6 نوفمبر، 2025، والساعة الآن 2:15 مساءً بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 4

الكونية/ عبد الكريم الحر

كثيرا ما ألهمتنا فلسفة أفردريك نيتشه حول مفهوم المطرقة، خاصة في المجال الأتيقي ومعارضته الشرسة للأمر القطعي الكانطي، حيث لم يدخر جهدا في هدم الفكرة الكونية الأخلاقية التي دعا كانط إليها<<ماذا علي أن أفعل؟ إفعل حسب القاعدة التي تريدها أن تكون قانونا كونيا>>[1]، متوخيا من وراء ذلك سيادة أخلاق كونية شمولية.

الصيغة الفردية التي صاغ بها كانط مقولته، هي النافذة التي أطل منها نتشه حاملا مطرقته، متحيرا كيف لأمر قطعي فردي أن يكون كونيا؟ وأنى لنا التوصل إلى أخلاق كونية في عالم يسوده الاختلاف والتنازع؟[2] وكأنه يتعجب من غباء كانط، وغير بعيد من ذلك انتهج اغلب الفلاسفة ومن درسوا الفلسفة إلى يومنا نهج النتشوية حول رأيها في الكانطية القطعية. وبالنظر لجائحة الكورونا وما تلاها من نصائح حول أن علي أن أفعل ما على أي فرد من الركن القصي فعله، كوسيلة للحد من هذه الجائحة، ألا يذكرنا هذا بأهمية التدبر في قول كانط أن علي فعل ما أريده أن يكون قانونا كونيا، وأنه ليس بالمستحيل التوصل لأخلاق كونية؟” ألم يحن زمن رفع فكرة السوبرمان[3] النتشوية؟

كورونا أرغمنا قصرا إلى الانتباه لأهمية الإنسانية، والمساندة باسمها حصرا، كما رد علينا كل قول كنا قد اعتمدناه حول ضرورة تشيء الإنسان، والتخلي عن محوريته. فالكوناتيس[4] الذي نادى به باروخ اسبينوزا هو أصدق مفهوم يمكننا إطلاقه على الصرخات التي تسود العالم الآن، فحب البقاء وما يقتضيه هو شغل العالم اليوم، وهذا ما يقتضي ضرورة وجود قيمة المسؤولية الفردية في إطار المسؤولية الجماعية، التي جسدتها مقولة جون استيوارت مل التي تفصل متى على المجتمع معاقبة أحد أفراده، مجيبا “أن لا حق لأي مجتمع في معاقبة أي قرد من أفراده إلا في حالة أتى الفرد فعلا من شأنه أن يضر الآخرين” واليوم يتركز الإجراء الوقائي في المقام الأول على حظر التجول ومنع التجمعات قدر الإمكان، ومن خالف ذلك دون إذن أو ضرورة يعرض نفسه للزجر اجتماعيا والعقوبة قانونيا، بتهمة الإخلال بالمصلحة العامة، وهو الشيء الذي أصبح جوهر التعاطي مع جائحة الكورونا، حيث على كل فرد أن يفعل لنفسه والعالم في الآن نفسه، كوسيلة لحصر الجائحة، والمحبة الكونية التي دعا إليها محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف “…أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه” وهو المبدأ الذي جسده الدستور المدني المحمدي.

وهكذا إذا رأينا أن الكونية الكانطية التي بدت لنا مستحيلة في زمن ما، قد لاح في الأفق تجسدها، عمليا قبل الوعي بها نظريا، محكومة بحب البقاء، فهل يعني هذا أننا قد نشهد مدينة فاضلة أفلاطونية وإن على الطريقة الفارابية مستقبلا؟ فالمنطق قد ينكر ذلك، لكن المستحيل يضمحل ويتقهقر الإيمان به غالبا أمام الإرادة البشرية، حيث يقال إن “الإرادة البشرية قادرة على كل شيء، فنحن فقط من لا نريد”.


[1]  الأمر القطعي الكانظي، هو المبدأ الذي حاول كانط من خلاله تجسيد نظريته حول ضرورة وجود أخلاق كونية، لأنه يجعل من التحلي بالمسؤولية فرض عين كما يجب، وهذه الضرورة هي ما أكدتها جائحة الكورونا آنيا، حيث اختفت الإنية تاركة كل الحواجر للغيرية.

[2]  الفردية لا تبني الجماعية، بل كل إنسان لتفسه طبقا لنظرية السيد والعبد.

[3]  السوبرمان هي فكرة عند نتشه في فلسفته الأخلاقية كوسيلة  للتخلص من الأخلاق لأنه وصفها بمجال الضعفاء، ونادى بضرورة ابدالها بالرجل القوي حيث قسم الناس إلى قسمين، أسياد وعبيد وهو تقسيم ليس بالاقتصادي بل هو نفسي، فمن كان قوي نفسيا فهو سيد، ومن كان ضعيف نفسيا فهو عبد.

[4]  مفهوم لباروخ اسبينوزا “حب الحياة”، ويعني به أن كل شيء يصارع من أجل حياته، أي حب الحياة فحتى الشجرة حينما نقتلعها وننسى عن أحد عروقها فهو يقاوم للخروج لينبت كشجرة مرة أخرى، فكيف بالإنسان؟

وظيفة المثقف.. بين الماضي والحاضر

تـمر كافة المجتمعات الإنسانية في مراحل دورتها الحياتية بإرهاصات و تحولات تقود في مجملها إما إلى الاستقرار أو الفوضى، وإزاء حركية المجتمع، التي تفرضها طبيعة “العمران” وفق التعبير الخلدوني، يبرز بين كل فاصلة زمنية وأخرى أفراد، تجمعهم بعض الخصائص المشتركة، ويمتلكون من الأدوات العقلية ومن المهارات ما يمكنهم من التأثير على مجتمعاتهم بدرجات متفاوتة، وهؤلاء تم التواطؤ على تسميتهم بال”المثـقفين”.
فما هي خصائص المثقفين ؟ وأي دور لهم في حركية المجتمعات الإنسانية ؟ وما علاقتهم بعامة الناس ؟ وأخيرا هل يمكن القول بموت المثقف؟
كثيرا ما تتعد التعريفات في مثل هذا النوع من المسائل، ولعله من خصائص العلوم الاجتماعية اتساع المجال الممكن لتعريفات متعددة في مسألة الواحدة، وحتى لا نقع في فخ التعريفات هذا أستميح القارئ الكريم عذرا وأكتفي عوضا عن التعريف بالتمهيد أعلاه، لـنقفز مباشرة إلى الخصائص، التي يكاد يجمع أغلب الدارسين لهذا الموضوع أنها تتلخص في ما يلي:

  • مستوى مقبول إلى عالي من التعليم، وامتلاك ملكة النقد، والقدرة على التحليل الموضوعي، مع الإطلاع بما فيه الكفاية على الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي في المجتمع الضيـق (الدولة) والمجتمع الواسع (الثقافة)، والمجتمع الأوسع (المجتمع الإنساني). هذا إضافة إلى امتلاك ثقافة تاريخية متماسكة يمكن توظيفها بسلاسة لفهم حركية المجتمع.
    ولكن هذه الخصائص ليست ثابتة إطلاقا، إنما تتغير مع تغير المجتمعات والأزمنة، بل إن بعضها قد يتلاشى تماما ليفقد معه المثقف إحدى محدداته “العتيقة” مثلما سنتناول في فقرة لاحقة من هذه الإضاءة.
    ويجدر التنبيه أيضا إلى أن خصائص المثقف غير محصورة بالضرورة في ما ذكرناه، فربما زاد بعض الدارسين خصائص أخرى انطلاقا من زاوية رؤيتهم لوظيفة المثقف.
    أما من حيث الوظيفة، فيمكن إجمال أهم الأدوار المتوقعة من المثقف في ثلاث:
    1- المساهمة في صناعة الوعي الاجتماعي، عن طريق وسائل التأثير المختلفة: إعلام، تعليم، سلطة سياسية، سلطة روحية، .. وغيرها.
    2- الانخراط والتأثير في الأنشطة الاجتماعية المتنوعة (وهذا الدور مناقض لفكرة “الإعتزال” التي مارسها وسوق لها ضمنيا كثير من المثقفين والفلاسفة القدماء، وتأثر بتلك الدعوات عدد من المثقفين المعاصرين، إلا أنها فكرة أثبتت عدم جدوائيتها في تصوري، فأي قيمة لامتلاك الثقافة والمعرفة إن لم تكونا دافعا إلى تنوير المجتمع والسعي إلى إصلاحه؟).
    3- ابتكار الحلـول في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي قد تمر بها المجتمعات، حسب الاختصاص، ولعل البحث العلمي في هذا الإطار هو الوسيلة الناجعة لتحقيق هذا الدور، الأمر الذي يعني ضرورة انخراط المثقف في المراكز البحثية الجادة، وهي كثيرة في سياقنا العربي والإسلامي.

المثقـفون و”الـشعـبوية” ..
يكابد المثقف صراعات مختلفة على جبهات عدة، لعل أكثرها صعوبة هي عقدة “الشعبوية” التي يجد كل مثقف ذاته إزائها أمام نمطين بارزين من الشعبوية:

  • شعبوية غير واعية: حيث إنها نمط غير صحي، وبسبب صعوبة التعامل مع هذا النمط يجازف الكثير من الضالعين في ميدان علم النفس الاجتماعي بالقول إن “الجماهير غوغائية بطبعها ولا يجب الرضوخ لها، ولا حق لها في اختيار مستقبلها” ومن هذا الإفتراض ولدت جل الفلسفات الشمولية التي نتجت عنها أنظمة الاستبداد السياسي الفظيع في العالم، إلا أن التعميم في هذا الإطار مجانب للموضوعية، ففي ذات السياق يتجه العديد من المثقفين حول العالم للقول بأن بعض الأنظمة الشمولية -وإن كان استبدادها واضحا للعيان- فإنها في بعض بلدان العالم ساعدت على حفظ الموروثات الثقافية لشعوبها، وعلى بناء كيانات تلك البلدان بناء صلبا،
  • شعبوية واعية: وهي النمط الذي تصاحبه غالبا بيئة ملائمة للإصلاح، حيث إن المثقف يستطيع أداء دوره في ظلها بأمان، لأنها تساعده وتحتضنه، ويمكن التعويل على هذا النمط من الشعبوية في امتصاص الأزمات الاجتماعية التي تعصف من حين لآخر بالمجتمعات الإنسانية، ويظل النموذج التونسي إبان موجات الربيع العربي طاغيا في هذا الإطار، وبالتالي تكون المسؤولية الإصلاحية مضاعفة على المثقفين للانتقال بهذا النمط من المجتمعات انتقالا سلسا نحو الإصلاح.
    “فوظيفة المثقف أن يكون هو الراصد للإشكاليات الاجتماعية وهموم المجتمع، وأن يلعب دورا فاعلا وإيجابيا في وعي الجماهير وتوجيه هذا الوعي في تحقيق واقع الاصلاح والتغيير، وليس تحقيق مصالحه الخاصة. فالشعبوية ليست شر مطلق ولا خير مطلق، بل هي تعتمد كأداة فاعلة في التغيير، على الوعي وعلى معايير الخير والحق، وهي معايير على المثقف أولا استيعابها بشكل فاعل”(1)
    ويذهب المفكر محمد حامد الأحمري في حديثه عن “عامة الناس” مذهبا بعيدا في اتجاه الدفاع عن مكانة الجماهير في العملية الإصلاحية، حيث يذكر بأن عامة الناس هم “زهرة الدنيا وفكاهتمها”، لولاهم لما كان هنالك خاصة، قائلا بأن بعض المثقفين المتعالين ربما عاشوا تحت ظل أب عامي، وأم عامية، وقد ساق في نقاشه لهذه المسألة مقولات عديدة تؤكد خطورة النخبوية الجامدة على دور المثقف.(2)

النخبوية الجامدة:
لقد بات هنالك نمط سائد من “النخبوية الجامدة” في مجتماعتنا المعاصرة، وهذا النمط لا يخدم الوظيفة السامية للمثقف في اعتقادي، ويمكن إجمال مظاهرها -أي النخبوية الجامدة- في نقطتين:
1- استخدام اللغة الخشبية والمعقدة في الخطاب الموجه للجماهير، دون اعتبار الاختلاف العميق في مستويات التلقي و الأفهام لدى عامة الناس، مـما يساهم حتما في تعميق الفجوة بين هذا النمط من المثقفين وبين عامة الناس.
2- تنميط صورة المثقف (شكلا وممارسة): إن التنميط عموما مضر بالخطاب وبالأفكار، ويكون ضرره أكبر حين تكون تلك الأفكار وذلك الخطاب موجه للتأثير في مجتمعات “شعبوية” مثل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، التي تؤثر فيها إرادة “الجماهير” بقوة -على لغة غوستاف لوبون-، ففي عصر الديمقراطيات الشعبية ومشاركة الناس في صناعة التحولات الكبرى أدركت الأنظمة -ومعها النخب المثقفة- أن تجاهل عامة الناس في صناعة الخطاب وفي رسم السياسات الإستراتيجية بات ضربا من الانتحار. إن اختزال دور وشكل المثقف في قوالب محددة وممارسات بعينها لم يعد ذا قيمة في التأثير على المجتمعات، إننا لا ندعوا بالتأكيد إلى تمييع صورة المثقف، إلا أن الواقع يفرض على المثقفين إجراء عملية تحديث لصورتهم ودورهم بما يبقيهم على سكة الإصلاح الاجتماعي.

“موت” المثقـف:
يرى الكاتب عبد الإله بلقزيز أن “المثقفين ملزمون بإعادة قراءة وظيفتهم والتساؤل حول دورهم الاجتماعي، والبحث عن دور جديد لهم يواكب المتغيرات والتحولات”، ويشير الدكتور سعيد عبيدي في قراءته لنظرية “بلقزيز” حول مصير المثقف إلى أن “المجتمع قد استغنى عن خدمات المثقف المعرفية التي قدمها فيما مضى، وهي الخدمات التي تبدو اليوم غير ذات جدوى في سوق القيم الرمزية، ولا يعني ذلك بالضرورة الاستغناء عن المعرفة، بل إن الحاجة للمعرفة تزداد بوتيرة أسرع، بل هو استغناء عن نمط من أنماط إنتاج القيم الثقافية والرمزية، والذي يبدو اليوم تقليديا، مثلما هو استغناء عن حرفة الكتابة التي امتهنها المثقفون وصنعت لهم تلك الهالة التي أضيفت إليهم”(2)
وهذا المصير الذي بشر به “بلقزيز” وأشار إليه “عبيدي” قد يكون مصيرا محتوما إذا ما استمر المثقفون في التمسك بمظاهرهم النمطية ووظائفهم التقليدية، إنهم اليوم في ظل وفرة المعلومات يفقدون إحدى محدداتهم الرئيسية التي ذكرناها في فقرة سابقة، لأن المعلومة باتت متاحة للجميع بفضل الانترنت، ولعل هنالك تهديدا آخر لوظيفة المثقفين ولمصداقيتهم لدى الشعوب، وهو انحياز بعضهم للأنظمة القمعية وتبريرهم للإستبداد، وهنا، تجدرالإشارة إلى أن ثلة قليلة من الذين جرفتهم أمواج السياسة للوقوف بجانب الأنظمة الإستبدادية سابقا يمكن تفهم مواقفهم بسبب خوفهم من الفوضى، لأنهم من حيث الأساس يفترضون أن الشعوب بين خيارين لا ثالث لهما، إما الإستبداد وإما الفوضى، فأين يضع هؤلا قيمة الحرية بين هذا الخيارين يا ترى ؟
التوصيات:
وإذا كان الإصلاح الاجتماعي هو الغاية العليا لوجود نخبة مثقفة في أي مجتمع إنساني، وإذا كانت المجتمعات الإنسانية تتسم بالحركية والتغيير، فربما نكون ملزمين بإعادة تعريف المثقف من خلال إعادة فهم دوره داخل المجتمع. إن أي عملية تحديث في دور المثقف المعاصر لابد أن تضمن الشروط التالية:

  • إحترام التخصص: فلقد انتهى زمن المثقف الأخطبوط، الموسوعي، الذي يعرف كل شيء ويكتب وينظر في كل مجال من مجالات المعرفة التي تزداد تشعبا يوما بعد يوم.
  • تقبل الإختلاف: لقد كانت فسلسفة “الرأي الواحد” قابلة للصمود في زمن “ما قبل العولمة”، وأثناء انغلاق المجتمعات الإنسانية على ذاتـها، وأما في زمن العولمة والقرية الواحدة، فلابد من التصالح مع حتمية تدافع الأفـكار المتعددة، ويظل البقاء للأنفع والأصلح.
  • احترام العقائد والأديان المخالفة: إن المثقف الذي لا يحترم حرية الإعتقاد والتفكير يحتاج إلى مسائلة ذاته ومراجعة ثقافته قبل أن يواجه المجتمع، ذلك أن بعض المجتمعات المعاصرة تتعدد فيها الأديان والمذاهب والإنتماءات بينما يجمعها وطن واحد، وقد ينطبق ذلك على بعض المجتمعات العربية، ليست من ضمنها موريتانيا التي لا يمكن الجزم بأن تعدد الديانات داخلها ممكن بسبب جملة من العوامل التاريخية والثقافية.
  • الاستغلال الإيجابي والفعال لمختلف وسائل التأثير المتاحة مع مراعاة اختلاف مستويات التلقي لدى الجماهير، وبالتالي بات المثقف المعاصر مرغما على تصميم وإنتاج خطاب مناسب لكل فئة من فئات المجتمع الواحد الذي يوجه له خطابه.
  • تظل الأدلجة حقا لكل إنسان، ولكنها تكون مكبلة وربما قاتلة لبعض المثقفين، لأنه يفترض في المثقف التحرر من كل القيود باستثناء الأخلاقية والقانونية.. وتلك لا تسمى قيودا وإنما ضوابط، بينما تشكل الآيديولوجيات السياسية والفكرية المختلفة قيودا تحد من إنتاجية وعطاء أي مثقف يبالغ في تقمصها، ولكم حرمنا من عطاء مثقفين وطنيين تكبلهم قيود الآيديولوجيا !
  • القراءة.. ثم المزيد من القراءة : إن كان من طوق نجاة للمثقفين في ظل تراجع مستوى تأثيرهم في المجتمعات، فهي أن لا يكفوا عن القراءة، في مختلف الميادين ذات الصلة بمجالات اهتمامهم الفكرية، بانتظام، وانتقائية مدروسة، مع الحذر ابتلاع كل ما تُـسَـوِقه دور النشر من ركيك الكتب، فالقراءة في كل شيء هدر للوقت وتشتيت للجهد، والكتب الركيكة تصنع مثقفا ركيكا، ولـكل قارئ جاد معاييره الخاصة في انتقاء الكتب، وهنالك بالتأكيد معيايير مشتركة مثل جودة المضمون، وسمعة دار النشر وبـراعة الكاتب.

