5 يوليو، 2025، والساعة الآن 1:58 صباحًا بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 4

رؤية القرآن الكريم لترسيخ ثقافة الحوار ومعالجة ظاهرة التطرف

                               الدكتور الشيخ التجاني احمدي*

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على من أفصح من نطق بالضاد جملة وتفصيلا، وبعد

فإن القرآن الكريم حفل بنصوص كثيرة حول الحوار، يأمر به ويحض عليه وينوه بقيمته ويقدم نماذج من حوارات الأنبياء والمرسلين، التي ينبغي أن يتأسى بها كل مسلم ومؤمن بالله، مع مختلف أصناف البشر من أبناء الحضارات. وقد بين الآلية الفريدة لتعامل الإنسان مع قضية الاختلاف، والقبول بالآخر، واستثمار وتوظيف الاختلاف وترشيده بحيث يقود إلى التعارف، ويبعد عن الصراع العنيف والقطيعة الانعزالية والاحتكار الاستبدادي.

والتطرف باعتباره يقوم على إلغاء التعدد الإنساني كلية أو يتجاهله، فإنما يروم محالا ويطلب ممتنعا، ويتمنى مخاطر الشقاق، وقد ناقض القرآن الكريم، لذا كان القرآن الكريم حاسما مع هذا الموقف، وخط المنهج الحواري الذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه، وعرض لأساليبه ونماذج منه، مما يعطي المتأمل فيه نظرة متكاملة عنه، لأن الإسلام دين للعالم جميعا لا يختص بفئة منعزلة متعصبة قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ (الإسراء: 105) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28).

ويمكن تبين رؤية القرآن الكريم لترسيخ ثقافة الحوار ومعالجة ظاهرة التطرف من خلال المبحثين الآتيين:

المبحث الأول: رؤية القرآن الكريم لحل معضلة التطرف بالحوار

تقوم رؤية القرآن الكريم لحل معضلة التطرف على ضرورة كفالة الحريات العامة، وتنمية الوازع الديني والخلقي، ويعتبر الحوار الملتزم بالضوابط والأهداف النبيلة الوسيلة الأمثل لترسيخ هذه المبادئ، ويمكن إيضاح ذلك من خلال المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: الحوار في القرآن وسيلة لكفالة الحريات

إن القرآن الكريم يحترم حريات جميع الفئات، حتى وإن كانت متحفظا عليها، وتاريخ الإسلام في كافة عهوده يشهد بأن المسلمين لم يفرضوا دينهم في البلاد التي فتحوها، وأنه كان من حق أي إنسان أن يظل على دينه الذي يدين به مهما كان هذا الدين وتقوم الدولة بكفالة هذا الحق والدفاع عنه، فعن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بماء فتوضأ منه، فقال: (من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء السماء أطيب منه)، قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية فلما توضأ أتاها فقال: أيها العجوز اسلمي تسلمي بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم بالحق) قال: فكشفت رأسها فإذا مثل الثغامة، فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن، فقال عمر رضي الله عنه( اللهم اشهد)([1]).

وأورد الشوكاني روايات عديدة -مثلها- بيد أن في بعضها زيادة وذلك بعد قول عمر -رضي الله عنه- (اللهم اشهد)، ثم تلا ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([2]).

فلم يقطع عنقها أو يشتمها، بل فوض أمرها إلى حكم الله فحسب.

ولهذا قال العلامة ابن قدامة: «وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه، كالذمي والمستأمن، فأسلم، لم يثبت له حكم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا، مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، فإن مات قبل ذلك، فحكمه حكم الكفار،وإن رجع إلى دين الكفر، لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام»([3]).

فتلك خاصية الإسلام، وتلك هي مرتكزات قبول الآخر واحترام خصوصياته وذلك هو خلاص الأمة من ظاهرة التطرف والإقصاء.

وقد شهد لهذا غير المسلمين حتى قال غوستاف: «إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له، فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي تعرفها الأديان الأخرى»([4]).

وهذا أعظم رد من مستشرق منصف إلى الذين يطبلون بأن هذا الدين قد انتشر بالسيف، وليس بالسلم. . ولم يقتصر على هذا حتى قال: «والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم»([5]).

وها هو السير توماس آر نولد يقول: «لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا لشاهد على هذا التسامح»([6]). وقال أيضا: «لن نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام، أو أي اضطهاد منظم القصد منه استئصال الدين المسيحي»([7]).

وبعد الحرية الدينية، تأتي حرية الرأي والتعبير والتي تعني: الثمرة المنطقية التي ينتجها الفكر السليم والاعتقاد الحر -سواء استقر الرأي نفسه مذهبا ومعتقدا، أو ظل ظنا ومحتملا يتفاعل به صاحبه مع الآخرين- كما أن حرية التفكير لا تعني شيئا ما لم تصاحبها حرية التعبير فالتعبير هو الآلة التي توصل الفكرة، برة كانت أو فاجرة للناس، ولا يقتل الفكرة إلا الصمت، أو خذلانها من الوصول للناس([8]).

ومن هنا فلا ريب أن التفاهم عن طريق الحوار حرية تؤكد كرامة الإنسان أيا كان، ويشجعه على التفكير والعمل والتعايش والتفاعل والتعاون مع غيره، لتحقيق الخير والتقدم للمجتمع، فإذا ما رفض الحوار وحوربت ثقافته سيؤدي بالمجتمع نحو الخراب والدمار وانتهاك حقوق الآخرين وعدم تقبلهم، فضلا عن انتشار التطرف والعنف. لذا فإن حرية الرأي كانت سببا من أسباب وحدة الشعوب وترابطها وتعاونها في مجالات العلوم والفنون المختلفة، وكانت حلقات الحوار تقام في كل المدن الكبرى في المساجد والمعاهد، إذ يقودها علماء ومفكرون ومؤرخون، ويكون من حق أي إنسان أن يشارك فيها بحرية تامة. والقرآن الكريم الذي كفل حرية التعبير يوجهنا إلى خير الأساليب التي تتحقق بها هذه الحرية، فيقول الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الإسراء 53) ويقول: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ (النساء: 9)، ويؤكد على أهمية القول السديد والدعوة الطيبة بقوله: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ (البقرة: 263).

ونحن في هذا العصر ندرك أن الحريات بأنواعها المختلفة، في العقيدة والفكر والرأي والتعبير، تمثل أهم الإنجازات التي حققها الإنسان لنفسه في العصر الحديث، ونؤمن أنها أساس كل حياة إنسانية كريمة ولا غنى عنها لأي حضارة تنشد التقدم العلمي والاجتماعي والإنساني. وهذه الحريات كلها جاء بها الإسلام ودعا إليها وكانت من أهم أسباب القضاء على الانعزالية والتشدد والتقوقع، فضلا عن أهم أسباب تقدم العلوم والفنون والآداب والتاريخ التي قامت عليها الحضارة الإسلامية حتى عصر النهضة.

ونحن حين نقرر ذلك ندرك أن الروح الإسلامية التي نؤمن بها، تدعو وتؤكد على الحوار ولاسيما الحوار المرتبط بالعقيدة والاقتناع، لأننا نعلم أن تقدم الإنسانية وازدهار حضارتنا وسيادة روح الإنسانية، إنما يرتبط أشد الارتباط بما يتحقق لأفراد المجتمع الإنساني من حرية فكرية ودينية، ومن حقوق مقدسة في إبداء الرأي والتعبير، وقد كان ذلك كله من دعائم الإسلام([9]).

وها هو العالم الإنكليزي توماس آرلوند يشهد للحرية التي قررها الإسلام وحضارته والتي وسعت التنوع والاختلاف وأتاحت إنقاذ النصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية البيزنطية حتى يمكن القول: «إن بقاء النصرانية الشرقية هبة الإسلام»([10]).

لذلك فإن الاختلاف بين الأديان وتضارب الآراء حولها، يجب أن لا يؤدي في ضوء ممارسة حرية الرأي إلى حجر على تلك الآراء والتصورات، بل إن ما يجب القيام به هو توحيد تلك الجهود والاستفادة من تعدد الآراء واختلافها، للوصول إلى  قواسم مشتركة، تخدم القضية الإنسانية ولا يفرط بأي حق من الحقوق التاريخية، فاختلاف الآراء وتعددها سنة إلهية في البشر، لكن التعامل معها بإيجابية هو ما يغني حالة الوفاق، فيما يؤدي الاستبداد بالرأي والتفرد باتخاذ القرار إلى تشتيت الجهود وزعزعتها ونثر بذور التشرذم([11]).

وإذا استطعنا أن نستوعب هذا وحركنا قضية الاعتراف بالآخرين وتقبلهم بمعزل عن التشدد والانفعال وتراكم الاحتقان وتعاملنا مع قضية الاعتراف على أساس كونها وسيلة لسلوك الإنسان، ومن ثم القدرة على إبداء ما توصل إليه هذا الفكر دون قيد أو مؤثر، وصولا إلى بلورة منهج حضاري إسلامي في إعمال العقل لنيل المعارف، فإن ذلك سيسهم بلا شك في التوصل إلى حد أدنى من الوحدة الفكرية للأمة، تكون ركيزة للتأسيس والبناء فيما بعد، ولا يمكن أن نتخيل عدالة اجتماعية بدون استقلال فكري ولا بد من أدب في التعامل مع الآخر واحترامه.

ولعل العلاج الأكثر فاعلية في هذا الشأن  هو الحرية الفكرية؛ وذلك لأنه علاج يوجه إلى المحاضن الداخلية التي تنشأ فيها بذور التطرف، وهي محاضن آليات التفكير في ذات الإنسان([12]).

والحرية الفكرية أن تكون حركة العقل من أجل الوصول إلى الحقيقة حركة يتعامل فيها العقل بصفة مباشرة مع الموضوع المراد معرفة الحقيقة فيه تعاملا تتفاعل فيه مكونات العقل الفطرية ومكسوباته اليقينية مع المعطيات الذاتية والأبعاد الموضوعية للموضوع المراد درسه، بعيدا عن كل الموانع التي تمنع تلك الحركة العقلية من أن تنطلق في وجهتها الصحيحة، وتنحرف بها إلى وجهة تقتضيها تلك الموانع، سواء كانت متمثلة في موانع داخلية مثل استبداد الأهواء والشهوات، وسطوة الأعراف والعادات، أو كانت موانع خارجية، مثل الإرهاب الذي يتسلط به على العقول ذوو السلطان الديني أو السلطان السياسي على منهج فرعون في قوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (غافر: 29)، أو الإغواء المتعدد المظاهر الذي يسلط به على النفوس المفسدون في الأرض على منهج إبليس في قوله: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 62).

وربما يكون من أهم ما نقصده بالتحرر الفكري في هذا المقام التحرر الفكري في مجال التربية والتعليم، بحيث تكون حركة عقل التلميذ حرة من التوجيه المسبق الذي يفضي إلى الأخذ بالرأي الواحد والرفض والإلغاء لكل ما سواه، وذلك في حركة حوارية دائبة تقوم بين المتعلمين والمعلمين تفضي إلى تكوين فكر سيد على نفسه.

وكذلك تحرر العقول من الاستبداد الفكري الذي يمارسه على الناس أصحاب الجاه الاجتماعي باسم التقاليد، أو الرهبان والكهنة باسم الدين، لينتهوا جراء هذا الاستبداد إلى تطرف في التشبث بالعهود والرفض لكل ما سواهما، ولذلك جاء القرآن الكريم يصيح في الناس أن يحرروا عقولهم بتحطيم نير الاستبداد الفكري المسلط عليهم، لينظروا فيما عرض عليهم بفكر حر يخرج بهم من دائرة التطرف الرافض، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (الزخرف: 23-24)، وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ (التوبة: 31)، ففي كل من هذا وذاك دفع إلى التحرر الفكري من سطوة المستبدين من أجل الوصول إلى الحقيقة كما يتبينها الفكر الحر، وكما تكون بابا للاعتدال وتحول دون التطرف([13]).

وحرية التفكير أيضا إحدى المسالك الهامة التي تفضي إلى تقبل المخالف من الرأي والمخالف من أصحاب الرأي، وهي من ثم مسلك هام من المسالك التي تحول دون توليد التطرف في النفوس والعقول والسلوك.

ومن معاني التقبل للآخر التقبل النفسي، وهو ما يعني أن لا يعتبر الباحث عن الحقيقة والمتوصل فيها إلى رأي أن من توصل فيها إلى رأي مخالف هو عدو له، وذلك مهما بلغت درجة إيمانه برأيه من يقين، وإنما يعتبر المخالف في الرأي هو باحث عن الحقيقة أصابها أو أخطأها، وهو لذلك جدير بأن يجد له مكانا في النفس يسمح بالتعاطي معه في خصوص رأيه المخالف للحوار في شأنه بالحجة بقطع النظر عما تنتهي إليه تلك الحجة من نتيجة موافقة أو مخالفة([14]).

وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلا منهجيا رائعا في التعامل مع الآخر المخالف تعاملا يقوم على التقبل في مستوياته المختلفة، وذلك ما ورد على سبيل المثال في قوله تعالى مرشدا نبيه وجميع المسلمين من ورائه إلى تقبل المخالفين من أصحاب الديانات الأخرى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (سبأ: 24-25).

ففي هذا الإرشاد الإلهي المنهجي توجيه إلى التقبل النفسي للمخالف، وهو ما يتمثل في تعميم إمكان الهدى والضلال على الفريقين، وبنسبة الإجرام إلى النفس ونسبة مجرد العمل إلى المخالف، وذلك بالرغم من الإيمان بعكس ذلك في الأمرين: ولكن تأنيسا نفسيا للمخالف، وفيه توجيه إلى تقبل حق الوجود والتعبير للمخالف، وذلك ما يدل عليه هذا الحوار الذي يسمع فيه عرض هذا المخالف باهتمام والتعاطي معه بمحاجة لطيفة مؤنسة، وفي هذا التوجيه إيماء أيضا إلى تقبل الاستفادة من رأي المخالف إذا تبين أنه ينطوي على وجه من الحق، وذلك ما يوحي به تعميم إمكان الهدى ليشمل المخالف أيضا، فإذا تبين أن هذا المخالف قد يكون في رأيه شيء من الهدى فإنه يكون إذن مقبولا، فهو إذن منهج يدعو إلى تقبل المخالف للرأي([15]).

من الجماعات الإسلامية الموجودة اليوم جماعات تخرجت في تعليمها وتربيتها من مدارس تقليدية موغلة في التقليدية، في بلاد مختلفة من العالم الإسلامي، وهي تلك المدارس التي تقتصر في برامجها على المذهب الواحد في العقيدة وفي الفقه تقدمه لروادها بطريقة تلقينية خالية من الحوار، وتكاد لا تقدم معه شيئا من المذاهب الأخرى في النطاق الإسلامي، أما العلوم والمعارف الإنسانية العامة فإنها في هذه المدارس منهي عنها أن تكون معروضة على الطلاب للدرس، إذ هي تشوش الأذهان وتفسد المعتقدات الصحيحة.

ونتيجة لهذا الضرب من الاستبداد الفكري تتخرج من هذه المدارس جماعات تتصف بالتطرف، إن على درجة أو أخرى من درجاته، وربما تكون جماعة طالبان مثالا لهذا النموذج، ولا يفوت اللبيب المتابع للساحة الإسلامية أن يرى أمثلة أخرى لهذا النموذج تتطابق معه أو تشابهه، علما بأن مجال هذا التمثيل لا يتعلق بصدق النوايا والإخلاص فيها، أو بقوة الإيمان وصلاح السمت والسلوك، فقد يكون ذلك حاصلا مع حصول التطرف([16]).

وفي مقابل ذلك توجد جماعات إسلامية أخرى في العالم الإسلامي تخرجت من مؤسسات علمية ودعوية بمعارف وعلوم إسلامية غير مقتصرة على مذهب معين، وإنما هي قائمة على المنهج المقارن بين المذاهب، فكانت تطرح فيها كل الآراء للدرس والمقارنة والنقد، كما تخرجت أيضا من تلك المؤسسات أو استكملت من غيرها بمعارف وعلوم إنسانية عامة مذاهب وفلسفات قديمة وحديثة، وأخذتها جميعا بمنهج حواري نقدي، فكان المنهج العام الذي تخرجت به هو منهج التحرر الفكري المنفتح على الاحتمالات المتعددة في البحث عن الحقيقة، فكانت إذن متصفة بقدر كبير من الاعتدال والوسطية في الفكر والسلوك معا([17]).

المطلب الثاني: الحوار في القرآن وسيلة لرد الاعتداء ودرء الشبهات وتنمية الوازع الديني والخلقي

والحوار يتجلى أيضا في قضية التواصل مع الآخر والتفاهم معه، والوسيلة المثلى لذلك الحوار، والحوار في القرآن الكريم –كما تقدم- أسلوب ووسيلة في الدعوة إلى الله، وفي دحض الشبهات والافتراءات، وفي رد الشاردين والجاهلين والغافلين من أبناء المسلمين إلى حياض الإسلام، إذ أن الحوار ترياق فعال لمعالجة داء الاعتداء، فبالحوار تنفتح مغاليق الشبهات، وبالحوار تدرأ الكثير من مكنونات النفس وتراكمات العقائد الباطلة، وللحوار في الإسلام مساحات شاسعة، من بينها حوار المخالفين في الدين لما له من صور وأفعال وأهداف وآثار من مادة علمية لها ظلال عميقة في واقع التطبيق.

والمتتبع للحوار القرآني يجد أن طرحه للخطاب يتمثل في حوار هداية ودلالة وجدل إقناع وإفحام على البراهين العقلية، ولفت الأنظار في الآيات الكونية حتى يهتدوا إلى خالقها فيعبدوه ويعظموه وحده لا شريك له وينبذوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان التي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.

لذا فإن دعوة المحبطين إلى محاربة مسألة الحوار بين الأديان كافة والمسلمين خاصة، هي دعوة للإقصاء ونشر التطرف، ومن ثم العنف، وتحريم التفاعل الإنساني، والثقافي بين أتباع الحضارات بل تهدف إلى انتشار النظرة الاستعدائية. بينما يجد الدارس والباحث المتتبع أن الحوار -مع الآخرين أيا كانوا– هو مدعاة للأمن والاستقرار والنهوض بالمجتمع، وهو شأن ثقافي متطور يتناول آفاق الانفتاح والتواصل الإنساني التي يشترط تحققها الاعتراف بالآخر، وتفهم مشكلاته ومقاصده وإدراكه على قدر المساواة وعدم استهدافه بالتمييز أو التحقير والإلغاء أو محاولة ذلك.

وبحكم عالمية الخطاب الإسلامي، وشموله مفهوم التفاعل الحضاري فإن مسألة الحوار([18]). تشكل أحد أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق التعارف الحضاري، والوصل بوعي الإنسان إلى لحظات الإبداع الحضاري الجماعي الذي يسهم فيه أبناء الإنسانية المخلصين من كل ثقافة ودين وجنس عملا من أجل نفي الخبث الحضاري واستنبات بذور التفاعل الحضاري بوصفه مدخلا للتعارف والتفاهم والتعاون ومواجهة تحديات الحياة في عصر العالمية والعولمة.

إن الاستثمار في مسألة التعارف الحضاري كما يطرحه الإسلام يعد من المداخل الأساسية لتشكيل تفاعل حضاري يدفع بأمتنا وحضارتنا إلى آفاق العالمية الإسلامية، قال الرافعي: «فعالمية الإسلام تجعل الثقافة والحضارة الإسلاميتين منفتحين على حضارات الأمم ومتجاوبتين مع ثقافات الشعوب مؤثرتين ومتأثرتين. . . يهدف أولا وقبل كل شيء إلى الوحدة الإنسانية العامة، والزمالة العالمية الشاملة لأن يكون الناس جميعا إخوة متوادين متحابين متساوين متكافئين حتى يستطيعوا أن يحققوا الرسالة العظمى التي خلقهم الله من أجلها»([19]).

ومن هنا يتطلب الأمر النظر إلى تحريك مسألة الحوار وتنشيطها ليس لمحاربة التطرف فحسب أو بوصف الحوار مجرد عملية تبادل للمعلومات والأفكار والآراء، وليس مجرد نقاش وتناقل للمعاني، وليس مجرد وسيلة للتفاهم الإنساني ولمعالجة المشكلات الإنسانية ولكن فضلا عن ذلك أن ينظر إلى الحوار مع الآخر على أنه مدخل حيوي للتعارف الحضاري والديني والتعليمي، الذي يشكل بدوره نقطة الانطلاق الكبرى في تجديد الذات وتجديد الوعي، ومن ثم الدخول في فعل يقود إلى التفاعل الصادق ويكون مرتكزا لأداء الرسالة إزاء الذات والآخرين معا، ويكون محورا للتربية التعليمية لشخصية الإنسان المتحاور. وبالنسبة للأمة العربية والإسلامية لا يمكن أن تكون هناك رسالة حضارية باتجاه العودة إلى الريادة والسيادة قبل أن تحقق كل شروط الحوار في ذواتنا وفي واقعنا وثقافتنا ومعارفنا ونظمنا التربوية والأسرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية وفي ضوء الإطار التحاوري المخلص الذي يؤسس لإنسانية تتفاعل على أساس التقوى والصلاح والنفع العام للبشرية([20]).

إذن فكيف يمكننا أن نتخلى عن الحوار، والله تعالى يأمرنا بالدعوة إلى إقامة الحجج على الآخرين وبالتي هي أحسن، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (الإسراء: 53).

وهذا يعني وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن. وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشتم والسب، ذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 108) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود، أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيرا شديدا([21]).

وهذا تقدم للحوار والمقابلة من غير تراجع ولا خوف والملاحظ اليوم أن من بين المعضلات الكبيرة التي تواجه الأمة، هو الخوف من الآخر وتجنب الحوار معه، على عكس ما نجده في القرآن الكريم من محاورته للحضارات على لسان الصفوة المختارة وهم الأنبياء وكيف بدأهم الحديث ثم استمر معهم على الحوار، بينما تسعى بعض الفئات الضالة إلى وضع الحواجز أمام أي تقارب مع الآخر وباستمرار؛ خوفا من مواجهته فكريا، وتحصنا ضد انفتاح تابعيه على الرأي الآخر، وخشية ضياع مصالحه، وتقوض سلطته الداخلية على جماعته؛ لذلك حرص بعضهم وباستمرار على مخاصمة الأفكار الأخرى، وعدم دعوة أصحابه وترك إقامة الحجج والبراهين عليهم، بل توجيه التهم لها بالتآمر، عبر تطرفهم وغلوهم وتذرعهم بأدلة تافهة لا نص لها في القرآن الكريم أو السنة النبوية، مما يؤثر سلبا على سماحة هذا الدين الحنيف.

وأخلص بهذا إلى أن إحداثيات الحوار مع أبناء الحضارات تجلت فيها معالم الاستقلالية التامة والحرية المطلقة التي أعطيت لهم كافة إذ قوبل توترهم وردهم العنيف بالدعوة إلى إبداء الدليل العلمي، وإذ عجزوا عنه أقيم عليهم الدليل العملي والواقعي من غير تشدد على بطلان دعواهم دون أن يتعدى ذلك إلى أي شائبة من شوائب الإكراه المادي والنفسي أو الفكري، في حين نرى موقف الإسلام من الحوار مع الآخرين موقفا إيجابيا تاما على الرغم من وجود أديان أخرى ترحب بالحوار أيضا، بيد أن موقف الدين الإسلامي من الحوار أكثر إيجابية وقبولا إلى حد يمكن وصفه بأنه دين الحوار، ذلك أنه دين عام للبشرية وليس دينا خاصا لجماعة دون أخرى، لذا قامت عالمية الإسلام على أساس من عالمية الإله الواحد وعالمية التوحيد ووحدة البشرية، إذ الإله الواحد الخالق إله لكل العالم الذي خلقه، ودين البشرية دين واحد يقوم على أساس من التوحيد وهو عقيدة البشرية جمعاء استنادا لهذا المبدأ اتجه الإسلام إلى استخدام الحوار استخداما جليا في مجال الدعوة الإسلامية، وكان من أولاها الوصول بالإسلام إلى غير المسلمين. إذا ما نظرنا إلى الحوار بهذه النظرة الإنسانية، فإننا نكون قد جعلنا من الحوار ثقافة حضارية وقضية مصيرية يتجدد بها مصير الأمة كلها في حاضرها ومستقبلها وفي صلتها مع ذاتها ومع العالم المحيط بها. ويتحدد به مسار التعايش والتواصل والتعارف الحضاري القادم وعمقه وغاياته وآفاقه.

