية اليوم وضعا عالميا حساسا ومعقدا ومحرجا للغاية. والإنسان الذي يعاصر في هذه اللحظات التاريخية الكبرى تحولات ضخمة، ومعقدة وسريعة في مجال المعرفة والمعلومات والوعي وفي ميدان الوسائل التقنية والتكنلوجية، وفي مجالات أخرى([24]).

والحرية كما قررتها الشعوب كافة، يحدها إطار اجتماعي يمنع تعدي الناس بعضهم على بعض لأي سبب من الأسباب، لأن هذا يمثل عدوانا على حرية الآخرين وهضما لها، وفي القرآن الكريم نرى –كما تقدم- تأكيدا لمبادئ الحرية في كثير من الآيات، وهذا التأكيد يشمل كافة الجوانب المختلفة لحرية الإنسان وحقه في التعبير والسلوك والتفكير والعمل بالمفهوم المعاصر لمعنى الحرية من حيث استقلال الفكر، دون أن تفرض عليه من الآخرين معطيات وأدوات أو قناعات من شأنها أن تقيده، أو تلزمه بسلوك طرائق معينة من شأنها أن توصله إلى نتيجة مبتغاة سلفا، حقا كانت أو باطلة([25]).

لذا أعطى القرآن الكريم حق التعلم وحريته وإبداء الرأي للإنسانية جمعاء، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة: 31-33)، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5) فمن حق كل فرد أن يأخذ من التعليم ما ينير عقله ويرقي وجوده ويرفع من مستواه. ومن حق الإنسان كذلك، أن يبين عن رأيه ويدلي بحجته ويجهر بالحق ويصدع به. والإسلام يمنع مصادرة الرأي ومحاربة الفكر الحر، إلا إذا كان ذلك ضارا بالمجتمع.

إذن ما ينقذ العالم ويخلصه من الاختزال المتطرف والمتشدد، هو اللجوء إلى حتمية الحوار وتثقيف الأمم بهذا المبدأ الطموح إذ لا يمكن للغرب أن يمتص الإسلام أو يبلعه، كما لا يمكن للمسلمين أن يعزلوا الغرب، وفي الوقت نفسه لا يمكن للحاقدين المتطرفين والإرهابيين تهميش مبادئ الإسلام وسماحته عن طريق نشر التخوف منه، والإيهام بأنه يسعى إلى إقصاء الآخرين وإشعال فتيل النزاع معهم. . لذا فقد آن الأوان لوضع حد للنظريات المتطرفة التي تتوهم وتريد أن توهم أن ديننا لا يصلح التعامل معه كتياري رئيسي يصب في الحضارة الإنسانية الشاملة.

ومن الهام أيضا في إطار ترسيخ ثقافة الحوار، غراسة وحراسة القيم الروحية، فمن أوجب واجبات القرآن الكريم، المحافظة على القيم والأخلاق، فقد أرشد القرآن الكريم إلى تنمية الوازع الخلقي والديني في عشرات النصوص، ومن ذلك تنمية ملكة مراقبة الله والخوف منه، التي تجعل المرء المسلم يستجيب لأوامر الله ويتفاعل معها إيجابا، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل: 90).

فهذه الآية ذكر الله تعالى فيها (العدل) والعدل هو الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع.

وإلى جوار العدل(الْإِحْسانِ). يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثاراً لود القلوب، وشفاء لغل الصدور. ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.

والإحسان أوسع مدلولاً، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعاً([26]).

ولا يخفى أن الأمة الإسلامية تملك رصيدا ضخما من القيم الهادفة وتوجيهات الإسلام، وهذه القيم كفيلة عند استثمارها بأن تجعل الأمة الإسلامية في وضع يسمح لها بأن تنمي فلسفتها الحضارية الإنسانية، وتتسابق مع أمم الأرض في بناء حضارة إنسانية.

إن أصحاب النظريات المتطرفة، الموغلة في التشاؤم، يهدفون إلى تحويل العالم إلى نمط موحد متشابه تلغى فيه العدالة الإنسانية، والقيم الحضارية وثقافتها، وتذهب سدى، وهم بذلك يتوهمون أن الإسلام سيجتذب العالم ويحتويه ويستوعبه ويسلمه، وذلك لأنهم يغفلون قوله جل وعلا: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، أي أهل دين واحد إما أهل ضلالة أو أهل هدى، وقيل معناه: جعلناهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن ولهذا قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ في ذات بينهم على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومشرك ومجوسي ومسلم فكل هؤلاء قد اختلفوا في أديانهم اختلافا كثيرا لا ينضبط، وقيل مختلفين في دين الحق أو دين الإسلام([27]).

لذا فإن المسلمين مطالبون أكثر من غيرهم بالارتقاء إلى مستوى قيم الإسلام الأصيلة الدينية والأخلاقية والثقافية والمتسمة بالرفق واللين، ولا يكون ذلك إلا بالابتعاد عن الفكر المتطرف، ونبذ التطرف الفكري والهروب منهما، للتخلص من إشعال الفتن، وإيقاد نار العنف والإرهاب والاتجاه نحو تنشيط ثقافة الحوار العالمي والمحلي وتقويتها، وأيا كان الحوار على الصعيد الديني أو التعليمي أو الاقتصادي أو السياسي مكتسيا روح العدالة الإنسانية طامحا في تقريب وجهات النظر المختلفة، معتمدا طابع العمل الجاد بكل جرأة وصلابة وثبات من غير تردد، والانفتاح على العالم ومتغيراته وتطوراته، تلبية لتحقيق المصالح الأساسية ودرء المفاسد.

حينئذ فعلى العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين أن يدعوا الناس جميعا مسلمين وغيرهم إلى تجاوز مرحلة الأحقاد والضغينة إلى مرحلة الاستئناس وعدم الخوف من الآخر، ودعوتهم إلى الجلوس إلى مائدة التحاور والتفاهم، لحل المشاكل العالقة ولاسيما العصرية منها وتكريس عملية الاتفاق على قضايا وجوامع مشتركة يمكن أن تسهم في قطع أشواط في مسيرة الحوار المنشود بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وبقية الأديان وبين الإسلام والغرب، مستندين في بث ثقافة الحوار مع الآخر ولاسيما المخالف على الخلفية الفكرية والثقافية المنبثقة من القرآن والسنة والمستنبطة منهما، لتصحيح الأفكار الضالة والمصطلحات المشوهة، معتمدين عليهما في تحقيق الوسطية ودفع الإرهاب وتقريب وجهات النظر وبث روح الحوار والتفاهم، فضلا عن الدعوة إلى الأسس القيمة والأخلاقية التي تفيد في تقويم وتهذيب وتصويب مسار التحاور المعتبر.

إنه في الوقت الذي يطالب فيه المسلمون بالعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة ومنها انتعاش ثقافة الحوار للتخلص من ظاهرة التطرف. أيضا الغربيون مطالبون بالعودة إلى قيم المسيحية الأصيلة -وليست المحرفة- قيم الحوار والتفاهم والمحبة والتفاعل والتعايش المشترك والاحترام المتبادل، لتحقيق الوفاق مع العالم الإسلامي، وإنهم لمطالبون أيضا بالتفهم الحقيقي لثقافة الحوار وتنشيطها وتطبيقها على أرض الواقع وتطبيعها مع المسلمين من أجل التفاعل المنشود، وبث روح الحوار والتواصل والتفاهم، من أجل مبدأ التعايش وإعلان رفع الظلم والعدوان والاستكبار والهيمنة، ونبذ الأفكار المتطرفة والأعمال الإرهابية والإجرامية وإنكارها أينما حلت وعلى المستوى العالمي كله؛ وذلك من أجل تهيئة المناخ المناسب –المتطلع إليه- لإقامة جسور للعيش المشترك مع المسلمين، ولاسيما أن هنالك قيما دينية وإنسانية مشتركة بين الإسلام والغرب كحضارتين عالميتين، إذ تعد نقطة انطلاق أساسية في كل تفاهم وتلاقي يراد له أن يحفظ الأمن والسلم العالمي، ينتظر منهما اتخاذ خطوات تقودهما نحو طموح إنساني في أعلا قيم التبادل والسلم. مما ينبغي على الطرفين استثماره والتأكيد على أهمية توظيفه في سياق احترام الحياة الإنسانية والتواصل الحضاري، الذي يرتبط بصورة أساسية بمسائل التعاون، والسعي من أجل الخير والأمن والسلام ورفض الإرهاب العالمي ومقاومته، ونبذ الظلم والطغيان، وتفهم مبادئ الآخرين وتوجهاتهم وقناعاتهم، ودعوتهم إلى قيم الإفصاح الودي والمحبة والحوار واللقاء؛ من أجل العمل المشترك في سبيل خدمة البشرية وإنقاذها من كل فكر متطرف منحاز مغلق.

ولا بد أن تكون قيمة الموضوعية هي أساس كل تلاقي بيننا وبين الآخرين، فليس من الإنصاف أن نخاطب غيرنا وتحكمنا أفكار محددة وإن النظرة الأحادية لمن أخطر مظاهر انحسار ثقافة الحوار، ونحن بحاجة ماسة إلى تشجيع الحوار الذي يبني ولا يهدم، الحوار الذي يعني العدل والإنصاف والرفق، لا على الظلم أو التشدد والتنطع؛ وذلك لسعادة الإنسانية جمعاء، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ «فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة»([28]).

وتدل الآية على التعاون فيما اتفقا عليه والإيمان بالألوهية، وأن يعتمد الخطاب على أحسن الأساليب في عرض الدعوة والتواصل، والتوجيه في هذه الآية واضح الدلالة على فهم الآخر، كيف لا؟ والآية الكريمة تأمر صراحة ودون لبس أو غموض بأن يختار المسلم أسلوب الملاطفة وحسن التعبير والاحترام عند مجادلة أهل الكتاب، ومن المؤكد أن التوجيه القرآني المتضمن الحث على المجادلة بالتي هي أحسن لم يغفل حقيقة الاختلاف الثابت بين المسلم وغيره من أهل الكتاب، سواء في بعض العقائد أم القيم أم العبادات أم الأحكام والشرائع أم المواقف…الخ ورغم هذا التباين فإن الآية ترشد إلى أسلوب الملاطفة في النقاش عند إثارة مثل هذه القضايا الخلافية، والمجادلة تكون عادة في مواطن الاختلاف، أما اللقاء البعيد عن الاختلاف، والمحفوف بالمجاملة الحسنة، فلا تلزمه المجادلة، ومن ثم يكون أولى بالملاطفة الحسنة.

 أن يختار من بينها، فليست الآية مخيرة المخاطِب بين الحسن والقبيح، وإنما آمرة إياه أن يختار الأحسن بدلا من الحسن، وهذا يدل على مدى احتفاء القرآن الكريم بمراعاة نفسية مخاطبيه وتشجيعهم. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الحوار أصبح قضية ملحة في عهدنا الحالي. فالعالم أصبح شاشة واحدة تتجاور فيها المجموعات البشرية المختلفة تعيش معا وتحس ببعضها البعض، مما يحتم وضع قواعد لهذا الجوار الافتراضي والحقيقي في آن واحد، قواعد ترتكز على فهم الآخر، والاعتراف به، والوقوف عند الأسس المشتركة الموجودة بين المجموعات البشرية في هذا الوجود؛ ليساعد ذلك على العيش معا بأمن وسلام. ومن المهم هنا أن يكون هذا الحوار صادرا عن إرادة إنسانية حرة، وبرضا الأطراف ودون أي إكراه أو عنف، واتخاذ المقاييس المنضبطة؛ لتأمين ثقافة الحوار، وتشجيع المكونات الاجتماعية المختلفة باستعمال إرادتها بكل حرية؛ لتضمن حقها في التعبير.

وفيما تمدنا التجربة التاريخية الإسلامية من دروس وعبر، أن دلائل ومقومات الاحترام الحضاري المتبادل. هي النهوض بالمتعثر، وتنشط الخامل، وإمداد الضعيف بمقومات القوة، وحفظ مقام الآخر وكرامته وموروثه التاريخي، وتقدير ثقافته. هكذا ينبغي للأمر أن يكون، لكننا نستظهر في كل يوم ينشق فجره مسالك صارخة من جانب خصوم حضارتنا بعامة والحضارة الغربية بخاصة، ابتداء بالأثرة والرفض، مرورا بالتعويق والمزاحمة، وانتهاء بالتحرش والإزاحة.

والإسلام يملك في هذا الجانب تراثا غنيا، إذ قامت تجربته التاريخية بشكل عام على احتواء الخصوصيات المتنوعة لكافة المجموعات المختلفة وقبولها حتى وجدت أديان ومذاهب وثقافات عديدة، إمكانية العيش برغد وأمان في ظل الإسلام. وإن وثيقة المدينة -التي عرضناها آنفا- مثال واضح طبق في الواقع العملي فعلا وأنموذجا رائعا في قبول الآخر والعيش بسلام. . وللأسف الشديد فما زال الإسلام مغيبا عن الوجود وما زال المسلم تحكمه لغة الانفعال لا لغة المنهج، فلا بد وأن نميط اللثام عن حقيقة الإسلام وبمعناه الحضاري ومن هنا فإننا بأمس الحاجة اليوم لتوضيح الصورة المشرقة للغرب، فكما يقال: «الناس أعداء ما جهلوا»([29]).