الإحالات:
1- الباحثة إيمان شمس الدين، مقال حول “المثقف والشعبوية” منشور علة موقع المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية (مبدأ)
2- محمد حامد الأحمري، مذكرات قارئ، ص: 358
3- د. سعيد عبيدي، مجلة الشارقة الثقافية ع:39، ص: 52 و53

سـعـد الـديـن ابُـوه

واقع البحث العلمي في السياق العربي “حالة كورونا أنموذجا”

ورقة تقدير موقف : الشيخ الحسن البمباري، المركز الوريتاني للبحوث والدراسات الانسانية- مبدأ

مقدمة

تمثل حالة جائحة كورونا إنذارا عالميا ووقتا عصيبا تمر به البشرية جمعاء، وهو ما دعى للتعبئة العامة على مختلف المستويات وكل المجالات الحيوية في العالم، وقد وجهت انظار العالم منذ ظهور الفيروس في الصين 2019 الى المراكز البحثية العلمية سواء المستقلة منها او تلك المترتبطة بجامعات ومؤسسات بحثية عمومية، ولم تكن الانتظارات معلقة فقط على مخابر العلوم الطبية البحتة بل كل مراكز البحوث كجزء من حالة الترقب لانتاج خطاب موازي للبحث عن لقاح للفيروس الذي هدد الآلاف في أول أيام انتشاره، خطاب يقدم للساسة وقادة الرأي العالميين الخبرة اللازمة في توجيه الشعوب نحو التعامل مع هذه الجائحة والمساهمة في الحد من انتشارها.

ومع أن مراكز البحث والدراسات في الغرب واكبت بشكل شبه لحظي الحالة وسعت إلى ممارسة دورها الطبيعي في الجوانب المختلفة، فإن نظيرتها في السياق العربي ظلت دائما على وضع الصامت، وانضمت لصفوف الملايين من المواطنين في الدول العربية، الذين تنتظرون فقط ما ستخرج به المؤسسات البحثية الغربية، في حالة تعكس خطورة تغييب الدور الاستراتيجي للبحث العلمي كقوة لازمة لجتمعاتنا اليوم، وتظهر هشاشة واقع الدولة العربية في آكد أساسياتها، فعدى عن بعض الإعلانات الهزلية لأطباء الأعشاب والرقية الشرعية، لم يسمع أي صوت من الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية العربية سواء في المستوى الطبي البحت، أو على المستوى الدراسي الذي يقتصر دوره على الاستشراف والتوجيه والمشاركة في التوعية العامة من مخاطر الجائحة.

فالمراكز البحثية والعلمية لم تتمظهر على الاطلاق بصفتها جزء من بنية السلطة العامة بوصفها (وضع استراتيجي من العلاقات ينشأ في مجتمع ما) حسب مشيل فوكو، عاكسة بذلك صورة أنها حبر على ورق، وجزء من تبعية عامة لوضع المسيطر، بل لا يستبعد أن تكون أول من قرر الالتزام بقانون الجلوس في المنازل بوصفها غير معنية باكشاف علاج أو إنتاج خطاب يساهم في تكريس سلطة الدولة لفرض النظام في هذا الوقت العصيب، مع فيروس ينتقل بكل سلاسة من خلال حركة الأفراد إذ إلى الآن تجاوز ال120 دولة حول العالم بل إن الدول التي لم تعلن إصابات يرجح أنها فقط نظرا لضعف ولوج المواطنين فيها للخدمات الصحية لا غير.

واقع المراكز البحثية العربية

في أوقات الرخاء كانت الحالة تقول إن المراكز البحثية العربية تعيش ثورة خاصة في ما بعد الربيع العربي، إذ كانت شخصياتها من الوجوه الإعلامية الثابتة، كما تم الحديث عن تأسيس العديد من المؤسسات البحثية في مختلف المجالات من خلال مسعى الحد من مدى الدولة[1] في الاستحكام بالفضاء العام.

ومع أن الصين تمثل المورد الأول لمختلف الاحتياجات للشرق الأوسط وإفريقيا حيث تتمركز الدول العربية، فان المجتمعات حين أصيبت الصين بجائحة كورونا، بدأت فقط في الالتفات صوب الغرب للبحث عن مصدر جديد لتوريد المعدات الطبية والأفكار وكذلك المساندة للوجستية على كل المستويات لمواجهة الفيروس المستجد.

المراكز المسؤولة عن إنتاج خطاب يكون سلطة في حد ذاته، وكذلك تستفيد منه السلطات بوصفها شريك في الوضع السلطوي القائم، لم يتم التعويل علها بالأساس في حالة تؤكد ان واقعها لا يسمح لها بأن تشكل أي شراكة فعلية ولا قوة اقتراح للمساعدة في المواجهة، وحتى المجالات التي تنشط فيها المراكز البحثية العربية غالبا “مجال إنتاج الخطاب” لم تستطع فيه تحقيق الآمال المعقودة عليها.

إلا أنها وبوصفها جزء من فضاء عام لا يولى أهمية كبيرة للبحث العملي فإن واقع المراكز البحثية كان تجسيدا لمشاكلها التي تعاني بشكل عام، ففي قائمة الدول الاكثر انفاقا على البحث والتطوير تظهر السعودية في المركز 41 عالميا وهي الاولى عربيا بعد دول كباكستان والبرتغال البرازيل وتيوان وغيرها كثير من الدول التي تتفوق عليها الدول العربية في الموارد، فيما توجد قطر ومصر والبحرين والجزائر وعمان والسودان فقط في المئة الاولى من الترتيب[2]، بينما تتصدر امريكا والصين الترتيب بقيمة 500 مليار دولارتقريبا لكل بلد[3]، والسعودية المتصدرة للترتيب العربي لا تتخطى قرابة 12 مليار دولار كإنفاق على البحث العملي والتطوير معا، بينما انفقت على السلاح نحو 26% من الانفاق الحكومي أي 70 مليار دولار في العام 2017 والثالث عالميا[4] بعد امريكا والصين[5].

المراكز البحثية العربية فشلت وتفشل كل مرة باقناع مستثمرين خصوصيين أو عموميين في الاستثمار في المجال البحثي، وهو ما يجعلها تعيش على منح غير كافية حتى لسد ضوررات البقاء، (الايجار والكهرباء والماء)، هذا الوضع يجعل المراكز البحثية بيئات طاردة للباحثين المبتدئين، في حين أن الباحثين الذين يملكونة خبرة أكثر يسعون وراء مؤسسات ذات عائد مادي.

فحسب الباحث في كلية التجارة في جامعة السليمانية خوشي محمد عبد اللطيف فإن الاتحاد الاوروبي وجه ازيد من 3,9 من ميزانيته، الاجمالية للبحث العلمي، أي قرابة 30 بليون يور كما توجه كوريا الجنوبية حوالي 5% من الناتج القومي للبحث العلمي منذ العام 2012[6].

أما مؤشر اليونيسكو فيرصد خلال 20 سنة (1970-1990) ازدياد عدد المهندسين والعلماء من 124 عالما ومهندسا إلى 363 ممارس للبحث العلمي في الدول العربية، ويبدو هذا الرقم ضعيفا إذا ما قورن مناطق اخرى في ذات الفترة، حيث كان في أمريكا 3359 بينما كان في أوروبا 2206.

فحسب بحث صادر عن جامعة الدول العربية 2006 فإن كل مليون مواطن عربي يقابلهم 318 باحث في حين نجد ان الرقم في أوروبا 4500 باحث لكل مليون شخص.

بعض العوائق أمام المراكز البحثية العربية

العوائق المالية: وإن كان الواقع المالي لهذه المراكز يشكل أحد العوائق الكبيرة أمام مهمتها، فان هذه المشكلة ليست مطروحة للمراكز البحثية في دول الخليج أو في بعض الدول التي تولي اهتماما كبيرا للبحث العلمي.

 فمن الواضح للعيان الصرف الكبير الذي تقوم به الدول الخليجية على البحث العلمي بمختلف مجالاته، ومع ذلك فان المجال العلمي الدقيق يغيب بشكل كبير، وكما أسلفنا فالمراكز المهتمة بالبحوث الإنسانية والاجتماعية … لم تنتج هي الاخرى خطابا يذكر في ظل الازمة، وهو ما يؤكد أن الوضع لا علاقة له بالمؤشر المالي على الاطلاق، وإن كانت مقارنة ميزانية إدارات الأمن ومصاريف السلاح[7] بالثقافة تكفي لمعرفة الهوة التي تعيش المراكز البحثية في المنطقة العربية.

سيطرة الدولة: و في سياق مقاربة وضع السيطرة الذي تخضع له المراكز البحثية من الدول نفسها، نجد أنه كان المشكل الأكبر، حيث لم تولي هذه المراكز البحثية والمختبرات أي اهتمام بالمجالات الحيوية وحالات الطوارئ الوبائية أو غيرها، التي يمكن ان تشهد هذه الدول، فكانت الأولويات متركزة على الحروب والصراعات الداخلية التي تعيشها الدول العربية فقط، لذلك كانت طبيعة هذه المراكز أنها مراكز فقط تنتج حسب أولويات الحكومات، والتي تعيش صراعات “وهمية، واقعية ،مفتعلة” في أحيان أخرى من أجل بقاء الحاكم، فعشرات عناوين البحوث الصادرة عن المراكز العربية، كانت في مجلها حول تسخير الخطاب الديني لتكريس السلطة أو لمواجهة الربيع العربي وضرورة التسليح للدولة العربية… الخ، لذلك نجد ان هذه الدول تتنافس شراء الاسلحة الأجنبية وليس الصرف على الانتاج الداخلي للصحة والثقافة و الجامعات، فحسب تقرير اليونيسكو الاحصائي[8] انفقت الامارات العربية المتحدة 2016 ، 0,96 من الناتج المحلي على البحث العلمي والتطوير، في حين انفقت البحرين 2014، 0,10 فقط بينما الجزائر 0,53 في 2017 وسوريا 2015 انفقت 0,01، الرأس الاخضر 2011، 0,07 السودان 0,30، فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) 2013 ، 0,49 العراق 2017 ، 0,04 الكويت في 2017 ، 0,08 في ما صرف المغرب 2010 ، 0,71 السعودية 2013 ، 0,82، تونس 2016، 0,60 مصر 2017 ، 0,61 عمان 2017، 0,22 قطر 2015 ، 0,51، ولم تتوفر معلومات عن لبنان وموريتانيا الصومال واليمن. ويكفي القول إن منطقة  الشرق الأوسط وشمال افريقيا صرفت مجتمعا في 2012 ، حوالي 0,93 من الناتج المحلي على البحث العلمي والتطوير.

غياب سياسات ثقافية واستراتيجية ثقافية للدول:  فعربيا ليس هناك أي بلد سعى الى وضع سياسات ثقافية بشكل يذكر، الا إذا استثنينا بعض الدول كتونس وان كانت تجربتها تعاني من مشاكل جوهرية[9]، بالرغم من بعض المحاولات التي تقوم بها مؤسسات مستقلة مجموعات للسياسات الثقافية في بعض الدول، في اطار مشروع للمؤسسة المورد الثقافي، فقد وجدت مثلا مجموعة السياسات الثقافية الجزائرية والمغربية … الخ .

ففي بلد كموريتانيا التي تعاني ضعفا حادا في الميزانية العامة للدولة، يلاحظ بشكل واضح أن مشتريات الدولة من السلاح تفوق بدرجات مصاريفها على الصحة العمومية، بالرغم من عدم مواجهة البلاد لحرب بشكل مباشر، ونفس الشيء بالنسبة للسعودية التي وجدت نفسها منذ ست سنوات في المعترك اليمني والتي تشتري السلاح أكثر حتى من مما تشرتي الكتب المدرسية، والوضع نفسه في الامارات وليبيا ومصر وقطر …الخ، كلها في فكرة تكريس سيطرة الدولة وستمرار الحاكم أطول وقت ممكن في مقابل تجاهل شبه كلي للبحث العلمي.

خاتمة

العالم الآن يترقب أن يحصل على علاج لفيروس كورونا، ولكن الأنظار موجهة إلى الصين وألمانيا وأمريكا وفرنسا… الخ، ولا أحد يتوقع من العالم العربي أي شيء في هذا المجال، حتى الدول ذاتها التي تعد الشريك الأول في مجال التوريد وتجارة السلاح[10]، إلا أن مجالات البحث العلمي في أبسط انتاجاتها تنتظر من المركزية الغربية، وليس لدينا أي مساعي لإعادة ترميج الواقع وبناء مراكز موازية، فللصدفة أن السياق العربي منذ 17 من مارس 2020 يتداول بهلع دراسة تناقش تأثير كوفيد 19 على خصوبة الرجال المصابين به، إلا أن مصدر هذه الدراسة هو المراكز البحثية الصينية وليس السياق العربي، وهي الآن مسألة علمية معممة على المنطقة، مع أن ابسط ناظر يدرك أن نمط المعيشة والغذاء يستدعي فعلا دراسة عربية خاصة لإظهار مدى الأضرار الناجمة في السياق العربي، التي قد تكون أكبر بكثير مما يواجه الرجال في مناطق أخرى من العالم مقارنة بمستوى المعيشة والرعاية الصحية وغيرها من العوامل.

ما يؤكده واقع المراكز الحثية والجامعات في المجال العربي أننا أمة تتبع في كل شيء حتى في أخص خوصصياتها، وأننا قررنا أن لا نشارك في شيء للانسانية على الاطلاق، سيقول قائل حتما عن أن معظم المخابر الغربية مليئة بالعرب، علماء ومفكرين وباحثين وأطباء، أقول نعم هو كذلك ولكن السؤال الأهم لماذا لا يوجد هؤلاء في جامعات ومخابر ومراكز بحثية عربية؟، وفي هذه النقطة بالذات أختم  بهذه القصة” حين شاهد الموريتانيون اسم مسؤول الصحة العالمية في لنبان السيدة إيمان الشنقيطي، بدء البحث عنها وهل هي موريتانية أم لا؟ الفكرة لم يكن هناك موريتاني لديه أي علم بوجود شخص إسمه إيمان الشنقيطي” وهذا بالضبط هو واقع العرب في المخابر والجامعات الغربية[11].

حلول عاجلة

  • وضع سياسات ثقافية عمومية في الدول العربية سواء بشكل مستقل أو جماعي.
  • توسيع ميزانية البحث العلمي في الجامعات والمخابر والمراكز البحثية.
  • التوجه نحو القطاع البيولوجي بوصفه هو الوقاية الأهم في المستقل.
  • زيادة التمكين للبحث العلمي في السياسات العامة، والتبويب له في الميزانيات العمومية.
  • مراجعة القوانين المسيرة للمراكز البحثية مما يضمن اداءها وجودتها.
  • التحديد الدقيق لخريطة البحث العلمي في الدول والتوزيع على المجالات البحثية.
  • توجيه أولويات البحث العلمي مقارنة مع الظروف المحلية والاحتياجات الوطنية للدول.
  • خطط خمسية للقضاء على بعض المصاعب المرضية كالكبد الفيروسي وغيره.
  • تعزيز الشراكة بين هيئات المجتمع المدني المختلفة والحكومات بوصفها شراكة متوازنة.
  • جعل المؤسسات التعليمية العمومية جزء من المجتمع العلمي في البلاد مما يساهم في تعزيز وتيرة البحث العلمي.

[1] مدى الدولة مصطلح يستخدمه فرانسيس فوكوياما يقصد به سيطرة الدولة وتخلها في مختلف المجالات، مع الاشارة انه يرى ان مدى الدولة يجب ان يكون ضعيفا وترك المهمة للمؤسسات الخاصة والمجتمع المدني، في حسن تمارس هي درو الرقابة، للتوسع في الموضوع يمكن الرجوع لكتاب بناء الدولة لفرانسيس فوكوياما.

[2] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84_%D8%AD%D8%B3%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%82_%D8%B9%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D9%88%D9%8A%D8%B1

[3] قائمة صادرة عن موقع أرقام المهتم بالاحصاءات، https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/560700

[4] يمكن هنا ملاحظة الانتقال من المركز 47 في مجال الانفاق على البحث الى المركز 3 عالميا حين تعلق الامر بالسلاح، وامام دول كبرى حتى في انتاح السلام وتخوض حروب في ذات الفترة من قبيل روسيا واسرائيل.

[5] – انظر تقرير الاناضول التركية   https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D9%84%D8%AD-%D9%81%D9%8A-2019-%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9-%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D9%8B%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84/1361657

[6] خوشي محمد عبد اللطيف ، واقع البحث العلمي في الدول النامية مقارنة بالدول المتقدمة في توطين التوكنولوجيا (الصين وماليزيا واليابان) أنموذجا، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية، جامعة بابل، 2026 ص 202

[7]  تقرير لدوتشفله الالمانية يؤكد أن – إجمالي الإنفاق العسكري للمنطقة للعربية يقدر بنحو ترليون دولار في السنوات الـ10-15 الأخيرة،

[8] رابط تقرير اليونيسكو ويمكن خلاله مقارنة الدول العربية بالعالم الاخر وخصوصا الصين و الولايات المتحدة الامريكية، https://data.albankaldawli.org/indicator/GB.XPD.RSDV.GD.ZS

[9] حيث تعد القوانين التشريعية الخاصة بتونس قديمة، وفيها الكثير من المشاكل التي سعت العديد من اللجان الثقافية التحسين منها ومازال النقاش جاريا حول تحديثها بشكل شبه تام، حسب وزير الثقافة التونسي السابق مراد اصقلي.