وإننا بمقدار ما ندرك قضية الحوار –المؤسسة على منظومة التفاهم- بوصفها قضية متجاوزة لكل الشكليات السياسية والثقافية التي تهم كثيرا بتحويل قضية الحوار إلى مجرد وسيلة تهديئية أو تسكينية تعالج بها المشكلات الجزئية بمقدار ما نستعيد القيمة التربوية الحضارية الصحيحة والفعالة للحوار. . ومن هنا وفي ظل وضع الأمة الخطير لا يجوز لنا أن نتصور الحوار بصورته السلبية، ولا يجوز لنا أن نوظفه توظيفا غير سليم، بل علينا أن نعود بالحوار إلى أصوله الكبرى([22]).

لذلك بات لزاما على كلا الطرفين –المحاوَر والمحاوِر- البحث عن سبل التلاقي والتواصل عن طريق البحث عن أرضية مشتركة للتعاون بدل المجابهة والانفتاح بدل الانغلاق، والتفاهم بدل التجاهل. إن هنالك تعاونا اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بين العالم الإسلامي والغربي لكنه ليس كافيا ولا يندرج في غالب الأحيان في السياق العام لمنظومة الحوار الحيوي بين الجانبين، وسبب ذلك –ببساطة- هو أن تنسيق المصالح والمنافع الاقتصادية والسياسية ينبغي أن يسبقه الفهم الحقيقي المتبادل على الصعيد الثقافي والحضاري والديني. . فالعالم اليوم مطالب بالعودة إلى قيم المحبة والحوار والتفاهم، ورفع الظلم والعدوان والاستكبار من أجل تهيئة المناخ الملائم لإقامة جسور الحوار المثمر والبناء، هذا وإن لدراسة مسألة ثقافة الحوار أطرا منهجية أساسية من أهمها، ترسيخ الوعي على ضرورة معالجة المنهجية الاستراتيجية لمسألة التفاعل الحضاري. وإن أهم شيء ينبغي التفكير فيه اليوم هو صياغة الوحدة التحليلية الأساسية أو الإطار التحليلي المناسب لمعالجة قضايا التفاعل الحضاري([23]).

ومن الأطر التي ينبغي النظر إليها ضرورة الوعي بطبيعة تشكيل الإنسانية في وضعها الحضاري العالمي، إذ تعيش الإنسانية اليوم وضعا عالميا حساسا ومعقدا ومحرجا للغاية. والإنسان الذي يعاصر في هذه اللحظات التاريخية الكبرى تحولات ضخمة، ومعقدة وسريعة في مجال المعرفة والمعلومات والوعي وفي ميدان الوسائل التقنية والتكنلوجية، وفي مجالات أخرى([24]).

والحرية كما قررتها الشعوب كافة، يحدها إطار اجتماعي يمنع تعدي الناس بعضهم على بعض لأي سبب من الأسباب، لأن هذا يمثل عدوانا على حرية الآخرين وهضما لها، وفي القرآن الكريم نرى –كما تقدم- تأكيدا لمبادئ الحرية في كثير من الآيات، وهذا التأكيد يشمل كافة الجوانب المختلفة لحرية الإنسان وحقه في التعبير والسلوك والتفكير والعمل بالمفهوم المعاصر لمعنى الحرية من حيث استقلال الفكر، دون أن تفرض عليه من الآخرين معطيات وأدوات أو قناعات من شأنها أن تقيده، أو تلزمه بسلوك طرائق معينة من شأنها أن توصله إلى نتيجة مبتغاة سلفا، حقا كانت أو باطلة([25]).

لذا أعطى القرآن الكريم حق التعلم وحريته وإبداء الرأي للإنسانية جمعاء، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة: 31-33)، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5) فمن حق كل فرد أن يأخذ من التعليم ما ينير عقله ويرقي وجوده ويرفع من مستواه. ومن حق الإنسان كذلك، أن يبين عن رأيه ويدلي بحجته ويجهر بالحق ويصدع به. والإسلام يمنع مصادرة الرأي ومحاربة الفكر الحر، إلا إذا كان ذلك ضارا بالمجتمع.

إذن ما ينقذ العالم ويخلصه من الاختزال المتطرف والمتشدد، هو اللجوء إلى حتمية الحوار وتثقيف الأمم بهذا المبدأ الطموح إذ لا يمكن للغرب أن يمتص الإسلام أو يبلعه، كما لا يمكن للمسلمين أن يعزلوا الغرب، وفي الوقت نفسه لا يمكن للحاقدين المتطرفين والإرهابيين تهميش مبادئ الإسلام وسماحته عن طريق نشر التخوف منه، والإيهام بأنه يسعى إلى إقصاء الآخرين وإشعال فتيل النزاع معهم. . لذا فقد آن الأوان لوضع حد للنظريات المتطرفة التي تتوهم وتريد أن توهم أن ديننا لا يصلح التعامل معه كتياري رئيسي يصب في الحضارة الإنسانية الشاملة.

ومن الهام أيضا في إطار ترسيخ ثقافة الحوار، غراسة وحراسة القيم الروحية، فمن أوجب واجبات القرآن الكريم، المحافظة على القيم والأخلاق، فقد أرشد القرآن الكريم إلى تنمية الوازع الخلقي والديني في عشرات النصوص، ومن ذلك تنمية ملكة مراقبة الله والخوف منه، التي تجعل المرء المسلم يستجيب لأوامر الله ويتفاعل معها إيجابا، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل: 90).

فهذه الآية ذكر الله تعالى فيها (العدل) والعدل هو الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع.

وإلى جوار العدل(الْإِحْسانِ). يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثاراً لود القلوب، وشفاء لغل الصدور. ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.

والإحسان أوسع مدلولاً، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعاً([26]).

ولا يخفى أن الأمة الإسلامية تملك رصيدا ضخما من القيم الهادفة وتوجيهات الإسلام، وهذه القيم كفيلة عند استثمارها بأن تجعل الأمة الإسلامية في وضع يسمح لها بأن تنمي فلسفتها الحضارية الإنسانية، وتتسابق مع أمم الأرض في بناء حضارة إنسانية.

إن أصحاب النظريات المتطرفة، الموغلة في التشاؤم، يهدفون إلى تحويل العالم إلى نمط موحد متشابه تلغى فيه العدالة الإنسانية، والقيم الحضارية وثقافتها، وتذهب سدى، وهم بذلك يتوهمون أن الإسلام سيجتذب العالم ويحتويه ويستوعبه ويسلمه، وذلك لأنهم يغفلون قوله جل وعلا: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، أي أهل دين واحد إما أهل ضلالة أو أهل هدى، وقيل معناه: جعلناهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن ولهذا قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ في ذات بينهم على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومشرك ومجوسي ومسلم فكل هؤلاء قد اختلفوا في أديانهم اختلافا كثيرا لا ينضبط، وقيل مختلفين في دين الحق أو دين الإسلام([27]).

لذا فإن المسلمين مطالبون أكثر من غيرهم بالارتقاء إلى مستوى قيم الإسلام الأصيلة الدينية والأخلاقية والثقافية والمتسمة بالرفق واللين، ولا يكون ذلك إلا بالابتعاد عن الفكر المتطرف، ونبذ التطرف الفكري والهروب منهما، للتخلص من إشعال الفتن، وإيقاد نار العنف والإرهاب والاتجاه نحو تنشيط ثقافة الحوار العالمي والمحلي وتقويتها، وأيا كان الحوار على الصعيد الديني أو التعليمي أو الاقتصادي أو السياسي مكتسيا روح العدالة الإنسانية طامحا في تقريب وجهات النظر المختلفة، معتمدا طابع العمل الجاد بكل جرأة وصلابة وثبات من غير تردد، والانفتاح على العالم ومتغيراته وتطوراته، تلبية لتحقيق المصالح الأساسية ودرء المفاسد.

حينئذ فعلى العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين أن يدعوا الناس جميعا مسلمين وغيرهم إلى تجاوز مرحلة الأحقاد والضغينة إلى مرحلة الاستئناس وعدم الخوف من الآخر، ودعوتهم إلى الجلوس إلى مائدة التحاور والتفاهم، لحل المشاكل العالقة ولاسيما العصرية منها وتكريس عملية الاتفاق على قضايا وجوامع مشتركة يمكن أن تسهم في قطع أشواط في مسيرة الحوار المنشود بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وبقية الأديان وبين الإسلام والغرب، مستندين في بث ثقافة الحوار مع الآخر ولاسيما المخالف على الخلفية الفكرية والثقافية المنبثقة من القرآن والسنة والمستنبطة منهما، لتصحيح الأفكار الضالة والمصطلحات المشوهة، معتمدين عليهما في تحقيق الوسطية ودفع الإرهاب وتقريب وجهات النظر وبث روح الحوار والتفاهم، فضلا عن الدعوة إلى الأسس القيمة والأخلاقية التي تفيد في تقويم وتهذيب وتصويب مسار التحاور المعتبر.

إنه في الوقت الذي يطالب فيه المسلمون بالعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة ومنها انتعاش ثقافة الحوار للتخلص من ظاهرة التطرف. أيضا الغربيون مطالبون بالعودة إلى قيم المسيحية الأصيلة -وليست المحرفة- قيم الحوار والتفاهم والمحبة والتفاعل والتعايش المشترك والاحترام المتبادل، لتحقيق الوفاق مع العالم الإسلامي، وإنهم لمطالبون أيضا بالتفهم الحقيقي لثقافة الحوار وتنشيطها وتطبيقها على أرض الواقع وتطبيعها مع المسلمين من أجل التفاعل المنشود، وبث روح الحوار والتواصل والتفاهم، من أجل مبدأ التعايش وإعلان رفع الظلم والعدوان والاستكبار والهيمنة، ونبذ الأفكار المتطرفة والأعمال الإرهابية والإجرامية وإنكارها أينما حلت وعلى المستوى العالمي كله؛ وذلك من أجل تهيئة المناخ المناسب –المتطلع إليه- لإقامة جسور للعيش المشترك مع المسلمين، ولاسيما أن هنالك قيما دينية وإنسانية مشتركة بين الإسلام والغرب كحضارتين عالميتين، إذ تعد نقطة انطلاق أساسية في كل تفاهم وتلاقي يراد له أن يحفظ الأمن والسلم العالمي، ينتظر منهما اتخاذ خطوات تقودهما نحو طموح إنساني في أعلا قيم التبادل والسلم. مما ينبغي على الطرفين استثماره والتأكيد على أهمية توظيفه في سياق احترام الحياة الإنسانية والتواصل الحضاري، الذي يرتبط بصورة أساسية بمسائل التعاون، والسعي من أجل الخير والأمن والسلام ورفض الإرهاب العالمي ومقاومته، ونبذ الظلم والطغيان، وتفهم مبادئ الآخرين وتوجهاتهم وقناعاتهم، ودعوتهم إلى قيم الإفصاح الودي والمحبة والحوار واللقاء؛ من أجل العمل المشترك في سبيل خدمة البشرية وإنقاذها من كل فكر متطرف منحاز مغلق.

ولا بد أن تكون قيمة الموضوعية هي أساس كل تلاقي بيننا وبين الآخرين، فليس من الإنصاف أن نخاطب غيرنا وتحكمنا أفكار محددة وإن النظرة الأحادية لمن أخطر مظاهر انحسار ثقافة الحوار، ونحن بحاجة ماسة إلى تشجيع الحوار الذي يبني ولا يهدم، الحوار الذي يعني العدل والإنصاف والرفق، لا على الظلم أو التشدد والتنطع؛ وذلك لسعادة الإنسانية جمعاء، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ «فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة»([28]).

وتدل الآية على التعاون فيما اتفقا عليه والإيمان بالألوهية، وأن يعتمد الخطاب على أحسن الأساليب في عرض الدعوة والتواصل، والتوجيه في هذه الآية واضح الدلالة على فهم الآخر، كيف لا؟ والآية الكريمة تأمر صراحة ودون لبس أو غموض بأن يختار المسلم أسلوب الملاطفة وحسن التعبير والاحترام عند مجادلة أهل الكتاب، ومن المؤكد أن التوجيه القرآني المتضمن الحث على المجادلة بالتي هي أحسن لم يغفل حقيقة الاختلاف الثابت بين المسلم وغيره من أهل الكتاب، سواء في بعض العقائد أم القيم أم العبادات أم الأحكام والشرائع أم المواقف…الخ ورغم هذا التباين فإن الآية ترشد إلى أسلوب الملاطفة في النقاش عند إثارة مثل هذه القضايا الخلافية، والمجادلة تكون عادة في مواطن الاختلاف، أما اللقاء البعيد عن الاختلاف، والمحفوف بالمجاملة الحسنة، فلا تلزمه المجادلة، ومن ثم يكون أولى بالملاطفة الحسنة.

 أن يختار من بينها، فليست الآية مخيرة المخاطِب بين الحسن والقبيح، وإنما آمرة إياه أن يختار الأحسن بدلا من الحسن، وهذا يدل على مدى احتفاء القرآن الكريم بمراعاة نفسية مخاطبيه وتشجيعهم. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الحوار أصبح قضية ملحة في عهدنا الحالي. فالعالم أصبح شاشة واحدة تتجاور فيها المجموعات البشرية المختلفة تعيش معا وتحس ببعضها البعض، مما يحتم وضع قواعد لهذا الجوار الافتراضي والحقيقي في آن واحد، قواعد ترتكز على فهم الآخر، والاعتراف به، والوقوف عند الأسس المشتركة الموجودة بين المجموعات البشرية في هذا الوجود؛ ليساعد ذلك على العيش معا بأمن وسلام. ومن المهم هنا أن يكون هذا الحوار صادرا عن إرادة إنسانية حرة، وبرضا الأطراف ودون أي إكراه أو عنف، واتخاذ المقاييس المنضبطة؛ لتأمين ثقافة الحوار، وتشجيع المكونات الاجتماعية المختلفة باستعمال إرادتها بكل حرية؛ لتضمن حقها في التعبير.

وفيما تمدنا التجربة التاريخية الإسلامية من دروس وعبر، أن دلائل ومقومات الاحترام الحضاري المتبادل. هي النهوض بالمتعثر، وتنشط الخامل، وإمداد الضعيف بمقومات القوة، وحفظ مقام الآخر وكرامته وموروثه التاريخي، وتقدير ثقافته. هكذا ينبغي للأمر أن يكون، لكننا نستظهر في كل يوم ينشق فجره مسالك صارخة من جانب خصوم حضارتنا بعامة والحضارة الغربية بخاصة، ابتداء بالأثرة والرفض، مرورا بالتعويق والمزاحمة، وانتهاء بالتحرش والإزاحة.

والإسلام يملك في هذا الجانب تراثا غنيا، إذ قامت تجربته التاريخية بشكل عام على احتواء الخصوصيات المتنوعة لكافة المجموعات المختلفة وقبولها حتى وجدت أديان ومذاهب وثقافات عديدة، إمكانية العيش برغد وأمان في ظل الإسلام. وإن وثيقة المدينة -التي عرضناها آنفا- مثال واضح طبق في الواقع العملي فعلا وأنموذجا رائعا في قبول الآخر والعيش بسلام. . وللأسف الشديد فما زال الإسلام مغيبا عن الوجود وما زال المسلم تحكمه لغة الانفعال لا لغة المنهج، فلا بد وأن نميط اللثام عن حقيقة الإسلام وبمعناه الحضاري ومن هنا فإننا بأمس الحاجة اليوم لتوضيح الصورة المشرقة للغرب، فكما يقال: «الناس أعداء ما جهلوا»([29]).

فترسيخ ثقافة الحوار بين الأطرف، ولاسيما المتنازعة تقتضي تمتين وإعادة طرح جديد يبنى على الوضوح ويلتزم بأخلاقيات الحوار، ويعيد النظر في الأهداف الموصلة إلى ذلك ولن يكون هذا نافعا إلا إذا تم توسيع وتجذير قاعدة الحوار لتشمل الأطر الثقافية والاقتصادية والسياسية والمكونات الاجتماعية. ويبقى الأمل –بمشيئة الله- الذي ينبغي النظر إليه بتفاؤل من طرف اتباع الحضارتين الإسلامية والغربية، هو أن حتمية الحوار، أمر واقع لا محالة، لأنه في نهاية الأمر لا بد أن تنتصر الإرادات والعزائم الساعية إلى الحوار ووعيه وتفهمه وتقبل الآخر وفق العمل المشترك، للتخلص من مخاطر الشدة والانزوائية والإقصاء والتهميش التي تحدق بالبشرية.

إذن فعلينا جميعا إعادة تصحيح النظر في موضوع الحوار، والإسهام في تقويته وإيضاح أهدافه، وكيفية استيعاب الآخرين ولنسعى جاهدين إلى تشكيل قنوات تدعو إلى تثقيف الناس في هذا الخصوص، لردع الأفكار المشوشة والمشبوهة، وعلينا كشف الحقائق، وإفهام الرأي العام وإقناعه من خلال طرح قضية الحوار، بأن الإسلام برئ وبعيد كل البعد عن التطرف والعنف والإرهاب، -بل هو دين كما جاء إلينا ووصل إلينا-، دين محبة واعتدال وتسامح. وأن الأفعال المنسوبة لفئة ضالة يجب أن لا تشوه صورة الإسلام الحقيقية، ولا بد أن يرى الغرب -على وجه الخصوص– الوجه الحقيقي للإسلام، الإسلام المتفاعل والمنفتح على الآخرين، الإسلام الذي يحترم الشرائع الإلهية والأديان كلها. كل هذا من أجل أن لا نفقد هويتنا ولا نمسي مسلوبي الشخصنة، بدعوى أننا لا نستطيع أن نصدِّرَ، أو نبقى مكتوفي الأيدي أمام الهجمات الحاقدة، والخزعبلات المغرضة، لتشويه صورة إسلام المحبة والسلام.

الخاتمة:

خلق الله تعالى البشر مختلفين في أفكارهم واعتقاداتهم وقدراتهم الفكرية والعقلية و سيبقوا كذلك، لكنه في المقابل بعث لهم الرسل هادين إلى طريق الخير والصواب، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكملهم هدى ونورا، فمن اتبع النور الذي أنزل معه وهو القرآن الكريم فسيتهدي إلى كل أنواع الخير، ويتعرف على أفضل الخلق، وأولها الخلق الأعظم في القرآن الكريم “الحوار”، ذلك الخلق السامي الذي يجعل الإنسان يرتقي إلى أعلى الرتب في الأخلاق، ويتخلص من حب الذات، ويتجرد في كل أحواله من الأنانية البغيضة إلى كرم العطاء والرفق، وحسن التعامل، الذي يجعله ينظر إلى الآخر نظرة مودة وألفة واحترام وحرص على مصلحته، وهو ما يحقق السعادة للبشرية كافة.

ويمكن إجمال النتائج في الآتي:

  1. يبين القرآن الكريم معا أن الحوار عمل غاية في الأهمية، وأنه أساس الدين الإسلامي، بل أساس كل الديانات السماوية.
  2. لم يهمل القرآن الكريم أي طريق للحوار والتفاهم، ولم يترك وسيلة إلا واستخدمها لتحقيقه.
  3. الحوار يضمن قيام حياة الناس على كوكب الأرض، واستقامتها واستدامتها، وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، وبدونه تتعطل الحياة ويسود قانون الغاب، فتسفك الدماء وتنتهك الأعراض، ويسود الظلم والاستبداد، ويعم الجهل والفقر.
  4. إن موضوع الحوار يشمل شؤون الحياة دون انعزالية أو فصل، يقوم منهجه على نظام فريد أساسه القرآن الكريم، قوي في البناء يقرر الصور المثلى والمنهج العادل والوسطية تجاه التفاعل الإنساني، والتعايش السلمي.
  5. تأكيد القرآن الكريم على نشر ثقافة الحوار، وحق الاختلاف، وذلك من خلال الممارسة الفعلية وليس على مستوى الكلمات أو الشعارات فحسب، بدءا من البيت والمدرسة والجامعة والعمل والمسجد وصولا إلى المؤسسات الرسمية. وتقبل الاختلاف بين الأجيال المتعاقبة، بصفته سنة الحياة، ولن يكون هذا إلا بإشاعة الممارسة الديمقراطية المشروعة في كل مستوياتها ومجالاتها والقضاء على كل أشكال التطرف والتعصب.
  6. إن المنطق يفرض علينا أن نتجاوز ثقافة التقاطع فيما بيننا، ونعمل جاهدين من أجل تنمية ونشر ثقافة الاعتراف بالآخر، وثقافة الكشف عن مواطن انحسار ثقافة الحوار ومعالجتها، وثقافة الاستفادة من نقد الناقدين الجديين، ولو كانوا من معارضينا أو ممن نعدهم من أعدائنا.
  7. إن ظاهرة التطرف لا علاقة لها بالدين، فهي نتاج مخالفة الدين، وأخلاق القرآن الكريم التي تحث على نقيضها.
  8. إن من أبرز أسباب التطرف، والإرهاب في العالم المعاصر إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى، وطغيان الاستبداد في الرأي؛ وانتشار ثقافة إهانة العلم، والاعتداء على قداسته وحرمته؛ مما أنتج ثقافة لي عنق النصوص الشرعية لتستجيب لقوتي التفجير والتكفير بدل التفكير؛ فضلا عن الاستكبار العالمي.

وأخيرا فإن هذا البحث يؤكد على إشاعة قيم الحوار والمرونة والانفتاح بين الناس عموما، والأجيال الشابة خصوصا للتخلص من ثقافة الأحادية واللون الواحد، وثقافة الغلبة والعنف والقهر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع:

  1. القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم.
  2. حسن الترابي، “اطروحات الحركات الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب” الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، بيروت، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، 2000م.
  3. سيد الدسوقي حسن، دراسة قرآنية في فقه التجديد الحضاري، دار نهضة مصر، القاهرة، 1998م.
  4. سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، القاهرة، 1970م.
  5. الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير، ط1، دمشق، سورية، دار الخير، 1412هـ، 1991م.
  6. عصام أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ط2، القاهرة، مصر، عالم الكتب، 1410ه، 1990م.
  7. عبد الجبار الرفاعي، مناهج تجديد –سلسلة آفاق للتجديد- ط1، دار الفكر، بيروت ودمشق، 2000م.
  8. عبد العزيز برغوث، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، ط1، سلسلة كتاب الأمة، برقم: (43)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1995م.
  9. عبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري عند بديع الزمان النورسي، ط1، كولالمبور، ماليزيا، مركز الفكر الحضاري والتربية، 1999م.
  10. عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، فرجينا، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1413هـ، 1992م.
  11. عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف،  كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب، العدد: 167، جمادي الأولى 1436هـ، السنة: (35).
  12. العجلوني، إسماعيل بن محمد الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الألباس عمن اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، مكتبة القدسي، لصاحبها حسام الدين القدسي، القاهرة، 1351ه.
  13. غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل الزعيتر، ط3، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العلمية، 1956م.
  14. فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة، 1420ه
  15. القنوجي، محمد صديق خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، مراجعة عبد الله الأنصاري، صيدا، بيروت، المكتبة العصرية، 1412هـ، 1992م.
  16. محمد سليم العوا، حوار الحضارات –شروطه ونطاقه-، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، بيروت، 2000م.
  17. محمد عبد القادر، الإعلام في القرآن الكريم، ط1، لندن، مؤسسة فادي إبريس، وتوزيع دار قتيبة، بيروت، 1405هـ، 1985م.
  18. مصطفى الرافعي، الإسلام دين المدنية القادمة، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1990م.
  19. موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة القاهرة، 1388هـ، 1968م.
  20. هشام منور، القرآن وحرية الرأي، مقال منشور في مدونات أمين على شبكة الانترنيت للإعلام العربي، وبتاريخ 29 سبتمبر، 2007م.