فترسيخ ثقافة الحوار بين الأطرف، ولاسيما المتنازعة تقتضي تمتين وإعادة طرح جديد يبنى على الوضوح ويلتزم بأخلاقيات الحوار، ويعيد النظر في الأهداف الموصلة إلى ذلك ولن يكون هذا نافعا إلا إذا تم توسيع وتجذير قاعدة الحوار لتشمل الأطر الثقافية والاقتصادية والسياسية والمكونات الاجتماعية. ويبقى الأمل –بمشيئة الله- الذي ينبغي النظر إليه بتفاؤل من طرف اتباع الحضارتين الإسلامية والغربية، هو أن حتمية الحوار، أمر واقع لا محالة، لأنه في نهاية الأمر لا بد أن تنتصر الإرادات والعزائم الساعية إلى الحوار ووعيه وتفهمه وتقبل الآخر وفق العمل المشترك، للتخلص من مخاطر الشدة والانزوائية والإقصاء والتهميش التي تحدق بالبشرية.

إذن فعلينا جميعا إعادة تصحيح النظر في موضوع الحوار، والإسهام في تقويته وإيضاح أهدافه، وكيفية استيعاب الآخرين ولنسعى جاهدين إلى تشكيل قنوات تدعو إلى تثقيف الناس في هذا الخصوص، لردع الأفكار المشوشة والمشبوهة، وعلينا كشف الحقائق، وإفهام الرأي العام وإقناعه من خلال طرح قضية الحوار، بأن الإسلام برئ وبعيد كل البعد عن التطرف والعنف والإرهاب، -بل هو دين كما جاء إلينا ووصل إلينا-، دين محبة واعتدال وتسامح. وأن الأفعال المنسوبة لفئة ضالة يجب أن لا تشوه صورة الإسلام الحقيقية، ولا بد أن يرى الغرب -على وجه الخصوص– الوجه الحقيقي للإسلام، الإسلام المتفاعل والمنفتح على الآخرين، الإسلام الذي يحترم الشرائع الإلهية والأديان كلها. كل هذا من أجل أن لا نفقد هويتنا ولا نمسي مسلوبي الشخصنة، بدعوى أننا لا نستطيع أن نصدِّرَ، أو نبقى مكتوفي الأيدي أمام الهجمات الحاقدة، والخزعبلات المغرضة، لتشويه صورة إسلام المحبة والسلام.

الخاتمة:

خلق الله تعالى البشر مختلفين في أفكارهم واعتقاداتهم وقدراتهم الفكرية والعقلية و سيبقوا كذلك، لكنه في المقابل بعث لهم الرسل هادين إلى طريق الخير والصواب، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكملهم هدى ونورا، فمن اتبع النور الذي أنزل معه وهو القرآن الكريم فسيتهدي إلى كل أنواع الخير، ويتعرف على أفضل الخلق، وأولها الخلق الأعظم في القرآن الكريم “الحوار”، ذلك الخلق السامي الذي يجعل الإنسان يرتقي إلى أعلى الرتب في الأخلاق، ويتخلص من حب الذات، ويتجرد في كل أحواله من الأنانية البغيضة إلى كرم العطاء والرفق، وحسن التعامل، الذي يجعله ينظر إلى الآخر نظرة مودة وألفة واحترام وحرص على مصلحته، وهو ما يحقق السعادة للبشرية كافة.

ويمكن إجمال النتائج في الآتي:

  1. يبين القرآن الكريم معا أن الحوار عمل غاية في الأهمية، وأنه أساس الدين الإسلامي، بل أساس كل الديانات السماوية.
  2. لم يهمل القرآن الكريم أي طريق للحوار والتفاهم، ولم يترك وسيلة إلا واستخدمها لتحقيقه.
  3. الحوار يضمن قيام حياة الناس على كوكب الأرض، واستقامتها واستدامتها، وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، وبدونه تتعطل الحياة ويسود قانون الغاب، فتسفك الدماء وتنتهك الأعراض، ويسود الظلم والاستبداد، ويعم الجهل والفقر.
  4. إن موضوع الحوار يشمل شؤون الحياة دون انعزالية أو فصل، يقوم منهجه على نظام فريد أساسه القرآن الكريم، قوي في البناء يقرر الصور المثلى والمنهج العادل والوسطية تجاه التفاعل الإنساني، والتعايش السلمي.
  5. تأكيد القرآن الكريم على نشر ثقافة الحوار، وحق الاختلاف، وذلك من خلال الممارسة الفعلية وليس على مستوى الكلمات أو الشعارات فحسب، بدءا من البيت والمدرسة والجامعة والعمل والمسجد وصولا إلى المؤسسات الرسمية. وتقبل الاختلاف بين الأجيال المتعاقبة، بصفته سنة الحياة، ولن يكون هذا إلا بإشاعة الممارسة الديمقراطية المشروعة في كل مستوياتها ومجالاتها والقضاء على كل أشكال التطرف والتعصب.
  6. إن المنطق يفرض علينا أن نتجاوز ثقافة التقاطع فيما بيننا، ونعمل جاهدين من أجل تنمية ونشر ثقافة الاعتراف بالآخر، وثقافة الكشف عن مواطن انحسار ثقافة الحوار ومعالجتها، وثقافة الاستفادة من نقد الناقدين الجديين، ولو كانوا من معارضينا أو ممن نعدهم من أعدائنا.
  7. إن ظاهرة التطرف لا علاقة لها بالدين، فهي نتاج مخالفة الدين، وأخلاق القرآن الكريم التي تحث على نقيضها.
  8. إن من أبرز أسباب التطرف، والإرهاب في العالم المعاصر إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى، وطغيان الاستبداد في الرأي؛ وانتشار ثقافة إهانة العلم، والاعتداء على قداسته وحرمته؛ مما أنتج ثقافة لي عنق النصوص الشرعية لتستجيب لقوتي التفجير والتكفير بدل التفكير؛ فضلا عن الاستكبار العالمي.

وأخيرا فإن هذا البحث يؤكد على إشاعة قيم الحوار والمرونة والانفتاح بين الناس عموما، والأجيال الشابة خصوصا للتخلص من ثقافة الأحادية واللون الواحد، وثقافة الغلبة والعنف والقهر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع:

  1. القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم.
  2. حسن الترابي، “اطروحات الحركات الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب” الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، بيروت، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، 2000م.
  3. سيد الدسوقي حسن، دراسة قرآنية في فقه التجديد الحضاري، دار نهضة مصر، القاهرة، 1998م.
  4. سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، القاهرة، 1970م.
  5. الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير، ط1، دمشق، سورية، دار الخير، 1412هـ، 1991م.
  6. عصام أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ط2، القاهرة، مصر، عالم الكتب، 1410ه، 1990م.
  7. عبد الجبار الرفاعي، مناهج تجديد –سلسلة آفاق للتجديد- ط1، دار الفكر، بيروت ودمشق، 2000م.
  8. عبد العزيز برغوث، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، ط1، سلسلة كتاب الأمة، برقم: (43)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1995م.
  9. عبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري عند بديع الزمان النورسي، ط1، كولالمبور، ماليزيا، مركز الفكر الحضاري والتربية، 1999م.
  10. عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، فرجينا، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1413هـ، 1992م.
  11. عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف،  كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب، العدد: 167، جمادي الأولى 1436هـ، السنة: (35).
  12. العجلوني، إسماعيل بن محمد الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الألباس عمن اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، مكتبة القدسي، لصاحبها حسام الدين القدسي، القاهرة، 1351ه.
  13. غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل الزعيتر، ط3، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العلمية، 1956م.
  14. فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة، 1420ه
  15. القنوجي، محمد صديق خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، مراجعة عبد الله الأنصاري، صيدا، بيروت، المكتبة العصرية، 1412هـ، 1992م.
  16. محمد سليم العوا، حوار الحضارات –شروطه ونطاقه-، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، بيروت، 2000م.
  17. محمد عبد القادر، الإعلام في القرآن الكريم، ط1، لندن، مؤسسة فادي إبريس، وتوزيع دار قتيبة، بيروت، 1405هـ، 1985م.
  18. مصطفى الرافعي، الإسلام دين المدنية القادمة، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1990م.
  19. موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة القاهرة، 1388هـ، 1968م.
  20. هشام منور، القرآن وحرية الرأي، مقال منشور في مدونات أمين على شبكة الانترنيت للإعلام العربي، وبتاريخ 29 سبتمبر، 2007م.

……..

*الدكتور الشيخ التجاني احمدي ، أستاذ في جامعة نواكشوط

[email protected]


([1]) – سنن البيهقي الكبرى: باب: التطهر في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاستهم، رقم الحديث: (128)، (1/32)، سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني البغدادي، تحقيق: عبد الله هاشم يماني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ، 1966م، باب: الوضوء بماء أهل الكتاب، برقم: (1)، (1/32).

([2]) – الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير، ط1، دمشق، سورية، دار الخير، 1412هـ، 1991م، (1/417).

([3]) – موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة القاهرة، 1388هـ، 1968م، (9/23).

([4]) – غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل الزعيتر، ط3، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العلمية، 1956م، ص 127.

([5]) – المرجع نفسه، ص 605.

([6]) – سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، القاهرة، 1970م، ص 59.

([7]) – المرجع نفسه، ص 99.

([8]) – ينظر عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، فرجينا، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1413هـ، 1992م، ص 43-44. وعاصم أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ط2، القاهرة، مصر، عالم الكتب، 1410ه، 1990م، ص 19.

([9]) – ينظر السيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص 3182. ومحمد عبد القادر، الإعلام في القرآن الكريم، ط1، لندن، مؤسسة فادي إبريس، وتوزيع دار قتيبة، بيروت، 1405هـ، 1985م، ص 126.

([10]) – سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص 729-730.

([11]) – ينظر هشام منور، القرآن وحرية الرأي، مقال منشور في مدونات أمين على شبكة الانترنيت للإعلام العربي، وبتاريخ 29 سبتمبر، 2007م، ص 2.

([12]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف،  كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب، العدد: 167، جمادي الأولى 1436هـ، السنة: (35)، ص 46.

([13]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 49.

([14]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([15]) – فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة، 1420ه، (13/258).

([16]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([17]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([18]) – ينظر حسن الترابي، “اطروحات الحركات الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب” الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، بيروت، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، 2000م، ص 133.

([19]) – مصطفى الرافعي، الإسلام دين المدنية القادمة، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1990م، ص 14، 106.

([20]) – ينظر سيد الدسوقي حسن، دراسة قرآنية في فقه التجديد الحضاري، دار نهضة مصر، القاهرة، 1998م، 23-24.

([21]) –  فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، (10/73).

([22]) – ينظر محمد سليم العوا، حوار الحضارات –شروطه ونطاقه-، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، بيروت، 2000م، 256.

([23]) – ينظر عبد الجبار الرفاعي، مناهج تجديد –سلسلة آفاق للتجديد- ط1، دار الفكر، بيروت ودمشق، 2000م، ص 57-58.

([24]) – ينظر عبد العزيز برغوث، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، ط1، سلسلة كتاب الأمة، برقم: (43)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1995م، ص 65. وعبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري عند بديع الزمان النورسي، ط1، كولالمبور، ماليزيا، مركز الفكر الحضاري والتربية، 1999م، ص 19.

([25]) – ينظر عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، ص 43، وعاصم أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ص 19.

([26]) – السيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق، (4/2191).

([27]) – القنوجي، محمد صديق خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، مراجعة عبد الله الأنصاري، صيدا، بيروت، المكتبة العصرية، 1412هـ، 1992م، (6/263).

([28]) – القنوجي، فتح البيان في مقاصد القرآن، مرجع سابق، (2/262).

([29]) – ينظر: العجلوني، إسماعيل بن محمد الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الألباس عمن اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، مكتبة القدسي، لصاحبها حسام الدين القدسي، القاهرة، 1351ه، (2/326).

مركز مبد ينظم دورة للمجتمع المدني حول دور الوسيط في السلام

ورشة تدريبية حول دور المجتمع المدني في تعزيز السلم الاجتماعي
نظم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية مبدأ ورشة تدريبية حول دور المجتمع المدني في تعزيز السلم الأهلي بمقر المركز بنواكشوط اليوم الأحد 16 فبراير 2020 مع المدرب والباحث بالمركز الأستاذ الشيخ الحسن البمباري.


الدورة التي افتتحت صباح اليوم تناولت مفاهيم الوساطة والمجتمع المدني والأدوار التي يفترض بالمنظمات والهيئات المدنية القيام بها والتي منها الوساطة ، وحل النزاعات ،والمشاركة في وضع آليات لتعزيز السلم الاجتماعي.
وقد شهدت الورشة مشاركة واسعة من المنظمات والهيئات الشبابية النشطة في نواكشوط وخارجه .


تناول الحاضرون قضايا عديدة بالنقاش مثل مكانة المجتمع المدني وآليات تعزيز حضوره كوسيط اجتماعي والجهود التي يبذلها الافراد والنشطاء في هذا الصدد إضافة إلى الاولويات داخل الفضاء المدني سواء عند الأفراد او المؤسسات .


وقد ختم الورشة بتقسيم إفادات المشاركة على المشاركين .

كلمة رئيس ندوة الانفتاح السياسي في موريتانيا السيد محمد ارزيزيم

كلمة رئيس الجلسة

بسم الله الرحمن الرحيم

أرحب بكم باسم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية- مبدأ، الذي نشكر له جهده الذي بذل من أجل  أن نجلس سويا  في فضاء فكري وسياسي وثقافي واحد رغم اختلاف الرؤى والتصورات، على مائدة نقاش موضوع الساعة والساحة في البلاد كما عودنا على ذلك خلال السنوات الماضية، مما عزز ويعزز بناء المشترك بين النخبة والمهتمين بالشأن العام عموما.

و تتنزل هذه الندوة ضمن الأنشطة التي ينظم مركز مبدأ لمتابعة الساحة السياسية والمواضيع المهمة للشأن العام.