[10] حسب تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” فإن الدول الخليجية تصنق من بين اكبر المشترين للسلاح على الاطلاق. https://www.dw.com/ar/%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%B3%D9%8A%D8%A8%D8%B1%D9%8A-%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%83%D9%84-%D9%87%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD/a-42943027

[11] للتوسع في موضوع الانفاق العربي على السلاح يمكن الرجوع للمقال التالي الذي نشرته الوكالات الروسية، بالاعتماد على معهد اسبيري، https://arabic.rt.com/press/942680-%D9%83%D9%85-%D9%8A%D9%86%D9%81%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A9/

https://arabic.sputniknews.com/military/201801301029626897-%D9%83%D9%85-%D9%8A%D9%86%D9%81%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%83%D9%84-%D8%B9%D8%A7%D9%85/

الفتاوى والتاريخ (دراسة لمظاهر من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال فقه النوازل)

                                                                                الحاج أحمدو **

استهل المؤلف كتابه” الفتاوى والتاريخ (دراسة لمظاهر من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال فقه النوازل)” بتوطئة بين فيها بعض التغيرت التي طرأت على الكتابة التاريخية والاتجاهات الجديدة في كتابة التاريخ، وقسم المؤلف عمله إلى أربعة محاور كما يلي:

المحور الأول: اعتبارات أولية :

وقد تعرض المؤلف في هذا المحور إلى الأسباب التي أدت إلى الاهتمام الملحوظ بدراسة النواحي الاقتصادية والاجتماعية من حياة المجتمعات في نطاق الاتجاهات الجديدة في التاريخ التي راهنت على مجموعة من المسلمات كإزالة الحواجز بين التاريخ وباقي العلوم الإنسانية ،و تفاعل تلك العلوم فيما بينها، و التركيز على المدى الطويل على حساب الحدث ذي الإيقاعات الانفعالية السريعة، وانتقال مراكز اهتمام المؤرخ من الزمن الفردي إلى الزمن الاجتماعي حسب التعبير البرود يلي ،أي “من الحياة السياسية إلى البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنية لإدراك حركية الواقع البشري في مختلف أبعاده وإخراج الكتابة التاريخية من النظرة الوحيدة الجانب لذلك الواقع”.

 وإذا كان توفر هذه المناهج والتقنيات قد مكن مؤرخي الفترتين الحديثة والمعاصرة في البلدان ذات التقاليد العريقة في مجال التوثيق من إحداث ثورة في مجال التاريخ الكمي في الاصطلاح الفرنسي أو التاريخ الاقتصادي الجديد في الاصطلاح الأنغلو ساكسوني  فإن الأمر لم يكن كذلك ـ حسب المؤلف ـ لا بالنسبة لمؤرخي الفترتين القديمة والوسيطة ،والمهتمين بتاريخ الذهنيات في البلدان ذات التقاليد التوثيقية بسبب الغياب الكبير للمعطيات الكمية التي يصعب تعويضها أو بسبب تقطعها في الزمان والمكان، وهو ما دفع ـ حسب المؤلف ـ بعض الباحثين لتعويض هذا النقص في الوثائق إلى استنباط بعض المعطيات الكمية من المصادر القصصية عن طريق استبدال لغة الألفاظ بلغة الأرقام قبل الانتقال إلى  مرحلة ثانية من الرقم إلى الواقع التاريخي المدروس وما ينبغي أن يتخلل مجمل العملية من حيطة واحتراز منهجيين ،وهو ما حدا بالعروي في سياق مقارنته بين التاريخي الكمي و تاريخ الإنتاج وتوظيف كل منهما لمفاهيم الاقتصاد وتقنيات الإحصاء إلى القول :” إن الثروة الحقيقية التي غيرت مسار البحث التاريخي في أواسط الخمسينيات من هذا القرن لم تكن إدخال العدد فحسب بل كانت تطبيق مناهج دراسة الإنتاج على ميادين أخرى باستغلال وثائق غير مؤشرات السوق والمعاش”.

وهكذا دفع النقص الكبير في الوثائق اللازمة لكتابة تاريخ معتبر علميا الباحثين إلى هذا النوع المركب من الرياضة الذهنية أحيانا والدعوة للبحث عن وثائق جديدة أحيانا أخرى لأن تجديد موضوعات وطرق كتابة التاريخ مرتبطة أشد الارتباط بتجديد المصادر.

ومن هذا المنطلق جاء اهتمام بعض الباحثين بالفتاوى والنوازل الفقهية بوصفها مصادر غنية بمعطيات ترتبط كل الارتباط بزمن على  المدى الطويل وبمكان  واسع في أغلب الأحيان إن لم تكن ترتبط بقضية معروفة بعينها وقعت في زمن أو مكان محددين.

واعتبر المؤلف أن الفتاوى والنوازل الفقهية في هذه المنطقة ـ في ظل الاهتمام المتزايد في المنطقة المغاربية بالتاريخ الجديد ـ ما تزال مغموطة وقيمتها الوثائقية مجهولة، بل لم يتسع لها مفهوم الوثيقة في المغرب الأقصى مثلا إلا في سبعينيات القرن الماضي بالنسبة لمعظم المختصين واقتصرت توظيفاتها المحدودة في الأساس على ما يمكن أن يستقى منها من معلومات إخبارية .

ولقد كان هذا الجهل والازدراء بالفتاوى كمصدر تاريخي ـ في مجتمع عربي إسلامي تعتبر حضارته بالدرجة الأولى حضارة فقه وشكلت فيه الفتاوى سلطة مرجعية ـ الدافع حسب المؤلف إلى كتابة هذا البحث المكرس في الأساس لأهمية الفتاوى كمصدر لكتابة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني.

وقدم المؤلف لمحة تاريخية موجزة عن استعمال الفتاوى الأكاديمي لتاريخ المنطقة بوجه عام ولاسيما من قبل المؤرخين التونسيين والمغاربة.

المحور الثاني:الفتاوى كمصدر تاريخي :من حقل الإسلاميات الغربي إلى الحقل الأكاديمي المغربي:

واعتبر المؤلف في هذا المحور أن الفضل يعود في لفت الانتباه إلى الفتاوى والنوازل كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي العربي بشكل عام والمغربي بوجه خاص في الفترة المعاصرة إلى مجموعة من علماء الإسلاميات الغربيين الذين اهتموا بتراث المنطقة الثقافي وبتاريخها في أبعاده الاجتماعية والسياسية والفكرية.

واقتصر اهتمام المؤلف ـ لاعتبارات تاريخية ولغوية حسب قوله ـ على ما قام به الفرنسيون وتمثلت المحاولات الأولى التي قاموا بها في ترجمة بعض النصوص الإفتائية قبل أن ينصب اهتمامهم في مرحلة لاحقة على تلك النصوص لمحاولة استنطاقها لتعويض النقص الذي تشكوه الحضارة العربية الإسلامية فيما يتعلق بوثائق الأرشيف وخاصة الوثائق ذات المنحى الاقتصادي والاجتماعي.

ويعتبر الأستاذ كلود كاهن من أول من نادوا بضرورة إعطاء أهمية خاصة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي، معتبرا أن كتب النوازل تستحق عناية خاصة وكرس لها مجموعة من الدراسات وإلى جانب كاهن اضطلع كل من : ربير برينشفيك و هادي روجي إدريس وجاك بيرك بجهود هامة في مجال الاهتمام بفقه النوازل والفتاوى وتوظيفها.

و”إذا كانت جل أعمال هؤلاء قد ظلت ـ حسب المؤلف ـ أسيرة النهج الوصفي المطل على الواقع من الخارج ومحكومة منهجيا بالإشكاليات التاريخانية للخطاب الاستشراقي النابع من محيط تاريخي تحكمه الذات المركزية الأوروبية ،فإن بعضها قد تحرر نسبيا من تلك المعوقات فعاين الواقع واستفاد من التطور الحاصل في العلوم الإنسانية ومناهجها، وقدم خدمات كبيرة لمؤرخي المغرب سواء على مستوى المضمون أو المنهج “.

واعتبر المؤلف أن أهمية هذه الأعمال لا تكمن في مضمونها فحسب،  وإنما فيما سنته من تقليد في مجال استغلال الفتاوى كمصادر تاريخية وإن كان ذلك الاستغلال قد ظل أحيانا استغلالا إخباريا محضا، وهي الطريقة التي ستهيمن ـ حسب المؤلف ـ على المراحل الأولى من تعامل الباحثين الجامعيين المغاربة مع هذا النوع الجديد من الوثائق التاريخية.

وأعطى المؤلف عناية خاصة لأعمال المؤرخين في الساحتين التونسية والمغربية لما تتميزان به  حسب المؤلف من حيوية وريادة في مجال مواكبة وتوظيف المناهج والأساليب الجديدة للبحث في العلوم الاجتماعية عموما والدراسات التاريخية على وجه الخصوص ، ولما يتوفر عليه المؤلف من معلومات تركيبية عن البلدين وإن تقادم بها العهد تونس1978،المغرب1986.

وتظهر الدراسات التي اطلع عليها المؤلف تفاوتا في الاهتمام بفقه النوازل وفي طرق توظيفه بالنسبة لمؤرخي البلدين ، فمن بين عشرين عملا علميا مكرسا للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي التونسي لم يستفد منها حسب المؤلف من الفتاوى سوى ثمان تتعلق بالفترة السابقة للقرن 16م ،أما الأعمال المتعلقة بالقرون اللاحقة (16 ـ 20)  فلم تشر إليها ببنت شفة وإن وظفت كثيرا الأحكام القضائية.

وأرجع المؤلف الأسباب في ذلك إلى  ندرة المعلومات في الحالة الأولى عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المصادر الأخرى، وتوفر مادة وثائقية غنية بالمعطيات الكمية والكيفية عن مناحي المجتمع لدى الباحثين في الحالات الأخرى.

وقد يكون مرد ذلك إلى التجذر التاريخي للسلطة المركزية في تونس وتغلغل أجهزتها داخل جسم المجتمع وهو ما يتجلى بشكل واضح في هرمية تنظيم الوظيفة العلمية في هذا البلد عكسا لما عليه الحال في البلدان الأخرى.

وقد تعززت تلك الخصوصيات مع استيلاء الأتراك على إفريقية سنة 1574م الذين عمدوا إلى احتكار السلطة والهيمنة على المجتمع جاعلين النظر في النوازل من اختصاص المفتين والقضاة الرسميين.

واعتبر المؤلف أن درجة استفادة المؤرخين التونسيين من الفتاوى والنوازل التي حفل بها العصر الوسيط، ما تزال نسبية باستثناء الجهود التي بذلها الأستاذ محمد الطالبي  والأستاذين سعد غراب ومحمد حسين.

وأشاد المؤلف بجهود الطالبي عميد أخصائي تلك الفترة الذي تنبه حسب المؤلف إلى الأهمية البالغة للمصادر الفقهية بشكل عام والفتاوى على وجه الخصوص في دراسة ماضي المغرب الاقتصادي والاجتماعي والتي وظفها توظيفا بنيويا في جل كتاباته عن تاريخ المنطقة.

واقتصر المؤلف على ذكر بعض الأعمال التي قام بها الطالبي كاهتمامه بدراسة الحياة العسكرية من خلال فصل الجهاد من كتاب النوادر والزيادات على ما في المدونة من غريب الأمهات.

وألقى الطالبي حسب المؤلف نظرة فاحصة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في إفريقية القرنين 9 ـ 10 م باستغلاله لسبعة وثلاثين فتوى من كتاب مسائل السماسرة للأبياني تتعلق بسماسرة الثياب في مدينة تونس التي انتزعت مكانة القيروان في أواخر القرن 9م.

واستقى الطالبي في دراسته لتاريخ إفريقية المؤسسي الاقتصادي والاجتماعي في القرن 3هـ ـ 9م معلوماته من بعض الكتب:كالمدونة لسحنون، وكتاب:الاموال لأبي جعفر أحمد بن نصر الداودي.

واعتمد الطالبي بوجه خاص على المدونة في تحليل جوانب من الحياة الزراعية مثل:الشفعة والقسمة والعارية والمنيحة ، وقد حلل انطلاقا من تلك النصوص ما امتازت به البنيات الزراعية والاجتماعية في القرن 9م من تفاوت كبير سواء على صعيد الهرمية الاجتماعية أو على صعيد توزيع الثروة وما لعبه الأرقاء من دور بارز فيما حققه ازدهار الزراعة آنذاك من رخاء في إفريقية.

وخلص المؤلف إلى أن الطالبي مهد السبيل للولوج إلى التاريخ الصامت للمجتمعات المغاربية من بابه الواسع.

ويذكر المؤلف في مجال التحقيق ما قام به الأستاذ فرحات الدشرواي  من نشر كتاب :أحكام السوق ليحي بن عمر بن لبابه ، وتحقيق :نوازل المزارعة والمغارسة و المساقات والشركة  من المعيار للونشريسي  من طرف محمد حسن موسى، وتحقيق :الأحكام للشعبي من طرف الصادق الجلوي، وقام الأستاذ انس العلاني  بتحقيق السفر الأول والثاني من كتاب الإعلام بنوازل الأحكام لابن سهل.

ويقدم الاستاذ سعد غراب في بحثه: كتب الفتاوى وقيمتها الاجتماعية الجزأ الأول  من نوازل البرزلي.

واستعرض غراب في البداية الآراء المتضاربة بشأن أهمية الكتب الدينية في دراسة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وميل إمام وفقهاء المذهب المالكي إلى الواقعية في الافتاء وتشبثهم بالواقع وابتعادهم عن الافتراضات النظرية والحيل الفقهية، واعتبارهم للعرف والعادة والعمل كأصول فرعية للتشريع قبل أن يتناول أهمية كتب الفتاوى المغربية، وما قيم به من توظيف تاريخي لها ولا سيما نوازل البرزلي وقيمتها الاجتماعية ليخلص إلى القول إن الثروة الكبيرة الموجودة في مثل هذه التصانيف تسمح لنا بتجشم أتعاب النظر فيها ودراستها وربما تحقيقيها علميا إذ ذاك يمكن لكل إنسان أن يفتش عن بغيته في هذا المنجم الخصب.

ويظهر سعد غراب ما تميزت به مواقف بعض الفقهاء في المدن الإفريقية من قساوة تجاه الأعراب بين الطعن في إسلامهم واستغراق ذمتهم اعتمادا على فتاوى لابن عرفة والبرزلي.

وتجلت تلك النظرة الإزدرائية تجاه المجموعات الريفية في اختلاف فقهاء القرن 8م بشأن التعارض القائم بين التعاليم الشرعية وبعض الممارسات الاجتماعية.

وتناول الأستاذ حسن محمد موسى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لهذه المسألة بتعمق وحصافة في دراسته عن الريف المغربي( الريف المغربي في أواخر العصر الوسيط ) إذ تعرض لما منح للتاريخ السياسي والعسكري العربي من عناية وما عاناه التاريخ الاقتصادي والاجتماعي من تهميش نتيجة لصعوبة البحث فيه لغياب أرشيف اقتصادي بالنسبة للمغرب الإسلامي وهيمنة كتب الحوليات والتاريخ على المادة الوثائقية وضحالة المعلومات الاقتصادية والاجتماعية الواردة فيها.

 وتناول أهمية كتب الفقه والفتاوى في هذا المضمار وأسباب عزوف الباحثين مستعرضا شروط استنباط المعلومات من الكتابات الفقهية ليخلص إلى المضمون الاقتصادي والاجتماعي لفصل المزارعة والمغارسة من المعيار إذ عالج بحس تاريخي البنية الفلاحية المغربية والمشكلات التي طرحتها على المجتمع الفلاحي المغربي من خلال دراسة وسائل الإنتاج الفلاحي وعلاقات الإنتاج (الشركات الفلاحية) إذ استعرض الهياكل العقارية وسماتها المميزة وعناصر الإنتاج إضافة إلى ظاهرة الخماس ووظيفته وعلاقاته برب العمل.

وخلص المؤلف إلى أن محدودية استغلال الفتاوى في الكتابات التاريخية هي السمة الغالبة على الانتاج الجامعي التونسي، وهو ما يخالف الوضع في المغرب نظرا لتفاوت تطور الهياكل الاجتماعية وتباين طبيعة الدور؟الاستعماري في حقل الإنتاج التاريخي.

وخلص المؤلف إلى أن خصوصية المغرب الأقصى الاجتماعية والسياسية ستتحكم إلى حد كبير في اهتمامات مؤرخيه وطبيعة الإنتاج التاريخي في فترة ما بعد الاستقلال .

وتطرق المؤلف إلى المراحل التي مر بها الانتاج التاريخي في هذا الحقل، وقد تميزت بمرحلتين أساسيتين هما:

*مرحلة التاريخ الوطني: (56 ـ 1975 ):

وقد هيمنت عليها هموم دحض الاستوغرافيا الاستعمارية وتأكيد الهوية الوطنية.

*مرحلة التاريخ الاجتماعي ( 1975 ـ إلى اليوم ).

وهي مرحلة شكلت حسب المؤلف نقلة نوعية في مجال الإنتاج التاريخي بالمغرب سواء من حيث المنهج أو من حيث مجالات الاهتمام .

وحسب المؤلف فإن جهود الجامعة المغربية أخرت على مدى عشرين عقدا من الزمن عن تخريج نخبة من المؤرخين الشباب المنفتحين على العلوم الاجتماعية الأخرى ومناهج البحث المعاصرة ، ولاسيما مناهج علمي الاقتصاد والاجتماع والواعيين بالمتطلبات الجديدة لمهنتهم وواقع البحث في بلادهم إذ انصب اهتمامهم على التاريخ الاجتماعي ( الكلي بمعناه البروديلي ) بدل التاريخ السياسي الذي هيمن على المرحلة الأولى .

وفي ظل هذا التوجه التحديثي اهتم الباحثون بالفتاوى الفقهية ضمن عملية تنقيب واسعة النطاق عن وثائق جديدة تسمح بإعادة صباغة الماضي صياغة معتبرة بشكل علمي.

ويظهر حضور الفتاوى في الأبحاث الجامعية المغربية إذ ارتبط  ارتباطا وثيقا بتطور البحث التاريخي بشكل عام وبتطور المناهج والاتجاهات الفكرية في الجامعة المغربية بشكل خاص.

وحسب المؤلف فقد ظلت الفتاوى حتى نهاية السبعينيات مستبعدة من قبل المؤرخين كمصدر تاريخي، وابتداء من سنة 1970 طرح الأستاذ عبد الله العروي بطريقة أكثر جلاء ضرورة توظيف الفتاوى في كتابة التاريخ المغربي إذ أن “فقه النوازل هو الكفيل بأن يقربنا أكثر من واقع الأوضاع السياسية والاجتماعية لكن هذا النوع من الكتابات ما زال لم يدرس دراسة شاملة”.

وقد أعطى العروي اتجاهات جديدة للبحث التاريخي وابتداء من ذلك التاريخ سيتبلور اتجاهان في مجال استخدام الفتاوى الفقهية كمصدر تاريخي أحدهما تراثي ببليوغرافي  النزعة ، والآخر بنيوي يعكسان ثنائية منهجية واضحة على مستوى العاملين في حقل البحث التاريخي المغربي، وتوجد قواسم مشتركة بين هذين الاتجاهين تتمثل في التزايد الملحوظ لكم المصادر الفقهية المستخدمة واتساع مجال توظيفها زمنيا ونوعيا بحيث لم يعد يقتصر على الفترة القروسطية، وإنما شمل الفترتين الحديثة والمعاصرة.