……..

*الدكتور الشيخ التجاني احمدي ، أستاذ في جامعة نواكشوط

[email protected]


([1]) – سنن البيهقي الكبرى: باب: التطهر في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاستهم، رقم الحديث: (128)، (1/32)، سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني البغدادي، تحقيق: عبد الله هاشم يماني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ، 1966م، باب: الوضوء بماء أهل الكتاب، برقم: (1)، (1/32).

([2]) – الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير، ط1، دمشق، سورية، دار الخير، 1412هـ، 1991م، (1/417).

([3]) – موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة القاهرة، 1388هـ، 1968م، (9/23).

([4]) – غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل الزعيتر، ط3، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العلمية، 1956م، ص 127.

([5]) – المرجع نفسه، ص 605.

([6]) – سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، القاهرة، 1970م، ص 59.

([7]) – المرجع نفسه، ص 99.

([8]) – ينظر عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، فرجينا، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1413هـ، 1992م، ص 43-44. وعاصم أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ط2، القاهرة، مصر، عالم الكتب، 1410ه، 1990م، ص 19.

([9]) – ينظر السيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص 3182. ومحمد عبد القادر، الإعلام في القرآن الكريم، ط1، لندن، مؤسسة فادي إبريس، وتوزيع دار قتيبة، بيروت، 1405هـ، 1985م، ص 126.

([10]) – سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص 729-730.

([11]) – ينظر هشام منور، القرآن وحرية الرأي، مقال منشور في مدونات أمين على شبكة الانترنيت للإعلام العربي، وبتاريخ 29 سبتمبر، 2007م، ص 2.

([12]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف،  كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب، العدد: 167، جمادي الأولى 1436هـ، السنة: (35)، ص 46.

([13]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 49.

([14]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([15]) – فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة، 1420ه، (13/258).

([16]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([17]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([18]) – ينظر حسن الترابي، “اطروحات الحركات الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب” الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، بيروت، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، 2000م، ص 133.

([19]) – مصطفى الرافعي، الإسلام دين المدنية القادمة، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1990م، ص 14، 106.

([20]) – ينظر سيد الدسوقي حسن، دراسة قرآنية في فقه التجديد الحضاري، دار نهضة مصر، القاهرة، 1998م، 23-24.

([21]) –  فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، (10/73).

([22]) – ينظر محمد سليم العوا، حوار الحضارات –شروطه ونطاقه-، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، بيروت، 2000م، 256.

([23]) – ينظر عبد الجبار الرفاعي، مناهج تجديد –سلسلة آفاق للتجديد- ط1، دار الفكر، بيروت ودمشق، 2000م، ص 57-58.

([24]) – ينظر عبد العزيز برغوث، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، ط1، سلسلة كتاب الأمة، برقم: (43)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1995م، ص 65. وعبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري عند بديع الزمان النورسي، ط1، كولالمبور، ماليزيا، مركز الفكر الحضاري والتربية، 1999م، ص 19.

([25]) – ينظر عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، ص 43، وعاصم أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ص 19.

([26]) – السيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق، (4/2191).

([27]) – القنوجي، محمد صديق خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، مراجعة عبد الله الأنصاري، صيدا، بيروت، المكتبة العصرية، 1412هـ، 1992م، (6/263).

([28]) – القنوجي، فتح البيان في مقاصد القرآن، مرجع سابق، (2/262).

([29]) – ينظر: العجلوني، إسماعيل بن محمد الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الألباس عمن اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، مكتبة القدسي، لصاحبها حسام الدين القدسي، القاهرة، 1351ه، (2/326).

مركز مبد ينظم دورة للمجتمع المدني حول دور الوسيط في السلام

ورشة تدريبية حول دور المجتمع المدني في تعزيز السلم الاجتماعي
نظم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية مبدأ ورشة تدريبية حول دور المجتمع المدني في تعزيز السلم الأهلي بمقر المركز بنواكشوط اليوم الأحد 16 فبراير 2020 مع المدرب والباحث بالمركز الأستاذ الشيخ الحسن البمباري.


الدورة التي افتتحت صباح اليوم تناولت مفاهيم الوساطة والمجتمع المدني والأدوار التي يفترض بالمنظمات والهيئات المدنية القيام بها والتي منها الوساطة ، وحل النزاعات ،والمشاركة في وضع آليات لتعزيز السلم الاجتماعي.
وقد شهدت الورشة مشاركة واسعة من المنظمات والهيئات الشبابية النشطة في نواكشوط وخارجه .


تناول الحاضرون قضايا عديدة بالنقاش مثل مكانة المجتمع المدني وآليات تعزيز حضوره كوسيط اجتماعي والجهود التي يبذلها الافراد والنشطاء في هذا الصدد إضافة إلى الاولويات داخل الفضاء المدني سواء عند الأفراد او المؤسسات .


وقد ختم الورشة بتقسيم إفادات المشاركة على المشاركين .

كلمة رئيس ندوة الانفتاح السياسي في موريتانيا السيد محمد ارزيزيم

كلمة رئيس الجلسة

بسم الله الرحمن الرحيم

أرحب بكم باسم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية- مبدأ، الذي نشكر له جهده الذي بذل من أجل  أن نجلس سويا  في فضاء فكري وسياسي وثقافي واحد رغم اختلاف الرؤى والتصورات، على مائدة نقاش موضوع الساعة والساحة في البلاد كما عودنا على ذلك خلال السنوات الماضية، مما عزز ويعزز بناء المشترك بين النخبة والمهتمين بالشأن العام عموما.

و تتنزل هذه الندوة ضمن الأنشطة التي ينظم مركز مبدأ لمتابعة الساحة السياسية والمواضيع المهمة للشأن العام.

 إن هذه الندوة التي تأتي تحت عنوان الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تكريس الديمقراطية، ستمثل حتما إجابة أو إجابات  أساسية على الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد حاليا، والذي يطغى عليه جو من التفاؤل والانفتاح المتبادل بين الفرقاء السياسيين، بعد عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها البلاد، مؤخر وما أعقب ذلك من ردود فعل ايجابية على الواقع السياسي الراهن.

ولنقاش هذا الموضوع استضاف المركز نخبا من خيرة العارفين بالفضاء السياسي الموريتاني والذين عاشوا و عايشوا مختلف تفاعلاته على مستويات عدة و في توجهات سياسية شتى،

وهم السادة:

  • السيد يحي احمد الوقف، الأستاذ الجامعي ورئيس الوزراء السابق والنائب البرلماني و رئيس حزب عادل.
  • السيد العيد محمدن أمبارك المحام والنائب برلماني عن حزب تكتل القوى الديمقراطية ورئيس ميثاق الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحراطين،
  • السيد سيدي محمد محم المحام والنائب والوزير السابق والرئيس السابق لحزب الاتحاد من اجل الجمهورية،.
  • السيد محمد جميل منصور الباحث ورئيس المركز الموريتاني للدراسات الإستراتيجية والنائب البرلماني السابق والرئيس السابق لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية
  • السيد عبد الله ممادو با الباحث والمؤلف المتخصص في الشؤون الإفريقية والمستشار الإعلامي للرئيس السابق سيدي الشيخ عبد الله.

السادة والسيدات، هؤلاء  الأساتذة هم الذين سيتناولون هذا الموضوع،  بالنقاش  والتحليل وهم خليقون  بالإجابة عن أهم الإشكالات السياسية للانفتاح السياسي وقادرون على معالجة الموضوع من مختلف جوانبه، باسمكم جميعا وباسم مركز مبدأ نرحب بهم وعلى بركة الله  نبدأ الندوة.

رئيس الجلسة

محمد ولد ارزيزيم

الكلمة الرسمية لمركز مبدأ خلال ندوة الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تعزيز الديمقراطية

السادة والسيدات

الحضور الوقور

السلام عليكم ورحمة الله

لقد دأب المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية مبدأ، منذ تأسيسه وحتى اليوم على مواكبة ومرافقة التحولات المهمة التي تشهدها البلاد، وذلك من خلال عشرات العناوين الشائكة والمهمة التي تم تدارسها على منبر المركز، والتي كانت في مجملها عناوين ناقشت قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية تساهم في تجذير دولة المواطنة والقانون.

السادة الحاضرون والمحاضرون

منذ مطلع العام إلفين وسبعة عشر شهدت البلاد انتقالات سياسية مهمة في مواضع تلامس جسم الدولة على المستوى التنفيذي والتشريعي، والبنوي عموما، وقد كانت معظم هذه التحولات مجال متابعة ونقاش من المركز،

و تتنزل هذه الندوة التي اخترنا لها أن توسم ب الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تعزيز الديمقراطية، في إطار المتابعة الأمينة و النشطة للساحة السياسية في موريتانيا، التي تعيش حالة انتقال غير مسبوق يؤكد فاعلية ديمقراطية الممكن المحلية التي وان لم تنجج في خلق طفرة على المستوى للتنموي والاقتصادي والإداري إلا أنها تجنب البلاد الاحتقان الاجتماعي والصراع المنهك لعملية بناء الدولة العسيرة في دول الجنوب عموما.

الحضور الوقور …

إن مثل هذه الأنشطة تمثل طريقا مهما لنقاش الواقع واستشراف المستقبل، وكذلك تقويم النقاشات والمسارات التي نسلكها في طريق الديمقراطية، ومع أننا نوفر الكفاف من أدوات البناء السياسي (القوانين، واللجان السياسية)، فإننا ما زلنا بعيدون جدا عن تحقيق تقدم يذكر في أدوات الأداء السياسي وبالخصوص الحزبي منها، الذي يستنسخ غالبا نماذج غير سياسية لتحقيق أهداف سياسية.

ونظرا لطبيعة المحاضرين هذا المساء وتميزهم وخبرتهم السياسية، فإنني أجد نفسي مجبرا على تقديم بعض الأسئلة السياسية كإسهام في هذا النقاش الأول من نوعه

ما هي الأسباب المباشرة للخجل السياسي الذي تعيشه التجربة الديمقراطية في موريتانيا؟

وأي انعكاس للمسألة التنموية بمعناها الاقتصادي على الفعل السياسي، في عدم إمكان تجسيد النزاهة في الانتخابات بسبب الفقر وغياب الوعي؟

وطالما الدمقرطة نموذج سياسي يتطلب مستوى ما من التنمية و الرفاه كيف أصبحت المطلب الأساسي لكل الفاعلين سواء المجتمعيين أو السياسيين؟

وما هي الآفاق السياسية التي يمكن الوصول إليها من سياسة اليد الممدودة التي تظهرها الحكومة الحالية اتجاه للمعارضة؟

وأي تاثير للمشكل العرقي و الإثني في البلاد على المسيرة الديمقراطية للدولة التي ستدخل بعد أيام عامها الستين أي مرحلة ما بعد نضج التوجه و المسير؟

وليس رئيس الجلسة هذا المساء الذي سيترك له تقديم المحاضرين، إلا علما من رجال السياسية في البلد، فهو وزير الداخلية ونائب رئيس الجمعية الوطنية السابق، كما انه كان سفيرا لموريتانيا في الاتحاد الإفريقي، وباسم المركز أوجه الشكر له شخصيا على تقبل مهمة إدارة هذه الجلسة،

ومع تمنيات فريق المركز الذي شرفني بالحديث باسمه، لأعمال ندوتكم هذه بالتوفيق والسداد .

اشكر لكم حضوركم وتلبية دعوة المركز،

السلام عليكم ورحمة الله

الأمين العام للمركز ، الشيخ الحسن البمباري

مركز مبدأ ومنشورات ولد التاب ينظمان الندوة الدولية الثانية حول العلامة ولد التاب

احتضنت نواكشوط في يوم 19 دجمبر 2019 النسخية الثانية من الندوة الدولية حول المدونة الفقهية الموريتانية العلامة ولد التاب وجيله،

الندوة المنظمة من طرف منشورات ولد التاب والمركز الموريتاني للبحوث والدراسات الانسانية مبدأ و الفكر التجديدي شارك فيها عدد من الباحثين الموريتانيين والاجانب وقد قدمت فيها العديد من العروض التي ناقشتم ختلف جوانب ابعاد منوجات العلامة ولد التاب وجيله الفقهي وكذلك مركزية الفقه في التراث الموريتاني الاجتماعي منه والسياسي .

مستقبل الجماعات المسلحة في مالي والساحل

الدكتور مروان شحاتة

الملحُ يأتي من الشمال

والذهبُ من الجنوب

والفضة من بلد البيضان

أمّا كلام الله والأشياء المقدسة

والقصص الجميلة

لا توجدُ  إلا في تمبكتو

Salt comes from the North, Gold from the South, Money from White man country, but God words, holy things, interesting tales, we can find them only in Timbuktu

le Sel vient du Nord; L’or du sud, l’argent du pays des blancs, mais la Parola de Dieu les choses savante les jolis contes on ne les trouve qu’a Tombouctou

 مستقبل الجماعات المسلحة في مالي والساحل

يبدو أن الزيارات الميدانية لجمهورية مالي، تساهم في زيادة فهم طبيعة الصراع المسلح المتواصل منذ سنوات طويلة في غرب إفريقيا والساحل، ومعرفة مستقبل المنطقة، وتساعد هذه الزيارات كذلك على فتح قنوات اتصال مع القوى الفاعلة في المشهد المالي بمختلف أطيافها.

وحيث أن محاولة الفهم هذه تصب في جانب عمل المنظمات الدولية الإنسانية المُحايدة، وعلى رأسها منظمة أطباء بلا حدود، والتي تهدف إلى كسر الهوة ما بين المنظمات والأطراف المختلفة وبخاصة الجماعات المسلحة، لضمان سلامة العاملين فيها وتسهيل عملها.

فقد اختلفت زيارتي الأخيرة التي امتدت من 22 شباط/ فبراير 2018 ولغاية 13 آذار/ مارس 2018، عن الزيارة السابقة، بأنني تمكنت من التنقل براً وجواً، في الصحراء المالية للوصول إلى بعض المدن التي تشهد حضوراً قوياً للجماعات المسلحة، حيث قمت بزيارة المدن التالية: تننكو، موبتي، تمبكتو.

ولا تختلف الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية بين معظم المقاطعات المالية وبخاصة في المناطق الشمالية، فالطرق الرئيسية غير آمنة للتنقل والسفر، ولا تخلو من قطاع الطرق، الذين يقومون بالاعتداء على المسافرين وأخذ أملاكهم وسياراتهم وفي بعض الحالات اختطافهم وتسليمهم للجماعات المسلحة أو التفاوض لإطلاق سراحهم مقابل فدية معينة.

وللمرة الأولى، كان لي فرصة بلقاء بعض المقاتلين الذين ينتمون لـ “جبهة تحرير ماسينا”([1])، وكذلك فتح قنوات اتصال مع الجماعات المسلحة، ولقاء نخب فكرية إسلامية إفريقية وقيادات وطنية وعسكرية، وزيارة بعض مؤسسات المجتمع المدني الإسلامية، وعلى رأسها منظمة الفاروق، واتحاد علماء إفريقيا وجامعة الساحل.

لم يكن التدخل الفرنسي وغيره من القوى العالمية في أفريقيا عموماً ومالي على وجه الخصوص الأول من نوعه، ولا يخفى على أحد أن فرنسا تعيد إنتاج سيطرتها ونفوذها على معظم دول إفريقيا، بل يمكن القول بأنها لم تفقد تلك السيطرة والنفوذ رغم تغير أنظمة الحكم في العديد من الدول الأفريقية.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو لماذا ما زالت فرنسا مهتمة بالسيطرة على إفريقيا وترفض منافسة الدول الغربية الأخرى، كأمريكا وبريطانيا في الحصول على حصة من النفوذ في تلك البلدان؟ ولعل الجواب المباشر الذي حاولت مجلة قراءات أفريقية طرحه لقرائها بأن فرنسا ” ظلت تنهب خيرات إفريقيا طول فترة احتلالها، ولا زالت تسيطر على مناجم الماس والذهب والمعادن واليورانيوم، وحينما خرجت فرنسا من القارة تركت الدول التي كانت تحتلها بعد استقلال موهوم، تعيش في صراع سياسي، وتخلّف إداري واقتصادي، أبقاها في ذيل الشعوب والأمم”([2]).  

يبدو أن الأزمة المالية([3])، ما زالت تعيش في أتون الصراع السياسي والعسكري بين الحكومة المركزية في الجنوب وجماعات قومية وإسلامية، عبر سنوات طويلة راوحت بين الثورة والإتفاق، منذ أن بدأت الحراكات الشعبية التي تطالب باستقلال إقليم أزواد شمالي البلاد عن الحكومة المركزية، وما زالت الظروف الموضوعية والذاتية التي دفعت بالكثيرين للخروج في وجه الدولة قائمة إلى يومنا الحاضر، رغم إتفاقيات السلام المتتالية التي وقعت بين الأطراف المتنازعة.

خارطة الجماعات في المشهد المالي:

هناك اتجاهان يغلبان على الحراك الشمالي، وبقية مقاطعات مالي، الأول يستند إلى طروحات قومية، هدفها إقامة دولة علمانية للطوارق في الشمال، تمثلت في تأسيس “الحركة الوطنية لتحرير أزواد”، والثاني اتجاه يسعى لإقامة إمارة إسلامية وتطبيق الشريعة، تمثل في تأسيس عدد من الجماعات الإسلامية المسلحة وعلى رأسها جماعة أنصار الدين، بزعامة إياد أغ عالي، و” حركة الجهاد والتوحيد في غرب أفريقيا”، بزعامة سلطان ولد بادي، وهو من القيادات العربية في أزواد، وكتيبة الملثمين التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتغير اسمها إلى المرابطون ثم الموقعون بالدماء، وهي بزعامة مختار بلمختار، وجماعة أنصار الشريعة في تمبكتو، بزعامة ” عمر ولد حماه” ([4]).

وقد دخلت هذه الجماعات في أطوار تتعلق بتغيير تحالفاتها ومسمياتها، وبخاصة تلك التي ترتبط بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، حيث آلت التسمية إلى جماعتين رئيسيتين: ” إمارة منطقة الصحراء الكبرى”، و” تنظيم المرابطون”، وفي 2 آذار / مارس 2017 أعلنت معظم التنظيمات الإسلامية المسلحة اندماجها في جماعة واحدة تحت مسمى جديد هو ” جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، واختير إياد أغ غالي زعيماً لها([5]).

يشير إعلان كلٍّ من “إمارة منطقة الصحراء الكبرى” و”تنظيم المرابطون” و”جماعة أنصار الدين” و”جبهة تحرير ماسينا”، في 2 مارس 2017، عن تأسيس تحالف جديد باسم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، واختيار إياد أغ غالي -زعيم “جماعة أنصار الدين”- قائدًا له، إلى سعى “تنظيم القاعدة”-الذي بايعته تلك التنظيمات- نحو تعزيز نفوذه وتنفيذ عمليات نوعية في منطقة الساحل والصحراء من جديد، في رسالة إلى كل من تنظيم “داعش”-المنافس الرئيسي لـ”القاعدة”- والقوى المعنية بالحرب ضد الإرهاب وفي مقدمتها فرنسا التي شنت عملية عسكرية لإخراج عناصر بعض تلك التنظيمات من شمال مالي في بداية عام 2013.

وربما جاء إعلان إندماج الجماعات الإسلامية المسلحة – الجهادية – في الساحل والصحراء؛ بفعل المواجهة الشرسة التي تخوضها هذه الجماعات متفرقة مع القوات الفرنسية والغربية والمحلية، وبسبب التنافس الكبير على السيطرة والنفوذ بين تنظيمي ” القاعدة ” و” الدولة الإسلامية ” في مناطق العالم، والتي بدأت في العراق وسوريا وانتقلت إلى بقية مناطق انتشار تنظيم القاعدة في اليمن والشمال والغرب الأفريقي وأفغانستان والفلبين، وأوروبا.

ومن المرجح أن يكون التشكيل الجديد الذي جاء تحت مسمى ” جماعة نصرة الإسلام والمسلمين ” بزعامة الشيخ إياد إغ غالي، والذي يعتبر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ممثلاُ وجزءً منه، يحاول أن يكون وطنياً في الداخل المالي وفي معظم إفريقيا، وأن حدود انتشار نشاطات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تنحصر في المغرب الإسلامي ولا تتعداه إلى غرب ووسط إفريقيا[6].

ويبدو أن هذان الاتجاهان يستخدمان ذريعة من قبل الدول للتدخل في الشأن المالي، ففي الوقت الذي يستخدم الاتجاه الأول – العلماني والعرقي – بتلقي الدعم من المُستعمِر لدوره في مواجهة الهوية الإسلامية في إقليم أزواد، وتفتيت الجهود الرامية إلى توحيد الجهود من جهة، وفي الجهة الثانية يستخدم الاتجاه الثاني – الإسلامي- ذريعة للتدخل تحت شعار  الحرب على الإرهاب([7]).

ويمكن تقسيم التجمعات أو التحالفات التي وقعت إتفاقية الجزائر التي تمثل الحركات السياسية في إقليم أزواد إلى قسمين الأول: البلاتفورم ( Platform)، الذي يتكون من ثلاث حركات رئيسية: حركة الدفاع الذاتي، والحركة العربية الأزوادية، وحركة غاتيا وحلفائها، وكل حركة تمثل قومية معينة.

يعتبر مؤيدوا ” القاعدة الشعبية العريضة ” أو ما اشتهر باسم ” البلاتفورم” بأنها صحوة إيجابية فاعلة في المجتمع الأزوادي، تتشكل من القوميات الثلاث في الشمال: السونغاي والعرب والطوارق، وتاريخيا الشعوب الصحراوية تمتلك اسلحة، من خلال السوق السوداء، والبلاتفورم ترسم استراتيجيتها للحفاظ على النسيج المختلف في المجتمع، وبخاصة الشعوب العربية في الصحراء الكبرى، التي تمتد من حدود موريتانيا والجزائر والنيجر وغيرها[8].

والقسم الثاني: يسمى تنسيقية الحركات الأزوادية ( CMA)، وتضم: الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والمجلس الأعلى لوحدة أزواد، وجناح الحركة العربية المعارض.

عهد ” الأمان”:

تعتبر الجماعات الإسلامية المسلحة أن غياب للدولة ” الإسلامية ” التي ترعي تنظيم العلاقات الدولية مع الآخر على مستوى الجماعات والدول والأفراد سواء كانت إسلامية أم غير إسلامية، وأن مسألة تقسيم العالم لدى هذه الجماعات يحيطه خلاف اجتهادي حول طبيعة هذا التقسيم ( دار إسلام، دار كُفر، دار حرب، دار عهد) بسبب هذا الغياب، وقد اجتهدت هذه الجماعات على اعتبار انها قادرة على اصدار الأحكام الشرعية من خلال فتاوى علمائها في مسألة معاصرة كتقسيم الدار أو الدول، وكذلك العهود التي تعطى ومن يعطيها، ومسائل أحكام الحرب والقتال، ولا ينحصر مناقشة تلك المسائل الفقهية لدى الجماعات المسلحة بل لا يخلو فيها كتاب فقهي قديم أو معاصر من تناولها.