 إن هذه الندوة التي تأتي تحت عنوان الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تكريس الديمقراطية، ستمثل حتما إجابة أو إجابات  أساسية على الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد حاليا، والذي يطغى عليه جو من التفاؤل والانفتاح المتبادل بين الفرقاء السياسيين، بعد عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها البلاد، مؤخر وما أعقب ذلك من ردود فعل ايجابية على الواقع السياسي الراهن.

ولنقاش هذا الموضوع استضاف المركز نخبا من خيرة العارفين بالفضاء السياسي الموريتاني والذين عاشوا و عايشوا مختلف تفاعلاته على مستويات عدة و في توجهات سياسية شتى،

وهم السادة:

  • السيد يحي احمد الوقف، الأستاذ الجامعي ورئيس الوزراء السابق والنائب البرلماني و رئيس حزب عادل.
  • السيد العيد محمدن أمبارك المحام والنائب برلماني عن حزب تكتل القوى الديمقراطية ورئيس ميثاق الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحراطين،
  • السيد سيدي محمد محم المحام والنائب والوزير السابق والرئيس السابق لحزب الاتحاد من اجل الجمهورية،.
  • السيد محمد جميل منصور الباحث ورئيس المركز الموريتاني للدراسات الإستراتيجية والنائب البرلماني السابق والرئيس السابق لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية
  • السيد عبد الله ممادو با الباحث والمؤلف المتخصص في الشؤون الإفريقية والمستشار الإعلامي للرئيس السابق سيدي الشيخ عبد الله.

السادة والسيدات، هؤلاء  الأساتذة هم الذين سيتناولون هذا الموضوع،  بالنقاش  والتحليل وهم خليقون  بالإجابة عن أهم الإشكالات السياسية للانفتاح السياسي وقادرون على معالجة الموضوع من مختلف جوانبه، باسمكم جميعا وباسم مركز مبدأ نرحب بهم وعلى بركة الله  نبدأ الندوة.

رئيس الجلسة

محمد ولد ارزيزيم

الكلمة الرسمية لمركز مبدأ خلال ندوة الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تعزيز الديمقراطية

السادة والسيدات

الحضور الوقور

السلام عليكم ورحمة الله

لقد دأب المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية مبدأ، منذ تأسيسه وحتى اليوم على مواكبة ومرافقة التحولات المهمة التي تشهدها البلاد، وذلك من خلال عشرات العناوين الشائكة والمهمة التي تم تدارسها على منبر المركز، والتي كانت في مجملها عناوين ناقشت قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية تساهم في تجذير دولة المواطنة والقانون.

السادة الحاضرون والمحاضرون

منذ مطلع العام إلفين وسبعة عشر شهدت البلاد انتقالات سياسية مهمة في مواضع تلامس جسم الدولة على المستوى التنفيذي والتشريعي، والبنوي عموما، وقد كانت معظم هذه التحولات مجال متابعة ونقاش من المركز،

و تتنزل هذه الندوة التي اخترنا لها أن توسم ب الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تعزيز الديمقراطية، في إطار المتابعة الأمينة و النشطة للساحة السياسية في موريتانيا، التي تعيش حالة انتقال غير مسبوق يؤكد فاعلية ديمقراطية الممكن المحلية التي وان لم تنجج في خلق طفرة على المستوى للتنموي والاقتصادي والإداري إلا أنها تجنب البلاد الاحتقان الاجتماعي والصراع المنهك لعملية بناء الدولة العسيرة في دول الجنوب عموما.

الحضور الوقور …

إن مثل هذه الأنشطة تمثل طريقا مهما لنقاش الواقع واستشراف المستقبل، وكذلك تقويم النقاشات والمسارات التي نسلكها في طريق الديمقراطية، ومع أننا نوفر الكفاف من أدوات البناء السياسي (القوانين، واللجان السياسية)، فإننا ما زلنا بعيدون جدا عن تحقيق تقدم يذكر في أدوات الأداء السياسي وبالخصوص الحزبي منها، الذي يستنسخ غالبا نماذج غير سياسية لتحقيق أهداف سياسية.

ونظرا لطبيعة المحاضرين هذا المساء وتميزهم وخبرتهم السياسية، فإنني أجد نفسي مجبرا على تقديم بعض الأسئلة السياسية كإسهام في هذا النقاش الأول من نوعه

ما هي الأسباب المباشرة للخجل السياسي الذي تعيشه التجربة الديمقراطية في موريتانيا؟

وأي انعكاس للمسألة التنموية بمعناها الاقتصادي على الفعل السياسي، في عدم إمكان تجسيد النزاهة في الانتخابات بسبب الفقر وغياب الوعي؟

وطالما الدمقرطة نموذج سياسي يتطلب مستوى ما من التنمية و الرفاه كيف أصبحت المطلب الأساسي لكل الفاعلين سواء المجتمعيين أو السياسيين؟

وما هي الآفاق السياسية التي يمكن الوصول إليها من سياسة اليد الممدودة التي تظهرها الحكومة الحالية اتجاه للمعارضة؟

وأي تاثير للمشكل العرقي و الإثني في البلاد على المسيرة الديمقراطية للدولة التي ستدخل بعد أيام عامها الستين أي مرحلة ما بعد نضج التوجه و المسير؟

وليس رئيس الجلسة هذا المساء الذي سيترك له تقديم المحاضرين، إلا علما من رجال السياسية في البلد، فهو وزير الداخلية ونائب رئيس الجمعية الوطنية السابق، كما انه كان سفيرا لموريتانيا في الاتحاد الإفريقي، وباسم المركز أوجه الشكر له شخصيا على تقبل مهمة إدارة هذه الجلسة،

ومع تمنيات فريق المركز الذي شرفني بالحديث باسمه، لأعمال ندوتكم هذه بالتوفيق والسداد .

اشكر لكم حضوركم وتلبية دعوة المركز،

السلام عليكم ورحمة الله

الأمين العام للمركز ، الشيخ الحسن البمباري

مركز مبدأ ومنشورات ولد التاب ينظمان الندوة الدولية الثانية حول العلامة ولد التاب

احتضنت نواكشوط في يوم 19 دجمبر 2019 النسخية الثانية من الندوة الدولية حول المدونة الفقهية الموريتانية العلامة ولد التاب وجيله،

الندوة المنظمة من طرف منشورات ولد التاب والمركز الموريتاني للبحوث والدراسات الانسانية مبدأ و الفكر التجديدي شارك فيها عدد من الباحثين الموريتانيين والاجانب وقد قدمت فيها العديد من العروض التي ناقشتم ختلف جوانب ابعاد منوجات العلامة ولد التاب وجيله الفقهي وكذلك مركزية الفقه في التراث الموريتاني الاجتماعي منه والسياسي .

مستقبل الجماعات المسلحة في مالي والساحل

الدكتور مروان شحاتة

الملحُ يأتي من الشمال

والذهبُ من الجنوب

والفضة من بلد البيضان

أمّا كلام الله والأشياء المقدسة

والقصص الجميلة

لا توجدُ  إلا في تمبكتو

Salt comes from the North, Gold from the South, Money from White man country, but God words, holy things, interesting tales, we can find them only in Timbuktu

le Sel vient du Nord; L’or du sud, l’argent du pays des blancs, mais la Parola de Dieu les choses savante les jolis contes on ne les trouve qu’a Tombouctou

 مستقبل الجماعات المسلحة في مالي والساحل

يبدو أن الزيارات الميدانية لجمهورية مالي، تساهم في زيادة فهم طبيعة الصراع المسلح المتواصل منذ سنوات طويلة في غرب إفريقيا والساحل، ومعرفة مستقبل المنطقة، وتساعد هذه الزيارات كذلك على فتح قنوات اتصال مع القوى الفاعلة في المشهد المالي بمختلف أطيافها.

وحيث أن محاولة الفهم هذه تصب في جانب عمل المنظمات الدولية الإنسانية المُحايدة، وعلى رأسها منظمة أطباء بلا حدود، والتي تهدف إلى كسر الهوة ما بين المنظمات والأطراف المختلفة وبخاصة الجماعات المسلحة، لضمان سلامة العاملين فيها وتسهيل عملها.

فقد اختلفت زيارتي الأخيرة التي امتدت من 22 شباط/ فبراير 2018 ولغاية 13 آذار/ مارس 2018، عن الزيارة السابقة، بأنني تمكنت من التنقل براً وجواً، في الصحراء المالية للوصول إلى بعض المدن التي تشهد حضوراً قوياً للجماعات المسلحة، حيث قمت بزيارة المدن التالية: تننكو، موبتي، تمبكتو.

ولا تختلف الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية بين معظم المقاطعات المالية وبخاصة في المناطق الشمالية، فالطرق الرئيسية غير آمنة للتنقل والسفر، ولا تخلو من قطاع الطرق، الذين يقومون بالاعتداء على المسافرين وأخذ أملاكهم وسياراتهم وفي بعض الحالات اختطافهم وتسليمهم للجماعات المسلحة أو التفاوض لإطلاق سراحهم مقابل فدية معينة.

وللمرة الأولى، كان لي فرصة بلقاء بعض المقاتلين الذين ينتمون لـ “جبهة تحرير ماسينا”([1])، وكذلك فتح قنوات اتصال مع الجماعات المسلحة، ولقاء نخب فكرية إسلامية إفريقية وقيادات وطنية وعسكرية، وزيارة بعض مؤسسات المجتمع المدني الإسلامية، وعلى رأسها منظمة الفاروق، واتحاد علماء إفريقيا وجامعة الساحل.

لم يكن التدخل الفرنسي وغيره من القوى العالمية في أفريقيا عموماً ومالي على وجه الخصوص الأول من نوعه، ولا يخفى على أحد أن فرنسا تعيد إنتاج سيطرتها ونفوذها على معظم دول إفريقيا، بل يمكن القول بأنها لم تفقد تلك السيطرة والنفوذ رغم تغير أنظمة الحكم في العديد من الدول الأفريقية.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو لماذا ما زالت فرنسا مهتمة بالسيطرة على إفريقيا وترفض منافسة الدول الغربية الأخرى، كأمريكا وبريطانيا في الحصول على حصة من النفوذ في تلك البلدان؟ ولعل الجواب المباشر الذي حاولت مجلة قراءات أفريقية طرحه لقرائها بأن فرنسا ” ظلت تنهب خيرات إفريقيا طول فترة احتلالها، ولا زالت تسيطر على مناجم الماس والذهب والمعادن واليورانيوم، وحينما خرجت فرنسا من القارة تركت الدول التي كانت تحتلها بعد استقلال موهوم، تعيش في صراع سياسي، وتخلّف إداري واقتصادي، أبقاها في ذيل الشعوب والأمم”([2]).  

يبدو أن الأزمة المالية([3])، ما زالت تعيش في أتون الصراع السياسي والعسكري بين الحكومة المركزية في الجنوب وجماعات قومية وإسلامية، عبر سنوات طويلة راوحت بين الثورة والإتفاق، منذ أن بدأت الحراكات الشعبية التي تطالب باستقلال إقليم أزواد شمالي البلاد عن الحكومة المركزية، وما زالت الظروف الموضوعية والذاتية التي دفعت بالكثيرين للخروج في وجه الدولة قائمة إلى يومنا الحاضر، رغم إتفاقيات السلام المتتالية التي وقعت بين الأطراف المتنازعة.

خارطة الجماعات في المشهد المالي:

هناك اتجاهان يغلبان على الحراك الشمالي، وبقية مقاطعات مالي، الأول يستند إلى طروحات قومية، هدفها إقامة دولة علمانية للطوارق في الشمال، تمثلت في تأسيس “الحركة الوطنية لتحرير أزواد”، والثاني اتجاه يسعى لإقامة إمارة إسلامية وتطبيق الشريعة، تمثل في تأسيس عدد من الجماعات الإسلامية المسلحة وعلى رأسها جماعة أنصار الدين، بزعامة إياد أغ عالي، و” حركة الجهاد والتوحيد في غرب أفريقيا”، بزعامة سلطان ولد بادي، وهو من القيادات العربية في أزواد، وكتيبة الملثمين التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتغير اسمها إلى المرابطون ثم الموقعون بالدماء، وهي بزعامة مختار بلمختار، وجماعة أنصار الشريعة في تمبكتو، بزعامة ” عمر ولد حماه” ([4]).

وقد دخلت هذه الجماعات في أطوار تتعلق بتغيير تحالفاتها ومسمياتها، وبخاصة تلك التي ترتبط بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، حيث آلت التسمية إلى جماعتين رئيسيتين: ” إمارة منطقة الصحراء الكبرى”، و” تنظيم المرابطون”، وفي 2 آذار / مارس 2017 أعلنت معظم التنظيمات الإسلامية المسلحة اندماجها في جماعة واحدة تحت مسمى جديد هو ” جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، واختير إياد أغ غالي زعيماً لها([5]).

يشير إعلان كلٍّ من “إمارة منطقة الصحراء الكبرى” و”تنظيم المرابطون” و”جماعة أنصار الدين” و”جبهة تحرير ماسينا”، في 2 مارس 2017، عن تأسيس تحالف جديد باسم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، واختيار إياد أغ غالي -زعيم “جماعة أنصار الدين”- قائدًا له، إلى سعى “تنظيم القاعدة”-الذي بايعته تلك التنظيمات- نحو تعزيز نفوذه وتنفيذ عمليات نوعية في منطقة الساحل والصحراء من جديد، في رسالة إلى كل من تنظيم “داعش”-المنافس الرئيسي لـ”القاعدة”- والقوى المعنية بالحرب ضد الإرهاب وفي مقدمتها فرنسا التي شنت عملية عسكرية لإخراج عناصر بعض تلك التنظيمات من شمال مالي في بداية عام 2013.