وسنقتصر في التمثيل لهذين الاتجاهين على عناصر محدودة لها دورها الريادي تجنبا لمزيد من الإفاضة في عنصر لا يشكل جوهر اهتمامنا الآني.

وحسب المؤلف فقد استمر الاتجاه الأول الذي استمر في استغلال الفتاوى استغلالا إخباريا محضا في مجالات مختلفة ويمثله كل من محمد حجي وإبراهيم حركات وعبد اللطيف الشاذلي.

أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه البنيوي الذي مثل نقلة كيفية في الإنتاج التاريخي المغربي ومن بين من سلكوا هذا النهج :أحمد التوفيق و محمد القبلي ومحمد مزين وعبد الله الحمودي وعبد القادر المؤدن  ومحمد اعفيف…

وخلص المؤلف إلى القول إن الفتاوى إذا كانت قد حظيت باهتمام كبير في مجتمعات لها تقاليدها العريقة في مجال التوثيق وتجاربها في مجال البحث التاريخي ،فإننا في المنكب البرزخي أحوج ما نكون إلى الاهتمام الجاد بهذه المادة الوثائقية الثرة وتوظيفها توظيفا بنيويا ونحن نخطو خطواتنا الأولى في مجال البحث التاريخي المعاصر.

المحور الثالث:الفتاوى الموريتانية من الكم إلى الكيف:

ويتطلب الحديث عن الكم والكيف في الفتاوى المتعلقة بما يعرف بموريتانيا حسب المؤلف التأريخ لتلك الفتاوى في هذا المجال ببعديه الجغرافي والبشري التاريخيين، إذ يرتبط الاستفتاء والإفتاء في هذا المجتمع كما في غيره من المجتمعات الإسلامية بتاريخ اعتناقه الإسلام وحظه من الثقافة العربية الإسلامية.

وإذا كانت التقاليد العالمة المحلية ترجع تاريخ دخول الاسلام إلى صحراء الملثمين إلى النصف الأول من القرن الثاني الهجري فإنه لا جدال في أن هذا الاسلام ظل سطحيا ويفتقر إلى العمق المعرفي حتى أواسط القرن 5هـ على الأقل.

وإذا كانت حركة المرابطين قد وطدت إسلام صنهاجة الصحراء ووضعت له دعائم عقائدية وثقافية ـ ما فتئت تترسخ مع الأيام ـ بقضائها على بقايا المعتقدات السابقة على الإسلام وتوحيدها الجميع في مذهب فقهي وعقائدي واحد وتعميقها المعارف الدينية والثقافية بإقامة المؤسسات التعليمية.فإن المنطقة حسب المؤلف لم تحقق على ما يبدو اكتفائها المعرفي إلا في القرن 10هـ ـ 16م :”إذ لم نعثر ـ يقول المؤلف ـ قبل هذا القرن على فتاوى لمفتين محليين إذ استثنينا ما أوردته الكتب الإخبارية عن الافتاءات التي كان يصدرها شفهيا على الأرجح ابن ياسين من حين لآخر بينما كان الاستفتاء معروفا في المنطقة منذ القرن 5هـ على الأقل”.

وحسب المؤلف فلا يمكن التعويل على الفتاوى كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني قبل الفترة الحديثة خلافا لما عليه الحال في تونس والمغرب.

وكانت أولى الفتاوى المحلية مع اند عبد الله بن سيد أحمد ت1530م وجيله من علماء ولاته و تينبكتو و تيشيت التي كانت من أولى مراكز  الإشعاع الثقافي في المنطقة وستترسخ ظاهرة الإفتاء وتنتشر في عموم البلاد خلال القرون اللاحقة مع الانتشار العمودي والأفقي للمعارف العربية والإسلامية وانتقال مركز الثقل المعرفي من المدن إلى البوادي.

ومن خلال عملية تقص أولية للفتاوى والمفتين المعروفين في الفترة ما بين القرن 16 والنصف الأول من القرن الـ 20 أحصى المؤلف 250 مفت منهم 85 لهم مجامع إفتائية ضخمة أحيانا ومرتبة حسب أبواب الفقه و”ليس لهذه الأرقام حسب المؤلف أية دلالة حصرية”.

 ويعتبر القرن 17 قرن ظهور المجامع الإفتائية الكبرى في موريتانيا مع محمد بن المختار بن الأعمش ( ت1107 /1695 م ) ومحمد بن أبي بكر الهاشم الغلاوي  ( ت 1098 / 1686 م ) والقاضي عبد الله بن محمد بن حبيب العلوي ( 1102 / 1692 م )  والحاج الحسن بن آغبدي الزيدي (ت 1192 / 1711م ) .

كما ظهرت في هذا القرن أولى عمليات تطويع الفقه المالكي للواقع المحلي المعيش بترجيح عرف البلد ـ أحيانا ـ على مشهور المذهب اعتبارا لمقاصد الشرع وحرصها على مصلحة الناس في كل زمان ومكان.

ويظهر الجدول التصنيفي التالي لـ 250 مفت و82 مجمعا إفتائيا تزايدا مضطردا لهم عبر العصور الأخيرة .

الجدول:1

القرن عدد المفتين عدد المجامع الإفتائية
16 5 ؟
17 15 4
18 62 25
19 94 29
النصف الأول من ق:20 74 24
المجموع 250 82

و سنلاحظ أن عموم المناطق الموريتانية قد عرفت الإفتاء إذا حاولنا توزيع هؤلاء المفتين توزيعا جغرافيا وأن هناك ـ على ما يبدو ـ تعالقا كبيرا بين حظ المناطق منه ومستوى إشعاعها الثقافي أو وعيها الفقهي على الأقل ،كما يتضح من الجدول الموالي:

القرن 16 17 18 19 النصف الأول من ق 20 المجموع الجزئي
شرقي البلاد 4 4 26 10 4 48
الوسط 1 1 10 11 13 36
الشمال ـ 5 5 7 3 20
الجنوب الغربي ـ 5 21 66 54 146
المجموع 5 15 62 94 74 250

فالإفتاء في القرن 16 قد اقتصر على المنطقتين الشرقية والوسطى من البلاد حيث كانت لمحور تينبكتو  ولاته تيشيت الهيمنة الاقتصادية والثقافية منذ أواسط القرن 14 م .

ومع التحولات التي عرفتها المنطقة في ملتقى القرنين 16 ـ 17م وما انجر عنها من تبرمات  سياسية وهجرات بشرية ( ولا سيما من المراكز القروية إلى الأرياف ) وزحزحة مسالك التجارة البعيدة المدى نحو الغرب سنلاحظ تقلصا تدريجيا في عدد المفتين في شرق ووسط البلاد وظهورهم بشكل ملحوظ في الشمال والجنوب الغربي.

أما القرن 18م الذي استقرت فيه ـ عموما ـ الخريطة البشرية والسياسية للمنطقة فقد كان نسبيا ـ حسب المؤلف ـ قرن رخاء اقتصادي وازدهار ثقافي تلمس مظاهره المختلفة في مدونات المفتين الذين تكاثر عددهم في ذلك القرن في عموم البلاد ولاسيما في شرقها ووسطها وجنوبها الغربي.

وستستمر نفس الظاهرة في القرن 19م والنصف الأول من القرن العشرين و”إن كنا ـ حسب المؤلف ـ نلاحظ خلال هذين القرنين صعودا ملحوظا لعدد المفتين في المنطقة الجنوبية الغربية أكثر من غيرها من مناطق البلاد الأخرى.

وأرجع المؤلف ذلك إلى “خصوصية العوامل التي أثرت في تطور المنطقة المعاصر أو إلى نقص في المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن ـ يقول المؤلف ـ عن الإفتاء والمفتين  في هذه الفترة ولاسيما في المنطقتين الشرقية والوسطى”.

ولإعطاء فكرة كمية وكيفية أكثر ملموسية عن الفتاوى وأهميتها في دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني اختار المؤلف  عينة من 6 مفتين موزعين على القرون:17،18،19م تشتمل على 1453 فتوى تمثل المسائل المتعلقة بالحياة الاقتصادية منها 27.84% ( 406 فتوى)  في حين تمثل الفتاوى ذات المنحى الاجتماعي 44.87% (652 فتوى) وهو ما يمثل في مجموعه 72.81% (1058 فتوى).

 ويمثل الجدول التالي تلك المعطيات بالتفصيل بالنسبة لكل مفت:

اسم المفتي العدد الإجمالي للفتاوى المصنفة حقل الفتوى عددها النسبة الجزئية النسبة العامة
محمد بن المختار بن الأعمش (1625ـ 1695) 286 فتوى الحياة الاقتصادية 115     40.20%
فتاوى المعاملات 87 75.65%
فتاوى العبادات 28 24.34%
الحياة الاجتماعية 75     26.22%
الأنكحة وما يتعلق بها 45 60%
العلاقات الاجتماعية 30 40%
الحياة الدينيةوالثقافية 96     33.56%
الحياة الدينية 75 78.12%
الحياة العلمية 21 21.87%
سيد عبد الله بن الحاج ابراهيم(1740ـ1818) 333 الحياة الاقتصادية 55 ؟ 16.61%
الحياة الاجتماعية 206 ؟ 61.86%
الحياة الدينية 72 ؟ 21.62%
أحمد بن العاقل 74 الحياة الاقتصادية 25     33.78%
فتاوى المعاملات 9 36
فتاوى العبادات 16 64
الحياة الاجتماعية 18   24.32%
الأنكحة وما يتعلق بها 12 66.66
    العلاقات الاجتماعية 6 33.33  
الحياة الدينية 14 ؟ 18.92%
القضايا السياسية 17 ؟ 22.97%
محنض بابه بن اعبيد (1771 ـ 1860) 280درست منها 203 الحياة الاقتصادية 91     24.32%
فتاوى المعاملات 61 67.03
فتاوى العبادات 30 32.97
الحياة الاجتماعية 52     25.61%
الأنكحة وما يتعلق بها 22 42.30
العلاقات الاجتماعية 30 37.69
الحياة الدينية والثقافية 60     29.55%
الحياة الدينية 40 66.66
الحياة العلمية 20 33.33
الشيخ سيديه بن المختار بن الهيبه ( 1776 ـ 1868) 332 الحياة الاقتصادية 58     18.01%
فتاوى المعاملات 19 32.76
فتاوى العبادات 39 67.24
الحياة الاجتماعية 193     59.94%
الأنكحة وما يتعلق بها 78 40.41
العلاقات الاجتماعية 115 59.58
الحياة الدينية والثقافية 54     16.77%
الحياة الدينية 25 46.30
الحياة العلمية 29 53.70
القضايا السياسية 17 ؟ 05.28%
محمذن فال بن متالي 225 الحياة الاقتصادية 62     27.55%
فتاوى المعاملات 33 53.23
فتاوى العبادات 29 46.77
الحياة الاجتماعية 106     47.11%
الأنكحة وما يتعلق بها 19 17.92
العلاقات الاجتماعية 87 82.08
الحياة الدينية 57 ؟ 25.33%

منزلة الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية من مجموع فتاوى 6 مفتين من أهل القرون:17،18، 19:

إن نظرة إجمالية سريعة إلى الجدول الاستنباطي تظهر أن القضايا الاجتماعية بمعناها الضيق( الأنكحة وما يتعلق بها من ممارسات ،والعلاقات الاجتماعية بين فئات  المجتمع …) قد احتلت الصدارة من الناحية الكمية في إفتائات هؤلاء المفتين ( حوالي:45% من المجموع العام ) على مدى ثلاثة قرون في مناطق مختلفة من البلاد ، وإذا ما أضيف إلى هذا الرقم نسبة الممارسات الدينية والثقافية من تلك الفتاوى فإن نسبة مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية ستصل إلى 72% وهذا يعني أن هذا المجتمع كان أكثر حركية و أقل رتابة مما توحي به النظرة الانطباعية العامة عن واقعه، وأن الحياة الاجتماعية كانت تطرح على سكان المنطقة من النوازل التي تتطلب تأسيسا فقهيا أكثر مما تطرحه حياتهم المادية التي لم تتجاوز نسبتها 28%من تلك المدونة الإفتائية. 

أما إذا أخذنا فتاوى كل مفت على حدة، واقتصرنا على القضايا الاجتماعية المحضة فإننا نجدها قد فاقت غيرها من القضايا في فتاوى كل من سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم والشيخ سيديه بن المختار بن الهيبة، ومحمذن فال بن متالي حيث بلغت نسبتها:56.74% من مجموع فتاويهم بينما تفوقت عليها القضايا الاقتصادية في فتاوى محمد بن المختار بن الأعمش، وأحمد بن العاقل ، ومحنض بابه بن اعبيد.

وأرجع المؤلف أسباب ذلك إلى المحيط الطبيعي والتاريخي لهؤلاء الذين كان عليهم مدار الإفتاء في المناطق التي عاشوا فيها، فقد عاش بن الأعمش في القرن 17م  بمنطقة آدرار الجبلية القاحلة ذات الحجم السكاني المحدود والتي تقوم حياتها المادية في الأساس على زراعة الواحات والتجارة عبر الصحراء، وتحديدا في مدينة شنقيط التي كانت في ذلك الوقت تعرف بداية ازدهارها الاقتصادي، وتألقها الحضاري باعتبارها محطة أساسية في تلك التجارة وملتقى لقوافل الحج  بالمنطقة ومركزا علميا مهما ،ومن الطبيعي في مجتمع كهذا أن تحتل المشكلات ذات الطابع الاقتصادي الصدارة على حساب القضايا الاجتماعية فقد أصدر ابن الأعمش 87 فتيا بشأن المعاملات وحدها (البيع ،السلم ،المطل ، الضمان،العارية ،الشركة،القراض،الإيجار،الجعل،الوديعة… ) منها 30 فتيا تتعلق بالبيع ،و12 بالإجارة،و7 بالمطل،في حين أصدر 44 فتيا بشأن الأنكحة 21 تتعلق بالزواج و20 بالطلاق و3فتيا بالعدة والاسترعاء والحضانة…

أما ابن العاقل فقد عاش جل حياته في القرن 18 بمنطقة اترارزة السهلة الساحلية التي تقوم حياة سكانها على الرعي ( ولاسيما تربية الأبقار) والتجارة والزراعة بدرجة محدودة، وفي منطقة إيكيدي  بوجه خاص ووسط المجتمع الشمشوي المعروف بتمسكه بالمثل الدينية وبنهجه الأخلاقي المتميز.

وقد عرفت المنطقة في عهده استقرارا سياسيا واجتماعيا بعد الاضطرابات والهزة العنيفة التي عرفتها في أواخر القرن 17م جراء حرب شرببه ، وبداية رخاء اقتصادي لعبت فيه عائدات تجارة العلك مع الأوربيين دورا مهما،وإذا كانت فتاويه ذات الطابع الاقتصادي أعلى نسبة من فتاويه ذات المنحى الاجتماعي ( 33.78% مقابل 24.32% من مجموع فتاويه) فإن فتاوى العبادات في الصنف الأول قد فاقت فتاوى المعاملات ( 64%مقابل 36% من الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية.

 وإذا قارنا عدد فتاوى الحقلين الأساسيين في المجالين الاقتصادي والاجتماعي فإن فتاوى الأنكحة أهم بقليل من فتاوى المعاملات (12 مقابل 9).

وعاش محنض بابه خلال القرن 19م بنفس المحيط الطبيعي والبشري الذي عاش فيه أحمد بن العاقل ،وعرفت المنطقة في عهده عصرها الذهبي سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي، وكانت تجارة العلك مع الأوربيين، وما يتولد عنها من نشاطات اقتصادية،وإشكالات فقهية تعيش أوج ازدهارها في عهد هذا المفتي القاضي المركزي للإمارة ،وأخذت تلك الإشكالات حيزا ملحوظا من اهتماماته واهتمامات معاصريه.

وبالعودة إلى فتاويه فقد هيمنت عليها الإشكالات الاقتصادية (44.83%مقابل 25.61% للاستشكالات الاجتماعية) ولاسيما قضايا المعاملات التي استحوذت على 67.03%من الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية.

فقد أصدر 39 فتيا بشأن البيوع وما يتعلق بها من معاملات في حين لم تتجاوز فتاوى الأنكحة ومتعلقاتها 16 وهو ما يمثل نسبة 2.43% وهذا يعني أن الإشكالات التي طرحتها حياة الناس المادية في تلك المنطقة خلال النصف الأول من القرن 19 كانت  أهم من تلك طرحتها حياتهم الاجتماعية.

وارجع المؤلف السبب في ذلك إلى ما عرفه النشاط الاقتصادي في المنطقة من تعقيدات ومستجدات بفعل التغلغل البضاعي في حين ظلت الحياة الاجتماعية تعيش رتابتها التاريخية  حسب المؤلف بمنأى عن المؤثرات الخارجية.

ولتوضيح أهم القضايا ذات الطابع الاقتصادي التي تناولها هؤلاء المفتون يقدم المؤلف فتاوى ابن الأعمش ومحنض بابه والشيخ سيديا فقط التي تمكن من الحصول على جرد شبه دقيق لها كما يظهر من الجدول التالي:

4

موضوع الفتاوى عددها نسبتها الحقلية* نسبتها من المجموع العام**
البيوع وما يتعلق بها 77 29% 7.90%
السلم 10 3.78% 1.02%
القيم وأنواعها 9 3.4% 0.92%
القرض 9 3.4% 0.92%
الضمان 8 3.03% 0.92%
الإجارة والكراء 17 6.44% 1.74%
الشركة 3 1.13% 0.30%
الربا 10 3.78% 1.02%
المداراة 12 4.55% 1.23%
الزكاة 28 10.6% 2.97%
الحبس والوقف 39 14.77% 4%
أشكال من التعاون الاقتصادي ( ونكالة ـ خلط الطعام عند صانعيه) 3 1.13% 0.3%

*  تبلغ فتاوي هؤلاء المفتين الثلاثة ذات الطابع الاقتصادي 264 فتوى .

** مجموع المدونة الافتائية الماخوذة كعينة تبلغ 974 فتوى.

وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الجدول التالي يبين أهم الاستشكالات الاجتماعية المطروحة على هؤلاء المفتين بوصفها تجليات لممارسات المجتمع ونظام قيمه الذهنية .

أهم القضايا الاجتماعية المثارة في فتاوى العلماء الثلاثة.