وحيث أن تقسيم القانون الدولي الإنساني لطبيعة النزاعات المسلحة التي تدور في مناطق متعددة من العالم، هو: ” نزاع مسلح غير دولي”[9]، فسوف نحاول فيما يلي تسليط الضوء على جزئية عهد ” الأمان” الذي تعطيه بعض الجماعات للآخر، ونطلع على نماذج للشروط التي تضعها تلك الجماعات.

ومن المعروف أن المعاهدات؛ هي الاتفاقات أو الموادعات أو المواثيق التي تعقدها الدولة ” الإسلامية” مع غيرها من الدول لتنظيم العلاقات الدولية بينها، وتحديد القواعد التي تخضع لها هذه العلاقة، وعرفها الفقهاء بقولهم : مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، وتسمى موادعة ومسالمة ومعاهدة ومهادنة، وهي مشروعة وعقدها مع غير المسلمين جائز بموجب النصوص القرآنية والسنة النبوية سواء لمصلحة المسلمين أو بحكم ضرورة طارئة أو بسبب نكبة حلت بالمسلمين، ومن المعاهدات التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم المعاهدة المشهورة المعروفة باسم صلح الحديبية، وعقدت مع أهل مكة في السنة السادسة من الهجرة، وقد سار الخلفاء المسلمين على خطى الرسول، فعقدوا عدة معاهدات مع الأمراء ، أشهرها المعاهدة التي عقدها الخليفة عمر بن الخطاب مع أهل ” ايلياء ” بيت المقدس بعد استسلام المدينة في العام الخامس عشر للهجرة النبوية، ومن شروطها أن لا تخالف النصوص الشرعية من القرآن والسنة، وأن تكون بموافقة الخليفة أو من ينوب عنه، وأن تكون هناك مصلحة محققة، وأن تكون محددة بوقت معين.

ولن نخوض في مسألة شرعية أو عدم شرعية النظم السياسية الإسلامية، التي تعتبرها الجماعات الإسلامية المسلحة غير شرعية، وكذلك في الإجابة عمن أعطى تلك الجماعات الحق في إصدار فتاوى وأحكام تتعلق بالمسائل التي ذكرناها وبخاصة ” الأمان”، ولكننا نناقش هذه المسألة كون تلك الجماعات أصبحت حاضرة في العديد من الدول، وتسيطر على كثير من المناطق فيها، وهي مسألة بحاجة لتوضيح وبيان، وقد أعطى الفقهاء القدماء والمعاصرون للجماعات والأفراد الحق في إعطاء ” الأمان”.

وقد بدى ذلك واضحاً في التعريف الفقهي لـ” الأمان”: وهو عقد غير لازم، قابل للنّقض بشروطه، وحكمه الجواز مع شرط انتفاء الضّرر – وإن لم يظهر المصلحة فيه على ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، خلافاً للحنفيّة الّذين يشترطون : أن تكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين، ومن الفروق الظّاهرة بين عقد الأمان وعقد الهدنة أنّه لا تجوز الهدنة إلاّ بعقد الإمام أو نائبه، أمّا الأمان فإنّه يجوز من الإمام ومن جماعة من المسلمين ومن آحادهم ولو من امرأة عند جمهور الفقهاء. وقال ابن الماجشون من المالكيّة: إنّ أمان المرأة والعبد والصّبيّ لا يجوز ابتداءً، ولكن إن وقع يمضي إن أمضاه الإمام وإن شاء ردّه([10]).

وفي هذا السياق؛ ورداً على سؤال وجه للشيخ ” أبو حفص الموريتاني”([11]) حول إعطاء الجماعات الجهادية عهد “أمان” للمنظمات الدولية، قال فيه:” لا شك أن كثير من المنظمات الدولية الإنسانية، تسعى دائماً للحصول على ” أمان” في المناطق التي يتحركون فيها وتخضع لسيطرة الجماعات الجهادية، ولا بد أن أوضح رأيي في هذه المسألة، رغم أنه ليست لدي صلات تنظيمية بهذه الجماعات، ولكنهم إذا سمعوا رأيي في مسألة معينة وكان الوفاء والقيام بها لا يشكل عبئاً أو ضرراً لهم، أخذوا وعملوا بها”.

وتابع “أبو حفص”؛ “والأهم من ذلك أن هذه المنظمات الدولية، تعتبر منظمات إنسانية تعمل وفق مبدأ ” الحيادية”، فإذا تأكدت ” الجماعة ” أنها منظمات ” محايدة”، وتحمل رسالة إنسانية، فحقيقة الأمر أنها لا تتعرض لتلك المنظمات، بل هناك حاجة لعمل هذه المنظمات، وبخاصة أنه توجد حالات إنسانية لدى الجماعات بحاجة لمساعدة المنظمات الدولية الإنسانية” .. ويحصل أحياناً أن بعض الأطراف – يقصد القوات الدولية – في أفغانستان قامت باستخدام سيارات الصليب الأحمر لأغراض عسكرية، ولا أدري أكان هذا الاستخدام بعلم أو عدم علم اللجنة الدولية للصليب الأحمر أم لا، ولا أستبعد أن يكون تم تزوير الشارة الدولية، ومثل هذه الحوادث تفقد المنظمات الدولية الإنسانية مصداقيتها عند الجماعات”.

وبيّن أبو حفص الموريتاني، بأنه لو ثبت لدى ” الجماعات ” حيادية المنظمات الدولية الإنسانية بشكل تام، ولا يتسرب منها أخبار ومعلومات عن عناصرها وقياداتها ومواقعها،  ولا أية أمور أخرى تضر بها، وأنها تخدم جميع الأشخاص دون تمييز، أظن أنها – أي المنظمات الدولية الإنسانية – لن تواجه أي مشكلة في ظل حاجة ” الجماعات إلى الخدمات والأعمال التي تقوم بها تلك المنظمات.

كما أوضح ” أبو حفص الموريتاني”؛ بأنه لا يمكن وصف المنظمات الدولية الإنسانية بــ ” المحاربة([12])“، و تتمنى الجماعات الجهادية فعلاً أن تجد المنظمات الدولية الإنسانية سمة ” الحيادية ” بشكل مطلق، لأنه تولد لدى بعض الجماعات صورة نمطية من عدم الثقة بسبب ممارسة بعض المنظمات الدولية الإنسانية في الميدان وأثناء النزاعات المسلحة غير الدولية، وبخاصة أن سلوكها أبدى تحيزاً للطرف الآخر المعادي للجماعات، وتصبح هذه المنظمات الإنسانية في مصاف الأعداء.

وفي حال ما أعطت الجماعات الجهادية، بمختلف أطيافها واختلافنا مع طروحاتها ورؤاها، ” أمان” لأي فرد أو منظمة إنسانية سواء كان شفهياً أو مكتوباً فإنها تلتزم به، بحسب أبو حفص.

وقد يُساء استخدام الإشارة التي تدلل على منظمة دولية إنسانية، من قبل مختلف الأطراف المتنازعة سواء الدول أو الجماعات المسلحة، فقد يحصل اختراق استخباراتي لبعض العاملين في المنظمات الدولية، الذين يقومون بنقل المعلومات والأخبار الخاصة بتحركات عناصر وقيادات ومواقع الجماعات الجهادية، وليس بالضرورة بعلم أو بالتنسيق مع إدارة تلك المنظمات، وهذا يساهم في زعزعة الثقة فيها، ويتحمل القائم بالمخالفات بعواقب أعماله.

وقد ضرب ” أبو حفص الموريتاني ” مثالاً على عدم الثقة في المنظمات الدولية، حيث سرد كيفية تعامل مقاتلي حركة طالبان مع سيارات ومعدات وأجهزة المنظمات الدولية الإنسانية، عقب دخول قوات التحالف الدولي إلى أفغانستان، وخروج تلك المنظمات، فقد كان الاتفاق مع حركة طالبان إبان حكمها مع المنظمات الدولية الإنسانية بأن تسلم معداتها وأجهزتها وسياراتها إلى الحركة بعد خروجها من أفغانستان، ومع بدأ المعركة الدولية ضد الحركة، سلمت هذه المعدات والسيارات إلى الحركة بمقتضى الاتفاق بينهما، والطريف في الأمر أن عناصر وقيادات حركة طالبان لم تستخدم تلك المعدات والأجهزة والسيارات لخوفها من وجود أجهزة تحديد المواقع، ولم يقم مسؤولوا الحركة بفحصها حين تسلموها، لأنهم لا يمتلكون الخبرة الكافية للقيام بعمليات الفحص والتأكد من خلوها من أجهزة التجسس، وإن دل هذا فإنه يدلل على أن الثقة غير متوفرة بهذه المنظمات.

أما الشيخ ” أبو عُمر سندة بوعمامة”، فقد بيّن أن موقف الجماعات الجهادية في الساحل وغرب أفريقيا من منظمة أطباء بلا حدود، لم يتغير وعبر عن ذلك بقوله: ” بخصوص أطباء بلا حدود، كانت لهم تجربة مع الجماعة ولبعضهم معرفة شخصية مع أهم الأمراء، وعملهم محل ترحيب من الكل؛ إن هم التزموا بالشروط التي قدمت لهم”([13]).

الشروط العامة لـ ” الأمان”:

  • أخذ موافقة أو تصريح بدخول المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة، شفهياً أو مكتوباً، ويقاس على ذلك التأشيرة/ الفيزا التي تمنح للشخص الذي يرغب بزيارة أي دولة.
  • إعلام الجماعة بطبيعة النشاطات والتحركات اليومية.
  • تقديم كشف بأسماء العاملين في المقرات الطبية الإنسانية.
  • عدم القيام بأي من الأعمال التالية: أ. التجسس بالتصوير أو الاستفسار عن أماكن انتشار الجماعة وأسماء العناصر والقيادات. ب. التصوير للأماكن العامة والعسكرية. ج. العمل في مجال التبشير لديانة أخرى. د. عدم التنقل من مكان لآخر دون الحصول على تصريح.
  • الحيادية في العمل.
  • رفع شارة المنظمة الإنسانية.

وقد بين تنظيم ” الدولة الإسلامية”، موقفه من ” العهد” أو ” الأمان”، من خلال اللقاء الذي أجرته صحيفة النبأ الاسبوعية، مع أمير “هيئة الهجرة”[14]، حيث وضع المعايير في عمل هيئته في التعامل مع غير المسلمين الراغبين في دخول البلاد والمناطق التي يسيطر عليها التنظيم، إذ أنه لا يسمح لغير المسلمين بدخول الأراضي التي يسيطر عليها ويسميها ” دار الإسلام”، أو الإقامة فيها إلا بعهد أو أمان، وهذا العهد مشروط ومقيّد لمن تسمح حالتهم بإعطائهما له، وتكون الإقامة مشروطة ومحدودة، وبخاصة للذين لا يحملون جنسية البلد التي سيطروا عليها[15].

فيما يسمح التنظيم، لأي مسلم بغض النظر عن الجنسية التي يحملها، دخول البلد والإقامة والتنقل فيها،  ولا يفرقون بينه وبين السكان الأصليين المولودين فيه أو المقيمين أصلاً فيه، بل يقدمون له كل التسهيلات اللازمة للإقامة، كونه ” مهاجراً”، ويمنع المسلم من مغادرة البلد التي يسيطرون عليها إلا بتصريح أو عذر، ومن الأعذار المقبولة السفر للعلاج في حال لم يكن متوفراً في البلد، على اعتبار أنه سيغادر إلى ” دار الكفر”، والواجب الشرعي يحتم عليهم منعه، ويسمح للتجار الذين يستوردون البضائع بالسفر والعودة، وفي بعض الحالات الخاصة التي لم يفصح عنها التنظيم، وبموافقة الإمام[16].

وقد ضرب أمير هيئة الهجرة مثالين في التعامل مع غير المسلمين، الأول لشخص قام بزيارة أقاربه أثناء سيطرة التنظيم على مدينة الرقة والموصل، وتجول في البلاد وغادرها بعد الزيارة، والمثال الثاني، لمن يرغب من غير المسلمين في الإقامة في البلد فعليهم دفع الجزية، لأنهم يعيشون بأمان، وواجب حمايتهم على الدولة[17].

الانسحاب من المُدن

حينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على حركة طالبان، قامت الحركة بالانسحاب من المُدن التي تسيطر عليها دون مقاومة وذابت في الأحياء بين الناس وأعادت انتشارها في الجبال، لتنتقل من الدولة إلى الثورة من جديد، وهذا ما فعلته تكراراً حركة الشباب المجاهدين في الصومال، وكذلك ما فعله تنظيم القاعدة وحركة أنصار الدين وغيرها من الجماعات المسلحة في مالي عند تدخل فرنسا وحلفائها في الساحل.

  الانسحاب المنظم من المدن، تكتيك تستخدمه الجماعات الجهادية المنتشرة في العالم، وذلك لإدراكهم التام بأن سيطرتهم على مدينة ما، يحمل في طياته رسالتين، الأولى موجهة للمجاهدين: إما أن تغادروا المُدن، أو تدمر على رؤوسكم، والثانية موجهة لسكان المُدن من عوام المسلمين ومضمونها: كل مدينة يسيطر عليها المجاهدون سوف تتحول إلى دمار، فإن اردتم سلامة مدنكم فلا تسمحوا لهم بالسيطرة عليها.. لكي يبقى راسخاً في أذهان الناس؛ أن سيطرة المجاهدين على أي مدينة تعني أنها ستتحول إلى الدمار والخراب”( [18]).

إمكانية التفاوض مع الجماعات المسلحة

وثيقة القاعدة مع الدولة الموريتانية  ” المتاركة ” أنموذجاً

لاحظ الباحث أن هناك حالة من الاتفاق الضمني بين الجماعات الإسلامية المتنوعة – بما فيها المسلحة- والدولة الموريتانية من خلال لقاء العديد من الدعاة وطلبة العلم، والصحفيين والباحثين، وقد تبين بحسب ما ذكره ” أبو حفص الموريتاني”، بأن هناك اتفاق ضمني بين الحكومة الموريتانية والحركات الجهادية، شبيه بمسألة الهُدنة بين الطرفين، ينص على أن لا تقوم الحركات الجهادية بأي نشاط عسكري داخل موريتانيا، وأطلق على ذلك مفهوم ” المُتاركة “، ويعني ذلك عدم القيام بأي نوع من أنواع النشاطات العسكرية داخل بلد ما ( [19])، وهذا يدلل على أن هناك إمكانية للتفاوض والتحدث مع الجماعات الإسلامية المسلحة، الذي يساهم في حال نجاحه إلى حد كبير في إنهاء حالة العنف في البلد الذي يسعى إلى فتح قنوات اتصال تفاوضية، رغم معارضة الدول الكبرى لهذا السلوك على اعتبار أنها لا تفاوض ” الإرهابيين”، ويتعارض ذلك مع سياساتها الاستعمارية في السيطرة والهيمنة على النفوذ والثروة.

ما أشار إليه ” أبو حفص الموريتاني”، تحدثت عنه وثيقة من وثائق أبوت أباد، التي وجدت في المنزل الذي قتل فيه أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وهي رسالة أرسلها بن لادن، إلى عطية الله وأبو يونس الموريتاني، تناولت الإجابة على رسالة زعيم فرع التنظيم في المغرب الإسلامي، أبو مصعب عبد الودود، وموضوعها الهدنة مع ” المرتدين”، وتضمنت أن بن لادن عرض الموضوع على الشيخ محمود – عطية الله الليبي-، وأبو يحي الليبي لكتابة بحث شرعي حول جوازها.

وقد طلب بن لادن أن تتضمن الهدنة النقاط التالية:

  • التزام المجاهدين بالامتناع عن القيام بأي نشاطات عسكرية في موريتانيا.
  • التزام الحكومة الموريتانية بعدم التعرض لـ” المجاهدين” بأذى في البلد، وعدم تعرضها لطلبة العلم من الداخل أو الخارج بأي سوء.
  • إطلاق سراح الأخوة المسجونين كافة.
  • التزام الحكومة بعدم انطلاق أي عمل معاد للجماعات الجهادية من أراضيها.
  • التزام الحكومة الموريتانية بدفع مبلغ يتراوح ما بين 10-20 مليون يورو سنوياً لتنظيم القاعدة، ما دام العقد سارياً، أو عند تجديده إن انتهت المدة تعويضاً عن الامتناع عن خطف السياح.
  • الاتفاق بين الطرفين سري.
  • سريان الاتفاق لمدة سنة قابلة للتجديد.

وقد أبدت هذه الوثيقة وما آلت عليه طبيعة العلاقة مع الجمهورية الموريتانية؛ مرونة سياسية واضحة من قبل تنظيم القاعدة وتعتبر مرجعية وسابقة في هذا المجال، تبعها وثيقة أزواد، وتعتبر حالة متقدمة من تعامل الحركات الجهادية مع الحركات الوطنية، حيث قامت الجماعات الإسلامية المسلحة بعمل وثيقة اشتهرت باسم ” وثيقة أزواد”، تنظم العلاقة مع الجماعات والحركات والقيادات القبلية بمختلف أعراقها، نجحت من خلالها هذه الجماعات بتحييد صراعها مع تلك الأطراف والتفرغ لبناء جبهة عريضة لمواجهة الحكومة المركزية، وهذه الوثيقة تعد بحق انموذجاً لتطور الفكر السياسي وفقه الواقع للجماعات السلفية الجهادية في التعامل مع الآخر، وهي بحاجة إلى دراسة معمقة للوقوف على تلك التجربة الفريدة([20]).

المعاهد والمحاضر الدينية في موريتانيا:

أثار قرار السلطات الموريتانية بإغلاق المدارس والمعاهد القرآنية في تشرين الأول عام 2016 ردود أفعال العلماء والدعاة ومؤسسات المجتمع المدني في البلاد، بذريعة أن بعضها غير مرخص، والبعض الآخر يتبع لجماعة الإخوان المسلمين( [21] ).

وما زالت المدارس التقليدية والتي تسمى ” المحاضر” فاعلة في النظام التعليمي الشعبي في موريتانيا، وهي تُعنى بتدريس القرآن الكريم وعلوم الفقه واللغة العربية والمنطق، وفق مناهج وطرق طوّرها مشايخ وأساتذة هذه المدارس الأهلية( [22] ).

ومن بين المعاهد والمحاضر الدينية في موريتانيا، مركز تكوين العُلماء الذي يشرف عليه الشيخ محمد الحسن ولد الددو، ومعهد الدراسات الإسلامية، والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، والجامعة الإسلامية – العيون.

المؤسسات الدينية في مالي

المجلس الإسلامي الأعلى: يرأسه الشيخ محمود ديكو، ويعتبر من المؤسسات الدينية شبه الرسمية، ويحظى على علاقات جيدة مع دول الخليج وبخاصة السعودية، التي تعد من أكبر مموليه.

اتحاد علماء إفريقيا: منظمة غير حكومية، يضم نخبة من علماء إفريقيا في جنوب الصحراء، بحيث يكون مرجعية علمية فاعلة في المجتمعات الإفريقية، تعزز دور العلماء والدعاة في قيادة المجتمع بشرائحه وطبقاته؛ وتضبط الفتوى، وتتفاعل مع القضايا والأحداث العامة في القارة، وتعبر عن مسلمي إفريقيا في المحافل المحلية والإقليمية والدولية( [23]).

منظمة الفاروق: وهي منظمة محلية غير حكومية خيرية، تعمل في نطاق التعاون المبرم مع الحكومة في مجالات الخدمة الإنسانية: التعليم، الدعوة، الصحة، الإغاثة، وقد انبثقت عن المنتدى الإسلامي، وتم ترخيصها تحت هذا المسمى عام 2006( [24] ) .

وزارة الشؤون الدينية

المعهد الإسلامي

مجلس علماء وكُتاب شمال مالي   http://cuen-mali.blogspot.com/

ولا بد إلى الإشارة؛ بأن التعليم الديني ما زال حاضراً بقوة في المساجد على شكل حلقات التدريس للقرآن والحديث والفقه واللغة العربية، يقوم به أئمة المساجد وطلبة العلم، وبخاصة أولئك الذين درسوا الشريعة في الدول العربية والإسلامية، وهي شبيهة بـ ” المحاضر” الموريتانية.

التسويات والمفاوضات:

تميز موقف رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الشيخ محمود ديكو، واتحاد عُلماء إفريقيا، بضرورة إدماج الجماعات الإسلامية المسلحة في مالي بالحل النهائي للأزمة، وقد ركزوا على إدماج الجماعات المحلية فقط وإخراج الأشخاص المشاركين في القتال من البلدان الأخرى – الأجانب- من البلاد.

نجحت فرنسا في تدويل القضية المالية، فبعد إعلان الرئيس الفرنسي السابق، ” فرانسوا هولاند” بالقضاء على ما أسماه ” الجنين الإرهابي” عقب سيطرة الجماعات المسلحة على الشمال المالي، عام 2012م، فقد وسعت فرنسا جهودها لمحاربة الجماعات المسلحة في مالي، بالقيام بما يلي: 1- تأسيس جيش الساحل. 2- تأسيس مجموعة 5، لإشراك عدد كبير من الدول في الحرب. 3- الحصول على تفويض أممي وفق الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة. 4- توزيع مسؤولية النفقات المالية على المجتمع الدولي، بما فيها السعودية والإمارات.

وتعتبر الجماعات المسلحة الخطوات الفرنسية آنفة الذكر، تعكس مدى الفشل الذريع الذي منيت به فرنسا من خلال عمليتها السابقة ” سرفال”، و”برخان”.

مستقبل المصالحة في إقليم أزواد:

يبدو أن هناك عدة أسباب مباشرة وغير مباشرة لتنامي حالة من شعور عدم التفاؤل بديمومة المصالحة الوطنية في إقليم أزواد التي تسير في بطء شديد، ومنها: التنوع الإثني، والتدخل الإقليمي والاجنبي في الإقليم، ومحدودية تطبيق اتفاقيات المصالحة السابقة، واتهام متبادل لسوء النوايا نحو المصالحة الوطنية، وكذلك تواجد الجماعات الإسلامية المسلحة، التي ترفض الدخول في مفاوضات من جانبها، وكذلك من جانب المجتمع المحلي والدولي لأنها مصنفة إرهابية؛ هذه الأسباب وغيرها ولدت حالة من عدم الثقة لدى كافة الأطراف المتنازعة في الإقليم وبخاصة من مكونات المجتمع الأزوادي، وليس من طرف النظام السياسي في مالي، بأن حل القضية الأزوادية معقد وصعب وأن المنطقة من الممكن أن تشتعل من جديد في اي لحظة.

إذ يتوقع الباحث في شؤون الساحل وغرب الصحراء، محمد أبو المعالي، فشل اتفاقيات السلام التي عقدت في الجزائر، لان مخرجاتها في اعطاء حكم ذاتي لأهالي أزواد لم يتم تطبيقها، كما جرت العادة في اتفاقيات سابقة، وتعتبر بعض قيادات الصف الثاني، بأنها أرغمت على التوقيع بضغط من السلطات الجزائرية والمجتمع الدولي؛ عبر تصنيف الحركات الرافضة للتوقيع بـ ” الإرهابية”، وبالتالي من الممكن أن يشكل ذلك عاملا سلبياً في استمرار هذه المفاوضات ونجاحها[25].

أوضح ولد سيدات بأن شكل الحكم مستقبلاً في الإقليم، ان كل ولاية تمثل فدرالية مستقلة في القرارات تتبع المركز في العاصمة، يكون الحاكم أو الوالي منتخباً وليس معينا من العسكريين، لكي يدعم الشرعية[26].