وربما جاء إعلان إندماج الجماعات الإسلامية المسلحة – الجهادية – في الساحل والصحراء؛ بفعل المواجهة الشرسة التي تخوضها هذه الجماعات متفرقة مع القوات الفرنسية والغربية والمحلية، وبسبب التنافس الكبير على السيطرة والنفوذ بين تنظيمي ” القاعدة ” و” الدولة الإسلامية ” في مناطق العالم، والتي بدأت في العراق وسوريا وانتقلت إلى بقية مناطق انتشار تنظيم القاعدة في اليمن والشمال والغرب الأفريقي وأفغانستان والفلبين، وأوروبا.

ومن المرجح أن يكون التشكيل الجديد الذي جاء تحت مسمى ” جماعة نصرة الإسلام والمسلمين ” بزعامة الشيخ إياد إغ غالي، والذي يعتبر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ممثلاُ وجزءً منه، يحاول أن يكون وطنياً في الداخل المالي وفي معظم إفريقيا، وأن حدود انتشار نشاطات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تنحصر في المغرب الإسلامي ولا تتعداه إلى غرب ووسط إفريقيا[6].

ويبدو أن هذان الاتجاهان يستخدمان ذريعة من قبل الدول للتدخل في الشأن المالي، ففي الوقت الذي يستخدم الاتجاه الأول – العلماني والعرقي – بتلقي الدعم من المُستعمِر لدوره في مواجهة الهوية الإسلامية في إقليم أزواد، وتفتيت الجهود الرامية إلى توحيد الجهود من جهة، وفي الجهة الثانية يستخدم الاتجاه الثاني – الإسلامي- ذريعة للتدخل تحت شعار  الحرب على الإرهاب([7]).

ويمكن تقسيم التجمعات أو التحالفات التي وقعت إتفاقية الجزائر التي تمثل الحركات السياسية في إقليم أزواد إلى قسمين الأول: البلاتفورم ( Platform)، الذي يتكون من ثلاث حركات رئيسية: حركة الدفاع الذاتي، والحركة العربية الأزوادية، وحركة غاتيا وحلفائها، وكل حركة تمثل قومية معينة.

يعتبر مؤيدوا ” القاعدة الشعبية العريضة ” أو ما اشتهر باسم ” البلاتفورم” بأنها صحوة إيجابية فاعلة في المجتمع الأزوادي، تتشكل من القوميات الثلاث في الشمال: السونغاي والعرب والطوارق، وتاريخيا الشعوب الصحراوية تمتلك اسلحة، من خلال السوق السوداء، والبلاتفورم ترسم استراتيجيتها للحفاظ على النسيج المختلف في المجتمع، وبخاصة الشعوب العربية في الصحراء الكبرى، التي تمتد من حدود موريتانيا والجزائر والنيجر وغيرها[8].

والقسم الثاني: يسمى تنسيقية الحركات الأزوادية ( CMA)، وتضم: الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والمجلس الأعلى لوحدة أزواد، وجناح الحركة العربية المعارض.

عهد ” الأمان”:

تعتبر الجماعات الإسلامية المسلحة أن غياب للدولة ” الإسلامية ” التي ترعي تنظيم العلاقات الدولية مع الآخر على مستوى الجماعات والدول والأفراد سواء كانت إسلامية أم غير إسلامية، وأن مسألة تقسيم العالم لدى هذه الجماعات يحيطه خلاف اجتهادي حول طبيعة هذا التقسيم ( دار إسلام، دار كُفر، دار حرب، دار عهد) بسبب هذا الغياب، وقد اجتهدت هذه الجماعات على اعتبار انها قادرة على اصدار الأحكام الشرعية من خلال فتاوى علمائها في مسألة معاصرة كتقسيم الدار أو الدول، وكذلك العهود التي تعطى ومن يعطيها، ومسائل أحكام الحرب والقتال، ولا ينحصر مناقشة تلك المسائل الفقهية لدى الجماعات المسلحة بل لا يخلو فيها كتاب فقهي قديم أو معاصر من تناولها.

وحيث أن تقسيم القانون الدولي الإنساني لطبيعة النزاعات المسلحة التي تدور في مناطق متعددة من العالم، هو: ” نزاع مسلح غير دولي”[9]، فسوف نحاول فيما يلي تسليط الضوء على جزئية عهد ” الأمان” الذي تعطيه بعض الجماعات للآخر، ونطلع على نماذج للشروط التي تضعها تلك الجماعات.

ومن المعروف أن المعاهدات؛ هي الاتفاقات أو الموادعات أو المواثيق التي تعقدها الدولة ” الإسلامية” مع غيرها من الدول لتنظيم العلاقات الدولية بينها، وتحديد القواعد التي تخضع لها هذه العلاقة، وعرفها الفقهاء بقولهم : مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، وتسمى موادعة ومسالمة ومعاهدة ومهادنة، وهي مشروعة وعقدها مع غير المسلمين جائز بموجب النصوص القرآنية والسنة النبوية سواء لمصلحة المسلمين أو بحكم ضرورة طارئة أو بسبب نكبة حلت بالمسلمين، ومن المعاهدات التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم المعاهدة المشهورة المعروفة باسم صلح الحديبية، وعقدت مع أهل مكة في السنة السادسة من الهجرة، وقد سار الخلفاء المسلمين على خطى الرسول، فعقدوا عدة معاهدات مع الأمراء ، أشهرها المعاهدة التي عقدها الخليفة عمر بن الخطاب مع أهل ” ايلياء ” بيت المقدس بعد استسلام المدينة في العام الخامس عشر للهجرة النبوية، ومن شروطها أن لا تخالف النصوص الشرعية من القرآن والسنة، وأن تكون بموافقة الخليفة أو من ينوب عنه، وأن تكون هناك مصلحة محققة، وأن تكون محددة بوقت معين.

ولن نخوض في مسألة شرعية أو عدم شرعية النظم السياسية الإسلامية، التي تعتبرها الجماعات الإسلامية المسلحة غير شرعية، وكذلك في الإجابة عمن أعطى تلك الجماعات الحق في إصدار فتاوى وأحكام تتعلق بالمسائل التي ذكرناها وبخاصة ” الأمان”، ولكننا نناقش هذه المسألة كون تلك الجماعات أصبحت حاضرة في العديد من الدول، وتسيطر على كثير من المناطق فيها، وهي مسألة بحاجة لتوضيح وبيان، وقد أعطى الفقهاء القدماء والمعاصرون للجماعات والأفراد الحق في إعطاء ” الأمان”.

وقد بدى ذلك واضحاً في التعريف الفقهي لـ” الأمان”: وهو عقد غير لازم، قابل للنّقض بشروطه، وحكمه الجواز مع شرط انتفاء الضّرر – وإن لم يظهر المصلحة فيه على ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، خلافاً للحنفيّة الّذين يشترطون : أن تكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين، ومن الفروق الظّاهرة بين عقد الأمان وعقد الهدنة أنّه لا تجوز الهدنة إلاّ بعقد الإمام أو نائبه، أمّا الأمان فإنّه يجوز من الإمام ومن جماعة من المسلمين ومن آحادهم ولو من امرأة عند جمهور الفقهاء. وقال ابن الماجشون من المالكيّة: إنّ أمان المرأة والعبد والصّبيّ لا يجوز ابتداءً، ولكن إن وقع يمضي إن أمضاه الإمام وإن شاء ردّه([10]).

وفي هذا السياق؛ ورداً على سؤال وجه للشيخ ” أبو حفص الموريتاني”([11]) حول إعطاء الجماعات الجهادية عهد “أمان” للمنظمات الدولية، قال فيه:” لا شك أن كثير من المنظمات الدولية الإنسانية، تسعى دائماً للحصول على ” أمان” في المناطق التي يتحركون فيها وتخضع لسيطرة الجماعات الجهادية، ولا بد أن أوضح رأيي في هذه المسألة، رغم أنه ليست لدي صلات تنظيمية بهذه الجماعات، ولكنهم إذا سمعوا رأيي في مسألة معينة وكان الوفاء والقيام بها لا يشكل عبئاً أو ضرراً لهم، أخذوا وعملوا بها”.

وتابع “أبو حفص”؛ “والأهم من ذلك أن هذه المنظمات الدولية، تعتبر منظمات إنسانية تعمل وفق مبدأ ” الحيادية”، فإذا تأكدت ” الجماعة ” أنها منظمات ” محايدة”، وتحمل رسالة إنسانية، فحقيقة الأمر أنها لا تتعرض لتلك المنظمات، بل هناك حاجة لعمل هذه المنظمات، وبخاصة أنه توجد حالات إنسانية لدى الجماعات بحاجة لمساعدة المنظمات الدولية الإنسانية” .. ويحصل أحياناً أن بعض الأطراف – يقصد القوات الدولية – في أفغانستان قامت باستخدام سيارات الصليب الأحمر لأغراض عسكرية، ولا أدري أكان هذا الاستخدام بعلم أو عدم علم اللجنة الدولية للصليب الأحمر أم لا، ولا أستبعد أن يكون تم تزوير الشارة الدولية، ومثل هذه الحوادث تفقد المنظمات الدولية الإنسانية مصداقيتها عند الجماعات”.

وبيّن أبو حفص الموريتاني، بأنه لو ثبت لدى ” الجماعات ” حيادية المنظمات الدولية الإنسانية بشكل تام، ولا يتسرب منها أخبار ومعلومات عن عناصرها وقياداتها ومواقعها،  ولا أية أمور أخرى تضر بها، وأنها تخدم جميع الأشخاص دون تمييز، أظن أنها – أي المنظمات الدولية الإنسانية – لن تواجه أي مشكلة في ظل حاجة ” الجماعات إلى الخدمات والأعمال التي تقوم بها تلك المنظمات.

كما أوضح ” أبو حفص الموريتاني”؛ بأنه لا يمكن وصف المنظمات الدولية الإنسانية بــ ” المحاربة([12])“، و تتمنى الجماعات الجهادية فعلاً أن تجد المنظمات الدولية الإنسانية سمة ” الحيادية ” بشكل مطلق، لأنه تولد لدى بعض الجماعات صورة نمطية من عدم الثقة بسبب ممارسة بعض المنظمات الدولية الإنسانية في الميدان وأثناء النزاعات المسلحة غير الدولية، وبخاصة أن سلوكها أبدى تحيزاً للطرف الآخر المعادي للجماعات، وتصبح هذه المنظمات الإنسانية في مصاف الأعداء.

وفي حال ما أعطت الجماعات الجهادية، بمختلف أطيافها واختلافنا مع طروحاتها ورؤاها، ” أمان” لأي فرد أو منظمة إنسانية سواء كان شفهياً أو مكتوباً فإنها تلتزم به، بحسب أبو حفص.

وقد يُساء استخدام الإشارة التي تدلل على منظمة دولية إنسانية، من قبل مختلف الأطراف المتنازعة سواء الدول أو الجماعات المسلحة، فقد يحصل اختراق استخباراتي لبعض العاملين في المنظمات الدولية، الذين يقومون بنقل المعلومات والأخبار الخاصة بتحركات عناصر وقيادات ومواقع الجماعات الجهادية، وليس بالضرورة بعلم أو بالتنسيق مع إدارة تلك المنظمات، وهذا يساهم في زعزعة الثقة فيها، ويتحمل القائم بالمخالفات بعواقب أعماله.

وقد ضرب ” أبو حفص الموريتاني ” مثالاً على عدم الثقة في المنظمات الدولية، حيث سرد كيفية تعامل مقاتلي حركة طالبان مع سيارات ومعدات وأجهزة المنظمات الدولية الإنسانية، عقب دخول قوات التحالف الدولي إلى أفغانستان، وخروج تلك المنظمات، فقد كان الاتفاق مع حركة طالبان إبان حكمها مع المنظمات الدولية الإنسانية بأن تسلم معداتها وأجهزتها وسياراتها إلى الحركة بعد خروجها من أفغانستان، ومع بدأ المعركة الدولية ضد الحركة، سلمت هذه المعدات والسيارات إلى الحركة بمقتضى الاتفاق بينهما، والطريف في الأمر أن عناصر وقيادات حركة طالبان لم تستخدم تلك المعدات والأجهزة والسيارات لخوفها من وجود أجهزة تحديد المواقع، ولم يقم مسؤولوا الحركة بفحصها حين تسلموها، لأنهم لا يمتلكون الخبرة الكافية للقيام بعمليات الفحص والتأكد من خلوها من أجهزة التجسس، وإن دل هذا فإنه يدلل على أن الثقة غير متوفرة بهذه المنظمات.

أما الشيخ ” أبو عُمر سندة بوعمامة”، فقد بيّن أن موقف الجماعات الجهادية في الساحل وغرب أفريقيا من منظمة أطباء بلا حدود، لم يتغير وعبر عن ذلك بقوله: ” بخصوص أطباء بلا حدود، كانت لهم تجربة مع الجماعة ولبعضهم معرفة شخصية مع أهم الأمراء، وعملهم محل ترحيب من الكل؛ إن هم التزموا بالشروط التي قدمت لهم”([13]).

الشروط العامة لـ ” الأمان”:

  • أخذ موافقة أو تصريح بدخول المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة، شفهياً أو مكتوباً، ويقاس على ذلك التأشيرة/ الفيزا التي تمنح للشخص الذي يرغب بزيارة أي دولة.
  • إعلام الجماعة بطبيعة النشاطات والتحركات اليومية.
  • تقديم كشف بأسماء العاملين في المقرات الطبية الإنسانية.
  • عدم القيام بأي من الأعمال التالية: أ. التجسس بالتصوير أو الاستفسار عن أماكن انتشار الجماعة وأسماء العناصر والقيادات. ب. التصوير للأماكن العامة والعسكرية. ج. العمل في مجال التبشير لديانة أخرى. د. عدم التنقل من مكان لآخر دون الحصول على تصريح.
  • الحيادية في العمل.
  • رفع شارة المنظمة الإنسانية.