موضوع الفتوى عددها نسبتها الحقلية نسبتها من المجموع العام
الزواج وما يتعلق به 107 23.44% 10.98%
الطلاق 39 12.18 4%
العتق والولاء 19 5.94 1.95%
المغارم 4 1.25 0.41%
الفداء 3 0.94 0.31%
وضعية الرقيق 5 1.56 0.51%
استغراق الذمة والنظرة إلى بني حسان 17 5.31 1.75%
قضايا التصوف 65 20.31 6.67%
الجنايات 18 5.62 1.85%
القضاء والتقاضي 31 9.69 3.18%
الصدقة والهبة 12 3.75 1.23%

ويقسم المؤلف القضايا الاجتماعية الواردة في هذا الجدول تبعا لحضورها في المدونة الإفتائية إلى ثلاثة محاور هي:

1ـ الأنكحة أو ما يقع بين اثنين .

2ـ الممارسات  السوسيودينية.

3ـ العلاقات بين الفئات الاجتماعية.

وقد شكل المحور الأول المشغل الاجتماعي الأساس في حياة المجتمع آنذاك باستحواذه على 146 فتيا من أصل 320 فتوى (45.62%) وهو ما يعكس حسب المؤلف  تفاعل النصوص الشرعية مع الجانب الاجتماعي بقوانينه الفرعية السائدة وشبكات بناه القرابية والفئوية بمستوياتها المختلفة.

فقد مثل الزواج نسبة 73.28% ( أي 107 فتيا) من فتاوى الأنكحة بينما مثل الطلاق 26.71 % (39 فتيا) وهو ما يشكل حسب المؤلف مؤشرا على أن تفشي ظاهرة الطلاق في المجتمع إذ ذاك كان محدودا نسبيا وأن الحياة الأسرية كانت تتسم بنوع من الاستقرار لاسيما وأن 20من فتاوى الطلاق تتعلق بالقرن 17م وبمفت واحد حسب المؤلف.

واحتلت الممارسات السوسيودينية المنزلة الثانية من الناحية الكمية حيث تناولتها المدونة الإفتائية في 126 فتيا 65 منها مكرسة لقضايا التصوف و31 للقضاء و18خاصة بالجنايات و12 بالصدقة والهيبة.

وأشار المؤلف إلى أن فتاوى التصوف خاصة بالقرن 19 ذلك القرن الذي حققت فيه تلك الظاهرة انتشارا أفقيا لم يسبق له مثيل في الأراضي الموريتانية الحالية ،وأن تلك الفتاوى صادرة عن الشيخ سيديا  الكبير وحده الذي كان رائد القادرية في الجنوب الغربي الموريتاني.

أما محور العلاقات بين الفئات الاجتماعية فقد اشتمل على 48 فتيا (15% من مجموع الفتاوى الاجتماعية) كرست 19 منها لإشكالات العتق والولاء و17 باستغراق الذمة ونظرة الزوايا ـ القيمين على الإفتاء والإنتاج المعرفي بوجه عام حسب المؤلف ـ إلى بني حسان، و5 بالرقيق ووضعيته القانونية في ذلك المجتمع، و4 بالمغارم  و3 بظاهرة الفداء.

المحور الرابع: الفتاوى في الزمان والمكان أو من الفقه إلى التاريخ:

حاول المؤلف في هذا المحور رصد بعض مظاهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتلمس العلاقات الوثيقة بين الأحداث الاجتماعية والمؤشرات الاقتصادية والتفاعل بينهما عبر الزمن البطيء  من خلال تجليات فتاوى علماء القرون الثلاثة الماضية من خلال المدونة الإفتائية التي تعتبر بحق”أرشيف مجتمع بلا أرشيف”.

وستتمحور النماذج المستقرأة حول بعض أساليب التعامل الاقتصادي والممارسات الاجتماعية والعلاقات بين فئات المجتمع.

أـ أساليب التعامل الاقتصادي:

وأكد المؤلف أن هذه البلاد لم تعرف قبل عشرينيات القرن العشرين استخدام العملة وتحديدا سنة 1919، حسب مختلف الشهادات التاريخية ففي القرن 15م يؤكد سادا موستو عدم وجود الدراهم المسكوكة،كما يؤكد ذلك فالانتين فيرناندس في مطلع القرن 16 في معرض حديثه عن سكان الأراضي الموريتانية الحالية حين قال:(إن العرب ليست لديهم عملة باستثناء الفضة التي تأتيهم من بلاد النصارى والتي هي أغلى عندهم من الذهب (…) فليست لديهم وسيلة أخرى للشراء أو للبيع سوى مقايضة مادة بأخرى). ويقول شامبونو في الربع الأخير من القرن17 إن (كل التبادل يتم عن طريق المقايضة دونما استخدام للعملة). كما أكد ذلك الشيخ محمد المامي في القرن19 عندما اعتبر أن (التقويم بالعروض في أرض لا سكة فيها تشهد له الأصول)، وقال بضرورته( في بلادنا التي لا توجد فيها السكة (…) وإنما عروض تغلب في هذا الجزء من البلد وغيرها يغلب في جزء آخر ويتعين التقويم بها). وأشار المؤلف إلى أن الرأي القائل بالتقويم بالعروض ذهب إليه أكثر من مفت في البلاد. و”هكذا ـ يقول المؤلف ـ  ظلت طرق التعامل تسودها المقايضة حيث لعبت المواشي وبعض المواد المحلية دور وسيلة التبادل الأساس في هذه الفترة أو تلك ، وإذا ما تركنا جانبا الدور الذي لعبه الملح والذهب في التجارة الصحراوية (…) فإن الودع وبيصة النيلة والأنعام قد شكلت وسائط التقويم والتبادل الأساسية في البلاد تبعا لخصوصيات كل منطقة”.

ب ـ الممارسات الاجتماعية:

واعتبر المؤلف أن المشغل الاجتماعي كان حاضرا حضورا مكثفا في فتاوى الفقهاء الموريتانيين في القرون الماضية حيث تعكس فتاويهم مشاكل مجتمعهم وممارساته الاجتماعية على اختلاف مظاهرها.

إذ “من الطبيعي ـ يقول المؤلف ـ في مجتمع قبلي من البداة الرحل يعيش تقلبات الظروف الإيكولوجية لمحيط طبيعي  غير مضياف، وشحا في مصادر عيش يعتمد ـ في الأساس ـ على الإنتاج الرعوي المتميز بالقلة ،وتسيبا سياسيا متأصلا ،من الطبيعي إذن أن يعرف هذا المجتمع ضروبا من الفوضى والمظالم ذات الجذور المادية والاجتماعية كالسلب والنهب والمداراة والمغارم”.

وقد احتفظت لنا النصوص الإفتائية منذ القرن 5هـ /11م بمعطيات عن شيوع ظاهرة السلب والنهب في المنطقة واستفتاء أهلها عن موقف الشرع من الأموال المغصوبة إذ استفتى  مرابطوا الصحراء ابن رشد عن مسالة غصب نزلت عندهم.

ويؤكد اللمتوني استمرار تلك الظاهرة في مجتمعه خلال القرن 9هـ /15م وتعج المصادر الإخبارية المحلية في القرون اللاحقة بحوادث السلب وما يصاحبها  عادة من عنف،كما طفحت إفتاءات العديد من الفقهاء في القرون الثلاثة الماضية بمظاهر مختلفة من الإشكالات التي طرحها الغصب والنهب على الناس في مشارق هذه الجزيرة السودانية ومغاربها.

ويختم المؤلف حديثه عن السلب والنهب بالقول “إن الأمر يتعلق بظاهرة ضاربة الجذور في تاريخ هذا المنكب البرزخي (…) فقد مورس في عهد المرابطين (…) وفي عهد الإمارات الحسانية (…) ويمارس اليوم ـ يقول المؤلف ـ في ظل الدولة المركزية على الممتلكات العمومية بشتى الطرق،وليست  الكزرة (القسر) بمظاهرها الاقتصادية والسياسية والعسكرية سوى إحدى التجليات المعاصرة لظاهرة الغصب والنهب المتأصلة في هذه الأرض فالمسلكيات والعقلية المحركة لتلك الممارسة هي نفسها وإن اختلفت الأساليب والطرق باختلاف العصور وأنماط العيش… “. وإذا كان السلب والنهب حاضرين في المجامع الافتائية للعلماء الموريتانيين فإن “المداراة والمغرم” قد شكلت مشغلا بارزا لدى العلماء الموريتانيين وشغلت حيزا كبيرا من مجامعهم الإفتائية في القرون الثلاثة الماضية لكثرة ما طرحت من إشكالات بالنسبة للأفراد والمجموعات في هذا البلد. وقد تولدت هاتان  الظاهرتان عن ظروف الفوضى الأمنية وسيادة قانون الغاب في بلادهم السائبة.

ج ـ العلاقات بين الفئات الاجتماعية:

واقتصر حديث المؤلف في هذا المحور على نظرة الفئة الزاوية ـ القيمة على الإفتاء ـ إلى الفئة الحسانية صاحبة السلطة الزمنية في موريتانيا الأمس ومعالجة الفقهاء لإشكالية العلاقة مع الأتباع والموالي والأهلية القانونية للرقيق.

وإذا كانت آراء المفتين بهذا الخصوص تحاول الاستناد إلى مرجعية فقهية مالكية عامة ـ ولاسيما في قراءتها المغربية فإنها تنطلق في الغالب الأعم من العادات المنبثقة من الواقع الهرمي للمجتمع القائم على تقسيم وظيفي للعمل ، وما انجر عنه عبر الزمن ـ من علاقات اجتماعية  غير متكافئة بين مختلف فئاته.

وركز المؤلف على القضايا التالية:

1ـ نظرة الزوايا إلى حسان: إذ انطلقت مواقف الفقهاء حسب المؤلف من بني حسان(بالمعنى الوظيفي) من مقولة “استغراق الذمة” التي عالجوا من خلالها حسب المؤلف جملة من القضايا تتعلق بمعاملتهم وحكم هداياهم وودائعهم وتصرفاتهم وأحباسهم… ولم يجد هؤلاء الفقهاء بينهم ـ حسب المؤلف ـ كلمة سواء بشأن بني حسان ربما بسبب اختلاف بيئاتهم وتباين سلوك المعنيين فيها،فانقسموا طرائق قددا منها حيث انطبعت مواقف البعض بالتسامح في حين امتازت مواقف البعض الآخر بالتشدد وعدم الإنصاف تجاه تلك المجموعة.

2ـ الفقهاء وإشكاليات العلاقة مع الأتباع والموالي:

إذ اعتبر المؤلف أن الفقهاء ينظرون إلى الأتباع والموالي الذين لا يحمون أنفسهم (بركاب ولا كتاب) نظرة ازدراء ، واعتبر المؤلف أن مصدر تلك النظرة الدونية إلى الأتباع يعود إلى الرغبة في إبقائهم في حالة التبعية للمجموعة الأروستقراطية بقطبيها الزاوي والحساني.

ورأى المؤلف “أن الفقهاء وإن كانوا حريصين عادة على تمثل موقف الشرع المجرد في فتاويهم وأحكامهم يظلون مع ذلك محكومين ـ عن وعي أو غير وعي ـ بظروفهم المكانية والزمانية وواقعهم الاجتماعي وبنيتهم الذهنية التي تؤطر مواقفهم ورؤاهم وهذا ما يفسر ـ يقول المؤلف ـ اتحاد نظرتهم الاجتماعية لهذه المجموعة،واختلاف آرائهم فيما يتعلق بإشكاليات العلاقة معها، وتتبع المؤلف آراء بعض الفقهاء بشأن مال الأتباع، وإشكالية العتق والولاء والأهمية القانونية للرقيق.

وختم المؤلف كتابه بجملة من الملاحق نورد عناوينها مرتبة مع الإحالة إلى الصفحة في الجدول التالي:

رقم الملحق عنوان الملحق الصفحة
1 قائمة المفتين الذين شملتهم عملية التقصي الأولية 137 ـ 145
2 فتوى الشريف حمى الله التيشيتي بشأن النهب 146 ـ 147
3 فتوى الشريف محمد بن فاضل التيشيتي  بشأن المداراة 148 ـ 149
4 صورة أصلية من وثيقة تتعلق بالغصب الناجم عن عدم دفع المغرم ودفع ذلك المغرم 150 ـ 151
5 نموذج لوثائق المداراة التي تكاثرت في القرن19م 152
6 فتوى الشيخ سيدي المختار الكنتي عن حكم الأموال المأخوذة من المحاربين  واللصوص 154 ـ 162
7 فتوى لابن الهاشم الغلاوي بشأن الانتفاع بهدايا الظلمة 163
8 نظم امحمد بن أحمديورة  في الرد على من عاب عليه وعلى قومه الانتفاع بمال الظلمة ومستغرقي الذمم 164 ـ 168
9 فتوى محمدفال بن محمذن (ببها) بشأن إشكال وراثة المستظل بهم من المستظلين أو الانتفاع بأموالهم 169
10 الطعن في أهلية مستغرقي  الذمة القانونية 170 ـ 171

وقد يكون من المفيد أن نختم هذه القراءة بما ختم به المؤلف في المقدمة حين قال”… وعسى أن يساهم هذا العمل في نفض الغبار عن هذا الكنز الوثائقي الثمين الغائب حتى الآن من مصادر واهتمامات مؤرخينا وأن ينير سبل استغلاله المنهجي والتاريخي الكفيل بتعويض جفاف وحدثية مصادرنا التقليدية”.

ولله الأمر من قبل ومن بعد .

……………….

*الفتاوى والتاريخ تأليف د . محمد المختار ولد السعد ، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة نواكشوط (1985-2004)، باحث في دائرة القضاء بدبي منذ العام 2009 ، أستاذ بجامعة عجمان بالإمارات العربية المتحدة ، له أزيد من 10 كتب منشورة منها الإمارات والنظام الأميري الموريتاني، الفتاوى والتاريخ الذي بين أيدينا

** الحاج أحمدو ، باحث في المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية – مبدأ

رؤية القرآن الكريم لترسيخ ثقافة الحوار ومعالجة ظاهرة التطرف

                               الدكتور الشيخ التجاني احمدي*

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على من أفصح من نطق بالضاد جملة وتفصيلا، وبعد

فإن القرآن الكريم حفل بنصوص كثيرة حول الحوار، يأمر به ويحض عليه وينوه بقيمته ويقدم نماذج من حوارات الأنبياء والمرسلين، التي ينبغي أن يتأسى بها كل مسلم ومؤمن بالله، مع مختلف أصناف البشر من أبناء الحضارات. وقد بين الآلية الفريدة لتعامل الإنسان مع قضية الاختلاف، والقبول بالآخر، واستثمار وتوظيف الاختلاف وترشيده بحيث يقود إلى التعارف، ويبعد عن الصراع العنيف والقطيعة الانعزالية والاحتكار الاستبدادي.

والتطرف باعتباره يقوم على إلغاء التعدد الإنساني كلية أو يتجاهله، فإنما يروم محالا ويطلب ممتنعا، ويتمنى مخاطر الشقاق، وقد ناقض القرآن الكريم، لذا كان القرآن الكريم حاسما مع هذا الموقف، وخط المنهج الحواري الذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه، وعرض لأساليبه ونماذج منه، مما يعطي المتأمل فيه نظرة متكاملة عنه، لأن الإسلام دين للعالم جميعا لا يختص بفئة منعزلة متعصبة قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ (الإسراء: 105) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28).

ويمكن تبين رؤية القرآن الكريم لترسيخ ثقافة الحوار ومعالجة ظاهرة التطرف من خلال المبحثين الآتيين:

المبحث الأول: رؤية القرآن الكريم لحل معضلة التطرف بالحوار

تقوم رؤية القرآن الكريم لحل معضلة التطرف على ضرورة كفالة الحريات العامة، وتنمية الوازع الديني والخلقي، ويعتبر الحوار الملتزم بالضوابط والأهداف النبيلة الوسيلة الأمثل لترسيخ هذه المبادئ، ويمكن إيضاح ذلك من خلال المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: الحوار في القرآن وسيلة لكفالة الحريات

إن القرآن الكريم يحترم حريات جميع الفئات، حتى وإن كانت متحفظا عليها، وتاريخ الإسلام في كافة عهوده يشهد بأن المسلمين لم يفرضوا دينهم في البلاد التي فتحوها، وأنه كان من حق أي إنسان أن يظل على دينه الذي يدين به مهما كان هذا الدين وتقوم الدولة بكفالة هذا الحق والدفاع عنه، فعن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بماء فتوضأ منه، فقال: (من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء السماء أطيب منه)، قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية فلما توضأ أتاها فقال: أيها العجوز اسلمي تسلمي بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم بالحق) قال: فكشفت رأسها فإذا مثل الثغامة، فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن، فقال عمر رضي الله عنه( اللهم اشهد)([1]).

وأورد الشوكاني روايات عديدة -مثلها- بيد أن في بعضها زيادة وذلك بعد قول عمر -رضي الله عنه- (اللهم اشهد)، ثم تلا ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([2]).

فلم يقطع عنقها أو يشتمها، بل فوض أمرها إلى حكم الله فحسب.

ولهذا قال العلامة ابن قدامة: «وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه، كالذمي والمستأمن، فأسلم، لم يثبت له حكم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا، مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، فإن مات قبل ذلك، فحكمه حكم الكفار،وإن رجع إلى دين الكفر، لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام»([3]).

فتلك خاصية الإسلام، وتلك هي مرتكزات قبول الآخر واحترام خصوصياته وذلك هو خلاص الأمة من ظاهرة التطرف والإقصاء.

وقد شهد لهذا غير المسلمين حتى قال غوستاف: «إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له، فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي تعرفها الأديان الأخرى»([4]).

وهذا أعظم رد من مستشرق منصف إلى الذين يطبلون بأن هذا الدين قد انتشر بالسيف، وليس بالسلم. . ولم يقتصر على هذا حتى قال: «والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم»([5]).

وها هو السير توماس آر نولد يقول: «لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا لشاهد على هذا التسامح»([6]). وقال أيضا: «لن نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام، أو أي اضطهاد منظم القصد منه استئصال الدين المسيحي»([7]).

وبعد الحرية الدينية، تأتي حرية الرأي والتعبير والتي تعني: الثمرة المنطقية التي ينتجها الفكر السليم والاعتقاد الحر -سواء استقر الرأي نفسه مذهبا ومعتقدا، أو ظل ظنا ومحتملا يتفاعل به صاحبه مع الآخرين- كما أن حرية التفكير لا تعني شيئا ما لم تصاحبها حرية التعبير فالتعبير هو الآلة التي توصل الفكرة، برة كانت أو فاجرة للناس، ولا يقتل الفكرة إلا الصمت، أو خذلانها من الوصول للناس([8]).