يعتقد  أحمد بيبي، بأن حل القضية الازوادية يواجه تحديات وصعوبات وتحولات معقدة ليس من السهل حلها، لوجود تضارب في المصالح بين مكونات الشعب الأزوادي من ناحية، وبين دول الإقليم والدول الأجنبية من ناحية أخرى، وأن اتفاقية الجزائر اتت بمجموع ما جاءت به الاتفاقيات السابقة، ما عدا بعض الاصلاحات الإدارية وبعض التغيرات الدستورية، وهي لا تعالج المطالب بالاستقلال ولا تحكيم الشريعة، ولا المطالب الانفصال، ولذلك الحل جزئي وليس شامل، وما زالت الاسباب للأزمة قائمة، فلا يمكن استبعاد مطالب الجماعات التي تسمى ” الإرهابية ” على سبيل المثال، ولا يمكن انكار وجودهم، لذلك فإن الاتفاقية ممكن أن تستمر لفترة محددة وليست دائمة[27].

يرجح أمير الصحراء، يحي أبو الهمام، بأن السيناريو المحتمل لمستقبل إقليم أزواد، هو إيجاد كيان أو نظام سياسي تبعيته للغرب، بحيث يضمن من خلال هذه التبعية موطئ قدم في هذه المنطقة عبر اتفاقيات طويلة الأمد، ويشكك في دعاوى فرنسا بان هدفها الحفاظ على وحدة التراب المالي، لانها تدعم قومية على حساب قوميات أخرى، وفشلت في خلق كيان قومي للطوارق في المنطقة[28].

ويرجح ولد سيدات فشل المفاوضات واتفاقيات السلام إلى غياب النظام والأمن والتنمية هي اهم عوامل فشل المفاوضات من جهة وتنامي نفوذ الجماعات المتطرفة من جهة ثانية، مقابل تعزيز التدخل الأجنبي[29].

وبدى عضو المكتب السياسي ” للبلاتفورم “، محمد ولد يحي الحسني متفائلاً ودبلوماسياً في إجابته عما سبق من أراء بعض القيادات المتشائمة، بتأكيده بأن الاتفاق الأخير رغم المعوقات، في تقدم بخطى ثابتة وبهدوء، ورغم وجود عدم ثقة في ماكنة تحريك الاتفاق، والمستقبل خاضع لردود افعال الأطراف واحترام بعضه البعض، وجدية المجتمع الدولي في تحقيقه وتثبيته، الاتفاقات السابقة لم تفشل بل حققت جوانباً منها بنسب منخفضة[30].

وقد اختلفت وجهة نظر محمد ولد يحي الحسني، في مقابلة الباحث له بعد حوالي السنتين في الاتفاق، حيث قال بأن الاتفاق يسير ببطء شديد، ولم يتم تنفيذ أجزاء كبيرة منه، وأن الحكومة المالية تمارس سياسة كسب الوقت، من خلال اقناعها للاطراف المفاوضة بوعودها الزائفة، كمن يسير وراء السراب، ومن وعودها بإدماج عناصر الحركات المسلحة في القوات المسلحة، والوظائف الحكومية، ولكنها لم تف بوعودها[31] .

لعل التقرير الصادر عن المبعوث الأممي لمالي، محمد صالح النظيف والمتعلق بتطورات الاوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية لمجلس الأمن في جلسته رقم 7719 المنعقدة بتاريخ 16 حزيران / يونيو 2016، تدلل على الانتقاد الشديد والشعور أيضاً بحالة من عدم الرضا على التزام أطراف النزاع في مالي ببنود الاتفاق الموقع منذ حوالي العام، والتحذير من عملية البطء غير المبررة في تنفيذه، التي من الممكن أن يعرض عملية المصالحة للخطر، بالاضافة إلى التأخر في إنشاء بعض الإدارات المؤقتة لمزاولة أعمالها[32].

واشار المبعوث الأممي في تقريره إلى تدهور الوضع الأمني الذي شهدته مالي، في الفترة الواقعة ما بين شباط إلى أيار / 2016، والتي لقي فيها 19 عنصراً من قوات حفظ السلام مصرعهم على يد الجماعات المسلحة، وعزى سبب الخلل في وقوع هذه الخسائر إلى ضعف التدريب والتجهيز  لدى قوات حفظ السلام الأممية[33].

ومن الجوانب الإيجابية التي ذكرها النظيف في تقريره أمام مجلس الأمن، أن الاطراف ملتزمة بشكل صارم في وقف إطلاق النار، والجهود التي تبذلها الحكومة المالية في إنشاء إطار قانوني ومؤسسي قوي من أجل تنفيذ الاتفاق، وبخاصة إنشاء المجلس الوطني لإصلاح قطاع الأمن الخاضع لسلطة رئيس الوزراء، وتطوير المؤسسة العسكرية ومواقع الإيواء، وتأسيس لجان أخرى تعمل على الإشراف على نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، واللذان يشملان إدماج المقاتلين السابقين وإدارة التطرف العنيف[34].

من جانبه رد موفد الجمهورية المالية للامم المتحدة، مودييو كيتا، رئيس الوزراء المالي، في محاولة منه للدفاع عن حكومته جراء انتقادات المبعوث الأممي وفريقه في مالي لأداء الحكومة تجاه المصالحة والاتفاق، بقوله: ” سوف نركز من جانبنا على مسألتين رئيسيتين ناشئتين عن تقرير الأمين العام، وهما 1-) الإصلاحات السياسية والمؤسسية و 2-) مسائل الدفاع والأمن”. وعرج على التعديلات القانونية التي تمهد الطريق لإنشاء السلطات المؤقتة[35].

وحول انجازات الحكومة المالية المتعلقة بالمصالحة، فإن رئيس الوزراء المالي علل سبب البطء في تنفيذ بنود الاتفاق من الجانب الحكومي إلى الديمقراطية، بمعنى أن التراتبية في المصادقة على القوانين تحتاج إلى وقت وبخاصة أن هناك معارضة لبعض القوانين والتي لجأت بعض الجهات إلى المحاكم المختصة ونظرت بها، وهذا ما أعاق عملية سن القوانين والتشريعات، كما أشار إلى الاجتماعات المتواصلة مع الأطراف الموقعة لاتفاقية المصالحة، والاتفاق على إنشاء إلية التنسيق التشغيلي في المناطق وتعيين السلطات المؤقتة، وإعادة نشر الإدارة وتقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية، وكذلك القيام بدوريات عسكرية وأمنية مشتركة[36].

وطالب رئيس الوفد المالي، بتقديم الدعم للمبادرات الإقليمية لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك مبادرات المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي، لأن ” الإرهاب” يشكل تهديداً لكل الدول[37].

مشاريع مقترحة للتعاون مع المجتمع المحلي في تمبكتو وأطرافها:

اقترح عمدة تودينو محمد الحاج طاهر، ووجهاء من مدينة تمبكتو مشروع فتح عيادة وتقديم مساعدات طبية انسانية بالتعاون مع بعض المحليين.

فتح عيادة في المناطق التي تحيط في تمبكتو بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني المحلية.


[1]     ” جبهة تحرير ماسينا” أول حركة جهادية تنتمي لعرق ” الفلان”، ويتزعمها ” أمادو كوفا”، وتستمد الجبهة جذورها الفكرية من الدعوة السلفية التي أطلقها ابن المنطقة “الشيخ عثمان فودي” في العام 1795، وتعد مدينة تننكو في الوسط الغربي لجمهوية مالي، أحد أكبر معاقلهم، وتعتبر أحد الجماعات التي دخلت في التحالف الجديد الذي ضم: جماعة أنصار الدين، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والمرابطون، وجماعة المجاهدين، وجبهة تحرير ماسينا، وأفضى هذا التحالف إلى تأسيس ” جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” في الساحل وغرب إفريقيا، بزعامة ” إياد أغ غالي”، أنظر: . https://www.alaraby.co.uk/investigations/2016/5/7/%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A7-%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%88-%D9%81%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%A8%D8%AD%D8%AB%D9%88%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D8%B9%D8%A9  

([2]) مجلة قراءات إفريقية. قضية مالي ومستقبل المنطقة، العدد 16، ربيع الآخر – جمادي الأخر/ 1434هـ، نيسان- حزيران 2014م، ص ص 2-3.

([3])  البعض يطلق عليها الأزمة الأزوادية، لأنها تنطلق دائماً من الشمال وتحديداً من إقليم أزواد، ولأن شعب هذا الإقليم ما زال يتهم الحكومة المركزية في الجنوب بأنها تقصيه وتهمشه ولا تقوم بالمشاريع التنموية على أكمل وجه، ويسعى قاطنوا الإقليم بمختلف مكوناته العرقية إلى الحصول على حكم ذاتي، أو لا مركزية لإدارة الإقليم.

([4])  محمد محمود أبو المعالي. ” التنافس بين القاعدة والدولة في الساحل والصحراء”، مركز الجزيرة للدراسات، الدار العربية للعلوم ناشرون، كانون الثاني/ يناير 2017، ص ص 197 – 244.

([5])  بوابة افريقيا الإخبارية،  تاريخ الدخول 17 نيسان 2018، الساعة 7:35 صباحاً، http://www.afrigatenews.net/content/%D9%85%D9%86-%D9%87%D9%8A-%E2%80%98%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86%E2%80%99-%D8%A8%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%9F، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، مؤسسة الزلاقة للإنتاج الإعلامي، موقع التلغرام، https://t.me/Az_Zallaqa1 ، بيان الإعلان عن تشكيل الجماعة، آذار/ مارس 2017.

([6])  الحركات والجماعات المسلحة التي تنتمي للتيار الجهادي والتي سيطرت على شمال مالي منذ عام 2012م، فمنها: 
القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، معظم قياداتها وأعضائها من الجزائر، وموريتانيا، والصحراء الغربية، وتونس، وليبيا.

حركة أنصار الدين: قائدها الطارقي إياد أغ غالي، كان عضوا في جماعة التبليغ، ولم يسبق له في كل التمرُّدات التي شارك فيها مطلب إسلامي واحد. عُيِّن قنصلا عامًّا لمالي في جدَّة ولبس لبوس السلفيَّة قبل أن تطرده السلطات السعوديَّة؛ فعاد إلى مالي وأسَّس الحركة. أغلبُ أعضائها من طوارق مالي وبخاصَّة الإيفوغاس الذين وجدوا فيها حركة شعبيَّة سلفيَّة جهاديَّة.

وقد أعلنت عن نفسها في عام 2015م، غالبيَّة أعضائها من سكَّان جنوب مالي وبخاصَّة الماندنغ/البمباره، وهم ممَّن قاتلوا في أنصار الدين شمال مالي وكانت مجموعتهم تُعرَف بــ”كتيبة خالد بن الوليد”. تنشط على حدود مالي وساحل العاج وغينينا كوناكري.

حركة التوحيد والجهاد بغرب أفريقيا: (MUJAO)، مُعظمُ عناصرها من عرب موريتانيا، والجزائر ، والصحراء الغربية المقيمين في الجزائر، وأفراد من عرب مالي.  و يرى بعض الباحثين أنَّ هذه الحركة إنَّما هي النسخة العربيَّة لحركة أنصار الدين الطارقيَّة.  الأولى حركة جهاديَّة سلفيَّة عربيَّة، والأخرى حركة جهاديَّة سلفيَّة طارقيَّة.  ثمَّ تمكَّنوا من استقطاب بعض المجموعات الإفريقيَّة.  وفي يوليو2014م أعلنت ولاءها لــ” داعش”.

جبهة تحرير ماسينا: تسعى في إحياء قوميَّة فولانيَّة إسلاميَّة تنفصل عن بماكو، وتنهَج منهج الدولة الإسلاميَّة الفولانيَّة (دولة دِينا) التي أقامها أحمد لبُّو في إقليم ماسينا في القرن التاسع عشر الميلادي( 1818- 1862م)، تُطبِّق الشريعة الإسلاميَّة وتمنع القوانين الوضعيَّة. غالبيَّة أعضاء هذه الحركة من الفلانيين الذين كانوا يُقاتِلون في شمال مالي، وقد عُرِفت مجموعتهم بـــ” كتيبة ماسينا”.أعلنت عن تأسيسها في أبريل 2015م بقيادة أحمد كُوفا، نسبة إلى قرية كُفَّ بمنطقة موبتي. وهي على علاقة وثيقة بالقاعدة وحركة أنصار الدين،

([7]) مجلة قراءات أفريقية، مرجع سابق، العدد 16، ص3.

([8])  محمد يحي الحسني. مرجع سابق.

([9] يعرف القانون الدولي الإنساني، ذلك الفرع من القانون الدولي العام الذي يتكون من أحكام عرفية واتفاقية تستهدف، في حالة النزاع المسلح، حماية فئات محددة من الأشخاص والممتلكات وتحدد سلوك أطراف النزاع في استعمال وسائل القتال وأساليبه، للمزيد أنظر: د.عامر الزمالي.” مقالة في القانون الدولي الإنساني والإسلام، مطبوعات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الطبعة الرابعة، آب/ أغسطس 2010.

[10] (الموسوعة الفقهية. إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، الطبعة الثانية، 1404هـ – 1983م، الجزء السادس، ص ص 233- 235.

([11]) أبو حفص الموريتاني ( محفوظ بن الوالد). لقاء شخصي في منزله في العاصمة الموريتانية “نواكشوط”، بتاريخ 28 شباط/ فبراير 2018.

([12])  المحاربة، بمعنى المقاتلة التي يمكن قتالها وإعلان الحرب عليها واستهداف مقراتها والعاملين فيها.

([13])  أبو عمر سندة بوعمامة. حوار خاص عبر موقع التواصل الاجتماعي ” التلغرام”، حيث تعذر لقائه شخصياً لأسباب أمنية من ناحية، ولأنه يقيم بالقرب من الحدود الموريتانية – المالية في الصحراء، أجري الحوار بتاريخ 24 آذار / مارس 2018، والشروط التي يقصدها هي: إعلام الجماعة التي تسيطر على مدينة ما بطبيعة نشاطات المنظمة، والتنسيق معها، عدم القيام بأعمال تتعلق بالتجسس، أو تقديم معلومات عن مواقع وعناصر وقيادات الجماعات، استخدام إشارة تدلل على سيارات ومواقع وأفراد المنظمة، عدم القيام بأعمال تتعلق بنشر الدين المسيحي ( التبشير)، عدم استخدام سيارات ومواقع المنظمة لأغراض عسكرية من قبل الطرف الآخر.

[14] هيئة الهجرة: تُعنى باستقبال المُهاجرين إلى ” الدولة الإسلامية”، وتوفير ما يلزم للهيئات والدواوين، وإدارة حركة السلع والأفراد من المسلمين وغيرهم، عبر ضبط الحدود والمعابر.

[15]  أمير هيئة الهجرة في تنظيم الدولة الإسلامية. حوار صحيفة النبأ الاسبوعية، الصادرة عن ديوان الإعلام المركزي، العدد 49، تاريخ 5 محرم، 1438 هــ، ص 9.

[16]  مرجع سابق. صحيفة النبأ، العدد 49، ص 9.

[17]  مرجع سابق. صحيفة النبأ، العدد 49، ص 9.

([18])  “أبو المُنذر الشنقيطي”. تبيين المقال في مشروعية التحرّف للقتال”، مؤسسة نُخبة الفكر، رجب 1437هـ، أيار/ مايو 2006م، ص 3.

([19]) أبو حفص الموريتاني ( محفوظ بن الوالد). لقاء شخصي في منزله في العاصمة الموريتانية “نواكشوط”، بتاريخ 28 شباط/ فبراير 2018.

([20])  توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي بأزواد. اشتهرت باسم ” وثيقة أزواد“، صادرة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، السبت‏، 02‏ رمضان‏، 1433 هـ الموافق :‏20‏/07‏/2012م، http://islamion.com/news/show/14054

[21]  موريتانيا 13. موقع الكتروني شامل، http://www.mauritania13.com/node/2452 . العربية نت. https://bit.ly/2JZqI8e .

[22] رصيف 22. “موسم الهجرة إلى موريتانيا لدراسة العربية”، https://bit.ly/2vnzBFg .

([23]) اتحاد علماء إفريقيا. www.africanulama.org

([24])  منظمة الفاروق. http://www.alfaroukong.com/index.php/ar/

([25])  محمد محمود أبو المعالي. مقابلة شخصية، نواكشوط، 15/ 4/ 2016.

([26])  سيدي إبراهيم ولد سيدات.  أحد قيادات تنسيقية المعارضة (CMA)، ويمثل الحركة الأزوادية العربية، مقابلة شخصية، في العاصمة المالية ” باماكو”، بتاريخ18/ 4/ 2016،  ويقيم حالياً في باماكو رغم انه من قيادات المعارضة، معللاً  ذلك بأن لديه وبقية المفاوضين حماية إقليمية ودولية بضمان سلامتهم.

([27])  أحمد بيبي. عضو مجلس النواب في جمهورية مالي، مقابلة شخصية في منزل الزعيم الطارقي الشيخ محمد أغ انتال، باماكو، 18/4/ 2016.

([28] ) مقابلة مع أمير الصحراء، يحي أبو الهمام، مرجع سابق.

([29])  إبراهيم ولد سيدات. مرجع سابق.

([30] ) محمد يحي ولد الحسني. عضو المكتب السياسي للقاعدة الشعبية العريضة  ( Platform)، مقابلة شخصية، تمبكتو، إقليم أزواد، 20/ 4/ 2016.

([31]) محمد يحي ولد الحسني، مقابلة شخصية، تمبكتو، الخميس الموافق 8 آذار/ مارس 2018.

([32])  محضر مجلس الأمن، الأمم المتحدة، الجلسة رقم 7719، تاريخ 16 حزيران/ يونيو 2016، حول الحالة في مالي، http://www.un.org/ga/search/view_doc.asp?symbol=S/PV.7719&referer=http://www.un.org/ar/sc/documents/search.shtml&Lang=A

([33])  محضر مجلس الأمن، الجلسة رقم 7719، مرجع سابق، وانظر: محلق البيانات الصادرة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة أنصار الدين.

[34]  محضر مجلس الأمن. الجلسة رقم 7719، مرجع سابق.

[35]  محضر مجلس الأمن. الجلسة 7719. مرجع سابق.

[36]  محضر مجلس الأمن. الجلسة 7719. مرجع سابق.

 [37]   محضر مجلس الأمن. الجلسة 7719. مرجع سابق.

المثقف والشعبوية

إيمان شمس الدين

الشعبوية تعنى بالشعب والجماهير، خاصة من الناحية الكمية وليست الكيفية، وما يؤثر في توجهات الجماهير سلباً أو إيجابا، ومتعلق في مسألة الوعي الجمعي والمجتمعي.

وقد ارتبطت الشعبوية بالعمل السياسي، ولكننا لا ننكر أنها تسربت إلى كل أنماط السلوك والعمل الاجتماعي، ويلعب وعي الجماهير دورا كبيرا أيضاً في توجيه السياسيين والدينيين وغيرهم من المعنيين في الساحات الاجتماعية.

ولو انتقلنا بالفكرة من بعدها السياسي إلى بعدها الديني والثقافي، لوجدنا أن الشعبوية هي جزء من سلطة العوام على مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، التي تتحكم بعمل الفقيه في استنباطات الحكم وفق أسسه السليمة، وتلعب أيضا في رسم توجهات كثير من المثقفين، ورسم معالم أولوياتهم في الاصلاح والنهضة، وعلى مستوى الثقافة والفكر والنقد والأدب.

أي ان النظام المالي ليس المعني الوحيد بهيمنة العوام على هذه المسيرة، ولكن أيضاً الشعبوية، التي إما يتقوى بها الفقيه والنخب من المثقفين والمفكرين السياسيين لطرح ما لديهم من أطروحات قد يكون بعضها تقليدياً تراثياً، أو بعيدا عن هموم النهضة ومعيقاً في مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، وإما أنها تكون القيد الذي يقيد الفقيه وتلك النخب ويحد من قدراتهم للإفصاح عن الحقيقة “الفتوائية” لحكم ما، خوفا من العوام، وأيضا ينطبق ذلك على النخب الفكرية والثقافية.

فلولا العوام لكان الكثير من الفقهاء والنخب مبسوطو اليد واللسان في الافصاح عن حقيقة كثير من الفتاوى والأفكار التي تم التعتيم عليها، خوفا من العوام.

فنحن هنا أمام عدة حالات أهمها:

١. شعبوية تعيق وتقيد العلماء والنخب، وهنا موقف هذه النخب يعتمد على تشخيص الأصلح والأهم، إما وفق قاعدة تزاحم وتعارض المصالح، أو قاعدة تشخيص المصلحة والمفسدة، ولكل حالة يفترض من النخب دراستها وفق أسس سليمة وتشخيص مفاسدها ومصالحها ومن ثم بناء موقف وفقا لدراسة التشخيص الأنسب، أما الرضوخ الغير مدروس بحجة الخوف على المشاريع الخاصة، أو العزل الاجتماعي، فإن ذلك يكرس مع الجهل على حساب الوعي، وهنا لا أدعو لمواجهة هؤلاء مواجهة عنفية، بل أعني أن النخب من العلماء والمثقفين وظيفتهم هنا تشخيص الموقف الأنسب لكشف الحقيقة وآليات كشفها، ورصد كل الوسائل الممكنة في مواجهة هذه الشعبوية الصوتية غالبا، مواجهة معرفية مدروسة.

٢. شعبوية ترجح آراء لحساب آراء، وهذه الشعبوية غالبا لا تعتمد في ترجيحاتها على مرجحات علمية وموضوعية مدروسة بشكل دقيق، بل تعتمد غالبا على انفعالاتها وميولها خاصة العقدية، لذلك تلعب دورا مهما في تقوية مسار ضد آخر، وفي تبني آراء وإهمال أخرى، وهذه الشعبوية يستخدمها كثير من النخب من العلماء والمثقفين في مواجهة الآراء الأخرى خاصة الجديدة منها، مواجهة ليست معرفية قائمة على المحاججات البرهانية، بل مواجهة عنيفة يسقط فيها المختلف اجتماعيا وتسقط معه آراءه حتى لو كانت صائبة، وهذه هي الشعبوية الموجهة التي يستغلها البعض لتحقيق ما يراه هو، فهناك مرجعيات دينية وعلماء ونخب وخطباء استطاعوا فعليا أن يستخدموا سلطة العوام، أي الشعبوية، في الحفاظ على مكتسباتهم الفكرية التي تعتمد على التراث أكثر من اعتمادها على أصول ثابتة ومعاصرة في الفكر الديني. وقد تكون ظاهرة المنابر وما يرشح عنها هي أكبر ظاهرة تدلل على سلطة العوام، فالكثير من الخطباء يلجؤون إلى الطرح، إما التقليدي جدا البعيد عن واقع الدين والمختلط بالأعراف والتقاليد الباطلة، وإما إلى الطرح المذهبي القصصي نزولا عند رغبة عوام الناس.

٣. شعبوية واعية تواجه الانحراف بكافة أشكاله، وتضم في صفوفها النخب الفاعلة، التي تواجه الآخر المختلف مواجهات معرفية رصينة، تقوم على المحاججات البرهانية، ويكون جل همها رفع منسوب الوعي عند الجماهير، وتحويلها لرصيد فاعل في النهضة والتغيير.