وقد بين تنظيم ” الدولة الإسلامية”، موقفه من ” العهد” أو ” الأمان”، من خلال اللقاء الذي أجرته صحيفة النبأ الاسبوعية، مع أمير “هيئة الهجرة”[14]، حيث وضع المعايير في عمل هيئته في التعامل مع غير المسلمين الراغبين في دخول البلاد والمناطق التي يسيطر عليها التنظيم، إذ أنه لا يسمح لغير المسلمين بدخول الأراضي التي يسيطر عليها ويسميها ” دار الإسلام”، أو الإقامة فيها إلا بعهد أو أمان، وهذا العهد مشروط ومقيّد لمن تسمح حالتهم بإعطائهما له، وتكون الإقامة مشروطة ومحدودة، وبخاصة للذين لا يحملون جنسية البلد التي سيطروا عليها[15].

فيما يسمح التنظيم، لأي مسلم بغض النظر عن الجنسية التي يحملها، دخول البلد والإقامة والتنقل فيها،  ولا يفرقون بينه وبين السكان الأصليين المولودين فيه أو المقيمين أصلاً فيه، بل يقدمون له كل التسهيلات اللازمة للإقامة، كونه ” مهاجراً”، ويمنع المسلم من مغادرة البلد التي يسيطرون عليها إلا بتصريح أو عذر، ومن الأعذار المقبولة السفر للعلاج في حال لم يكن متوفراً في البلد، على اعتبار أنه سيغادر إلى ” دار الكفر”، والواجب الشرعي يحتم عليهم منعه، ويسمح للتجار الذين يستوردون البضائع بالسفر والعودة، وفي بعض الحالات الخاصة التي لم يفصح عنها التنظيم، وبموافقة الإمام[16].

وقد ضرب أمير هيئة الهجرة مثالين في التعامل مع غير المسلمين، الأول لشخص قام بزيارة أقاربه أثناء سيطرة التنظيم على مدينة الرقة والموصل، وتجول في البلاد وغادرها بعد الزيارة، والمثال الثاني، لمن يرغب من غير المسلمين في الإقامة في البلد فعليهم دفع الجزية، لأنهم يعيشون بأمان، وواجب حمايتهم على الدولة[17].

الانسحاب من المُدن

حينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على حركة طالبان، قامت الحركة بالانسحاب من المُدن التي تسيطر عليها دون مقاومة وذابت في الأحياء بين الناس وأعادت انتشارها في الجبال، لتنتقل من الدولة إلى الثورة من جديد، وهذا ما فعلته تكراراً حركة الشباب المجاهدين في الصومال، وكذلك ما فعله تنظيم القاعدة وحركة أنصار الدين وغيرها من الجماعات المسلحة في مالي عند تدخل فرنسا وحلفائها في الساحل.

  الانسحاب المنظم من المدن، تكتيك تستخدمه الجماعات الجهادية المنتشرة في العالم، وذلك لإدراكهم التام بأن سيطرتهم على مدينة ما، يحمل في طياته رسالتين، الأولى موجهة للمجاهدين: إما أن تغادروا المُدن، أو تدمر على رؤوسكم، والثانية موجهة لسكان المُدن من عوام المسلمين ومضمونها: كل مدينة يسيطر عليها المجاهدون سوف تتحول إلى دمار، فإن اردتم سلامة مدنكم فلا تسمحوا لهم بالسيطرة عليها.. لكي يبقى راسخاً في أذهان الناس؛ أن سيطرة المجاهدين على أي مدينة تعني أنها ستتحول إلى الدمار والخراب”( [18]).

إمكانية التفاوض مع الجماعات المسلحة

وثيقة القاعدة مع الدولة الموريتانية  ” المتاركة ” أنموذجاً

لاحظ الباحث أن هناك حالة من الاتفاق الضمني بين الجماعات الإسلامية المتنوعة – بما فيها المسلحة- والدولة الموريتانية من خلال لقاء العديد من الدعاة وطلبة العلم، والصحفيين والباحثين، وقد تبين بحسب ما ذكره ” أبو حفص الموريتاني”، بأن هناك اتفاق ضمني بين الحكومة الموريتانية والحركات الجهادية، شبيه بمسألة الهُدنة بين الطرفين، ينص على أن لا تقوم الحركات الجهادية بأي نشاط عسكري داخل موريتانيا، وأطلق على ذلك مفهوم ” المُتاركة “، ويعني ذلك عدم القيام بأي نوع من أنواع النشاطات العسكرية داخل بلد ما ( [19])، وهذا يدلل على أن هناك إمكانية للتفاوض والتحدث مع الجماعات الإسلامية المسلحة، الذي يساهم في حال نجاحه إلى حد كبير في إنهاء حالة العنف في البلد الذي يسعى إلى فتح قنوات اتصال تفاوضية، رغم معارضة الدول الكبرى لهذا السلوك على اعتبار أنها لا تفاوض ” الإرهابيين”، ويتعارض ذلك مع سياساتها الاستعمارية في السيطرة والهيمنة على النفوذ والثروة.

ما أشار إليه ” أبو حفص الموريتاني”، تحدثت عنه وثيقة من وثائق أبوت أباد، التي وجدت في المنزل الذي قتل فيه أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وهي رسالة أرسلها بن لادن، إلى عطية الله وأبو يونس الموريتاني، تناولت الإجابة على رسالة زعيم فرع التنظيم في المغرب الإسلامي، أبو مصعب عبد الودود، وموضوعها الهدنة مع ” المرتدين”، وتضمنت أن بن لادن عرض الموضوع على الشيخ محمود – عطية الله الليبي-، وأبو يحي الليبي لكتابة بحث شرعي حول جوازها.

وقد طلب بن لادن أن تتضمن الهدنة النقاط التالية:

  • التزام المجاهدين بالامتناع عن القيام بأي نشاطات عسكرية في موريتانيا.
  • التزام الحكومة الموريتانية بعدم التعرض لـ” المجاهدين” بأذى في البلد، وعدم تعرضها لطلبة العلم من الداخل أو الخارج بأي سوء.
  • إطلاق سراح الأخوة المسجونين كافة.
  • التزام الحكومة بعدم انطلاق أي عمل معاد للجماعات الجهادية من أراضيها.
  • التزام الحكومة الموريتانية بدفع مبلغ يتراوح ما بين 10-20 مليون يورو سنوياً لتنظيم القاعدة، ما دام العقد سارياً، أو عند تجديده إن انتهت المدة تعويضاً عن الامتناع عن خطف السياح.
  • الاتفاق بين الطرفين سري.
  • سريان الاتفاق لمدة سنة قابلة للتجديد.

وقد أبدت هذه الوثيقة وما آلت عليه طبيعة العلاقة مع الجمهورية الموريتانية؛ مرونة سياسية واضحة من قبل تنظيم القاعدة وتعتبر مرجعية وسابقة في هذا المجال، تبعها وثيقة أزواد، وتعتبر حالة متقدمة من تعامل الحركات الجهادية مع الحركات الوطنية، حيث قامت الجماعات الإسلامية المسلحة بعمل وثيقة اشتهرت باسم ” وثيقة أزواد”، تنظم العلاقة مع الجماعات والحركات والقيادات القبلية بمختلف أعراقها، نجحت من خلالها هذه الجماعات بتحييد صراعها مع تلك الأطراف والتفرغ لبناء جبهة عريضة لمواجهة الحكومة المركزية، وهذه الوثيقة تعد بحق انموذجاً لتطور الفكر السياسي وفقه الواقع للجماعات السلفية الجهادية في التعامل مع الآخر، وهي بحاجة إلى دراسة معمقة للوقوف على تلك التجربة الفريدة([20]).

المعاهد والمحاضر الدينية في موريتانيا:

أثار قرار السلطات الموريتانية بإغلاق المدارس والمعاهد القرآنية في تشرين الأول عام 2016 ردود أفعال العلماء والدعاة ومؤسسات المجتمع المدني في البلاد، بذريعة أن بعضها غير مرخص، والبعض الآخر يتبع لجماعة الإخوان المسلمين( [21] ).

وما زالت المدارس التقليدية والتي تسمى ” المحاضر” فاعلة في النظام التعليمي الشعبي في موريتانيا، وهي تُعنى بتدريس القرآن الكريم وعلوم الفقه واللغة العربية والمنطق، وفق مناهج وطرق طوّرها مشايخ وأساتذة هذه المدارس الأهلية( [22] ).

ومن بين المعاهد والمحاضر الدينية في موريتانيا، مركز تكوين العُلماء الذي يشرف عليه الشيخ محمد الحسن ولد الددو، ومعهد الدراسات الإسلامية، والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، والجامعة الإسلامية – العيون.

المؤسسات الدينية في مالي

المجلس الإسلامي الأعلى: يرأسه الشيخ محمود ديكو، ويعتبر من المؤسسات الدينية شبه الرسمية، ويحظى على علاقات جيدة مع دول الخليج وبخاصة السعودية، التي تعد من أكبر مموليه.

اتحاد علماء إفريقيا: منظمة غير حكومية، يضم نخبة من علماء إفريقيا في جنوب الصحراء، بحيث يكون مرجعية علمية فاعلة في المجتمعات الإفريقية، تعزز دور العلماء والدعاة في قيادة المجتمع بشرائحه وطبقاته؛ وتضبط الفتوى، وتتفاعل مع القضايا والأحداث العامة في القارة، وتعبر عن مسلمي إفريقيا في المحافل المحلية والإقليمية والدولية( [23]).

منظمة الفاروق: وهي منظمة محلية غير حكومية خيرية، تعمل في نطاق التعاون المبرم مع الحكومة في مجالات الخدمة الإنسانية: التعليم، الدعوة، الصحة، الإغاثة، وقد انبثقت عن المنتدى الإسلامي، وتم ترخيصها تحت هذا المسمى عام 2006( [24] ) .

وزارة الشؤون الدينية

المعهد الإسلامي

مجلس علماء وكُتاب شمال مالي   http://cuen-mali.blogspot.com/

ولا بد إلى الإشارة؛ بأن التعليم الديني ما زال حاضراً بقوة في المساجد على شكل حلقات التدريس للقرآن والحديث والفقه واللغة العربية، يقوم به أئمة المساجد وطلبة العلم، وبخاصة أولئك الذين درسوا الشريعة في الدول العربية والإسلامية، وهي شبيهة بـ ” المحاضر” الموريتانية.

التسويات والمفاوضات:

تميز موقف رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الشيخ محمود ديكو، واتحاد عُلماء إفريقيا، بضرورة إدماج الجماعات الإسلامية المسلحة في مالي بالحل النهائي للأزمة، وقد ركزوا على إدماج الجماعات المحلية فقط وإخراج الأشخاص المشاركين في القتال من البلدان الأخرى – الأجانب- من البلاد.

نجحت فرنسا في تدويل القضية المالية، فبعد إعلان الرئيس الفرنسي السابق، ” فرانسوا هولاند” بالقضاء على ما أسماه ” الجنين الإرهابي” عقب سيطرة الجماعات المسلحة على الشمال المالي، عام 2012م، فقد وسعت فرنسا جهودها لمحاربة الجماعات المسلحة في مالي، بالقيام بما يلي: 1- تأسيس جيش الساحل. 2- تأسيس مجموعة 5، لإشراك عدد كبير من الدول في الحرب. 3- الحصول على تفويض أممي وفق الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة. 4- توزيع مسؤولية النفقات المالية على المجتمع الدولي، بما فيها السعودية والإمارات.

وتعتبر الجماعات المسلحة الخطوات الفرنسية آنفة الذكر، تعكس مدى الفشل الذريع الذي منيت به فرنسا من خلال عمليتها السابقة ” سرفال”، و”برخان”.

مستقبل المصالحة في إقليم أزواد:

يبدو أن هناك عدة أسباب مباشرة وغير مباشرة لتنامي حالة من شعور عدم التفاؤل بديمومة المصالحة الوطنية في إقليم أزواد التي تسير في بطء شديد، ومنها: التنوع الإثني، والتدخل الإقليمي والاجنبي في الإقليم، ومحدودية تطبيق اتفاقيات المصالحة السابقة، واتهام متبادل لسوء النوايا نحو المصالحة الوطنية، وكذلك تواجد الجماعات الإسلامية المسلحة، التي ترفض الدخول في مفاوضات من جانبها، وكذلك من جانب المجتمع المحلي والدولي لأنها مصنفة إرهابية؛ هذه الأسباب وغيرها ولدت حالة من عدم الثقة لدى كافة الأطراف المتنازعة في الإقليم وبخاصة من مكونات المجتمع الأزوادي، وليس من طرف النظام السياسي في مالي، بأن حل القضية الأزوادية معقد وصعب وأن المنطقة من الممكن أن تشتعل من جديد في اي لحظة.

إذ يتوقع الباحث في شؤون الساحل وغرب الصحراء، محمد أبو المعالي، فشل اتفاقيات السلام التي عقدت في الجزائر، لان مخرجاتها في اعطاء حكم ذاتي لأهالي أزواد لم يتم تطبيقها، كما جرت العادة في اتفاقيات سابقة، وتعتبر بعض قيادات الصف الثاني، بأنها أرغمت على التوقيع بضغط من السلطات الجزائرية والمجتمع الدولي؛ عبر تصنيف الحركات الرافضة للتوقيع بـ ” الإرهابية”، وبالتالي من الممكن أن يشكل ذلك عاملا سلبياً في استمرار هذه المفاوضات ونجاحها[25].