ومن هنا فلا ريب أن التفاهم عن طريق الحوار حرية تؤكد كرامة الإنسان أيا كان، ويشجعه على التفكير والعمل والتعايش والتفاعل والتعاون مع غيره، لتحقيق الخير والتقدم للمجتمع، فإذا ما رفض الحوار وحوربت ثقافته سيؤدي بالمجتمع نحو الخراب والدمار وانتهاك حقوق الآخرين وعدم تقبلهم، فضلا عن انتشار التطرف والعنف. لذا فإن حرية الرأي كانت سببا من أسباب وحدة الشعوب وترابطها وتعاونها في مجالات العلوم والفنون المختلفة، وكانت حلقات الحوار تقام في كل المدن الكبرى في المساجد والمعاهد، إذ يقودها علماء ومفكرون ومؤرخون، ويكون من حق أي إنسان أن يشارك فيها بحرية تامة. والقرآن الكريم الذي كفل حرية التعبير يوجهنا إلى خير الأساليب التي تتحقق بها هذه الحرية، فيقول الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الإسراء 53) ويقول: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ (النساء: 9)، ويؤكد على أهمية القول السديد والدعوة الطيبة بقوله: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ (البقرة: 263).

ونحن في هذا العصر ندرك أن الحريات بأنواعها المختلفة، في العقيدة والفكر والرأي والتعبير، تمثل أهم الإنجازات التي حققها الإنسان لنفسه في العصر الحديث، ونؤمن أنها أساس كل حياة إنسانية كريمة ولا غنى عنها لأي حضارة تنشد التقدم العلمي والاجتماعي والإنساني. وهذه الحريات كلها جاء بها الإسلام ودعا إليها وكانت من أهم أسباب القضاء على الانعزالية والتشدد والتقوقع، فضلا عن أهم أسباب تقدم العلوم والفنون والآداب والتاريخ التي قامت عليها الحضارة الإسلامية حتى عصر النهضة.

ونحن حين نقرر ذلك ندرك أن الروح الإسلامية التي نؤمن بها، تدعو وتؤكد على الحوار ولاسيما الحوار المرتبط بالعقيدة والاقتناع، لأننا نعلم أن تقدم الإنسانية وازدهار حضارتنا وسيادة روح الإنسانية، إنما يرتبط أشد الارتباط بما يتحقق لأفراد المجتمع الإنساني من حرية فكرية ودينية، ومن حقوق مقدسة في إبداء الرأي والتعبير، وقد كان ذلك كله من دعائم الإسلام([9]).

وها هو العالم الإنكليزي توماس آرلوند يشهد للحرية التي قررها الإسلام وحضارته والتي وسعت التنوع والاختلاف وأتاحت إنقاذ النصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية البيزنطية حتى يمكن القول: «إن بقاء النصرانية الشرقية هبة الإسلام»([10]).

لذلك فإن الاختلاف بين الأديان وتضارب الآراء حولها، يجب أن لا يؤدي في ضوء ممارسة حرية الرأي إلى حجر على تلك الآراء والتصورات، بل إن ما يجب القيام به هو توحيد تلك الجهود والاستفادة من تعدد الآراء واختلافها، للوصول إلى  قواسم مشتركة، تخدم القضية الإنسانية ولا يفرط بأي حق من الحقوق التاريخية، فاختلاف الآراء وتعددها سنة إلهية في البشر، لكن التعامل معها بإيجابية هو ما يغني حالة الوفاق، فيما يؤدي الاستبداد بالرأي والتفرد باتخاذ القرار إلى تشتيت الجهود وزعزعتها ونثر بذور التشرذم([11]).

وإذا استطعنا أن نستوعب هذا وحركنا قضية الاعتراف بالآخرين وتقبلهم بمعزل عن التشدد والانفعال وتراكم الاحتقان وتعاملنا مع قضية الاعتراف على أساس كونها وسيلة لسلوك الإنسان، ومن ثم القدرة على إبداء ما توصل إليه هذا الفكر دون قيد أو مؤثر، وصولا إلى بلورة منهج حضاري إسلامي في إعمال العقل لنيل المعارف، فإن ذلك سيسهم بلا شك في التوصل إلى حد أدنى من الوحدة الفكرية للأمة، تكون ركيزة للتأسيس والبناء فيما بعد، ولا يمكن أن نتخيل عدالة اجتماعية بدون استقلال فكري ولا بد من أدب في التعامل مع الآخر واحترامه.

ولعل العلاج الأكثر فاعلية في هذا الشأن  هو الحرية الفكرية؛ وذلك لأنه علاج يوجه إلى المحاضن الداخلية التي تنشأ فيها بذور التطرف، وهي محاضن آليات التفكير في ذات الإنسان([12]).

والحرية الفكرية أن تكون حركة العقل من أجل الوصول إلى الحقيقة حركة يتعامل فيها العقل بصفة مباشرة مع الموضوع المراد معرفة الحقيقة فيه تعاملا تتفاعل فيه مكونات العقل الفطرية ومكسوباته اليقينية مع المعطيات الذاتية والأبعاد الموضوعية للموضوع المراد درسه، بعيدا عن كل الموانع التي تمنع تلك الحركة العقلية من أن تنطلق في وجهتها الصحيحة، وتنحرف بها إلى وجهة تقتضيها تلك الموانع، سواء كانت متمثلة في موانع داخلية مثل استبداد الأهواء والشهوات، وسطوة الأعراف والعادات، أو كانت موانع خارجية، مثل الإرهاب الذي يتسلط به على العقول ذوو السلطان الديني أو السلطان السياسي على منهج فرعون في قوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (غافر: 29)، أو الإغواء المتعدد المظاهر الذي يسلط به على النفوس المفسدون في الأرض على منهج إبليس في قوله: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 62).

وربما يكون من أهم ما نقصده بالتحرر الفكري في هذا المقام التحرر الفكري في مجال التربية والتعليم، بحيث تكون حركة عقل التلميذ حرة من التوجيه المسبق الذي يفضي إلى الأخذ بالرأي الواحد والرفض والإلغاء لكل ما سواه، وذلك في حركة حوارية دائبة تقوم بين المتعلمين والمعلمين تفضي إلى تكوين فكر سيد على نفسه.

وكذلك تحرر العقول من الاستبداد الفكري الذي يمارسه على الناس أصحاب الجاه الاجتماعي باسم التقاليد، أو الرهبان والكهنة باسم الدين، لينتهوا جراء هذا الاستبداد إلى تطرف في التشبث بالعهود والرفض لكل ما سواهما، ولذلك جاء القرآن الكريم يصيح في الناس أن يحرروا عقولهم بتحطيم نير الاستبداد الفكري المسلط عليهم، لينظروا فيما عرض عليهم بفكر حر يخرج بهم من دائرة التطرف الرافض، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (الزخرف: 23-24)، وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ (التوبة: 31)، ففي كل من هذا وذاك دفع إلى التحرر الفكري من سطوة المستبدين من أجل الوصول إلى الحقيقة كما يتبينها الفكر الحر، وكما تكون بابا للاعتدال وتحول دون التطرف([13]).

وحرية التفكير أيضا إحدى المسالك الهامة التي تفضي إلى تقبل المخالف من الرأي والمخالف من أصحاب الرأي، وهي من ثم مسلك هام من المسالك التي تحول دون توليد التطرف في النفوس والعقول والسلوك.

ومن معاني التقبل للآخر التقبل النفسي، وهو ما يعني أن لا يعتبر الباحث عن الحقيقة والمتوصل فيها إلى رأي أن من توصل فيها إلى رأي مخالف هو عدو له، وذلك مهما بلغت درجة إيمانه برأيه من يقين، وإنما يعتبر المخالف في الرأي هو باحث عن الحقيقة أصابها أو أخطأها، وهو لذلك جدير بأن يجد له مكانا في النفس يسمح بالتعاطي معه في خصوص رأيه المخالف للحوار في شأنه بالحجة بقطع النظر عما تنتهي إليه تلك الحجة من نتيجة موافقة أو مخالفة([14]).

وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلا منهجيا رائعا في التعامل مع الآخر المخالف تعاملا يقوم على التقبل في مستوياته المختلفة، وذلك ما ورد على سبيل المثال في قوله تعالى مرشدا نبيه وجميع المسلمين من ورائه إلى تقبل المخالفين من أصحاب الديانات الأخرى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (سبأ: 24-25).

ففي هذا الإرشاد الإلهي المنهجي توجيه إلى التقبل النفسي للمخالف، وهو ما يتمثل في تعميم إمكان الهدى والضلال على الفريقين، وبنسبة الإجرام إلى النفس ونسبة مجرد العمل إلى المخالف، وذلك بالرغم من الإيمان بعكس ذلك في الأمرين: ولكن تأنيسا نفسيا للمخالف، وفيه توجيه إلى تقبل حق الوجود والتعبير للمخالف، وذلك ما يدل عليه هذا الحوار الذي يسمع فيه عرض هذا المخالف باهتمام والتعاطي معه بمحاجة لطيفة مؤنسة، وفي هذا التوجيه إيماء أيضا إلى تقبل الاستفادة من رأي المخالف إذا تبين أنه ينطوي على وجه من الحق، وذلك ما يوحي به تعميم إمكان الهدى ليشمل المخالف أيضا، فإذا تبين أن هذا المخالف قد يكون في رأيه شيء من الهدى فإنه يكون إذن مقبولا، فهو إذن منهج يدعو إلى تقبل المخالف للرأي([15]).

من الجماعات الإسلامية الموجودة اليوم جماعات تخرجت في تعليمها وتربيتها من مدارس تقليدية موغلة في التقليدية، في بلاد مختلفة من العالم الإسلامي، وهي تلك المدارس التي تقتصر في برامجها على المذهب الواحد في العقيدة وفي الفقه تقدمه لروادها بطريقة تلقينية خالية من الحوار، وتكاد لا تقدم معه شيئا من المذاهب الأخرى في النطاق الإسلامي، أما العلوم والمعارف الإنسانية العامة فإنها في هذه المدارس منهي عنها أن تكون معروضة على الطلاب للدرس، إذ هي تشوش الأذهان وتفسد المعتقدات الصحيحة.

ونتيجة لهذا الضرب من الاستبداد الفكري تتخرج من هذه المدارس جماعات تتصف بالتطرف، إن على درجة أو أخرى من درجاته، وربما تكون جماعة طالبان مثالا لهذا النموذج، ولا يفوت اللبيب المتابع للساحة الإسلامية أن يرى أمثلة أخرى لهذا النموذج تتطابق معه أو تشابهه، علما بأن مجال هذا التمثيل لا يتعلق بصدق النوايا والإخلاص فيها، أو بقوة الإيمان وصلاح السمت والسلوك، فقد يكون ذلك حاصلا مع حصول التطرف([16]).

وفي مقابل ذلك توجد جماعات إسلامية أخرى في العالم الإسلامي تخرجت من مؤسسات علمية ودعوية بمعارف وعلوم إسلامية غير مقتصرة على مذهب معين، وإنما هي قائمة على المنهج المقارن بين المذاهب، فكانت تطرح فيها كل الآراء للدرس والمقارنة والنقد، كما تخرجت أيضا من تلك المؤسسات أو استكملت من غيرها بمعارف وعلوم إنسانية عامة مذاهب وفلسفات قديمة وحديثة، وأخذتها جميعا بمنهج حواري نقدي، فكان المنهج العام الذي تخرجت به هو منهج التحرر الفكري المنفتح على الاحتمالات المتعددة في البحث عن الحقيقة، فكانت إذن متصفة بقدر كبير من الاعتدال والوسطية في الفكر والسلوك معا([17]).

المطلب الثاني: الحوار في القرآن وسيلة لرد الاعتداء ودرء الشبهات وتنمية الوازع الديني والخلقي

والحوار يتجلى أيضا في قضية التواصل مع الآخر والتفاهم معه، والوسيلة المثلى لذلك الحوار، والحوار في القرآن الكريم –كما تقدم- أسلوب ووسيلة في الدعوة إلى الله، وفي دحض الشبهات والافتراءات، وفي رد الشاردين والجاهلين والغافلين من أبناء المسلمين إلى حياض الإسلام، إذ أن الحوار ترياق فعال لمعالجة داء الاعتداء، فبالحوار تنفتح مغاليق الشبهات، وبالحوار تدرأ الكثير من مكنونات النفس وتراكمات العقائد الباطلة، وللحوار في الإسلام مساحات شاسعة، من بينها حوار المخالفين في الدين لما له من صور وأفعال وأهداف وآثار من مادة علمية لها ظلال عميقة في واقع التطبيق.

والمتتبع للحوار القرآني يجد أن طرحه للخطاب يتمثل في حوار هداية ودلالة وجدل إقناع وإفحام على البراهين العقلية، ولفت الأنظار في الآيات الكونية حتى يهتدوا إلى خالقها فيعبدوه ويعظموه وحده لا شريك له وينبذوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان التي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.

لذا فإن دعوة المحبطين إلى محاربة مسألة الحوار بين الأديان كافة والمسلمين خاصة، هي دعوة للإقصاء ونشر التطرف، ومن ثم العنف، وتحريم التفاعل الإنساني، والثقافي بين أتباع الحضارات بل تهدف إلى انتشار النظرة الاستعدائية. بينما يجد الدارس والباحث المتتبع أن الحوار -مع الآخرين أيا كانوا– هو مدعاة للأمن والاستقرار والنهوض بالمجتمع، وهو شأن ثقافي متطور يتناول آفاق الانفتاح والتواصل الإنساني التي يشترط تحققها الاعتراف بالآخر، وتفهم مشكلاته ومقاصده وإدراكه على قدر المساواة وعدم استهدافه بالتمييز أو التحقير والإلغاء أو محاولة ذلك.

وبحكم عالمية الخطاب الإسلامي، وشموله مفهوم التفاعل الحضاري فإن مسألة الحوار([18]). تشكل أحد أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق التعارف الحضاري، والوصل بوعي الإنسان إلى لحظات الإبداع الحضاري الجماعي الذي يسهم فيه أبناء الإنسانية المخلصين من كل ثقافة ودين وجنس عملا من أجل نفي الخبث الحضاري واستنبات بذور التفاعل الحضاري بوصفه مدخلا للتعارف والتفاهم والتعاون ومواجهة تحديات الحياة في عصر العالمية والعولمة.

إن الاستثمار في مسألة التعارف الحضاري كما يطرحه الإسلام يعد من المداخل الأساسية لتشكيل تفاعل حضاري يدفع بأمتنا وحضارتنا إلى آفاق العالمية الإسلامية، قال الرافعي: «فعالمية الإسلام تجعل الثقافة والحضارة الإسلاميتين منفتحين على حضارات الأمم ومتجاوبتين مع ثقافات الشعوب مؤثرتين ومتأثرتين. . . يهدف أولا وقبل كل شيء إلى الوحدة الإنسانية العامة، والزمالة العالمية الشاملة لأن يكون الناس جميعا إخوة متوادين متحابين متساوين متكافئين حتى يستطيعوا أن يحققوا الرسالة العظمى التي خلقهم الله من أجلها»([19]).

ومن هنا يتطلب الأمر النظر إلى تحريك مسألة الحوار وتنشيطها ليس لمحاربة التطرف فحسب أو بوصف الحوار مجرد عملية تبادل للمعلومات والأفكار والآراء، وليس مجرد نقاش وتناقل للمعاني، وليس مجرد وسيلة للتفاهم الإنساني ولمعالجة المشكلات الإنسانية ولكن فضلا عن ذلك أن ينظر إلى الحوار مع الآخر على أنه مدخل حيوي للتعارف الحضاري والديني والتعليمي، الذي يشكل بدوره نقطة الانطلاق الكبرى في تجديد الذات وتجديد الوعي، ومن ثم الدخول في فعل يقود إلى التفاعل الصادق ويكون مرتكزا لأداء الرسالة إزاء الذات والآخرين معا، ويكون محورا للتربية التعليمية لشخصية الإنسان المتحاور. وبالنسبة للأمة العربية والإسلامية لا يمكن أن تكون هناك رسالة حضارية باتجاه العودة إلى الريادة والسيادة قبل أن تحقق كل شروط الحوار في ذواتنا وفي واقعنا وثقافتنا ومعارفنا ونظمنا التربوية والأسرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية وفي ضوء الإطار التحاوري المخلص الذي يؤسس لإنسانية تتفاعل على أساس التقوى والصلاح والنفع العام للبشرية([20]).

إذن فكيف يمكننا أن نتخلى عن الحوار، والله تعالى يأمرنا بالدعوة إلى إقامة الحجج على الآخرين وبالتي هي أحسن، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (الإسراء: 53).

وهذا يعني وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن. وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشتم والسب، ذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 108) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود، أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيرا شديدا([21]).

وهذا تقدم للحوار والمقابلة من غير تراجع ولا خوف والملاحظ اليوم أن من بين المعضلات الكبيرة التي تواجه الأمة، هو الخوف من الآخر وتجنب الحوار معه، على عكس ما نجده في القرآن الكريم من محاورته للحضارات على لسان الصفوة المختارة وهم الأنبياء وكيف بدأهم الحديث ثم استمر معهم على الحوار، بينما تسعى بعض الفئات الضالة إلى وضع الحواجز أمام أي تقارب مع الآخر وباستمرار؛ خوفا من مواجهته فكريا، وتحصنا ضد انفتاح تابعيه على الرأي الآخر، وخشية ضياع مصالحه، وتقوض سلطته الداخلية على جماعته؛ لذلك حرص بعضهم وباستمرار على مخاصمة الأفكار الأخرى، وعدم دعوة أصحابه وترك إقامة الحجج والبراهين عليهم، بل توجيه التهم لها بالتآمر، عبر تطرفهم وغلوهم وتذرعهم بأدلة تافهة لا نص لها في القرآن الكريم أو السنة النبوية، مما يؤثر سلبا على سماحة هذا الدين الحنيف.

وأخلص بهذا إلى أن إحداثيات الحوار مع أبناء الحضارات تجلت فيها معالم الاستقلالية التامة والحرية المطلقة التي أعطيت لهم كافة إذ قوبل توترهم وردهم العنيف بالدعوة إلى إبداء الدليل العلمي، وإذ عجزوا عنه أقيم عليهم الدليل العملي والواقعي من غير تشدد على بطلان دعواهم دون أن يتعدى ذلك إلى أي شائبة من شوائب الإكراه المادي والنفسي أو الفكري، في حين نرى موقف الإسلام من الحوار مع الآخرين موقفا إيجابيا تاما على الرغم من وجود أديان أخرى ترحب بالحوار أيضا، بيد أن موقف الدين الإسلامي من الحوار أكثر إيجابية وقبولا إلى حد يمكن وصفه بأنه دين الحوار، ذلك أنه دين عام للبشرية وليس دينا خاصا لجماعة دون أخرى، لذا قامت عالمية الإسلام على أساس من عالمية الإله الواحد وعالمية التوحيد ووحدة البشرية، إذ الإله الواحد الخالق إله لكل العالم الذي خلقه، ودين البشرية دين واحد يقوم على أساس من التوحيد وهو عقيدة البشرية جمعاء استنادا لهذا المبدأ اتجه الإسلام إلى استخدام الحوار استخداما جليا في مجال الدعوة الإسلامية، وكان من أولاها الوصول بالإسلام إلى غير المسلمين. إذا ما نظرنا إلى الحوار بهذه النظرة الإنسانية، فإننا نكون قد جعلنا من الحوار ثقافة حضارية وقضية مصيرية يتجدد بها مصير الأمة كلها في حاضرها ومستقبلها وفي صلتها مع ذاتها ومع العالم المحيط بها. ويتحدد به مسار التعايش والتواصل والتعارف الحضاري القادم وعمقه وغاياته وآفاقه.