فوظيفة المثقف أن يكون هو الراصد للإشكاليات الاجتماعية وهموم المجتمع، وأن يلعب دورا فاعلا وإيجابيا في وعي الجماهير وتوجيه هذا الوعي في تحقيق واقع الاصلاح والتغيير، وليس تحقيق مصالحه الخاصة. فالشعبوية ليست شر مطلق ولا خير مطلق، بل هي تعتمد كأداة فاعلة في التغيير، على الوعي وعلى معايير الخير والحق، وهي معايير على المثقف أولا استيعابها بشكل فاعل ، هذا إضافة إلى أن المسؤولية المكتنزة في داخل المثقف هي التي تدفعه لمواجهة القوة الخفية في الاجماع الشعبوي على قضية من القضايا، لأنها تعري مخاوفه النابعة من حب الانتماء للجماعة، والتي يرتفع منسوبها عند بروز إشكاليات اجتماعية يريد أن يواجهها بوعيه لا بوعي الإجماع الشعبوي، وتحت ضغط حب الانتماء والخوف من الإقصاء الاجتماعي والعزل التي تبرز عند الإجماعات الشعبوية وقوتها الخفية، فالمثقف عليه التخلي عن هذا الشعور الانحيازي للانتماء وحاجته له، وأن يواجه هذه القوة الخفية وهذه الحاجة الذاتية بفهم الواقع، وإدراك واقع هذه الإشكاليات وجذورها ومواجهة الإجماع الغير صائب، بالحقيقة والحلول التي تحل هذه الإشكاليات جذريا وليس ترقيعيا نزولا عند رغبة المجتمع، مراعيا في ذلك القابليات المختلفة في المجتمع، وموظفا خطابا يدركه الجميع، ومراعيا الرفق في طرح الحقيقة بتدرج لا يخل بالواقع وحقيقة الحلول.

“يؤكد مولر في كتابه[2] على ضرورة الحوار مع الشعبويين والإنصات لجمهورهم وعدم معاملتهم بدونية واحتقار، وهو ما يستلزم أيضاً محاولة فهم السياقات التي تدفع بالجماهير إلى الارتماء في أحضان الحركات الشعبوية، وهو تنبيه مهم في سياق مآلات الربيع العربي، خاصة وأن هذه المآلات السلبية في عدد من دول الربيع قد أدت بالعديد من النخب إلى تغليب الرأي القائل بأن الجماهير ميالة دائماً للعاطفة والعنف. فأحد المؤشرات المثيرة للاهتمام على هذه النظرة الدونية في الدول العربية هي الشعبية التي أصبح يتمتع بها في السنوات الأخيرة كتاب “سيكولوجية الجماهير” الذي صدر منذ أكثر من قرن للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون، وهو كتاب يؤكد على النوازع العاطفية والغرائز اللاعقلانية والتدميرية للجماهيرـ وهي رؤية  لا تخلو من التبسيط، وتؤدي في نهاية المطاف إلى نفس النظرة التحقيرية والمتعالية التي يحذر منها مولر”[3][4].

وللشعبوية اليوم أدوات عديدة وجديدة، فلم تعد الساحات العامة والأماكن الحساسة في البلد هي الساحات الفاعلة فيها تلك الجماهير، فاليوم هناك وسائل سهلة جدا ومتوفرة بشكل كبير لدى الجماهير، أهمها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى منابر صوتية، يمكن من خلالها تشكيل رأي عام ضاغط يدفع باتجاهات غالبا صوتية غير مدروسة، وتكون في كثير من الأحيان مؤثرة في قرارات أي سلطة، دينية كانت أو ثقافية أو سياسية.

فبعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد صناعة الوعي محصورة دون صدى، بل باتت تفاعلية ذات صدى عالمي، يتفاعل فيها الأفراد من المجتمعات المختلفة تفاعلا تواصليا ينعكس على حركة الوعي الفردي والاجتماعي، وتتواصل فيها مكونات المجتمع كافة بشكل مباشر وإن افتراضي مع النخب من العلماء والمثقفين والمفكرين والأكاديميين، وتطرح الأسئلة بكافة إشكالها دون حرج، ويتم التفاعل مع هذه الحوارات والآراء بشكل مفتوح وواسع وكبير جدا.

ويتم من خلال هذا التفاعل تشكيل حركة موجية تتسع بشكل سريع ومتدرج تنتقل فيها الآراء والمعلومات بسهولة، ويتشكل خلالها وعي غير مكتمل، كون هذه المنصات إما تتحكم بها قوانين معينة أو محددات تمنع من تعميق الأفكار وتكاملها، وتطرح رؤوس أقلام تتحول ضمن ثقافة الجمهور إلى مسلمات دون فحص كل جوانبها ومبانيها وزوايا النظر فيها. فيتم تلاقف الآراء التي قد يكون مصدرها مجهولا أو منسوبا لشخصيات موهومة، يتم تناقل هذه الأفكار كمسلمات معرفية، بسرعة كبيرة تنتشر في مساحات وعي الجمهور وتشكل إما معول هدم وتبديل، أو معول بناء وتطوير، ويعتمد ذلك على نوعية الأفكار، ومستوى وعي الوسط الاجتماعي المطروحة فيه، ومدى فاعلية النخب وقدرتها على تفنيد تلك الأفكار ومواجهة غثها وسمينها.

وفي دراسة للمركز الديموقراطي العربي بعنوان : “دور مواقع التواصل الاجتماعي في السياسة الدولية” يذكر: “لقد أحدثت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي ثورة في عوالم الاتصال والتواصل والمعلومات ، ومست بقوة بمنظومات القيم الاجتماعية والثقافية وتدخلت على نطاق واسع في تغيير البنى والمؤسسات السياسية وفي حتى التلاعب بموازين القوى السائدة ، فقد أجمع خبراء الاتصالات على أن دخول أدوات الاتصال الجديدة إلى مجتمع ما ، يؤدي حتما إلى تعديلات وتأثيرات في منظومة القيم الإجتماعية مما ينعكس على النظام السياسي الداخلي ، وعليه فمنذ انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الانترنيت والمتضمنة(face book  &Twitter & YouTube)    وإلى حد هذه اللحظة بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم إلى ما يقارب ٤ مليارات مستخدم يملكون حساب وصفحة، سواء أكان هذا الحساب في الفيس بوك أو التويتر او الانستغرام أو حتى تطبيقات الأندرويد )فايبر و واتس اب وتليغرام ..الخ( ، حيث لاتزال هذه الوسائل تلقي الرواج والانتشار السريع لأنها اصبحت )ثورة العصر) أولاً ، وثانياً هناك من وضع الخطط لنشرها عن طريق توفيرها بأسعار زهيدة الثمن وتكاد تكون مجاناً ، ولذلك يختلف تعامل الدول والمجتمعات مع هذه الأدوات التواصلية من دولة لأخرى، وذلك حسب نظامها السياسي وأيديولوجيتها ودرجة حساسيتها الثقافية والسياسية”[5] .

“أن الابعاد الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي والتي لا تنشأ في الأصل من فراغ وإنما تخضع الى اعتبارات إيديولوجية فمؤسسو الشبكة سواء كانوا أفراداً أو جماعات يتبنون أفكاراً معينة، وتنشأ بناء على هذه أفكار الشبكة )نموذج شبكة الفيس بوك( ، وهذا لا يعني أن هناك حالة سكونية في البناء الشبكي، إذ قد تتغير الوجهات الفكرية لمؤسسي الشبكة تبعاً لتغيير الإيديولوجيا المسيطرة على تفكريهم، خاصةً أن الإيديولوجيات ليست حتمية ولذلك ظهرت محددات تبرز الطابع الإيديولوجي للشبكات الاجتماعية ومنها:

١. الإيديولوجيا السياسية وما يدور حولها من أحداث، أذ أصبحت هذه الشبكات أشكالاً من المداولة والنقاش حول الشأن العام، وسمحت للنخب تجاوز أليات تغيبها في المجال العمومي التقليدي الذي تسيطر عليه الدولة.

٢. الشبكات الاجتماعية لا تعمل بمعزل عن سياقها أي (المجتمع الافتراضي (، و إذا كانت الفرضية الأساسية للمجتمع الافتراضي منذ نشأته ترتكز على مشاركة الاهتمامات، فإن الأفراد أو الجماعات عند النفاذ إلى الشبكات الاجتماعية، يحتكمون إلى الاهتمامات التي تعد بدورها محدداً إيديولوجياً ينطوي على عنصر اختيار، يستمد مرجعيته من الأطر الفكرية الحاكمة للمستخدمين.

٣. إن الشبكات الاجتماعية أفرزت أشكالاً جديدة من الفعل الجماعي، وخلقت فضاءات بديلة اقتضت جماعات افتراضية، وتكونت حولها مشاغل مشتركة سياسيه واجتماعية وفنية ورياضية ومهنية تنطلق من أيديولوجيات متعددة.

بروز قادة رأي عام حدد لهم منابر إعلامية وتقنياتهم الخاصة لحشد الجماهير وتعبئة الأفراد ،وقد تكون هذه من أهم المحددات الإيديولوجية للشبكات الاجتماعية ، وذلك لكون قادة الرأي العام في مواقع التواصل يؤثرون بالمجتمع، وأصبحوا فاعلون باستطاعتهم أن يغيروا في الحياة ألاجتماعية والسياسية والثقافية ، ومع هذا وفي ظل تحولات العالم سياسية وخصوصا الواقع العربي برز فاعلون جدد من مختلف دول العالم، لا يأخذون جهداً في التسلسل للمجتمع الشبكي والذي أصبح نظاماً للعلاقات السياسية والاجتماعية والإنسانية والاتصالية ومتحكما فيها أيضا ، إذ يحاول هؤلاء استغلال أية وسيلة أو منصة لتكون وسما لهويتهم[6].

“من الناحية السيسيولوجية، فأن دخول التكنولوجيا الرقمية في المجتمع حوّل التفاعلات بين الإفراد ووسطهم الاجتماعي، لكن التطورات الاجتماعية بقيت مستقلة عن التقنية نفسها، فالإنترنت والهواتف المحمولة لها قدرة فائقة على محو الحدود بين الفضاءين العام والخاص واختصار المسافات واختزال الوقت، مما يجعل العمل الجماعي أكثر فعالية وتأثيراً، أي أنهما يسمحان بالاتصال بين عدد غير محدود بين المساحات الجغرافية وتبادل المعلومات وتنظيم اللقاءات والأنشطة وتوفير الفرصة بغض النظر عن المسافة وطبيعة المكان ما بين الأفراد، فالتقنية نفسها ليست من يحول العلاقات الاجتماعية بل أن طريقة استخدامها هي التي تحفّز القوى التي كانت موجودة أساساً في المجتمع قبل انتشارها وتجعلها راهنة، أنهم المستخدمون أو المستهلكون أو المستعملون الذي يستخدمون التقنية لأغراضهم وليس العكس (Ayari & Geisser, 2011, 47)”.

وتخضع أيضا هذه الوسائل لقانون الشعبوية، كون نوعية المطروح كما أسلفنا خاضع لمستوى وعي وثقافة الجمهور، الذي غالبا لم يعد محليا خاصا، بل تجاوز التفاعل خارج الحدود الجغرافية، وتحول لتفاعلات مفتوحة الفضاء, مختلفة الثقافات والأفكار والإيديولوجيات، لكن أحد أهم إشكاليتها أنها غير مكشوفة الهوية، أي أن حقيقة المتحدث غير معروفة وقد تكون افتراضية غير واقعية، وتكون خلف هذه المنصات مجموعات أو قيادات مؤدلجة وموجهة، وطبعا هنا تصبح المساحات مختلفة وبالتالي يصبح الخطاب الموجه أشمل وأعمق ويتطلب دراية أكبر، وهو ما لا يمكن للمثقف الفرد القيام به منفردا، بل هذه المواجهة تتطلب المثقف المؤسسة، بمعنى قيام مؤسسات أهلية من أعضاء مثقفين ومراكز رصد ودراسة وتوثيق، لمتابعة آخر المعطيات الثقافية والإشكاليات التي تواجه المجتمعات في مواقع التواصل الاجتماعي، مضافا لوظيفتها الداخل محلية الخاصة بها، لذلك لم يعد مفيدا مواجهة الشعبوية مواجهة فردية من قبل المثقفين منفردين، بل على المواجهة أن تكون مؤسساتية توزع فيها الأدوار والمهام، وقائمة على أساس عمليات كالمراقبة والرصد والمعلومات ، ليستطيع المثقفين من تحليل المعلومات المقدمة ورصد الإشكاليات وفقها، وتقديم معالجات واقعية وعصرية، وهنا لا نعني بالمواجهة الصدام مع الشعب أو الجمهور المتكتل بعنوان قضية موحدة، بل نعني مواجهة الشعبوية معرفيا وإعادة صياغة وعي وازن يقلل من سلبياتها ويدفع لرفع أرصدتها الإيجابية في حركة المعرفة والتغيير والوعي. وهناك شعبوية إيجابية سأقوم بعمل إطلالة سريعة عليها. وهذه المؤسسات قد تتبناها الدولة وتفرض عليها سياق معرفي محدد وموجه، وقد تتبناها شخصية اقتصادية وتفرض وجهتها السياسية والمعرفية، وقد تتبناها مؤسسات دينية وكذلك تفرض نسقها المعرفي، ولكل الحق في التصدي، لكن في واقع الأمر معالجة هذه الإشكالية بدون تحيز معرفي، يتطلب تصدي النخب من المثقفين المستقلين، الذين يحملون هم المعرفة والوعي خارج نطاق التحيزات المعرفية خاصة السلبية منها.

خاتمة:

هناك عوامل مهمة في بناء علاقة سليمة بين المثقف والمجتمع هي:

١. إن وظيفة المثقف ومسؤوليته تفرض عليه أن يكون كفؤا في إنجاز مهمته، هذه الكفاءة تتطلب منه فاعلية على مستواه الشخصي من حيث السعي المستديم في طلب المعارف وتوسيعها، وإدراك الإشكاليات الاجتماعية إدراكا مجملا يمكنه من خلاله أن يشخص الخلل ويضع الحلول. مسؤوليته أولا لبناءه الذاتي ليكون كفؤا للتصدي الاجتماعي، وثانيا بناء المجتمع معرفيا، وهذا متوقف على كفاءته التي من خلالها سيصنع جسور ثقة تعزز من مصداقيته اجتماعيا، خاصة عندما يربط قوله بفعله، وهذه المصداقية تؤثر بفاعليته الاجتماعية وتأثيره في وعي المجتمع.

٢. الصدق من أهم ما يجب أن يتحلى به المثقف، صدقه مع ذاته من جهة، وصدقه مع مجتمعه من جهة أخرى، وهذا الصدق يحتم عليه عدم محاباة المجتمع والنزول عند ما يريده دون تصويب ونقد وتقييم وتوجيه، فقط يكون ما يريده المجتمع حقا ولكن يحتاج أن يصوب بطريقة مدروسة لتحقيق الهدف، ويحتاج أن تستخدم طرق وأدوات سليمة، لذلك المثقف يجب أن لا يحقق رغبة الجمهور تحت ضغط الجمهور عليه، أو بحجة الإسقاط والتشهير الاجتماعي، لأن من مصاديق صدق المثقف هو صدقه مع مجتمعه في كشف الواقع والحقيقة كما هي، لا كما يريده الجمهور.

٣. الاستعداد لتقديم التضحيات لأجل مسيرة الوعي، وصيرورة المجتمع في طريق الوعي، وعدم الالتفات للمصالح الشخصية والمكاسب الذاتية في هذا الطريق.


[1] من كتاب المثقف وجدلية القهر والاستبداد/إيمان شمس الدين/ ص ٢٤٢-٢٤٩+ ٣١٦/ دار الانتشار العربي ط١/ بيروت

[2] راجع الهوامش في في هذا الكتاب

[3] http://www.al-jazirah.com/2018/20180213/ar7.htm

[4] رغم أن كتاب “سيكولوجية الجماهير” قد صدر سنة 1895، وتلته انتقادات عديدة منذ مراجعة سيغموند فرويد لنظرية لوبون سنة 1921، من المثير للانتباه ملاحظة شعبية كتاب لوبون على مواقع التواصل الاجتماعي في الدول العربية، وكذلك توالي الطبعات العربية للكتاب، حيث صدرت منذ سنة 2011، أي سنة الربيع إلى اليوم أكثر من ست طبعات. كمثال على استعمال كتاب لوبون للتعبير عن نظرة دونية للجماهير تبرر في نفس الوقت النخب الحاكمة في الدول العربية، انظر: رجاء العتيبي، “سيكولوجية الجماهير”، 13 فبراير 2018.

[5] مجلة اتجاهات سياسية – العدد الأول ديسمبر – كانون الأول – سنة “2017” احدى اصدرات

المركز الديمقراطي العربي

[6] بابكر مصطفى، معتصم /أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام/ مركز التنوير/ الخرطوم/ 2014/ ط 1/ ص 191-192.

[7] التحولات في النظام العربي: الجذور والأسباب وتحديات بناء الدولة العصرية / د. حسن عبدالله جوهر ـ أ. د. غسان العزي

قسم العلوم السياسية/جامعة الكويت

اطلع على المصدر

استثمار أموال صندوق الزكاة في المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية

(دراسة شرعية )/ محمد جقدان*

المقدمة:

يعتبر السعي إلى ربط  التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية؛ أحد أهم الأهداف التي وضعت لها المصارف المؤسسات المالية الإسلامية ، وذلك أن الإسلام نظام شامل ومحكم؛ قادر على تنظيم كل جوانب الحياة، وكل ما تطرح من عوائق و مشكلات، ومن أعظم جوانب الحياة، و أكثرها حساسيّة وتأثيرا على  حياة الفرد و المجتمع؛هو الجانب الاقتصادي الذي هو الآخر لاقى نصيبه  من التقعيد، و التقنين و التنظيم، و من أبرز تلك النظم؛ و أهمها على  الإطلاق نظام الزكاة الذي يعتبر وسيلة مهمّة للقضاء على الفقر و السعي إلى مكافحته، لإحداث توازن اقتصادي داخل المجتمع المسلم مما يحقق التنمية،ويساعد على رفع  مستوى دخل الفرد، خاصة في الطّبقات الأكثر هشاشة في المجتمع.

وليس ثمّة شك أن صناديق الادخار، والصناديق التعاونية، لها دور كبير في تطوير و تنمية الاقتصاد، و من أهم هذه الصناديق، صندوق الزكاة، ذلك لما  يمثله من تعاضد و تعاون بين طبقات المجتمع المختلفة؛  فهو يقوم باستثمار أموال الزّكاة بما يعود بالنفع على المستحقين الشرعيين.

و يمثل استثمار المصارف الإسلامية لأموال صندوق  الزكاة، دورا  فعّالا في التنمية، من خلال زيادة نسبة التشغيل، وتوفير التمويل اللازم لأصحاب المشاريع الاستثمارية،و زيادة الناتج المحلي، و امتصاص نسبة البطالة،كما  يساعد كذلك في الارتقاء بمستوى المعيشة للمجتمع،  و إشباع الحاجات الأساسية له، بما توفر تلك المشروعات من سلع، و خدمات أساسية، مع توفير الأرباح لمستحقي الزكاة الشرعيين،  ليتم توزيعها عليهم بشكل مستمر عند كل دورة إنتاجية، لكنه في نفس الوقت يجب أن لا نخرج عن الإطار الشرعي للتصرف بأموال الزكاة، فالتسليم الفوري؛ و قضيّة التمليك الفردي؛ أمران لا يمكن تجاهلهما في  هذا الأمر، لأن ذلك يخرج الزكاة عن مقصدها الشرعي.

1-1-مفهوم الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي :

الاستثمار في اللغة هو: طلب على الثّمار، و ثمار الشيء، ما ينتج عنه و تولّد عنه.[1]

و قال في القاموس المحيط:  ثمّر الرجل ماله نمّاه وكثّر هو أثمر كثر ماله.[2]

يعتبر الاستثمار مصطلح حديث في الاقتصاد الإسلامي،  حيث لم يكن يعرف في الفقه الإسلامي؛ كمصطلح لتنمية المال و تكثيره، ولذلك لا يختلف مفهوم الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي عن مفهومه في الاقتصاد الوضعي،لأن مصلح الاستثمار ظهر في الاقتصاد الوضعي، إلا أنه سرعان ما أصبح مصطلحا علميا متداولا في جميع المذاهب الاقتصادية.

وعرّف العلماء و الباحثون الاستثمار عدّة تعريفات منها تعريف السيد الهواري، الذي يعرّف الاستثمار بأنه :”توظيف النقود إلى أجل في أصل أو حق ملكية، أو ممتلكات أو مشاركات محتفظ بها للمحافظة على المال أو تنميّته سواء بأرباح دورية، أو بزيادة في قيمة الأموال في نهاية المدة، أو منافع غير مادية”[3]

كما يعرّفه شوقي أحمد دنيا بأنه:” جهد واع رشيد يبذل في الموارد المالية،  و القدرات البشرية؛ بهدف تكثيرها، و تنميّتها، والحصول على منافعها، وثمارها”[4]

1– 2-مفهوم المصارف الإسلامية:

المصرف لغة اسم مشتق من الصرف؛ و هو المكان الذي يتم فيه الصرف[5]،و الصرف في اللغة:”هو رد الشيء عن وجهه[6]، و هو مبادلة  عملة وطنية بعملة أجنبية “[7]

أما في الاصطلاح فيعرّف على أنه: “كل  محل تجاري، يقوم بتجارة المعادن النّفيسة والنقود، و الأوراق ذات الحقوق النقديّة ، و رؤوس الأموال، و من تعزوهم تلك الأموال من هيئات، وشركات،وتتسلم ودائع الناس وتستثمرها”[8]

و يعّرف كذلك بأنه :”مؤسسة  أو شركة مساهمة؛ مكوّنة لغرض التعامل في النقود، و الائتمان،فهو يقدم مكانا آمنا للودائع النقدية، و يمنح السّلف النقدي، و يصدر الأوراق المالية، وغيرها من الوظائف التي تقوم بها”[9]

و هذه التّعريفات لمفهوم المصرف بشكل عام، أما المصرف الإسلامي فيعّرف بأنه: “مؤسسة مالية مصرفية لتجميع الأموال، و توظيفها في نطاق الشريعة الإسلامية،بما يخدم بناء مجتمع التكافل الاجتماعي، وتحقيق عدالة التوزيع، ووضع المال في مسار إسلامي”[10]

1-3-مفهوم الزكاة:

الزكاة لغة:

جاء في معجم مقاييس اللغة: الزّاي و الكاف و الحرف المعتل أصل  يدل على نماء و زيادة، والأصل في ذلك كلّه راجع إلى معنين، وهما النّماء والطهارة.[11]

و الزكاة صفوة الشيء، و ما أخرجه من مال لتطهيره.[12]

الزكاة في اصطلاح الفقهاء:

عرّف فقهاء المذاهب الزكاة بتعاريف متعدّدة مختلفة في المباني  متحدة في المعاني، و من هذه التّعريفات:

تعريف الحنفية:

تمليك جزء مال عيّنه الشارع من مسلم فقير،غير هاشميّ، و لا مولاه، مع قطع المنفعة عن الملك من كلوجه لله تعالى.[13]

تعريف المالكية:

جزء من المال شرط وجوبه لمستحقه،ببلوغ المال نصابا.[14]

تعريف الشافعية:

اسم صريح لأخذ شيء مخصوص، من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة، لطائفة مخصوصة.[15]

تعريف الحنابلة:

حق واجب في مال مخصوص، لطائفة مخصوصة، في وقت مخصوص.[16]

1-4-مفهوم صندوق الزكاة:

يعّرف صندوق الزكاة بأنه : “صندوق خاص تضعه أي منظمة، لغرض جمع الزكاة، و توزيع أموالها، ويكون مستقلا بحساباته، عن حسابات المنظمة، وذلك للطبيعة الخاصة لهذا الصندوق؛الذي تكون موارده محددة، ومصاريفه معينة”.[17]

و تعتبر المصارف الإسلامية من المنظّمات التي تنشئ صناديق الزكاة، و تشرف على إدارتها بغية تحصيل الزكاة، وإيصالها إلى مستحقيها الشرعيين، و من أمثلة ذلك؛ بنك دبي الإسلامي الذي ينص عقد تأسيسه على إنشاء صندوق الزكاة؛ حيث نصت المادة : 72 و ما بعدها على ما يلي:” أن الشركة تنشئ صندوق  الزكاة ملحقا بها، و منفصلا في حساباته، و إدارته عنها لإخراج الزكاة المستحقة،  كما تقبل فيها الزكاة من المساهمين، والمودعين والغير، وللشركة أن تدعو المودعين، و الغير بإنابة الصندوق عنهم في إخراج زكاة أموالهم حسب ما تقرر هيئة الفتوى، و الرقابة الشرعية”[18]

2- موارد صندوق الزكاة:

لصندوق الزكاة ميزانية منفصلة، و تقرير مالي خاص به، و ذلك بسبب خاصة الاستقلالية التي يتمتع بها الصندوق، و يمتلك موارد خاصة و منفصلة عن أموال المصرف، و حساباته وهي في مجملها تمثل أموال الزكاة لكنها ترد من مصادر مختلفة وهي:

2-1-زكاة أسهم المصرف:

لا شك أن زكاة أموال المساهمين، من الموارد الرئيسية لصندوق الزكاة، فعند نهاية كل سنة مالية،  يقوم المصرف الإسلامي باقتطاع الزكاة المستحقة؛ من  أموال أصحاب حقوق الملكية؛ ويتم دفعها في حسابات صندوق الزكاة، و هي الزامية الأداء بخلاف زكاة المودعين، وغير المتعاملين مع المصرف، لأن الصندوق لا يمكن أن يأخذ زكاتهم إلا بإذن منهم، لأن أموالهم لا تدخل في ملكية  المصرف.