أوضح ولد سيدات بأن شكل الحكم مستقبلاً في الإقليم، ان كل ولاية تمثل فدرالية مستقلة في القرارات تتبع المركز في العاصمة، يكون الحاكم أو الوالي منتخباً وليس معينا من العسكريين، لكي يدعم الشرعية[26].

يعتقد  أحمد بيبي، بأن حل القضية الازوادية يواجه تحديات وصعوبات وتحولات معقدة ليس من السهل حلها، لوجود تضارب في المصالح بين مكونات الشعب الأزوادي من ناحية، وبين دول الإقليم والدول الأجنبية من ناحية أخرى، وأن اتفاقية الجزائر اتت بمجموع ما جاءت به الاتفاقيات السابقة، ما عدا بعض الاصلاحات الإدارية وبعض التغيرات الدستورية، وهي لا تعالج المطالب بالاستقلال ولا تحكيم الشريعة، ولا المطالب الانفصال، ولذلك الحل جزئي وليس شامل، وما زالت الاسباب للأزمة قائمة، فلا يمكن استبعاد مطالب الجماعات التي تسمى ” الإرهابية ” على سبيل المثال، ولا يمكن انكار وجودهم، لذلك فإن الاتفاقية ممكن أن تستمر لفترة محددة وليست دائمة[27].

يرجح أمير الصحراء، يحي أبو الهمام، بأن السيناريو المحتمل لمستقبل إقليم أزواد، هو إيجاد كيان أو نظام سياسي تبعيته للغرب، بحيث يضمن من خلال هذه التبعية موطئ قدم في هذه المنطقة عبر اتفاقيات طويلة الأمد، ويشكك في دعاوى فرنسا بان هدفها الحفاظ على وحدة التراب المالي، لانها تدعم قومية على حساب قوميات أخرى، وفشلت في خلق كيان قومي للطوارق في المنطقة[28].

ويرجح ولد سيدات فشل المفاوضات واتفاقيات السلام إلى غياب النظام والأمن والتنمية هي اهم عوامل فشل المفاوضات من جهة وتنامي نفوذ الجماعات المتطرفة من جهة ثانية، مقابل تعزيز التدخل الأجنبي[29].

وبدى عضو المكتب السياسي ” للبلاتفورم “، محمد ولد يحي الحسني متفائلاً ودبلوماسياً في إجابته عما سبق من أراء بعض القيادات المتشائمة، بتأكيده بأن الاتفاق الأخير رغم المعوقات، في تقدم بخطى ثابتة وبهدوء، ورغم وجود عدم ثقة في ماكنة تحريك الاتفاق، والمستقبل خاضع لردود افعال الأطراف واحترام بعضه البعض، وجدية المجتمع الدولي في تحقيقه وتثبيته، الاتفاقات السابقة لم تفشل بل حققت جوانباً منها بنسب منخفضة[30].

وقد اختلفت وجهة نظر محمد ولد يحي الحسني، في مقابلة الباحث له بعد حوالي السنتين في الاتفاق، حيث قال بأن الاتفاق يسير ببطء شديد، ولم يتم تنفيذ أجزاء كبيرة منه، وأن الحكومة المالية تمارس سياسة كسب الوقت، من خلال اقناعها للاطراف المفاوضة بوعودها الزائفة، كمن يسير وراء السراب، ومن وعودها بإدماج عناصر الحركات المسلحة في القوات المسلحة، والوظائف الحكومية، ولكنها لم تف بوعودها[31] .

لعل التقرير الصادر عن المبعوث الأممي لمالي، محمد صالح النظيف والمتعلق بتطورات الاوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية لمجلس الأمن في جلسته رقم 7719 المنعقدة بتاريخ 16 حزيران / يونيو 2016، تدلل على الانتقاد الشديد والشعور أيضاً بحالة من عدم الرضا على التزام أطراف النزاع في مالي ببنود الاتفاق الموقع منذ حوالي العام، والتحذير من عملية البطء غير المبررة في تنفيذه، التي من الممكن أن يعرض عملية المصالحة للخطر، بالاضافة إلى التأخر في إنشاء بعض الإدارات المؤقتة لمزاولة أعمالها[32].

واشار المبعوث الأممي في تقريره إلى تدهور الوضع الأمني الذي شهدته مالي، في الفترة الواقعة ما بين شباط إلى أيار / 2016، والتي لقي فيها 19 عنصراً من قوات حفظ السلام مصرعهم على يد الجماعات المسلحة، وعزى سبب الخلل في وقوع هذه الخسائر إلى ضعف التدريب والتجهيز  لدى قوات حفظ السلام الأممية[33].

ومن الجوانب الإيجابية التي ذكرها النظيف في تقريره أمام مجلس الأمن، أن الاطراف ملتزمة بشكل صارم في وقف إطلاق النار، والجهود التي تبذلها الحكومة المالية في إنشاء إطار قانوني ومؤسسي قوي من أجل تنفيذ الاتفاق، وبخاصة إنشاء المجلس الوطني لإصلاح قطاع الأمن الخاضع لسلطة رئيس الوزراء، وتطوير المؤسسة العسكرية ومواقع الإيواء، وتأسيس لجان أخرى تعمل على الإشراف على نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، واللذان يشملان إدماج المقاتلين السابقين وإدارة التطرف العنيف[34].

من جانبه رد موفد الجمهورية المالية للامم المتحدة، مودييو كيتا، رئيس الوزراء المالي، في محاولة منه للدفاع عن حكومته جراء انتقادات المبعوث الأممي وفريقه في مالي لأداء الحكومة تجاه المصالحة والاتفاق، بقوله: ” سوف نركز من جانبنا على مسألتين رئيسيتين ناشئتين عن تقرير الأمين العام، وهما 1-) الإصلاحات السياسية والمؤسسية و 2-) مسائل الدفاع والأمن”. وعرج على التعديلات القانونية التي تمهد الطريق لإنشاء السلطات المؤقتة[35].

وحول انجازات الحكومة المالية المتعلقة بالمصالحة، فإن رئيس الوزراء المالي علل سبب البطء في تنفيذ بنود الاتفاق من الجانب الحكومي إلى الديمقراطية، بمعنى أن التراتبية في المصادقة على القوانين تحتاج إلى وقت وبخاصة أن هناك معارضة لبعض القوانين والتي لجأت بعض الجهات إلى المحاكم المختصة ونظرت بها، وهذا ما أعاق عملية سن القوانين والتشريعات، كما أشار إلى الاجتماعات المتواصلة مع الأطراف الموقعة لاتفاقية المصالحة، والاتفاق على إنشاء إلية التنسيق التشغيلي في المناطق وتعيين السلطات المؤقتة، وإعادة نشر الإدارة وتقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية، وكذلك القيام بدوريات عسكرية وأمنية مشتركة[36].

وطالب رئيس الوفد المالي، بتقديم الدعم للمبادرات الإقليمية لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك مبادرات المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي، لأن ” الإرهاب” يشكل تهديداً لكل الدول[37].

مشاريع مقترحة للتعاون مع المجتمع المحلي في تمبكتو وأطرافها:

اقترح عمدة تودينو محمد الحاج طاهر، ووجهاء من مدينة تمبكتو مشروع فتح عيادة وتقديم مساعدات طبية انسانية بالتعاون مع بعض المحليين.

فتح عيادة في المناطق التي تحيط في تمبكتو بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني المحلية.


[1]     ” جبهة تحرير ماسينا” أول حركة جهادية تنتمي لعرق ” الفلان”، ويتزعمها ” أمادو كوفا”، وتستمد الجبهة جذورها الفكرية من الدعوة السلفية التي أطلقها ابن المنطقة “الشيخ عثمان فودي” في العام 1795، وتعد مدينة تننكو في الوسط الغربي لجمهوية مالي، أحد أكبر معاقلهم، وتعتبر أحد الجماعات التي دخلت في التحالف الجديد الذي ضم: جماعة أنصار الدين، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والمرابطون، وجماعة المجاهدين، وجبهة تحرير ماسينا، وأفضى هذا التحالف إلى تأسيس ” جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” في الساحل وغرب إفريقيا، بزعامة ” إياد أغ غالي”، أنظر: . https://www.alaraby.co.uk/investigations/2016/5/7/%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A7-%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%88-%D9%81%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%A8%D8%AD%D8%AB%D9%88%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D8%B9%D8%A9  

([2]) مجلة قراءات إفريقية. قضية مالي ومستقبل المنطقة، العدد 16، ربيع الآخر – جمادي الأخر/ 1434هـ، نيسان- حزيران 2014م، ص ص 2-3.

([3])  البعض يطلق عليها الأزمة الأزوادية، لأنها تنطلق دائماً من الشمال وتحديداً من إقليم أزواد، ولأن شعب هذا الإقليم ما زال يتهم الحكومة المركزية في الجنوب بأنها تقصيه وتهمشه ولا تقوم بالمشاريع التنموية على أكمل وجه، ويسعى قاطنوا الإقليم بمختلف مكوناته العرقية إلى الحصول على حكم ذاتي، أو لا مركزية لإدارة الإقليم.

([4])  محمد محمود أبو المعالي. ” التنافس بين القاعدة والدولة في الساحل والصحراء”، مركز الجزيرة للدراسات، الدار العربية للعلوم ناشرون، كانون الثاني/ يناير 2017، ص ص 197 – 244.

([5])  بوابة افريقيا الإخبارية،  تاريخ الدخول 17 نيسان 2018، الساعة 7:35 صباحاً، http://www.afrigatenews.net/content/%D9%85%D9%86-%D9%87%D9%8A-%E2%80%98%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86%E2%80%99-%D8%A8%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%9F، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، مؤسسة الزلاقة للإنتاج الإعلامي، موقع التلغرام، https://t.me/Az_Zallaqa1 ، بيان الإعلان عن تشكيل الجماعة، آذار/ مارس 2017.

([6])  الحركات والجماعات المسلحة التي تنتمي للتيار الجهادي والتي سيطرت على شمال مالي منذ عام 2012م، فمنها: 
القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، معظم قياداتها وأعضائها من الجزائر، وموريتانيا، والصحراء الغربية، وتونس، وليبيا.

حركة أنصار الدين: قائدها الطارقي إياد أغ غالي، كان عضوا في جماعة التبليغ، ولم يسبق له في كل التمرُّدات التي شارك فيها مطلب إسلامي واحد. عُيِّن قنصلا عامًّا لمالي في جدَّة ولبس لبوس السلفيَّة قبل أن تطرده السلطات السعوديَّة؛ فعاد إلى مالي وأسَّس الحركة. أغلبُ أعضائها من طوارق مالي وبخاصَّة الإيفوغاس الذين وجدوا فيها حركة شعبيَّة سلفيَّة جهاديَّة.

وقد أعلنت عن نفسها في عام 2015م، غالبيَّة أعضائها من سكَّان جنوب مالي وبخاصَّة الماندنغ/البمباره، وهم ممَّن قاتلوا في أنصار الدين شمال مالي وكانت مجموعتهم تُعرَف بــ”كتيبة خالد بن الوليد”. تنشط على حدود مالي وساحل العاج وغينينا كوناكري.

حركة التوحيد والجهاد بغرب أفريقيا: (MUJAO)، مُعظمُ عناصرها من عرب موريتانيا، والجزائر ، والصحراء الغربية المقيمين في الجزائر، وأفراد من عرب مالي.  و يرى بعض الباحثين أنَّ هذه الحركة إنَّما هي النسخة العربيَّة لحركة أنصار الدين الطارقيَّة.  الأولى حركة جهاديَّة سلفيَّة عربيَّة، والأخرى حركة جهاديَّة سلفيَّة طارقيَّة.  ثمَّ تمكَّنوا من استقطاب بعض المجموعات الإفريقيَّة.  وفي يوليو2014م أعلنت ولاءها لــ” داعش”.

جبهة تحرير ماسينا: تسعى في إحياء قوميَّة فولانيَّة إسلاميَّة تنفصل عن بماكو، وتنهَج منهج الدولة الإسلاميَّة الفولانيَّة (دولة دِينا) التي أقامها أحمد لبُّو في إقليم ماسينا في القرن التاسع عشر الميلادي( 1818- 1862م)، تُطبِّق الشريعة الإسلاميَّة وتمنع القوانين الوضعيَّة. غالبيَّة أعضاء هذه الحركة من الفلانيين الذين كانوا يُقاتِلون في شمال مالي، وقد عُرِفت مجموعتهم بـــ” كتيبة ماسينا”.أعلنت عن تأسيسها في أبريل 2015م بقيادة أحمد كُوفا، نسبة إلى قرية كُفَّ بمنطقة موبتي. وهي على علاقة وثيقة بالقاعدة وحركة أنصار الدين،

([7]) مجلة قراءات أفريقية، مرجع سابق، العدد 16، ص3.

([8])  محمد يحي الحسني. مرجع سابق.

([9] يعرف القانون الدولي الإنساني، ذلك الفرع من القانون الدولي العام الذي يتكون من أحكام عرفية واتفاقية تستهدف، في حالة النزاع المسلح، حماية فئات محددة من الأشخاص والممتلكات وتحدد سلوك أطراف النزاع في استعمال وسائل القتال وأساليبه، للمزيد أنظر: د.عامر الزمالي.” مقالة في القانون الدولي الإنساني والإسلام، مطبوعات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الطبعة الرابعة، آب/ أغسطس 2010.

[10] (الموسوعة الفقهية. إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، الطبعة الثانية، 1404هـ – 1983م، الجزء السادس، ص ص 233- 235.

([11]) أبو حفص الموريتاني ( محفوظ بن الوالد). لقاء شخصي في منزله في العاصمة الموريتانية “نواكشوط”، بتاريخ 28 شباط/ فبراير 2018.