وإننا بمقدار ما ندرك قضية الحوار –المؤسسة على منظومة التفاهم- بوصفها قضية متجاوزة لكل الشكليات السياسية والثقافية التي تهم كثيرا بتحويل قضية الحوار إلى مجرد وسيلة تهديئية أو تسكينية تعالج بها المشكلات الجزئية بمقدار ما نستعيد القيمة التربوية الحضارية الصحيحة والفعالة للحوار. . ومن هنا وفي ظل وضع الأمة الخطير لا يجوز لنا أن نتصور الحوار بصورته السلبية، ولا يجوز لنا أن نوظفه توظيفا غير سليم، بل علينا أن نعود بالحوار إلى أصوله الكبرى([22]).

لذلك بات لزاما على كلا الطرفين –المحاوَر والمحاوِر- البحث عن سبل التلاقي والتواصل عن طريق البحث عن أرضية مشتركة للتعاون بدل المجابهة والانفتاح بدل الانغلاق، والتفاهم بدل التجاهل. إن هنالك تعاونا اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بين العالم الإسلامي والغربي لكنه ليس كافيا ولا يندرج في غالب الأحيان في السياق العام لمنظومة الحوار الحيوي بين الجانبين، وسبب ذلك –ببساطة- هو أن تنسيق المصالح والمنافع الاقتصادية والسياسية ينبغي أن يسبقه الفهم الحقيقي المتبادل على الصعيد الثقافي والحضاري والديني. . فالعالم اليوم مطالب بالعودة إلى قيم المحبة والحوار والتفاهم، ورفع الظلم والعدوان والاستكبار من أجل تهيئة المناخ الملائم لإقامة جسور الحوار المثمر والبناء، هذا وإن لدراسة مسألة ثقافة الحوار أطرا منهجية أساسية من أهمها، ترسيخ الوعي على ضرورة معالجة المنهجية الاستراتيجية لمسألة التفاعل الحضاري. وإن أهم شيء ينبغي التفكير فيه اليوم هو صياغة الوحدة التحليلية الأساسية أو الإطار التحليلي المناسب لمعالجة قضايا التفاعل الحضاري([23]).

ومن الأطر التي ينبغي النظر إليها ضرورة الوعي بطبيعة تشكيل الإنسانية في وضعها الحضاري العالمي، إذ تعيش الإنسانية اليوم وضعا عالميا حساسا ومعقدا ومحرجا للغاية. والإنسان الذي يعاصر في هذه اللحظات التاريخية الكبرى تحولات ضخمة، ومعقدة وسريعة في مجال المعرفة والمعلومات والوعي وفي ميدان الوسائل التقنية والتكنلوجية، وفي مجالات أخرى([24]).

والحرية كما قررتها الشعوب كافة، يحدها إطار اجتماعي يمنع تعدي الناس بعضهم على بعض لأي سبب من الأسباب، لأن هذا يمثل عدوانا على حرية الآخرين وهضما لها، وفي القرآن الكريم نرى –كما تقدم- تأكيدا لمبادئ الحرية في كثير من الآيات، وهذا التأكيد يشمل كافة الجوانب المختلفة لحرية الإنسان وحقه في التعبير والسلوك والتفكير والعمل بالمفهوم المعاصر لمعنى الحرية من حيث استقلال الفكر، دون أن تفرض عليه من الآخرين معطيات وأدوات أو قناعات من شأنها أن تقيده، أو تلزمه بسلوك طرائق معينة من شأنها أن توصله إلى نتيجة مبتغاة سلفا، حقا كانت أو باطلة([25]).

لذا أعطى القرآن الكريم حق التعلم وحريته وإبداء الرأي للإنسانية جمعاء، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة: 31-33)، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5) فمن حق كل فرد أن يأخذ من التعليم ما ينير عقله ويرقي وجوده ويرفع من مستواه. ومن حق الإنسان كذلك، أن يبين عن رأيه ويدلي بحجته ويجهر بالحق ويصدع به. والإسلام يمنع مصادرة الرأي ومحاربة الفكر الحر، إلا إذا كان ذلك ضارا بالمجتمع.

إذن ما ينقذ العالم ويخلصه من الاختزال المتطرف والمتشدد، هو اللجوء إلى حتمية الحوار وتثقيف الأمم بهذا المبدأ الطموح إذ لا يمكن للغرب أن يمتص الإسلام أو يبلعه، كما لا يمكن للمسلمين أن يعزلوا الغرب، وفي الوقت نفسه لا يمكن للحاقدين المتطرفين والإرهابيين تهميش مبادئ الإسلام وسماحته عن طريق نشر التخوف منه، والإيهام بأنه يسعى إلى إقصاء الآخرين وإشعال فتيل النزاع معهم. . لذا فقد آن الأوان لوضع حد للنظريات المتطرفة التي تتوهم وتريد أن توهم أن ديننا لا يصلح التعامل معه كتياري رئيسي يصب في الحضارة الإنسانية الشاملة.

ومن الهام أيضا في إطار ترسيخ ثقافة الحوار، غراسة وحراسة القيم الروحية، فمن أوجب واجبات القرآن الكريم، المحافظة على القيم والأخلاق، فقد أرشد القرآن الكريم إلى تنمية الوازع الخلقي والديني في عشرات النصوص، ومن ذلك تنمية ملكة مراقبة الله والخوف منه، التي تجعل المرء المسلم يستجيب لأوامر الله ويتفاعل معها إيجابا، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل: 90).

فهذه الآية ذكر الله تعالى فيها (العدل) والعدل هو الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع.

وإلى جوار العدل(الْإِحْسانِ). يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثاراً لود القلوب، وشفاء لغل الصدور. ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.

والإحسان أوسع مدلولاً، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعاً([26]).

ولا يخفى أن الأمة الإسلامية تملك رصيدا ضخما من القيم الهادفة وتوجيهات الإسلام، وهذه القيم كفيلة عند استثمارها بأن تجعل الأمة الإسلامية في وضع يسمح لها بأن تنمي فلسفتها الحضارية الإنسانية، وتتسابق مع أمم الأرض في بناء حضارة إنسانية.

إن أصحاب النظريات المتطرفة، الموغلة في التشاؤم، يهدفون إلى تحويل العالم إلى نمط موحد متشابه تلغى فيه العدالة الإنسانية، والقيم الحضارية وثقافتها، وتذهب سدى، وهم بذلك يتوهمون أن الإسلام سيجتذب العالم ويحتويه ويستوعبه ويسلمه، وذلك لأنهم يغفلون قوله جل وعلا: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، أي أهل دين واحد إما أهل ضلالة أو أهل هدى، وقيل معناه: جعلناهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن ولهذا قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ في ذات بينهم على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومشرك ومجوسي ومسلم فكل هؤلاء قد اختلفوا في أديانهم اختلافا كثيرا لا ينضبط، وقيل مختلفين في دين الحق أو دين الإسلام([27]).

لذا فإن المسلمين مطالبون أكثر من غيرهم بالارتقاء إلى مستوى قيم الإسلام الأصيلة الدينية والأخلاقية والثقافية والمتسمة بالرفق واللين، ولا يكون ذلك إلا بالابتعاد عن الفكر المتطرف، ونبذ التطرف الفكري والهروب منهما، للتخلص من إشعال الفتن، وإيقاد نار العنف والإرهاب والاتجاه نحو تنشيط ثقافة الحوار العالمي والمحلي وتقويتها، وأيا كان الحوار على الصعيد الديني أو التعليمي أو الاقتصادي أو السياسي مكتسيا روح العدالة الإنسانية طامحا في تقريب وجهات النظر المختلفة، معتمدا طابع العمل الجاد بكل جرأة وصلابة وثبات من غير تردد، والانفتاح على العالم ومتغيراته وتطوراته، تلبية لتحقيق المصالح الأساسية ودرء المفاسد.

حينئذ فعلى العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين أن يدعوا الناس جميعا مسلمين وغيرهم إلى تجاوز مرحلة الأحقاد والضغينة إلى مرحلة الاستئناس وعدم الخوف من الآخر، ودعوتهم إلى الجلوس إلى مائدة التحاور والتفاهم، لحل المشاكل العالقة ولاسيما العصرية منها وتكريس عملية الاتفاق على قضايا وجوامع مشتركة يمكن أن تسهم في قطع أشواط في مسيرة الحوار المنشود بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وبقية الأديان وبين الإسلام والغرب، مستندين في بث ثقافة الحوار مع الآخر ولاسيما المخالف على الخلفية الفكرية والثقافية المنبثقة من القرآن والسنة والمستنبطة منهما، لتصحيح الأفكار الضالة والمصطلحات المشوهة، معتمدين عليهما في تحقيق الوسطية ودفع الإرهاب وتقريب وجهات النظر وبث روح الحوار والتفاهم، فضلا عن الدعوة إلى الأسس القيمة والأخلاقية التي تفيد في تقويم وتهذيب وتصويب مسار التحاور المعتبر.

إنه في الوقت الذي يطالب فيه المسلمون بالعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة ومنها انتعاش ثقافة الحوار للتخلص من ظاهرة التطرف. أيضا الغربيون مطالبون بالعودة إلى قيم المسيحية الأصيلة -وليست المحرفة- قيم الحوار والتفاهم والمحبة والتفاعل والتعايش المشترك والاحترام المتبادل، لتحقيق الوفاق مع العالم الإسلامي، وإنهم لمطالبون أيضا بالتفهم الحقيقي لثقافة الحوار وتنشيطها وتطبيقها على أرض الواقع وتطبيعها مع المسلمين من أجل التفاعل المنشود، وبث روح الحوار والتواصل والتفاهم، من أجل مبدأ التعايش وإعلان رفع الظلم والعدوان والاستكبار والهيمنة، ونبذ الأفكار المتطرفة والأعمال الإرهابية والإجرامية وإنكارها أينما حلت وعلى المستوى العالمي كله؛ وذلك من أجل تهيئة المناخ المناسب –المتطلع إليه- لإقامة جسور للعيش المشترك مع المسلمين، ولاسيما أن هنالك قيما دينية وإنسانية مشتركة بين الإسلام والغرب كحضارتين عالميتين، إذ تعد نقطة انطلاق أساسية في كل تفاهم وتلاقي يراد له أن يحفظ الأمن والسلم العالمي، ينتظر منهما اتخاذ خطوات تقودهما نحو طموح إنساني في أعلا قيم التبادل والسلم. مما ينبغي على الطرفين استثماره والتأكيد على أهمية توظيفه في سياق احترام الحياة الإنسانية والتواصل الحضاري، الذي يرتبط بصورة أساسية بمسائل التعاون، والسعي من أجل الخير والأمن والسلام ورفض الإرهاب العالمي ومقاومته، ونبذ الظلم والطغيان، وتفهم مبادئ الآخرين وتوجهاتهم وقناعاتهم، ودعوتهم إلى قيم الإفصاح الودي والمحبة والحوار واللقاء؛ من أجل العمل المشترك في سبيل خدمة البشرية وإنقاذها من كل فكر متطرف منحاز مغلق.

ولا بد أن تكون قيمة الموضوعية هي أساس كل تلاقي بيننا وبين الآخرين، فليس من الإنصاف أن نخاطب غيرنا وتحكمنا أفكار محددة وإن النظرة الأحادية لمن أخطر مظاهر انحسار ثقافة الحوار، ونحن بحاجة ماسة إلى تشجيع الحوار الذي يبني ولا يهدم، الحوار الذي يعني العدل والإنصاف والرفق، لا على الظلم أو التشدد والتنطع؛ وذلك لسعادة الإنسانية جمعاء، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ «فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة»([28]).

وتدل الآية على التعاون فيما اتفقا عليه والإيمان بالألوهية، وأن يعتمد الخطاب على أحسن الأساليب في عرض الدعوة والتواصل، والتوجيه في هذه الآية واضح الدلالة على فهم الآخر، كيف لا؟ والآية الكريمة تأمر صراحة ودون لبس أو غموض بأن يختار المسلم أسلوب الملاطفة وحسن التعبير والاحترام عند مجادلة أهل الكتاب، ومن المؤكد أن التوجيه القرآني المتضمن الحث على المجادلة بالتي هي أحسن لم يغفل حقيقة الاختلاف الثابت بين المسلم وغيره من أهل الكتاب، سواء في بعض العقائد أم القيم أم العبادات أم الأحكام والشرائع أم المواقف…الخ ورغم هذا التباين فإن الآية ترشد إلى أسلوب الملاطفة في النقاش عند إثارة مثل هذه القضايا الخلافية، والمجادلة تكون عادة في مواطن الاختلاف، أما اللقاء البعيد عن الاختلاف، والمحفوف بالمجاملة الحسنة، فلا تلزمه المجادلة، ومن ثم يكون أولى بالملاطفة الحسنة.

 أن يختار من بينها، فليست الآية مخيرة المخاطِب بين الحسن والقبيح، وإنما آمرة إياه أن يختار الأحسن بدلا من الحسن، وهذا يدل على مدى احتفاء القرآن الكريم بمراعاة نفسية مخاطبيه وتشجيعهم. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الحوار أصبح قضية ملحة في عهدنا الحالي. فالعالم أصبح شاشة واحدة تتجاور فيها المجموعات البشرية المختلفة تعيش معا وتحس ببعضها البعض، مما يحتم وضع قواعد لهذا الجوار الافتراضي والحقيقي في آن واحد، قواعد ترتكز على فهم الآخر، والاعتراف به، والوقوف عند الأسس المشتركة الموجودة بين المجموعات البشرية في هذا الوجود؛ ليساعد ذلك على العيش معا بأمن وسلام. ومن المهم هنا أن يكون هذا الحوار صادرا عن إرادة إنسانية حرة، وبرضا الأطراف ودون أي إكراه أو عنف، واتخاذ المقاييس المنضبطة؛ لتأمين ثقافة الحوار، وتشجيع المكونات الاجتماعية المختلفة باستعمال إرادتها بكل حرية؛ لتضمن حقها في التعبير.

وفيما تمدنا التجربة التاريخية الإسلامية من دروس وعبر، أن دلائل ومقومات الاحترام الحضاري المتبادل. هي النهوض بالمتعثر، وتنشط الخامل، وإمداد الضعيف بمقومات القوة، وحفظ مقام الآخر وكرامته وموروثه التاريخي، وتقدير ثقافته. هكذا ينبغي للأمر أن يكون، لكننا نستظهر في كل يوم ينشق فجره مسالك صارخة من جانب خصوم حضارتنا بعامة والحضارة الغربية بخاصة، ابتداء بالأثرة والرفض، مرورا بالتعويق والمزاحمة، وانتهاء بالتحرش والإزاحة.

والإسلام يملك في هذا الجانب تراثا غنيا، إذ قامت تجربته التاريخية بشكل عام على احتواء الخصوصيات المتنوعة لكافة المجموعات المختلفة وقبولها حتى وجدت أديان ومذاهب وثقافات عديدة، إمكانية العيش برغد وأمان في ظل الإسلام. وإن وثيقة المدينة -التي عرضناها آنفا- مثال واضح طبق في الواقع العملي فعلا وأنموذجا رائعا في قبول الآخر والعيش بسلام. . وللأسف الشديد فما زال الإسلام مغيبا عن الوجود وما زال المسلم تحكمه لغة الانفعال لا لغة المنهج، فلا بد وأن نميط اللثام عن حقيقة الإسلام وبمعناه الحضاري ومن هنا فإننا بأمس الحاجة اليوم لتوضيح الصورة المشرقة للغرب، فكما يقال: «الناس أعداء ما جهلوا»([29]).

فترسيخ ثقافة الحوار بين الأطرف، ولاسيما المتنازعة تقتضي تمتين وإعادة طرح جديد يبنى على الوضوح ويلتزم بأخلاقيات الحوار، ويعيد النظر في الأهداف الموصلة إلى ذلك ولن يكون هذا نافعا إلا إذا تم توسيع وتجذير قاعدة الحوار لتشمل الأطر الثقافية والاقتصادية والسياسية والمكونات الاجتماعية. ويبقى الأمل –بمشيئة الله- الذي ينبغي النظر إليه بتفاؤل من طرف اتباع الحضارتين الإسلامية والغربية، هو أن حتمية الحوار، أمر واقع لا محالة، لأنه في نهاية الأمر لا بد أن تنتصر الإرادات والعزائم الساعية إلى الحوار ووعيه وتفهمه وتقبل الآخر وفق العمل المشترك، للتخلص من مخاطر الشدة والانزوائية والإقصاء والتهميش التي تحدق بالبشرية.

إذن فعلينا جميعا إعادة تصحيح النظر في موضوع الحوار، والإسهام في تقويته وإيضاح أهدافه، وكيفية استيعاب الآخرين ولنسعى جاهدين إلى تشكيل قنوات تدعو إلى تثقيف الناس في هذا الخصوص، لردع الأفكار المشوشة والمشبوهة، وعلينا كشف الحقائق، وإفهام الرأي العام وإقناعه من خلال طرح قضية الحوار، بأن الإسلام برئ وبعيد كل البعد عن التطرف والعنف والإرهاب، -بل هو دين كما جاء إلينا ووصل إلينا-، دين محبة واعتدال وتسامح. وأن الأفعال المنسوبة لفئة ضالة يجب أن لا تشوه صورة الإسلام الحقيقية، ولا بد أن يرى الغرب -على وجه الخصوص– الوجه الحقيقي للإسلام، الإسلام المتفاعل والمنفتح على الآخرين، الإسلام الذي يحترم الشرائع الإلهية والأديان كلها. كل هذا من أجل أن لا نفقد هويتنا ولا نمسي مسلوبي الشخصنة، بدعوى أننا لا نستطيع أن نصدِّرَ، أو نبقى مكتوفي الأيدي أمام الهجمات الحاقدة، والخزعبلات المغرضة، لتشويه صورة إسلام المحبة والسلام.

الخاتمة:

خلق الله تعالى البشر مختلفين في أفكارهم واعتقاداتهم وقدراتهم الفكرية والعقلية و سيبقوا كذلك، لكنه في المقابل بعث لهم الرسل هادين إلى طريق الخير والصواب، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكملهم هدى ونورا، فمن اتبع النور الذي أنزل معه وهو القرآن الكريم فسيتهدي إلى كل أنواع الخير، ويتعرف على أفضل الخلق، وأولها الخلق الأعظم في القرآن الكريم “الحوار”، ذلك الخلق السامي الذي يجعل الإنسان يرتقي إلى أعلى الرتب في الأخلاق، ويتخلص من حب الذات، ويتجرد في كل أحواله من الأنانية البغيضة إلى كرم العطاء والرفق، وحسن التعامل، الذي يجعله ينظر إلى الآخر نظرة مودة وألفة واحترام وحرص على مصلحته، وهو ما يحقق السعادة للبشرية كافة.

ويمكن إجمال النتائج في الآتي:

  1. يبين القرآن الكريم معا أن الحوار عمل غاية في الأهمية، وأنه أساس الدين الإسلامي، بل أساس كل الديانات السماوية.
  2. لم يهمل القرآن الكريم أي طريق للحوار والتفاهم، ولم يترك وسيلة إلا واستخدمها لتحقيقه.
  3. الحوار يضمن قيام حياة الناس على كوكب الأرض، واستقامتها واستدامتها، وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، وبدونه تتعطل الحياة ويسود قانون الغاب، فتسفك الدماء وتنتهك الأعراض، ويسود الظلم والاستبداد، ويعم الجهل والفقر.
  4. إن موضوع الحوار يشمل شؤون الحياة دون انعزالية أو فصل، يقوم منهجه على نظام فريد أساسه القرآن الكريم، قوي في البناء يقرر الصور المثلى والمنهج العادل والوسطية تجاه التفاعل الإنساني، والتعايش السلمي.
  5. تأكيد القرآن الكريم على نشر ثقافة الحوار، وحق الاختلاف، وذلك من خلال الممارسة الفعلية وليس على مستوى الكلمات أو الشعارات فحسب، بدءا من البيت والمدرسة والجامعة والعمل والمسجد وصولا إلى المؤسسات الرسمية. وتقبل الاختلاف بين الأجيال المتعاقبة، بصفته سنة الحياة، ولن يكون هذا إلا بإشاعة الممارسة الديمقراطية المشروعة في كل مستوياتها ومجالاتها والقضاء على كل أشكال التطرف والتعصب.
  6. إن المنطق يفرض علينا أن نتجاوز ثقافة التقاطع فيما بيننا، ونعمل جاهدين من أجل تنمية ونشر ثقافة الاعتراف بالآخر، وثقافة الكشف عن مواطن انحسار ثقافة الحوار ومعالجتها، وثقافة الاستفادة من نقد الناقدين الجديين، ولو كانوا من معارضينا أو ممن نعدهم من أعدائنا.
  7. إن ظاهرة التطرف لا علاقة لها بالدين، فهي نتاج مخالفة الدين، وأخلاق القرآن الكريم التي تحث على نقيضها.
  8. إن من أبرز أسباب التطرف، والإرهاب في العالم المعاصر إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى، وطغيان الاستبداد في الرأي؛ وانتشار ثقافة إهانة العلم، والاعتداء على قداسته وحرمته؛ مما أنتج ثقافة لي عنق النصوص الشرعية لتستجيب لقوتي التفجير والتكفير بدل التفكير؛ فضلا عن الاستكبار العالمي.

وأخيرا فإن هذا البحث يؤكد على إشاعة قيم الحوار والمرونة والانفتاح بين الناس عموما، والأجيال الشابة خصوصا للتخلص من ثقافة الأحادية واللون الواحد، وثقافة الغلبة والعنف والقهر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع:

  1. القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم.
  2. حسن الترابي، “اطروحات الحركات الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب” الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، بيروت، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، 2000م.
  3. سيد الدسوقي حسن، دراسة قرآنية في فقه التجديد الحضاري، دار نهضة مصر، القاهرة، 1998م.
  4. سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، القاهرة، 1970م.
  5. الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير، ط1، دمشق، سورية، دار الخير، 1412هـ، 1991م.
  6. عصام أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ط2، القاهرة، مصر، عالم الكتب، 1410ه، 1990م.
  7. عبد الجبار الرفاعي، مناهج تجديد –سلسلة آفاق للتجديد- ط1، دار الفكر، بيروت ودمشق، 2000م.
  8. عبد العزيز برغوث، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، ط1، سلسلة كتاب الأمة، برقم: (43)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1995م.
  9. عبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري عند بديع الزمان النورسي، ط1، كولالمبور، ماليزيا، مركز الفكر الحضاري والتربية، 1999م.
  10. عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، فرجينا، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1413هـ، 1992م.
  11. عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف،  كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب، العدد: 167، جمادي الأولى 1436هـ، السنة: (35).
  12. العجلوني، إسماعيل بن محمد الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الألباس عمن اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، مكتبة القدسي، لصاحبها حسام الدين القدسي، القاهرة، 1351ه.
  13. غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل الزعيتر، ط3، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العلمية، 1956م.
  14. فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة، 1420ه
  15. القنوجي، محمد صديق خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، مراجعة عبد الله الأنصاري، صيدا، بيروت، المكتبة العصرية، 1412هـ، 1992م.
  16. محمد سليم العوا، حوار الحضارات –شروطه ونطاقه-، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، بيروت، 2000م.
  17. محمد عبد القادر، الإعلام في القرآن الكريم، ط1، لندن، مؤسسة فادي إبريس، وتوزيع دار قتيبة، بيروت، 1405هـ، 1985م.
  18. مصطفى الرافعي، الإسلام دين المدنية القادمة، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1990م.
  19. موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة القاهرة، 1388هـ، 1968م.
  20. هشام منور، القرآن وحرية الرأي، مقال منشور في مدونات أمين على شبكة الانترنيت للإعلام العربي، وبتاريخ 29 سبتمبر، 2007م.

……..

*الدكتور الشيخ التجاني احمدي ، أستاذ في جامعة نواكشوط

[email protected]


([1]) – سنن البيهقي الكبرى: باب: التطهر في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاستهم، رقم الحديث: (128)، (1/32)، سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني البغدادي، تحقيق: عبد الله هاشم يماني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ، 1966م، باب: الوضوء بماء أهل الكتاب، برقم: (1)، (1/32).

([2]) – الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير، ط1، دمشق، سورية، دار الخير، 1412هـ، 1991م، (1/417).

([3]) – موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة القاهرة، 1388هـ، 1968م، (9/23).

([4]) – غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل الزعيتر، ط3، القاهرة، مصر، دار إحياء الكتب العلمية، 1956م، ص 127.

([5]) – المرجع نفسه، ص 605.

([6]) – سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، القاهرة، 1970م، ص 59.

([7]) – المرجع نفسه، ص 99.

([8]) – ينظر عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، فرجينا، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1413هـ، 1992م، ص 43-44. وعاصم أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ط2، القاهرة، مصر، عالم الكتب، 1410ه، 1990م، ص 19.

([9]) – ينظر السيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص 3182. ومحمد عبد القادر، الإعلام في القرآن الكريم، ط1، لندن، مؤسسة فادي إبريس، وتوزيع دار قتيبة، بيروت، 1405هـ، 1985م، ص 126.

([10]) – سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص 729-730.

([11]) – ينظر هشام منور، القرآن وحرية الرأي، مقال منشور في مدونات أمين على شبكة الانترنيت للإعلام العربي، وبتاريخ 29 سبتمبر، 2007م، ص 2.

([12]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف،  كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب، العدد: 167، جمادي الأولى 1436هـ، السنة: (35)، ص 46.

([13]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 49.

([14]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([15]) – فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة، 1420ه، (13/258).

([16]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([17]) – ينظر عبد المجيد عمر النجار، الحرية الفكرية في مواجهة ظاهرة التطرف، كتاب الأمة: ظاهرة التطرف والعنف، مرجع سابق، ص 51.

([18]) – ينظر حسن الترابي، “اطروحات الحركات الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب” الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، بيروت، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، 2000م، ص 133.

([19]) – مصطفى الرافعي، الإسلام دين المدنية القادمة، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1990م، ص 14، 106.

([20]) – ينظر سيد الدسوقي حسن، دراسة قرآنية في فقه التجديد الحضاري، دار نهضة مصر، القاهرة، 1998م، 23-24.

([21]) –  فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، (10/73).

([22]) – ينظر محمد سليم العوا، حوار الحضارات –شروطه ونطاقه-، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، ط1، مركز الدراسات الإسلامية والبحوث والتوثيق، بيروت، 2000م، 256.

([23]) – ينظر عبد الجبار الرفاعي، مناهج تجديد –سلسلة آفاق للتجديد- ط1، دار الفكر، بيروت ودمشق، 2000م، ص 57-58.

([24]) – ينظر عبد العزيز برغوث، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، ط1، سلسلة كتاب الأمة، برقم: (43)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1995م، ص 65. وعبد العزيز برغوث، مقومات التجديد الحضاري عند بديع الزمان النورسي، ط1، كولالمبور، ماليزيا، مركز الفكر الحضاري والتربية، 1999م، ص 19.

([25]) – ينظر عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، ص 43، وعاصم أحمد عجيلة، حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي، ص 19.

([26]) – السيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق، (4/2191).

([27]) – القنوجي، محمد صديق خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، مراجعة عبد الله الأنصاري، صيدا، بيروت، المكتبة العصرية، 1412هـ، 1992م، (6/263).

([28]) – القنوجي، فتح البيان في مقاصد القرآن، مرجع سابق، (2/262).

([29]) – ينظر: العجلوني، إسماعيل بن محمد الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الألباس عمن اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، مكتبة القدسي، لصاحبها حسام الدين القدسي، القاهرة، 1351ه، (2/326).

مركز مبد ينظم دورة للمجتمع المدني حول دور الوسيط في السلام

ورشة تدريبية حول دور المجتمع المدني في تعزيز السلم الاجتماعي
نظم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية مبدأ ورشة تدريبية حول دور المجتمع المدني في تعزيز السلم الأهلي بمقر المركز بنواكشوط اليوم الأحد 16 فبراير 2020 مع المدرب والباحث بالمركز الأستاذ الشيخ الحسن البمباري.


الدورة التي افتتحت صباح اليوم تناولت مفاهيم الوساطة والمجتمع المدني والأدوار التي يفترض بالمنظمات والهيئات المدنية القيام بها والتي منها الوساطة ، وحل النزاعات ،والمشاركة في وضع آليات لتعزيز السلم الاجتماعي.
وقد شهدت الورشة مشاركة واسعة من المنظمات والهيئات الشبابية النشطة في نواكشوط وخارجه .


تناول الحاضرون قضايا عديدة بالنقاش مثل مكانة المجتمع المدني وآليات تعزيز حضوره كوسيط اجتماعي والجهود التي يبذلها الافراد والنشطاء في هذا الصدد إضافة إلى الاولويات داخل الفضاء المدني سواء عند الأفراد او المؤسسات .


وقد ختم الورشة بتقسيم إفادات المشاركة على المشاركين .

كلمة رئيس ندوة الانفتاح السياسي في موريتانيا السيد محمد ارزيزيم

كلمة رئيس الجلسة

بسم الله الرحمن الرحيم

أرحب بكم باسم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية- مبدأ، الذي نشكر له جهده الذي بذل من أجل  أن نجلس سويا  في فضاء فكري وسياسي وثقافي واحد رغم اختلاف الرؤى والتصورات، على مائدة نقاش موضوع الساعة والساحة في البلاد كما عودنا على ذلك خلال السنوات الماضية، مما عزز ويعزز بناء المشترك بين النخبة والمهتمين بالشأن العام عموما.

و تتنزل هذه الندوة ضمن الأنشطة التي ينظم مركز مبدأ لمتابعة الساحة السياسية والمواضيع المهمة للشأن العام.

 إن هذه الندوة التي تأتي تحت عنوان الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تكريس الديمقراطية، ستمثل حتما إجابة أو إجابات  أساسية على الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد حاليا، والذي يطغى عليه جو من التفاؤل والانفتاح المتبادل بين الفرقاء السياسيين، بعد عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها البلاد، مؤخر وما أعقب ذلك من ردود فعل ايجابية على الواقع السياسي الراهن.

ولنقاش هذا الموضوع استضاف المركز نخبا من خيرة العارفين بالفضاء السياسي الموريتاني والذين عاشوا و عايشوا مختلف تفاعلاته على مستويات عدة و في توجهات سياسية شتى،

وهم السادة:

  • السيد يحي احمد الوقف، الأستاذ الجامعي ورئيس الوزراء السابق والنائب البرلماني و رئيس حزب عادل.
  • السيد العيد محمدن أمبارك المحام والنائب برلماني عن حزب تكتل القوى الديمقراطية ورئيس ميثاق الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحراطين،
  • السيد سيدي محمد محم المحام والنائب والوزير السابق والرئيس السابق لحزب الاتحاد من اجل الجمهورية،.
  • السيد محمد جميل منصور الباحث ورئيس المركز الموريتاني للدراسات الإستراتيجية والنائب البرلماني السابق والرئيس السابق لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية
  • السيد عبد الله ممادو با الباحث والمؤلف المتخصص في الشؤون الإفريقية والمستشار الإعلامي للرئيس السابق سيدي الشيخ عبد الله.

السادة والسيدات، هؤلاء  الأساتذة هم الذين سيتناولون هذا الموضوع،  بالنقاش  والتحليل وهم خليقون  بالإجابة عن أهم الإشكالات السياسية للانفتاح السياسي وقادرون على معالجة الموضوع من مختلف جوانبه، باسمكم جميعا وباسم مركز مبدأ نرحب بهم وعلى بركة الله  نبدأ الندوة.

رئيس الجلسة

محمد ولد ارزيزيم

الكلمة الرسمية لمركز مبدأ خلال ندوة الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تعزيز الديمقراطية

السادة والسيدات

الحضور الوقور

السلام عليكم ورحمة الله

لقد دأب المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية مبدأ، منذ تأسيسه وحتى اليوم على مواكبة ومرافقة التحولات المهمة التي تشهدها البلاد، وذلك من خلال عشرات العناوين الشائكة والمهمة التي تم تدارسها على منبر المركز، والتي كانت في مجملها عناوين ناقشت قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية تساهم في تجذير دولة المواطنة والقانون.

السادة الحاضرون والمحاضرون

منذ مطلع العام إلفين وسبعة عشر شهدت البلاد انتقالات سياسية مهمة في مواضع تلامس جسم الدولة على المستوى التنفيذي والتشريعي، والبنوي عموما، وقد كانت معظم هذه التحولات مجال متابعة ونقاش من المركز،

و تتنزل هذه الندوة التي اخترنا لها أن توسم ب الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تعزيز الديمقراطية، في إطار المتابعة الأمينة و النشطة للساحة السياسية في موريتانيا، التي تعيش حالة انتقال غير مسبوق يؤكد فاعلية ديمقراطية الممكن المحلية التي وان لم تنجج في خلق طفرة على المستوى للتنموي والاقتصادي والإداري إلا أنها تجنب البلاد الاحتقان الاجتماعي والصراع المنهك لعملية بناء الدولة العسيرة في دول الجنوب عموما.

الحضور الوقور …

إن مثل هذه الأنشطة تمثل طريقا مهما لنقاش الواقع واستشراف المستقبل، وكذلك تقويم النقاشات والمسارات التي نسلكها في طريق الديمقراطية، ومع أننا نوفر الكفاف من أدوات البناء السياسي (القوانين، واللجان السياسية)، فإننا ما زلنا بعيدون جدا عن تحقيق تقدم يذكر في أدوات الأداء السياسي وبالخصوص الحزبي منها، الذي يستنسخ غالبا نماذج غير سياسية لتحقيق أهداف سياسية.

ونظرا لطبيعة المحاضرين هذا المساء وتميزهم وخبرتهم السياسية، فإنني أجد نفسي مجبرا على تقديم بعض الأسئلة السياسية كإسهام في هذا النقاش الأول من نوعه

ما هي الأسباب المباشرة للخجل السياسي الذي تعيشه التجربة الديمقراطية في موريتانيا؟

وأي انعكاس للمسألة التنموية بمعناها الاقتصادي على الفعل السياسي، في عدم إمكان تجسيد النزاهة في الانتخابات بسبب الفقر وغياب الوعي؟

وطالما الدمقرطة نموذج سياسي يتطلب مستوى ما من التنمية و الرفاه كيف أصبحت المطلب الأساسي لكل الفاعلين سواء المجتمعيين أو السياسيين؟

وما هي الآفاق السياسية التي يمكن الوصول إليها من سياسة اليد الممدودة التي تظهرها الحكومة الحالية اتجاه للمعارضة؟

وأي تاثير للمشكل العرقي و الإثني في البلاد على المسيرة الديمقراطية للدولة التي ستدخل بعد أيام عامها الستين أي مرحلة ما بعد نضج التوجه و المسير؟

وليس رئيس الجلسة هذا المساء الذي سيترك له تقديم المحاضرين، إلا علما من رجال السياسية في البلد، فهو وزير الداخلية ونائب رئيس الجمعية الوطنية السابق، كما انه كان سفيرا لموريتانيا في الاتحاد الإفريقي، وباسم المركز أوجه الشكر له شخصيا على تقبل مهمة إدارة هذه الجلسة،

ومع تمنيات فريق المركز الذي شرفني بالحديث باسمه، لأعمال ندوتكم هذه بالتوفيق والسداد .

اشكر لكم حضوركم وتلبية دعوة المركز،

السلام عليكم ورحمة الله

الأمين العام للمركز ، الشيخ الحسن البمباري

مركز مبدأ ومنشورات ولد التاب ينظمان الندوة الدولية الثانية حول العلامة ولد التاب

احتضنت نواكشوط في يوم 19 دجمبر 2019 النسخية الثانية من الندوة الدولية حول المدونة الفقهية الموريتانية العلامة ولد التاب وجيله،

الندوة المنظمة من طرف منشورات ولد التاب والمركز الموريتاني للبحوث والدراسات الانسانية مبدأ و الفكر التجديدي شارك فيها عدد من الباحثين الموريتانيين والاجانب وقد قدمت فيها العديد من العروض التي ناقشتم ختلف جوانب ابعاد منوجات العلامة ولد التاب وجيله الفقهي وكذلك مركزية الفقه في التراث الموريتاني الاجتماعي منه والسياسي .