2-2-زكاة حسابات الودائع:

تعتبر حسابات ودائع  الاستثمار، موردا أساسيا من موارد صندوق الزكاة، و ذلك عن طريق خصم الزكاة المستحقة شرعا من الأرباح التي حققتها هذه الحسابات،هذا بالإضافة إلى حسابات الودائع الأخرى، التي حال عليها الحول،[19] و كانت قد بلغت حد النصاب الذي تجب فيه الزكاة، وهي اختيارية الأداء بالنسبة لصندوق الزكاة، لأن أصحاب هذه الحسابات لهم الخيّار في وضع زكاة أموالهم حيث شاؤوا.

2- 3-زكاة الأموال الخارجية عن حسابات المصرف:

يضع المصرف الإسلامي حسابات صندوق الزكاة مفتوحة لغير المتعاملين معه من أهالي المنطقة التي ينشط فيها، و ذلك لوضع زكاتهم ليقوم المصرف بتوزيعها و إيصالها إلى مستحقيها، كما يخوّل له استثمارها فيما يخدم ويحقق مصلحة المستحقين للزكاة، وذلك بعد إيصالها إليهم وإذنهم في استثمارها بعد ذلك.

وفي المذهب أنها لا تنقل، و إنما تفرّق على مستحقيها على الفور؛ في الموضع الذي أخذت منه، و لا يجوز نقلها فيما تقصر فيه الصلاة،  إلا إذا نقلت للأعدم الذي لا يقيم  في محل الوجوب، و تنقل كذلك للأقرب، وينقل له أكثرها وجوبا، كما نص على ذلك فقهاء المذهب ، ويقدم فيها الأقرب على باقي القرابة ، تجزئ إذا نقلت كلها،أو فرقت جميعها في موضع الوجوب.[20]

2-4-الهبات و حسابات الاستثمار الخيرية:

من موارد صندوق الزكاة، والتي ليست من أموال الزكاة، تلك  الهبات التي يضعها أصحابها في حسابات صندوق الزكاة، من أجل إنفاقها في العمل الخيري، و كذلك حسابات الاستثمار الخيرية التي تمثل عوائد الصدقات الجارية التي تدفع أموالها إلى صندوق الزكاة لدعم الفقراء والمساكين،وغير ذلك من أوجه الصرف الخيري.

3-الحكم الشّرعي لاستثمار أموال الزكاة:

3-1-حكم استثمار أموال الزكاة في المذاهب الأربعة:

لم نجد الفقهاء القدماء قد  تعرضوا لمسألة استثمار أموال الزكاة، و لكنهم  وضعوا ضوابط من شأنها أن تمنع استثمار هذه الأموال،  كمسألة الفورية، وقضية  التملك الفردي .[21]

فذهب الجمهور المالكية ، و الشافعية، و الحنابلة، و بعض الحنفية، إلى وجوب فورية أداء الزكاة، واختار الحنفية القول بأن تؤدى الزكاة على التّراخي، وهي عندهم  تجب وجوبا موسعا.

مذهب الجمهور:

رأي الماليكة:

ذهب المالكية  إلى أن الزكاة واجبة على الفور، يقول الدّسوقي في الشرح الكبرى  : “و أما بقاؤها عنده و كل ما يأتيه أحد يعطيه منها فلا يجوز”[22]

و قال أيضا: “وجب تفريقها على الفور،بموضع الوجوب، و هو الموضع الذي أخذت منه”[23]

لأنه من المطلوب و الضروري أن توزّع الزكاة في البيئة الاجتماعية؛ التي تنشط فيها الأموال المزكاة،وتظهر فيها حركتها الاقتصادية، و ذلك سعيا في حصول تكافل اجتماعي، وإحداث توازن اقتصادي في تلك البيئة.

رأي الشافعية:

ذهب الشافعية إلى وجوب أداء الزكاة على الفور، و عدم جواز تأخيرها،يقول النووي في روضة  الطالبين وعمدة المفتين أثناء كلامه عن أداء الزكاة: “وهو واجب على الفور ثم الأداء يفتقر إلى فعل ونيّة”[24]

رأي الحنابلة:

يرى الحنابلة وجوب أداء الزكاة فورا، و لا يجوز عندهم تأخيرها،جاء في المغني لابن قدامة : “وتجب الزكاة على الفور،فلا يجوز تأخير إخراجها مع القدرة عليه، و التّمكن منه، إذا لم يخشى ضررا …، فإن أخرها ليدفعها إلى من هو أحق بها، من ذي قرابة، أو ذي حاجة شديدة، فإن كان شيئا يسيرا فلا بأس، وإن كان كثيرا لم يجز”[25]

مذهب الحنفية:

ذهب بعض الحنفية إلى القول بعدم وجوب الفوريّة في أداء الزكاة ،  بينما اختار  البعض منهم القول بجوبها.

جاء في بدائع الصّنائع:” وأما كيفيّة فريضتها، فقد اختلف فيها،  ذكر الكرخيّ أنها على الفور،  و ذكر الجصّاص أنها على التّراخي، و ذكر أبو عبد الله البلحي من أصحابنا، أنها تجب وجوبا موسعا”[26]

فمسألة الفورية يمكن أن يتغلّب عليها من خلال إيصال جزء من أموال الزكاة؛ للمستحقين  لسدّ حاجاتهم الملحة العاجلة، بينما يستثمر الجزء المتبقي، ليعود عليهم بأرباح بشكل دوري خلال كل سنة مالية، مما يساعدهم على حل مشكلاتهم الاقتصادية بشكل مستمر، بدلا من إعطائهم مبغا ماليّا دفعة واحدة ، كما هو معروف في دفع الزكاة العادي.

3-2-حكم استثمار أموال الزكاة عند الفقهاء المعاصرين:

اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار أموال الزكاة،فذهبت طائفة إلى القول بالجواز،في حين أن البعض الآخر اختار القول بمنع استثمارها.

3-2-1-الرأي القائل بالجواز:

و هو ما ذهب إليه بعض المعاصرين، من أمثال  يوسف القرضاوي، عبد الله الخيّاط، ومصطفى الزّرقا، وعثمان شبير، و محمد عبد اللطيف الفرفور، وغيرهم .

يقول يوسف القرضاوي : ” بناء على هذا المذهب، أي مذهب إغناء الفقير من الزكاة؛  تستطيع مؤسسة الزكاة إذا كثرت مواردها و اتسعت حصيلتها أن تنشئ مؤسسات تجارية ،أو نحو ذلك من المشروعات الإنتاجية الاستغلالية، وتمليكها للفقراء كلها أو بعضها لتدرّ عليهم دخلا ،  يقوم بكفايتهم كاملة، ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيّتها لتظلّ شبه موقوفة عليهم”[27]

ليس من المعقول تحويل الزكاة إلى وقف، لأن ذلك يخرج الزكاة عن مقصدها الشرعي، فالتمليك الفردي، والإيصال الفوري؛ مسألتان لا يمكن تجاهلهما في هذا الباب، وحتى لو أخذنا بالتّراخي في إيصال الزكاة الذي يقول به بعض الحنفية، إلا أن قضية التمليك الفردي مسألة لا يمكن تجاهلها في الزكاة.

ويقول عبد الله الخيّاط :” لذلك فإني أؤكد  لهذه الأسباب وغيرها، ضرورة توظيف و استثمار بعض أموال الزكوات في المشروعات الخيرية، والصناعية والتجارية، لصالح  جهات الاستحقاق في الآية  الكريمة، ولاسيّما من جهات العاملين عليها، و الغارمين، و الرّقاب، و ابن السبيل، وفي سبيل الله”.[28]

و في ضرورة استثمار أموال الزكاة، يقول مصطفى الزّرقا :” الاستثمار الذي هو تنميّة المال…، أرى أن كل طرق الاستثمار بمعنى أن يوضع في طريق ينمو به مال الزكاة، فيصبح الواحد اثنين و الإثنان ثلاثة…، و على شرط أن تمارسها أيد أمينة، و أساليب و تحفظات مأمونة، كل هذا جائز، سواء أكان عن طريق تجارة،أم عن طريق الصناعة، أم عن طريق أي شيء يمكن أن يستثمر”.[29]

يقول محمد عثمان شبير:” فإذا جاز استثمار المال الخاص بدون إذن صاحبه، جاز للإمام أو نائبه استثمار المال العام؛ بدون إذن من له نصيب من هذا المال؛ لأن الإمام له حق النظر، و التصرف بالمال بما يحقّق المصلحة للمستحقين، و يرفع الضرر عنهم”[30]

و بهذا الرأي كذلك أخذ بيت التمويل الكويتي، و الهيئة الشرعية لبيت الزكاة الكويتي.[31]

وهذا القول أخذ به و أقره مجمع الفقه الإسلامي، في دورة مؤتمره الثالث بعّمان في الأردن، من 8-13، صفر 1407هـ، الموافق 11-16 تشرين الأول أكتوبر 1986م، حيث قرر ما يلي:[32]

يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية، تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة و توزيعها، على أن يكون تلبيّة الحاجة الماسة الفوريّة للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.

كما أقرت النّدوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة بجواز استثمار أموال الزكاة ، وهي الدورة المقامة بدولة الكويت من 8-9 جمادى الآخر1413هـ ،الموافق 2-3 ديسمبر 1992م وبعد نقاش المشاركين في النّدوة البحوث المقدّمة إليهم في موضوع استثمار أموال الزكاة قرّرت اللجنة ما يلي:[33]

تؤكد النّدوة قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم : 3، 86، 3/7 ، بشأن توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع، و أنه جائز من حيث المبدأ بضوابط أشار القرار إلى بعضها.

يجوز استثمار أموال الزكاة بالضوابط التالية:

  • أن يتحقّق من الاستثمار مصلحة حقيقية راجحة للمستحقين، مثل تأمين مورد دائم لمساعدة هؤلاء المستحقين، أو زيادة أموال الزكاة في حال قلّتها، و أن تكون المنفعة المستحقّة من تلك المشاريع، ضمن إطار الحاجات الأصلية، التي يجب تأمينها من الزكاة، كالمطعم والملبس و المسكن و العلاج و سائر ما لا بدّ منه، و لابدّ أن يقدّر وجود المصلحة ويقدّرها من هو أهل لهذا الأمر.

أن لا تصرف جميع أموال الزكاة في المشاريع الاستثمارية، فلا بد من تحويل جانب منها إلى وجوه الصرف العاجلة، التي تقتضي الصرف الفوري لأموال الزكاة.

أن تستثمر أموال الزكاة بالطرق المشروعة ، وفي المجالات المشروعة، فلا توجّه إلى الاتجار بالمحرّمات،أو التعامل بالربا ، فهذا ممنوع في الاستثمار عامة ، وهو في أموال الزكاة من باب أولى.

أن تتخذ جميع الإجراءات التي تضمن أن يكون الانتفاع بأصل المشاريع، و ريعها محصورا على المستحقين  للزكاة، دون سواهم، فلا ينتفع بها الأغنياء إلا بمقابل مادي ينفق في مصالح المشروع.

أن يسند أمر الإشراف والإدارة على المشاريع إلى ذوي الكفاءة والخبرة الاقتصادية، والأمانة الدّينية، و يمكن أن يشرك عدد من المزكين ذوي الخبرة في مجلس إدارة المؤسسة، فهذا يزيد من اطمئنانهم على الزكاة، و يزيد من ثقة دافع الزكاة.

أن يسبق إنشاء أي مشروع القيام بدراسة جدوى  تضمن أن الربح متحصل ولو بأغلب الظن، أما إذا كان احتمال الخسارة عاليا و نسبة المخاطرة كبيرة فلا يجوز البدء بمثل هذه المشاريع.

أن يكون بالإمكان تنضيض المشروع في أي وقت،و التّضيض هو: تحويل الأعيان إلى نقود ببيعها مثلا إذا بيع المشروع، أو صفّي لأي سبب، يصير ثمنه وكلما بقي منه ضمن أموال الزكاة،  حيث يؤول إلى مستحقي الزكاة  كالمعتاد.

أن تملك هذه المشاريع لجهة إسلامية موثوقة ، وأن تتخذ كافة الإجراءات  القانونية الممكنة، التي تضمن بقاء ملكيّة أموال الزكاة لتلك الجهة ،حتى لا تضيع أصولها ولا تتحول إلى جهة أخرى غير مستحقة للزكاة.

وبخصوص تمليك الزكاة،ومدى جواز إقامة المشاريع بأموال الزكاة، قرّرت اللجنة ما يلي:

التمليك في الأصناف الأربعة الأولى المذكورة في آية مصارف الزكاة  شرط في إجزاء الزكاة، والتمليك يعني دفع مبلغ من النقود، أوشراء وسيلة إنتاج،  كالآلات  الحرفية، و أدوات الصّنعة، وتمليكها للمستحق القادر على العمل.

يجوز إقامة مشروعات إنتاجية من مال الزكاة، و تمليك أسهمها لمستحقي الزكاة، بحيث يكون المشروع مملوكا لهم يديرونه بأنفسهم، أو من ينوب عنهم، و يقتسمون أرباحه.

يجوز إقامة مشروعات خدميّة من مال الزكاة، كالمدارس، و المستشفيات، و الملاجئ ،والمكتبات بالشروط التالية:

ي ستفيد من خدمات المشروع مستحقوا الزكاة دون غيرهم، إلا بأجر مقابل لتلك الخدمات يعود نفعه على المستحقين.

و قد استدلّ القائلون بجواز استثمار أموال الزكاة بأدلة منها:

  1. القياس على استثمار أموال الأيتام مخافة أن تأكله الصدقة ، قال صلى الله عليه وسلم :” من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة”[34]
  2. أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي رضيّ الله عنه دينارا يشترى له به شاة، فأشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار، وجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه.[35]
  3. 3       -أنه صلى الله عليه  وسلم و خلفائه الراشدين كانوا يستثمرون أموال الصدقات و يشرفون على تنميتها وحفظها، و من ذلك ما رويّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخّص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتـوا إبل الصدقة فشربوا من ألبانها و أبوالها فقتلوا الراعي و استاقوا الذّود فأرسل رسول الله صلى الله عليه  وسلم،  فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم و سمّر أعينهم و تركهم في الحرة يعضّون الحجارة.[36]
  4. 4       -استدلوا بما جاء في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله  و عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبو موسى الأشعري، و هو أمير البصرة،فرحب بهما  و سهل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى : ها هنا مال من مال الله، أريد أن أبعث  به إلى أمير المؤمنين، أسلفكما، فتبيعان به متاعا من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، فتأديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، و يكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك ففعل، و كتب  إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكلّ الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما ؟  قالا :لا ،فقال عمر بن الخطاب إبنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أدّيا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت،فأما عبيد الله ، فقال:ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال ، أو هلك لضمنّاه، فقال: عمر أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين ، لو جعلته قراضا، فقال عمر: قد جعلته قراضا ، فأخذ رأس المال و نصف ربحه، و أخذ عبد الله وعبيد الله،ابنا عمر بن الخطاب،  نصف ربح المال.[37]و وجه الاستدلال في الحديث أن ابنا عمر رضي الله عنهم استثمروا مالا من أموال الله تعالى، فهذا دليل على جواز مثل هذه الصورة،[38]  و ذلك أن أموال الزكاة إنما هي من مال الله تعالى.
  5. 5       -أنه لم يرد نص في كيفية صرف أموال الزكاة لمستحقيها الشرعيين، و إنما ترك ذلك للاجتهاد، مراعاة لتغّير أحوال الناس تبعا للزمان والمكان.و في ذلك يقول محمد عثمان شبير: “فإذا كانت الآية قد أغلقت باب الاجتهاد في مجال الزكاة على الأصناف الثمانية، إلا أنها لم تغلق الباب أمام الاجتهاد في كيفيّة حكم استيعاب الأصناف الثمانية،  كما اختلفوا في مقدار ما يعطى الفقير من الزكاة، و هل يكون الصرف على أساس التمليك أم لا ؟[39]
  6. 6       -تحقيق المصلحة للمستحقين، فاستثمار أموال الزكاة يؤدي إلى حصول المستحقين على أرباح  بشكل دوري، هذا بالإضافة إلى ما تخلّفه العمليّة الاستثمارية من  زيادة في نسبة الإنتاج، والمساهمة في القضاء على  البطالة،  و زيادة نسبة التشغيل في المجتمع.

يقول أحمد أزهر بشير: “ففي رأيي ليس هناك أي مانع شرعي لتوظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع، يقصد بها استثمار أموال الزكاة لصالح مستحقيها، و ذلك من باب المصلحة المرسلة”[40]

3-2-2-الرأي القائل بالمنع:

و هذا الرأي أخذبه كثير من المعاصرين من أمثال: وهبة الزحيلي، و عبد الله علوان، محمد قطب السيد،عبد الله بن بيّه، و آدم شيخ محمد، و محمد تقي العثماني.[41]

يقول محمد عطا السيد، مبينا رأيه بهذا الشّأن:” إذا كان يقصد استخدام أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع مع عدم فيضها على هذه المصارف التي حددها الله تعالى، لا أوافق على ذلك، و أرى أن هذا فيه مخالفة للنص، ومخالفة لروح التشريع”[42]

و يقول محمد تقي العثماني في ذلك:” و الذي ينبغي أن نبتّ فيه أولا، هو أن التمليك هل هو شرط واجب لأداء الزكاة أم لا ؟ و الذي أرى أن مسألة التمليك شرط لأداء الزكاة، و أن الأئمة الأربعة فيما أعتقد كلهم يشترطون التمليك الفردي لأداء الزكاة، و مادامت الزكاة عبادة، يجب علينا أن نحتاط فيه، و لكن الذي أراه أن التمليك المشترط في الزكاة ليس تمليكا جماعيا، يكون في بيت المال أيضا، ولو كان يجوز مثل هذا التملك في الزكاة؛ لما كان هناك معنى لتحديد مصارف الزكاة الثمانية “[43]

و يقول كذلك عبد الله بن بيّه :”  المهم أن المكلّف لا يبرأ إلا بأحد أمرين: بدفع المال للفقير، أو بدفع المال للإمام، لا نجد واسطة أخرى، لو دفعها إلى موكل و الصندوق كموكل،  لو دفعها لشخص آخر، فإنه لا يبرأ ما دامت الزكاة لم تصل إلى يد الفقير…، فيما يخص البند المتعلق  ( سبيل الله ) فيه كلام طويل في الحقيقة”[44]

وإلى القول بمنع استثمار أموال الزكاة ذهبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء في المملكة العربية السعودية.[45]

وهو كذلك ما أقره مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس عشر بمكة المكرمة،بدأت11 رجب 1419هــ، المواقف  31أكتوبر 1988م، حيث قرر ما يلي:.[46]

يجب إخراج أموال الزكاة على الفور، و ذلك بتمليكها لمستحقيها الموجودين وقت وجوب إخراجها، و الذي تولىّ  سبحانه تعيينهم بنص كتابه، قال عزّ شأنه:( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة 60

لهذا فلا يجوز استثمار أموال الزكاة لصالح أحد من مستحقيها، كالفقراء لما ينطوي عليه من محاذير شرعية متعددة منها: الإخلال بفورية إخراجها، و تفويت تمليكها لمستحقيها؛ وقت وجوب إخراجها، والمضارة بهم.

وأستدل القائلون بمنع استثمار أموال الزكاة بأدلة منها :

1-أن استثمار أموال الزكاة في المشاريع التجارية، و الزراعية، و الصناعية، من شأنه أن يؤدي إلى تأخر إيصال أموال الزكاة إلى مستحقيها، لأن عملية إنشاء المشروع الاستثماري تأخذ فترة قبل الحصول على العوائد المالية، لذلك المشروع رغم أن الفترة الزمنية تختلف حسب نوعية المشروع الاستثماري، و ذلك مما يخالف مسألة الفورية في إيصال الزكاة إلى مستحقيها، التي يقول بها جمهور الفقهاء.[47]

يقول آدم شيخ عبد الله :”إنني أرى أنه لا يجوز بحال أن نجعل سهم الفقراء،أو نقيم من سهم الفقراء؛ مشاريع ذات ريع بل نقضيه حالا، يعني نقضيه فوريا”[48]

2-أن استثمار أموال الزكاة يمنع من تمليك أموال الزكاة للمستحقين تمليكا فرديا،  فالتمليك شرط عند الجمهور، لأن الله تعالى أضاف لام الملك للمستحقين في آية الصدقات، يقول الله تعالى:( … لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ..) [التوبة: 60])

ويقول تقي عثمان:” و الذي أرى أن مسالة التمليك في الزكاة قد جرى فيها النقاش،  و لا يزال منذ سنين، و لكن الرأي السائد عند الفقهاء في السلف و الخلف، هو أن التمليك  شرط لأداء الزكاة “[49]

3-و يرى أصحاب هذا الرأي أن استثمار أموال الزكاة من شأنه أن يعرض هذه الأموال للخسارة و الضياع، و ذلك بسبب ما يعتري التجارة من إمكانية الربح و الخسارة.[50]

4-أن استثمار أموال الزكاة يؤدي إلى إنفاق كثير من هذه الأموال في العمليات  الإدارية للمشروع المستثمر فيه .[51]

5-أن أموال الزكاة تعتبر أمانة بالنسبة للمسؤولين عن إيصال الزكاة إلى مستحقيها،  فيدهم يد أمانة، و لا يحق لهم التصرف، بل عملهم هو حفظ هذه الأموال حتى يتم تسليمها إلى مستحقيها الشرعيين.[52]

يقول آدم  شيخ عبد الله: “أموال الزكاة أمانة في أيدي المسؤولين عنها حتى يسمّوا  أهلها، و شأن الأمانة الحفظ فقط، إن تصرف الإمام أو الساعي في أموال الزكاة بدون تمليك المستحقين لها، أو صرفها عليهم، فغير جائز، إلا في المنافع التي لا تزول أعيانها كالركوب مثلا، أو شرب ألبانها، و ما شاكل ذلك”[53]

بعد عرض القولين نوّد أن نذكر رأي العلامة محمد سالم ولد عدّود)رحمه الله تعالى ) الذي حثّ على ضرورة الصرف المباشر، لأموال الزكاة لحاجة الفقراء إلى ذلك،لكنّه في نفس الوقت ترك باب الاجتهاد مفتوحا للإمام العدل في توزيع أموال الزكاة و استثمارها و توظيفها،  فيما يفيد المستحقين و يعود عليهم بالنفع.