([12])  المحاربة، بمعنى المقاتلة التي يمكن قتالها وإعلان الحرب عليها واستهداف مقراتها والعاملين فيها.

([13])  أبو عمر سندة بوعمامة. حوار خاص عبر موقع التواصل الاجتماعي ” التلغرام”، حيث تعذر لقائه شخصياً لأسباب أمنية من ناحية، ولأنه يقيم بالقرب من الحدود الموريتانية – المالية في الصحراء، أجري الحوار بتاريخ 24 آذار / مارس 2018، والشروط التي يقصدها هي: إعلام الجماعة التي تسيطر على مدينة ما بطبيعة نشاطات المنظمة، والتنسيق معها، عدم القيام بأعمال تتعلق بالتجسس، أو تقديم معلومات عن مواقع وعناصر وقيادات الجماعات، استخدام إشارة تدلل على سيارات ومواقع وأفراد المنظمة، عدم القيام بأعمال تتعلق بنشر الدين المسيحي ( التبشير)، عدم استخدام سيارات ومواقع المنظمة لأغراض عسكرية من قبل الطرف الآخر.

[14] هيئة الهجرة: تُعنى باستقبال المُهاجرين إلى ” الدولة الإسلامية”، وتوفير ما يلزم للهيئات والدواوين، وإدارة حركة السلع والأفراد من المسلمين وغيرهم، عبر ضبط الحدود والمعابر.

[15]  أمير هيئة الهجرة في تنظيم الدولة الإسلامية. حوار صحيفة النبأ الاسبوعية، الصادرة عن ديوان الإعلام المركزي، العدد 49، تاريخ 5 محرم، 1438 هــ، ص 9.

[16]  مرجع سابق. صحيفة النبأ، العدد 49، ص 9.

[17]  مرجع سابق. صحيفة النبأ، العدد 49، ص 9.

([18])  “أبو المُنذر الشنقيطي”. تبيين المقال في مشروعية التحرّف للقتال”، مؤسسة نُخبة الفكر، رجب 1437هـ، أيار/ مايو 2006م، ص 3.

([19]) أبو حفص الموريتاني ( محفوظ بن الوالد). لقاء شخصي في منزله في العاصمة الموريتانية “نواكشوط”، بتاريخ 28 شباط/ فبراير 2018.

([20])  توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي بأزواد. اشتهرت باسم ” وثيقة أزواد“، صادرة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، السبت‏، 02‏ رمضان‏، 1433 هـ الموافق :‏20‏/07‏/2012م، http://islamion.com/news/show/14054

[21]  موريتانيا 13. موقع الكتروني شامل، http://www.mauritania13.com/node/2452 . العربية نت. https://bit.ly/2JZqI8e .

[22] رصيف 22. “موسم الهجرة إلى موريتانيا لدراسة العربية”، https://bit.ly/2vnzBFg .

([23]) اتحاد علماء إفريقيا. www.africanulama.org

([24])  منظمة الفاروق. http://www.alfaroukong.com/index.php/ar/

([25])  محمد محمود أبو المعالي. مقابلة شخصية، نواكشوط، 15/ 4/ 2016.

([26])  سيدي إبراهيم ولد سيدات.  أحد قيادات تنسيقية المعارضة (CMA)، ويمثل الحركة الأزوادية العربية، مقابلة شخصية، في العاصمة المالية ” باماكو”، بتاريخ18/ 4/ 2016،  ويقيم حالياً في باماكو رغم انه من قيادات المعارضة، معللاً  ذلك بأن لديه وبقية المفاوضين حماية إقليمية ودولية بضمان سلامتهم.

([27])  أحمد بيبي. عضو مجلس النواب في جمهورية مالي، مقابلة شخصية في منزل الزعيم الطارقي الشيخ محمد أغ انتال، باماكو، 18/4/ 2016.

([28] ) مقابلة مع أمير الصحراء، يحي أبو الهمام، مرجع سابق.

([29])  إبراهيم ولد سيدات. مرجع سابق.

([30] ) محمد يحي ولد الحسني. عضو المكتب السياسي للقاعدة الشعبية العريضة  ( Platform)، مقابلة شخصية، تمبكتو، إقليم أزواد، 20/ 4/ 2016.

([31]) محمد يحي ولد الحسني، مقابلة شخصية، تمبكتو، الخميس الموافق 8 آذار/ مارس 2018.

([32])  محضر مجلس الأمن، الأمم المتحدة، الجلسة رقم 7719، تاريخ 16 حزيران/ يونيو 2016، حول الحالة في مالي، http://www.un.org/ga/search/view_doc.asp?symbol=S/PV.7719&referer=http://www.un.org/ar/sc/documents/search.shtml&Lang=A

([33])  محضر مجلس الأمن، الجلسة رقم 7719، مرجع سابق، وانظر: محلق البيانات الصادرة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة أنصار الدين.

[34]  محضر مجلس الأمن. الجلسة رقم 7719، مرجع سابق.

[35]  محضر مجلس الأمن. الجلسة 7719. مرجع سابق.

[36]  محضر مجلس الأمن. الجلسة 7719. مرجع سابق.

 [37]   محضر مجلس الأمن. الجلسة 7719. مرجع سابق.

المثقف والشعبوية

إيمان شمس الدين

الشعبوية تعنى بالشعب والجماهير، خاصة من الناحية الكمية وليست الكيفية، وما يؤثر في توجهات الجماهير سلباً أو إيجابا، ومتعلق في مسألة الوعي الجمعي والمجتمعي.

وقد ارتبطت الشعبوية بالعمل السياسي، ولكننا لا ننكر أنها تسربت إلى كل أنماط السلوك والعمل الاجتماعي، ويلعب وعي الجماهير دورا كبيرا أيضاً في توجيه السياسيين والدينيين وغيرهم من المعنيين في الساحات الاجتماعية.

ولو انتقلنا بالفكرة من بعدها السياسي إلى بعدها الديني والثقافي، لوجدنا أن الشعبوية هي جزء من سلطة العوام على مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، التي تتحكم بعمل الفقيه في استنباطات الحكم وفق أسسه السليمة، وتلعب أيضا في رسم توجهات كثير من المثقفين، ورسم معالم أولوياتهم في الاصلاح والنهضة، وعلى مستوى الثقافة والفكر والنقد والأدب.

أي ان النظام المالي ليس المعني الوحيد بهيمنة العوام على هذه المسيرة، ولكن أيضاً الشعبوية، التي إما يتقوى بها الفقيه والنخب من المثقفين والمفكرين السياسيين لطرح ما لديهم من أطروحات قد يكون بعضها تقليدياً تراثياً، أو بعيدا عن هموم النهضة ومعيقاً في مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، وإما أنها تكون القيد الذي يقيد الفقيه وتلك النخب ويحد من قدراتهم للإفصاح عن الحقيقة “الفتوائية” لحكم ما، خوفا من العوام، وأيضا ينطبق ذلك على النخب الفكرية والثقافية.

فلولا العوام لكان الكثير من الفقهاء والنخب مبسوطو اليد واللسان في الافصاح عن حقيقة كثير من الفتاوى والأفكار التي تم التعتيم عليها، خوفا من العوام.

فنحن هنا أمام عدة حالات أهمها:

١. شعبوية تعيق وتقيد العلماء والنخب، وهنا موقف هذه النخب يعتمد على تشخيص الأصلح والأهم، إما وفق قاعدة تزاحم وتعارض المصالح، أو قاعدة تشخيص المصلحة والمفسدة، ولكل حالة يفترض من النخب دراستها وفق أسس سليمة وتشخيص مفاسدها ومصالحها ومن ثم بناء موقف وفقا لدراسة التشخيص الأنسب، أما الرضوخ الغير مدروس بحجة الخوف على المشاريع الخاصة، أو العزل الاجتماعي، فإن ذلك يكرس مع الجهل على حساب الوعي، وهنا لا أدعو لمواجهة هؤلاء مواجهة عنفية، بل أعني أن النخب من العلماء والمثقفين وظيفتهم هنا تشخيص الموقف الأنسب لكشف الحقيقة وآليات كشفها، ورصد كل الوسائل الممكنة في مواجهة هذه الشعبوية الصوتية غالبا، مواجهة معرفية مدروسة.

٢. شعبوية ترجح آراء لحساب آراء، وهذه الشعبوية غالبا لا تعتمد في ترجيحاتها على مرجحات علمية وموضوعية مدروسة بشكل دقيق، بل تعتمد غالبا على انفعالاتها وميولها خاصة العقدية، لذلك تلعب دورا مهما في تقوية مسار ضد آخر، وفي تبني آراء وإهمال أخرى، وهذه الشعبوية يستخدمها كثير من النخب من العلماء والمثقفين في مواجهة الآراء الأخرى خاصة الجديدة منها، مواجهة ليست معرفية قائمة على المحاججات البرهانية، بل مواجهة عنيفة يسقط فيها المختلف اجتماعيا وتسقط معه آراءه حتى لو كانت صائبة، وهذه هي الشعبوية الموجهة التي يستغلها البعض لتحقيق ما يراه هو، فهناك مرجعيات دينية وعلماء ونخب وخطباء استطاعوا فعليا أن يستخدموا سلطة العوام، أي الشعبوية، في الحفاظ على مكتسباتهم الفكرية التي تعتمد على التراث أكثر من اعتمادها على أصول ثابتة ومعاصرة في الفكر الديني. وقد تكون ظاهرة المنابر وما يرشح عنها هي أكبر ظاهرة تدلل على سلطة العوام، فالكثير من الخطباء يلجؤون إلى الطرح، إما التقليدي جدا البعيد عن واقع الدين والمختلط بالأعراف والتقاليد الباطلة، وإما إلى الطرح المذهبي القصصي نزولا عند رغبة عوام الناس.

٣. شعبوية واعية تواجه الانحراف بكافة أشكاله، وتضم في صفوفها النخب الفاعلة، التي تواجه الآخر المختلف مواجهات معرفية رصينة، تقوم على المحاججات البرهانية، ويكون جل همها رفع منسوب الوعي عند الجماهير، وتحويلها لرصيد فاعل في النهضة والتغيير.

فوظيفة المثقف أن يكون هو الراصد للإشكاليات الاجتماعية وهموم المجتمع، وأن يلعب دورا فاعلا وإيجابيا في وعي الجماهير وتوجيه هذا الوعي في تحقيق واقع الاصلاح والتغيير، وليس تحقيق مصالحه الخاصة. فالشعبوية ليست شر مطلق ولا خير مطلق، بل هي تعتمد كأداة فاعلة في التغيير، على الوعي وعلى معايير الخير والحق، وهي معايير على المثقف أولا استيعابها بشكل فاعل ، هذا إضافة إلى أن المسؤولية المكتنزة في داخل المثقف هي التي تدفعه لمواجهة القوة الخفية في الاجماع الشعبوي على قضية من القضايا، لأنها تعري مخاوفه النابعة من حب الانتماء للجماعة، والتي يرتفع منسوبها عند بروز إشكاليات اجتماعية يريد أن يواجهها بوعيه لا بوعي الإجماع الشعبوي، وتحت ضغط حب الانتماء والخوف من الإقصاء الاجتماعي والعزل التي تبرز عند الإجماعات الشعبوية وقوتها الخفية، فالمثقف عليه التخلي عن هذا الشعور الانحيازي للانتماء وحاجته له، وأن يواجه هذه القوة الخفية وهذه الحاجة الذاتية بفهم الواقع، وإدراك واقع هذه الإشكاليات وجذورها ومواجهة الإجماع الغير صائب، بالحقيقة والحلول التي تحل هذه الإشكاليات جذريا وليس ترقيعيا نزولا عند رغبة المجتمع، مراعيا في ذلك القابليات المختلفة في المجتمع، وموظفا خطابا يدركه الجميع، ومراعيا الرفق في طرح الحقيقة بتدرج لا يخل بالواقع وحقيقة الحلول.

“يؤكد مولر في كتابه[2] على ضرورة الحوار مع الشعبويين والإنصات لجمهورهم وعدم معاملتهم بدونية واحتقار، وهو ما يستلزم أيضاً محاولة فهم السياقات التي تدفع بالجماهير إلى الارتماء في أحضان الحركات الشعبوية، وهو تنبيه مهم في سياق مآلات الربيع العربي، خاصة وأن هذه المآلات السلبية في عدد من دول الربيع قد أدت بالعديد من النخب إلى تغليب الرأي القائل بأن الجماهير ميالة دائماً للعاطفة والعنف. فأحد المؤشرات المثيرة للاهتمام على هذه النظرة الدونية في الدول العربية هي الشعبية التي أصبح يتمتع بها في السنوات الأخيرة كتاب “سيكولوجية الجماهير” الذي صدر منذ أكثر من قرن للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون، وهو كتاب يؤكد على النوازع العاطفية والغرائز اللاعقلانية والتدميرية للجماهيرـ وهي رؤية  لا تخلو من التبسيط، وتؤدي في نهاية المطاف إلى نفس النظرة التحقيرية والمتعالية التي يحذر منها مولر”[3][4].

وللشعبوية اليوم أدوات عديدة وجديدة، فلم تعد الساحات العامة والأماكن الحساسة في البلد هي الساحات الفاعلة فيها تلك الجماهير، فاليوم هناك وسائل سهلة جدا ومتوفرة بشكل كبير لدى الجماهير، أهمها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى منابر صوتية، يمكن من خلالها تشكيل رأي عام ضاغط يدفع باتجاهات غالبا صوتية غير مدروسة، وتكون في كثير من الأحيان مؤثرة في قرارات أي سلطة، دينية كانت أو ثقافية أو سياسية.

فبعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد صناعة الوعي محصورة دون صدى، بل باتت تفاعلية ذات صدى عالمي، يتفاعل فيها الأفراد من المجتمعات المختلفة تفاعلا تواصليا ينعكس على حركة الوعي الفردي والاجتماعي، وتتواصل فيها مكونات المجتمع كافة بشكل مباشر وإن افتراضي مع النخب من العلماء والمثقفين والمفكرين والأكاديميين، وتطرح الأسئلة بكافة إشكالها دون حرج، ويتم التفاعل مع هذه الحوارات والآراء بشكل مفتوح وواسع وكبير جدا.

ويتم من خلال هذا التفاعل تشكيل حركة موجية تتسع بشكل سريع ومتدرج تنتقل فيها الآراء والمعلومات بسهولة، ويتشكل خلالها وعي غير مكتمل، كون هذه المنصات إما تتحكم بها قوانين معينة أو محددات تمنع من تعميق الأفكار وتكاملها، وتطرح رؤوس أقلام تتحول ضمن ثقافة الجمهور إلى مسلمات دون فحص كل جوانبها ومبانيها وزوايا النظر فيها. فيتم تلاقف الآراء التي قد يكون مصدرها مجهولا أو منسوبا لشخصيات موهومة، يتم تناقل هذه الأفكار كمسلمات معرفية، بسرعة كبيرة تنتشر في مساحات وعي الجمهور وتشكل إما معول هدم وتبديل، أو معول بناء وتطوير، ويعتمد ذلك على نوعية الأفكار، ومستوى وعي الوسط الاجتماعي المطروحة فيه، ومدى فاعلية النخب وقدرتها على تفنيد تلك الأفكار ومواجهة غثها وسمينها.

وفي دراسة للمركز الديموقراطي العربي بعنوان : “دور مواقع التواصل الاجتماعي في السياسة الدولية” يذكر: “لقد أحدثت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي ثورة في عوالم الاتصال والتواصل والمعلومات ، ومست بقوة بمنظومات القيم الاجتماعية والثقافية وتدخلت على نطاق واسع في تغيير البنى والمؤسسات السياسية وفي حتى التلاعب بموازين القوى السائدة ، فقد أجمع خبراء الاتصالات على أن دخول أدوات الاتصال الجديدة إلى مجتمع ما ، يؤدي حتما إلى تعديلات وتأثيرات في منظومة القيم الإجتماعية مما ينعكس على النظام السياسي الداخلي ، وعليه فمنذ انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الانترنيت والمتضمنة(face book  &Twitter & YouTube)    وإلى حد هذه اللحظة بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم إلى ما يقارب ٤ مليارات مستخدم يملكون حساب وصفحة، سواء أكان هذا الحساب في الفيس بوك أو التويتر او الانستغرام أو حتى تطبيقات الأندرويد )فايبر و واتس اب وتليغرام ..الخ( ، حيث لاتزال هذه الوسائل تلقي الرواج والانتشار السريع لأنها اصبحت )ثورة العصر) أولاً ، وثانياً هناك من وضع الخطط لنشرها عن طريق توفيرها بأسعار زهيدة الثمن وتكاد تكون مجاناً ، ولذلك يختلف تعامل الدول والمجتمعات مع هذه الأدوات التواصلية من دولة لأخرى، وذلك حسب نظامها السياسي وأيديولوجيتها ودرجة حساسيتها الثقافية والسياسية”[5] .

“أن الابعاد الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي والتي لا تنشأ في الأصل من فراغ وإنما تخضع الى اعتبارات إيديولوجية فمؤسسو الشبكة سواء كانوا أفراداً أو جماعات يتبنون أفكاراً معينة، وتنشأ بناء على هذه أفكار الشبكة )نموذج شبكة الفيس بوك( ، وهذا لا يعني أن هناك حالة سكونية في البناء الشبكي، إذ قد تتغير الوجهات الفكرية لمؤسسي الشبكة تبعاً لتغيير الإيديولوجيا المسيطرة على تفكريهم، خاصةً أن الإيديولوجيات ليست حتمية ولذلك ظهرت محددات تبرز الطابع الإيديولوجي للشبكات الاجتماعية ومنها:

١. الإيديولوجيا السياسية وما يدور حولها من أحداث، أذ أصبحت هذه الشبكات أشكالاً من المداولة والنقاش حول الشأن العام، وسمحت للنخب تجاوز أليات تغيبها في المجال العمومي التقليدي الذي تسيطر عليه الدولة.

٢. الشبكات الاجتماعية لا تعمل بمعزل عن سياقها أي (المجتمع الافتراضي (، و إذا كانت الفرضية الأساسية للمجتمع الافتراضي منذ نشأته ترتكز على مشاركة الاهتمامات، فإن الأفراد أو الجماعات عند النفاذ إلى الشبكات الاجتماعية، يحتكمون إلى الاهتمامات التي تعد بدورها محدداً إيديولوجياً ينطوي على عنصر اختيار، يستمد مرجعيته من الأطر الفكرية الحاكمة للمستخدمين.

٣. إن الشبكات الاجتماعية أفرزت أشكالاً جديدة من الفعل الجماعي، وخلقت فضاءات بديلة اقتضت جماعات افتراضية، وتكونت حولها مشاغل مشتركة سياسيه واجتماعية وفنية ورياضية ومهنية تنطلق من أيديولوجيات متعددة.

بروز قادة رأي عام حدد لهم منابر إعلامية وتقنياتهم الخاصة لحشد الجماهير وتعبئة الأفراد ،وقد تكون هذه من أهم المحددات الإيديولوجية للشبكات الاجتماعية ، وذلك لكون قادة الرأي العام في مواقع التواصل يؤثرون بالمجتمع، وأصبحوا فاعلون باستطاعتهم أن يغيروا في الحياة ألاجتماعية والسياسية والثقافية ، ومع هذا وفي ظل تحولات العالم سياسية وخصوصا الواقع العربي برز فاعلون جدد من مختلف دول العالم، لا يأخذون جهداً في التسلسل للمجتمع الشبكي والذي أصبح نظاماً للعلاقات السياسية والاجتماعية والإنسانية والاتصالية ومتحكما فيها أيضا ، إذ يحاول هؤلاء استغلال أية وسيلة أو منصة لتكون وسما لهويتهم[6].

“من الناحية السيسيولوجية، فأن دخول التكنولوجيا الرقمية في المجتمع حوّل التفاعلات بين الإفراد ووسطهم الاجتماعي، لكن التطورات الاجتماعية بقيت مستقلة عن التقنية نفسها، فالإنترنت والهواتف المحمولة لها قدرة فائقة على محو الحدود بين الفضاءين العام والخاص واختصار المسافات واختزال الوقت، مما يجعل العمل الجماعي أكثر فعالية وتأثيراً، أي أنهما يسمحان بالاتصال بين عدد غير محدود بين المساحات الجغرافية وتبادل المعلومات وتنظيم اللقاءات والأنشطة وتوفير الفرصة بغض النظر عن المسافة وطبيعة المكان ما بين الأفراد، فالتقنية نفسها ليست من يحول العلاقات الاجتماعية بل أن طريقة استخدامها هي التي تحفّز القوى التي كانت موجودة أساساً في المجتمع قبل انتشارها وتجعلها راهنة، أنهم المستخدمون أو المستهلكون أو المستعملون الذي يستخدمون التقنية لأغراضهم وليس العكس (Ayari & Geisser, 2011, 47)”.

وتخضع أيضا هذه الوسائل لقانون الشعبوية، كون نوعية المطروح كما أسلفنا خاضع لمستوى وعي وثقافة الجمهور، الذي غالبا لم يعد محليا خاصا، بل تجاوز التفاعل خارج الحدود الجغرافية، وتحول لتفاعلات مفتوحة الفضاء, مختلفة الثقافات والأفكار والإيديولوجيات، لكن أحد أهم إشكاليتها أنها غير مكشوفة الهوية، أي أن حقيقة المتحدث غير معروفة وقد تكون افتراضية غير واقعية، وتكون خلف هذه المنصات مجموعات أو قيادات مؤدلجة وموجهة، وطبعا هنا تصبح المساحات مختلفة وبالتالي يصبح الخطاب الموجه أشمل وأعمق ويتطلب دراية أكبر، وهو ما لا يمكن للمثقف الفرد القيام به منفردا، بل هذه المواجهة تتطلب المثقف المؤسسة، بمعنى قيام مؤسسات أهلية من أعضاء مثقفين ومراكز رصد ودراسة وتوثيق، لمتابعة آخر المعطيات الثقافية والإشكاليات التي تواجه المجتمعات في مواقع التواصل الاجتماعي، مضافا لوظيفتها الداخل محلية الخاصة بها، لذلك لم يعد مفيدا مواجهة الشعبوية مواجهة فردية من قبل المثقفين منفردين، بل على المواجهة أن تكون مؤسساتية توزع فيها الأدوار والمهام، وقائمة على أساس عمليات كالمراقبة والرصد والمعلومات ، ليستطيع المثقفين من تحليل المعلومات المقدمة ورصد الإشكاليات وفقها، وتقديم معالجات واقعية وعصرية، وهنا لا نعني بالمواجهة الصدام مع الشعب أو الجمهور المتكتل بعنوان قضية موحدة، بل نعني مواجهة الشعبوية معرفيا وإعادة صياغة وعي وازن يقلل من سلبياتها ويدفع لرفع أرصدتها الإيجابية في حركة المعرفة والتغيير والوعي. وهناك شعبوية إيجابية سأقوم بعمل إطلالة سريعة عليها. وهذه المؤسسات قد تتبناها الدولة وتفرض عليها سياق معرفي محدد وموجه، وقد تتبناها شخصية اقتصادية وتفرض وجهتها السياسية والمعرفية، وقد تتبناها مؤسسات دينية وكذلك تفرض نسقها المعرفي، ولكل الحق في التصدي، لكن في واقع الأمر معالجة هذه الإشكالية بدون تحيز معرفي، يتطلب تصدي النخب من المثقفين المستقلين، الذين يحملون هم المعرفة والوعي خارج نطاق التحيزات المعرفية خاصة السلبية منها.

خاتمة:

هناك عوامل مهمة في بناء علاقة سليمة بين المثقف والمجتمع هي:

١. إن وظيفة المثقف ومسؤوليته تفرض عليه أن يكون كفؤا في إنجاز مهمته، هذه الكفاءة تتطلب منه فاعلية على مستواه الشخصي من حيث السعي المستديم في طلب المعارف وتوسيعها، وإدراك الإشكاليات الاجتماعية إدراكا مجملا يمكنه من خلاله أن يشخص الخلل ويضع الحلول. مسؤوليته أولا لبناءه الذاتي ليكون كفؤا للتصدي الاجتماعي، وثانيا بناء المجتمع معرفيا، وهذا متوقف على كفاءته التي من خلالها سيصنع جسور ثقة تعزز من مصداقيته اجتماعيا، خاصة عندما يربط قوله بفعله، وهذه المصداقية تؤثر بفاعليته الاجتماعية وتأثيره في وعي المجتمع.

٢. الصدق من أهم ما يجب أن يتحلى به المثقف، صدقه مع ذاته من جهة، وصدقه مع مجتمعه من جهة أخرى، وهذا الصدق يحتم عليه عدم محاباة المجتمع والنزول عند ما يريده دون تصويب ونقد وتقييم وتوجيه، فقط يكون ما يريده المجتمع حقا ولكن يحتاج أن يصوب بطريقة مدروسة لتحقيق الهدف، ويحتاج أن تستخدم طرق وأدوات سليمة، لذلك المثقف يجب أن لا يحقق رغبة الجمهور تحت ضغط الجمهور عليه، أو بحجة الإسقاط والتشهير الاجتماعي، لأن من مصاديق صدق المثقف هو صدقه مع مجتمعه في كشف الواقع والحقيقة كما هي، لا كما يريده الجمهور.

٣. الاستعداد لتقديم التضحيات لأجل مسيرة الوعي، وصيرورة المجتمع في طريق الوعي، وعدم الالتفات للمصالح الشخصية والمكاسب الذاتية في هذا الطريق.


[1] من كتاب المثقف وجدلية القهر والاستبداد/إيمان شمس الدين/ ص ٢٤٢-٢٤٩+ ٣١٦/ دار الانتشار العربي ط١/ بيروت

[2] راجع الهوامش في في هذا الكتاب

[3] http://www.al-jazirah.com/2018/20180213/ar7.htm

[4] رغم أن كتاب “سيكولوجية الجماهير” قد صدر سنة 1895، وتلته انتقادات عديدة منذ مراجعة سيغموند فرويد لنظرية لوبون سنة 1921، من المثير للانتباه ملاحظة شعبية كتاب لوبون على مواقع التواصل الاجتماعي في الدول العربية، وكذلك توالي الطبعات العربية للكتاب، حيث صدرت منذ سنة 2011، أي سنة الربيع إلى اليوم أكثر من ست طبعات. كمثال على استعمال كتاب لوبون للتعبير عن نظرة دونية للجماهير تبرر في نفس الوقت النخب الحاكمة في الدول العربية، انظر: رجاء العتيبي، “سيكولوجية الجماهير”، 13 فبراير 2018.

[5] مجلة اتجاهات سياسية – العدد الأول ديسمبر – كانون الأول – سنة “2017” احدى اصدرات

المركز الديمقراطي العربي

[6] بابكر مصطفى، معتصم /أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام/ مركز التنوير/ الخرطوم/ 2014/ ط 1/ ص 191-192.

[7] التحولات في النظام العربي: الجذور والأسباب وتحديات بناء الدولة العصرية / د. حسن عبدالله جوهر ـ أ. د. غسان العزي

قسم العلوم السياسية/جامعة الكويت

اطلع على المصدر