يقول العلامة محمد سالم ولد عدّود)رحمه الله ): “لا ينبغي أن يحرم الفقراء من الصرف المباشر، و لا ينبغي أن نسدّ باب اجتهاد الإمام العدل في توزيع الزكاة، و في توظيفها أو استثمارها، فيما يعود بالخير الأنفع على المستحقين”[54]

3-2-3- الترجيح:

و الذي أميل إليه وأرى صوابه هو القول بمنع استثمار أموال الزكاة ؛ وذلك لأن استثمارها ينافي قضية التسليم الفوري و مسألة التمليك الفردي ، مما ينافي المقاصد الشرعية للزكاة، و لا يمكن جعل أموال الزكاة كأموال الوقف و الصدقات الأخرى ، لكنني  في  نفس الوقت أرى أنه يمكن إيجاد بديل لحل هذه القضية ، وهو استثمار هذه الأموال  بعد تمليكها لمستحقيها بشكل فردي، و إيصال جزء منها إليهم  لسدّ حاجاتهم الملحّة، وأخذ إذنهم في استثمار ما بقي من أموالهم ، ونكون بذلك قد حقّقنا ما للاستثمار من فوائد و مصلحة للمستحقين، و في الوقت نفسه لم نخرج أموال الزكاة عن إطارها الصحيح، وهذا البديل ألخّصه في الخطوات التالية :

1- تحديد نصيب كل فقير و مسكين من أموال الزكاة، و ذلك  بناء على تحديد الشخص المزكي للأشخاص الذين يرغب أن تقسم عليهم زكاة أمواله، مع إرفاق الأمر بلائحة أسماء الأشخاص.

2-يتسلّم كل مستحق جزء من نصيبه من الزكاة و تبقى الأجزاء الأخرى عند الصندوق أو الجهة المسؤولة ليتم استثمارها بعد ذلك .

3-كل مستحق بمفرده يعمل عقد توكيل للصندوق،أو الجهة المسؤولة، يخوّل لها من خلاله استثمار نصيبه المتبقي من الزكاة.

4-يطرح المشروع الاستثمار على شكل أسهم و يتم اكتتاب المستحقين كل حسب المبلغ المتوفرلديه، و تتفاوت نسبة كل مستحق في المشروع حسب نصيب كل واحد من المستحقين.

5-بعد الاكتتاب في المشروع، يتم إرجاع الأموال المتبقية للمستحقين، لأن نصيب كل مستحق سيبقى منه جزء بعد عملية شراء أسهم المشروع.

6-و بعد قيام المشروع و استمراره يتم تسليمه للمستحقين، أو من ينوب عنهم، ليبدأ الصندوق أو الجهة المسؤولة في مشروعات جديدة، مع بداية السنة المالية الأخرى مع مستحقين جدد.

و بذلك يكون كل مزكي قادر على إدخال بعض المستحقين للزكاة في مشروع استثماري يعود إليه بالنفع من خلال الحصول على الأرباح  بشكل دوري.

الخاتمة :

لاشك أن هناك تفريط وتضييع لحقوق المستضعفين التي هم في أمس الحاجة إليها، وذلك باستثمار أموال الزكاة بشكل عام دون تمليكها للمستحقين تمليكا فرديا، فالزكاة مختلفة عن أموال  بيت المال، و الوقف، فهي حل عاجل لسد الحاجات الملحة، و المستعجلة ، و لا ينبغي استثمارها في المشاريع الاستثمارية العامة، و لا إنفاقها بدون تمليكها  بشكل  فردي،وفي الوقت نفسه فإن استثمار هذه الأموال  يعود بالنفع إلى مستحقي الزكاة من خلال زيادة أموالهم و تنميتها، لذلك كان لابد من إيجاد حل لهذه الإشكالية ومنه فقد أقترح الباحث البديل الذي سبق ذكره من أجل حل هذه القضية المطروحة.

انطلاقا من عرض أقوال و أدلة الرأيين يتضح لنا جليا اختلاف العلماء و تباين آرائهم في قضية استثمار أموال الزكاة.

– حيث ذهب بعضهم إلى القول بجواز استثمار أموال الزكاة بشكل عام فيما يخدم المستحقين، و يعود إليهم بالنفع و من أمثال: يوسف القرضاوي، عبد العزيز الخيّاط، و محمد أزهر بشير، وغيرهم.

– فيما ذهب طائفة أخرى إلى القول بمنع استثمار أسهم الفقراء و المساكين، و ذلك لحاجة هؤلاء إلى الإيصال الفوري، و مسألة التمليك الفردي  لكل مستحق، لكنهم قالوا في نفس الوقت بجواز استثمار سهم في سبيل الله،من أمثال:عبد الله بن بيّه ،و آدم شيخ عبد الله، و غيرهم.

– فيما أختار بعض العلماء القول بمنع استثمار أموال الزكاة بشكل عام دون تفصيل، إذ يعتبرون أن استثمار أموال الزكاة يعارض مسألة الفورية، و قضية التمليك، و هذين شرطين لا يمكن الإخلال بهما،ومن هؤلاء: محمد عطا السيد، و محمد تقي العثماني، و غيرهم.

– فيما يرى العلامة محمد سالم ولد عدّود)رحمه الله تعالى)ضرورة الصرف المباشر، لأموال الزكاة لحاجة الفقراء إلى ذلك، إلا أنه كذلك حثّ على عدم إغلاق باب اجتهاد الإمام العدل في استثمار أموال الزكاة إذ أن فيه مصلحة للمستحقين.

– كما يتّضح لنا جليا أهمية مسألة الفورية في إيصال الزكاة إلى مستحقيها، وقضية التمليك الفردي لأموال الزكاة ، وأن هاتين المسألتين لا  تصح عملية استثمار أموال الزكاة  إلا بتحقيقها قبل البدء في العملية الاستثمارية ، لأنه لا تحقق المقاصد الشرعية من الزكاة إلا بتحقيقهما.

* محمد جقدان / باحث موريتاني

قائمة المصادر و المراجع :

1- القرآن الكريم برواية حفص.

2ـ مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، العدد 3، المجلد 1

3ـصحيح البخاري،دار ابن  كثير، بيروت، ط1،2002م.

4-سنن الترمذي، دارالغرب الإسلامي،ط1،1996م

5ـ مالك بن أنس،  الموطأ،نشر مصطفى البابي الحلبي، د ط ، 1985م

6 -شوقي أحمد دنيا، تمويل التنمية في الاقتصاد الاسلامي، مؤسسة الرسالة،  بيروت، ط1، 1984م.

7-أنيس إبراهيم، المعجم الوسيط، مادة صرف، المكتبة الإسلامية، ط2،1392هـ

8-خالد عبد الله البريك  الحافي، تنظيم الاستثمار المصرفي في الفقه الإسلامي و القانون الوضعي، دار الفكرالجامعي،الاسكندرية، ط1، 2010م

9-عبد الرزاق الهيتي، المصارف الإسلامية بين  النظرية و التطبيق، دار أسامة، عمان، ط1، 1998م.

10-خالد أمين و حسين سعيد،العمليات المصرفية الإسلامية، دار الأوائل،  عمان، ط1، 2008م

11-ابن فارس، معجم مقاييس اللغة،دار الفكر، 1979م.

12-ابن عابدين،الحاشية،دار عالم الكتب، الرياض، طبعة خاصة، 2003م.

13-الرصاع، شرح حدود ابن عرفة، دار الغرب الإسلامي، ط1،  1993م.

 14-الماوردي، الحاوي، دار الكتب العلمية،د ط، دت

15-ابن النجا الحجاوي، دار المعرفة ، بيروت، ط1، 1994م.

16-لسلوس مبارك، إدارة البنوك الإسلامية لصناديق استثمار أموال الزكاة، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الثاني حول التمويل الإسلامي غير الربحي( الزكاة و الوقف )  في تحقيق التنمية المستدامة، يومي 20-21 مايو 2013م  مختبر التنمية الاقتصادية و البشرية  في الجزائر جامعة سعد حلب بالبليدة، الجزائر.[1]

17-أسامة عبد المجيد العاني، المصارف الإسلامية و دورها في التنمية البشرية، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1، 2015م.

18-محمد جلال سليمان، الودائع الاستثمارية في البنوك الاسلامية، موسوعة الاقتصاد الإسلامي،  دار السلام، القاهرة، ط1،  2009م.

19-منذر قحف، الاقتصاد الإسلامي، دار القلم، الكويت، ط،1، 1979م

20-عبد الله ناصح علوان، أحكام الزكاة على ضوء المذاهب الأربعة، دار السلام، الإصدار الأول.

21-الدسوقي، الحاشية على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية، د ت،د ط.

22-محمد بن عبد الرحمن الحفظاوي، أحكام استثمار أموال الزكاة و تطبيقاتها، كلية المتعددة التخصصات بالراشدية، المغرب.

23-النووي، روضة الطالبيبن وعمدة المفتين، المكتب الإسلامي، ط3، 1991م،

24-ابن قدامة، المغني، دار عالم الكتب،الرياض،د ط ، د ت

25-الكاساني، بدائع الصنائع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1986م.

  26-يوسف القرضاوي، أثر الزكاة في الأفراد و المجتمعات ، مؤتمر الزكاة الأول،  الكويت.

27-محمد عثمان، استثمار أموال الزكاة أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة،الكويت،دط،1992م

28-عبد الله بن منصور الغفيلي،نوازل الزكاة، دار الميمان، ط1، 2008م

29-الشيرازي،القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، ط8، 2005م،

30-بن منظور، لسان العرب، مادة ثمر، دار صادر، بيروت، ط1 1384هـ.

31-محمد عثمان شبير، مبدأ التمليك و مدى اعتباره في صرف الزكاة،  بحث منشور بمجلة الشريعة و الدراسات الإسلامية، العدد 22، 1994م

32- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية،

33-قرارات مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة عشرة

34-السيد الهواري، موسوعة الاستثمار، نشر الاتحاد الدولى لبنوك الإسلامية،دط، 1982م.


[1]-ابن منظور، لسان العرب ، م14، مادة ثمر، دار صادر، بيروت،ط1، 1384هــ، ص38

-الشيرازي،القاموسالمحيط، مؤسسة الرسالة، ط8، 2005م، ص:459[2]

-السيد الهواري، موسوعة الاستثمار، نشر الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، 1982م، 6/16[3]

-شوقي أحمد دنيا، تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي، مؤسسة الرسالة،  بيروت، ط1، 1984م،  ص:87[4]

-أنيس إبراهيم، المعجم الوسيط، مادة صرّف، المكتبة الإسلامية، ط2،1392هـ ، ص:531[5]

-ابن منظور، لسان العرب ،مادة صرّف، 18/ 26-28[6]

-أنيس إبراهيم،المعجم الوسيط، مادة صرّف،  ص:531[7]

[8]-خالد عبد الله البريك الحافي، تنظيم الاستثمار المصرفي في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، دار الفكر الجامعي،

الإسكندرية، ط1، 2010م، ص:136

-عبد الرّزاق الهيتي، المصارف الإسلامية بين  النظرية و التطبيق، دار أسامة، عمان، ط1، 1998م، ص:26[9]

-خالد أمين و حسين سعيد،العمليات المصرفية الإسلامية، دار الأوائل،عمان، ط1، 2008م، ص:31[10]

-ابن فارس، معجم مقاييس اللغة،دار الفكر، 1979م، 3/17[11]

-الشيرازي، القاموس المحيط ، ص:1118[12]

-ابن عابدين،الحاشيّة، دار عالم الكتب، الرياض، طبعة خاصة، 2003م، 3/171-172-173 [13]

-الرصّاع، شرح حدود ابن عرفة، دار الغرب الإسلامي، ط1،  1993م، 1/140[14]

-الماوردي، الحاوي، دار الكتب العلمية، 3/71[15]

-ابن النّجا الحجاوي، دار المعرفة ، بيروت، ط1، 1994م، 1/242[16]

[17]-بتصرف لسلوس مبارك، إدارة البنوك الإسلامية لصناديق استثمار أموال الزكاة، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الثاني حول التمويل الإسلامي غير الربحي ( الزكاة و الوقف )في تحقيق التنمية المستدامة، يومي 20-21 مايو 2013م  مختبر التنميّة الاقتصادية والبشرية  في الجزائر جامعة سعد حلب بالبليدة، الجزائر، ص:41

[18]-أسامة عبد المجيد العاني، المصارف الإسلامية ودورها في التنمية البشرية،دار البشائر الإسلامية ،بيروت، ط1، 2015م، ص:200

[19]-محمد جلال سليمان، الودائع الاستثمارية في البنوك الإسلامية، موسوعة الاقتصاد الإسلامي،دار السلام، القاهرة، ط1  2009م، 3/56

-أنظرالدّسوقي، الحاشيّة على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية، 1/500-501[20]

[21]-محمد بن عبد الرحمن الحفظاوي، أحكام استثمار أموال الزكاة، وتطبيقاتها، الكلية المتعددة التخصصات،الراشديّة، المغرب، ص:135

-الدّسوقي،  الحاشيّة على الشرح  الكبير، 1/500[22]

-المصدر السابق، 1/500[23]

-النووي، روضة الطالبيبن و عمدة المفتين، المكتب الإسلامي، ط3، 1991م، 2/204[24]

-ابن قدامة، المغني، دار عالم الكتب، الرياض، 4/146-147[25]

-الكاساني، بدائع الصّنائع، دار الكتب االعلمية، بيروت، ط2، 1986م، 2/373-374[26]

-يوسف القرضاوي، أثر الزكاة في الأفراد والمجتمعات ، مؤتمر الزكاة الأول، الكويت ،ص:45[27]

-مجلّة مجمع الفقه الإسلامي،عبد العزيز الخيّاط،العدد3، 1/373[28]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي، مصطفى الزّرقا، العدد 3، 1/404[29]

-محمد عثمان شبير،استثمار أموال الزكاة، أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة، 1992م، الكويت، ص: 26[30]

-عبد الله بن منصور الغفيلي، نوازل الزكاة، دارالميمان، ط1، 2008م، ص:478[31]

-مجلّة مجمع الفقه الإسلامي، العدد 3، 1/309[32]

-لسلوس مبارك، إدارة البنوك الإسلامية لصناديق استثمار أموال الزكاة، ص:364 [33]

-سنن الترمذي، باب ما جاء في زكاة مال اليتيم.[34]

-صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه و سلم آية فأراهم أنشقاق القمر.[35]

-صحيح البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة،[36]

-الموطأ، كتاب القراض.[37]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي،الشيخ تجاني صابون محمد، العدد3، 1/335[38]

[39]-محمد عثمان شبير، مبدأ التمليك ومدى اعتباره في صرف الزكاة، بحث منشور بمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية العدد 22، 1994م، ص:109

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي، أحمد أزهر بشير،العدد3 ، 1/416[40]

– أنظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد 3، 1/312 ـ 418[41]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي، مداخلة محمد عطا السيد،  العدد 3، 1/383[42]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي، محمد تقي العثماني،  العدد 3، 1/388[43]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي،  عبد الله بن بيّه، العدد 3، 1/416-417 [44]

– أنظر فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، 9/454[45]

-أنظر قرارات مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة عشرة، ص:39[46]

-عثمان شبير، استثمار أموال الزكاة، ص:16.[47]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي، آدم شيخ عبد الله ، العدد 3،1/400[48]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، محمد تقي العثماني ،  العدد 3، 1/388[49]

[50]-مجلة مجمع الفقه الإسلامي،  آدم شيخ عبد الله، العدد3، 1/353

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي،  عبد الله الخياط، العدد 3، 1/398[51]

-مجلة مجمع القفه الإسلامي، آدم شيخ عبد الله، العدد 3، 1/384[52]

-المرجع السابق، 1/384[53]

-مجلة مجمع الفقه الإسلامي، محمد سالم ولد عدّود ، العدد 3، 1/405[54]

اردوغان “المرشد” و”بن كيران” السياسي: الإخوان من السلفية الحركية إلى ضرورات التجديد

الشيخ الحسن البمباري

يبدو أن سنوات الطرد والجلد التي يمر بها الإخوان المسلمون من المحيط إلى الخليج و صلت أخيرا إلى تركيا التي مثل فيها رجب طيب  أردغان – مالئ الدنيا وشاغل الناس بالديمقراطية التي  صنعها والتحول الاجتماعي والاقتصادي الذي أوجده بعد زمن من العَلمنة الأتاتوركية – رجل كل العصور ، بديمقراطية أشاد بها الغرب ومولها ماديا ومعنويا وباتت أنموذجا على الإسلام السياسي ، مجنبا بذلك تركيا أزمة اجتماعية وسياسية كبيرة ، إلا أن الربيع العربي وما أعقبه من تحولات سياسية و اجتماعية في المنطقة اثر بشكل مباشر على سياسات أردغان مما جعله يتجه إلى اتخاذ مواقف من اتجاهات الربيع العربي ، خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة و الضغط الكبير الذي بات يشكله تواجد قيادات الإخوان في تركيا  التي تعقد مجموعة من التحالفات المعقدة تمتد بين روسيا و أمريكا و صولا إلى إيران و الخليج – الذي يتخبط حاليا في أزمة مقاطعة غيرت موازين للعبة في الشرق الوسط و حولت مسار التحالفات – ، خاصة بعد إعلان شبه توافق بين إسرائيل و العرب المقاطعون ضد اليد الضاربة للإخوان و قطر قناة الجزيرة ، بل حتى العمل المشترك للقضاء على آخر شرعية للإخوان على الإطلاق و هي حركة المقاومة الإسلامية (حماس ) ، و التي لو لم تعين إسماعيل هنية في رئاسة مكتبها السياسي خلفا لخالد مشعل لكانت سابقة على خروج النهضة التونسية  الكامل من ما سمي مدرسة قطب الإسلامية (الإسلام الحركي “السلفية الحركية “).

من أبرز ما يمكن الوقوف عليه في خيارات الإخوان  الإسلاميين الأتراك جنسية و ملجأ ، (خاصة بعد توجه المهادنة و التجديد الذي تبناه الإخوان المغرب العربي ) فإما أن تستمر موجة تغيير الجلد على شاكلة النهضة و حماس ، أو إعادة مرحلة التجديد من خلال نظرية ” دعاة لا قضاة ” الصادرة عن المرشد الثاني للإخوان حسن إسماعيل الهضيبي في وقت اسودت فيه الخطوب بالحركة الإسلامية الأكثر توسعا منذ ستينيات القرن الماضي ، فيما يبد خيار الشتات و الذي يفرض النأي بالنفس عن المنهج القطبي (نسبة إلى سيد قطب ) السلفية الحركية التي لا ترى مانعا من استخدام القوة للوصول إلى السلطة هو الأكثر تفضيلا بين قيادات و أتباع الحركة الأوسع انتشارا و التي لها قبول لا باس به في بعض الدول الأوروبية المركزية في صناعة القرار العالمي ، و يحظى هذا التوجه بقبول من بعض الدول التي رفضت قطع علاقاتها مع الجماعة بالرغم محاولات العديد من الأنظمة التأثير و السعي إلى استئصالها نهائيا .

قد يكون من العدل القول أن سمعة أردغان -كنسخة محدثة من الحركة الإخوانية- الآن باتت تتخطى ما حققه حسن البنا و سيد قطب ، بل حتى باتت تركيا قريبة جدا من وضع “معسكرات الشيوخ ” بالنسبة للإخوان و الفضل يعود في ذلك إلى تجربة أردغان و قدرته كسياسي إسلاموي لا يمارس الفتوى كما يقول هو بنفسه.

و إن كانت محاولة الانقلاب التي واجهها و ما جسدته من قوة يملكها الإخوان الأتراك في الشارع ، خاصة مع تجاوزه كل التحديات السياسية التي دخل فيها ( الانتخابات البرلمانية ، و تحويل نظام الحكم باتجاه الرئاسي ، إضافة إلى موقفه من الأزمة الخليجية  ،

النزاع مع جماعة فتح الله غولون  الناشطة من قلب الغرب (ودلالة ذالك واضحة)) مع ذلك على أردغان رجل الإسلام السياسي القوي أن يدرك أن الشعب الذي أوقف الدبابات على جسر البوسفور لن يقبل تحول الرئيس إلى مرشد و مركزية لجامعته “الإخوان المسلمون” وهو يعني  أن أردغان السياسي المحنك و مهندس للنجاح الكامل للتجربة الإسلامية في تركيا أن يتجنب ما يسميه فوكوياما “الأنظمة الوقفية”  أي التخلي عن  خلق وسائل الاستمرار للمشروع الإخواني الذي يظهر نفسه الآن كابر حارس له إلى جانب قطر مقارنة مع سياسة النأي بالنفس المتبعة من بن كيران و الغنوشي و حتى مشعل.

قد يكون من عدم الحكمة لفهم حركة عربية المنشأ ،لاتحليلها من خارج سياقها خاصة مع وجود تجربة قوية في المغرب يقودها الداهية السياسي بن كيران الذي أحاط مشروعه  بمجموعة من الرجال يتحركون في تناسق تام ، تجسد من خلال خلافة العثماني لبن كيران في رئاسة الوزراء دون أي خلخلة في الحزب الذي تسيد المشهد السياسي  مغربيا ، و لكن الواقع الآن يقول إن الأنموذج التركي أصبح هو مركز  التجربة السياسية للإخوان المسلمين، ليس لنجاحه فقط بل إن أردغان أصبح واجهة إسلامية عالمية و تركيا مركزا لجميع المشردين من الإخوان ، ثقافيا و سياسيا و حتى اقتصاديا .

 من العدل القول إن الإخوان المسلمين من بين الجماعات الإسلامية الأكثر نشاطا آنيا و تنظيما على مختلف المستويات ، من حيث الانتشار و القدرة على الحشد في أقدم معاقلها (مصر)بالرغم من التضييق الأمني و السياسي و اعتقال أي شخص يظهر ميولا إسلامية أو مؤيدة للإسلام السياسي بشكل عام ، هذا مع استمرار الإخوان في فضاء المغرب العربي في نهجهم العقلاني سواء بصعودهم البارز في موريتانيا أو استمرارهم في الحكم بالمغرب ، مع أن شكل النهضة قبل 2014 تغير كثيرا مع أنها ظلت في فلك الإخوان المسلين و هو ما يجعل تيار الإخوان قادرا على هيكلة نفسه على عدة مستويات و إعادة ترتيب ياقته سواء بإخراج قياداته من السجون بتقديم الكثير من التنازلات السياسية ، و إن كان موقف الإمارات و السعودية المعادي لكل ما هو إاردوغان “المرشد” و”بن كيران” السياسي: الإخوان من السلفية الحركية إلى ضرورات التجديدسلام سياسي قد يؤجل هذا الحل، فان الصمود لبعض الوقت  مطلوب من الإخوان كي يستطيعوا إعادة ترتيب صفوفهم و نقل أنفسهم إما بالتجديد على طريقة النهضة و حماس أو مراجعة المشروع و العودة إلى نظرية الدعاة ، في إعلان عن التخلي عن المشروع السياسي إلى حين و إن الإخوان في تركيا و المغرب و ماليزيا استثناء من الخيار الأخير.

باحث في المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ)