19 أبريل، 2024، والساعة الآن 4:17 مساءً بتوقيت نواكشوط
Google search engine

الفتاوى والتاريخ (دراسة لمظاهر من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال فقه النوازل)

                                                                                الحاج أحمدو **

استهل المؤلف كتابه” الفتاوى والتاريخ (دراسة لمظاهر من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال فقه النوازل)” بتوطئة بين فيها بعض التغيرت التي طرأت على الكتابة التاريخية والاتجاهات الجديدة في كتابة التاريخ، وقسم المؤلف عمله إلى أربعة محاور كما يلي:

المحور الأول: اعتبارات أولية :

وقد تعرض المؤلف في هذا المحور إلى الأسباب التي أدت إلى الاهتمام الملحوظ بدراسة النواحي الاقتصادية والاجتماعية من حياة المجتمعات في نطاق الاتجاهات الجديدة في التاريخ التي راهنت على مجموعة من المسلمات كإزالة الحواجز بين التاريخ وباقي العلوم الإنسانية ،و تفاعل تلك العلوم فيما بينها، و التركيز على المدى الطويل على حساب الحدث ذي الإيقاعات الانفعالية السريعة، وانتقال مراكز اهتمام المؤرخ من الزمن الفردي إلى الزمن الاجتماعي حسب التعبير البرود يلي ،أي “من الحياة السياسية إلى البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنية لإدراك حركية الواقع البشري في مختلف أبعاده وإخراج الكتابة التاريخية من النظرة الوحيدة الجانب لذلك الواقع”.

 وإذا كان توفر هذه المناهج والتقنيات قد مكن مؤرخي الفترتين الحديثة والمعاصرة في البلدان ذات التقاليد العريقة في مجال التوثيق من إحداث ثورة في مجال التاريخ الكمي في الاصطلاح الفرنسي أو التاريخ الاقتصادي الجديد في الاصطلاح الأنغلو ساكسوني  فإن الأمر لم يكن كذلك ـ حسب المؤلف ـ لا بالنسبة لمؤرخي الفترتين القديمة والوسيطة ،والمهتمين بتاريخ الذهنيات في البلدان ذات التقاليد التوثيقية بسبب الغياب الكبير للمعطيات الكمية التي يصعب تعويضها أو بسبب تقطعها في الزمان والمكان، وهو ما دفع ـ حسب المؤلف ـ بعض الباحثين لتعويض هذا النقص في الوثائق إلى استنباط بعض المعطيات الكمية من المصادر القصصية عن طريق استبدال لغة الألفاظ بلغة الأرقام قبل الانتقال إلى  مرحلة ثانية من الرقم إلى الواقع التاريخي المدروس وما ينبغي أن يتخلل مجمل العملية من حيطة واحتراز منهجيين ،وهو ما حدا بالعروي في سياق مقارنته بين التاريخي الكمي و تاريخ الإنتاج وتوظيف كل منهما لمفاهيم الاقتصاد وتقنيات الإحصاء إلى القول :” إن الثروة الحقيقية التي غيرت مسار البحث التاريخي في أواسط الخمسينيات من هذا القرن لم تكن إدخال العدد فحسب بل كانت تطبيق مناهج دراسة الإنتاج على ميادين أخرى باستغلال وثائق غير مؤشرات السوق والمعاش”.

وهكذا دفع النقص الكبير في الوثائق اللازمة لكتابة تاريخ معتبر علميا الباحثين إلى هذا النوع المركب من الرياضة الذهنية أحيانا والدعوة للبحث عن وثائق جديدة أحيانا أخرى لأن تجديد موضوعات وطرق كتابة التاريخ مرتبطة أشد الارتباط بتجديد المصادر.

ومن هذا المنطلق جاء اهتمام بعض الباحثين بالفتاوى والنوازل الفقهية بوصفها مصادر غنية بمعطيات ترتبط كل الارتباط بزمن على  المدى الطويل وبمكان  واسع في أغلب الأحيان إن لم تكن ترتبط بقضية معروفة بعينها وقعت في زمن أو مكان محددين.

واعتبر المؤلف أن الفتاوى والنوازل الفقهية في هذه المنطقة ـ في ظل الاهتمام المتزايد في المنطقة المغاربية بالتاريخ الجديد ـ ما تزال مغموطة وقيمتها الوثائقية مجهولة، بل لم يتسع لها مفهوم الوثيقة في المغرب الأقصى مثلا إلا في سبعينيات القرن الماضي بالنسبة لمعظم المختصين واقتصرت توظيفاتها المحدودة في الأساس على ما يمكن أن يستقى منها من معلومات إخبارية .

ولقد كان هذا الجهل والازدراء بالفتاوى كمصدر تاريخي ـ في مجتمع عربي إسلامي تعتبر حضارته بالدرجة الأولى حضارة فقه وشكلت فيه الفتاوى سلطة مرجعية ـ الدافع حسب المؤلف إلى كتابة هذا البحث المكرس في الأساس لأهمية الفتاوى كمصدر لكتابة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني.

وقدم المؤلف لمحة تاريخية موجزة عن استعمال الفتاوى الأكاديمي لتاريخ المنطقة بوجه عام ولاسيما من قبل المؤرخين التونسيين والمغاربة.

المحور الثاني:الفتاوى كمصدر تاريخي :من حقل الإسلاميات الغربي إلى الحقل الأكاديمي المغربي:

واعتبر المؤلف في هذا المحور أن الفضل يعود في لفت الانتباه إلى الفتاوى والنوازل كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي العربي بشكل عام والمغربي بوجه خاص في الفترة المعاصرة إلى مجموعة من علماء الإسلاميات الغربيين الذين اهتموا بتراث المنطقة الثقافي وبتاريخها في أبعاده الاجتماعية والسياسية والفكرية.

واقتصر اهتمام المؤلف ـ لاعتبارات تاريخية ولغوية حسب قوله ـ على ما قام به الفرنسيون وتمثلت المحاولات الأولى التي قاموا بها في ترجمة بعض النصوص الإفتائية قبل أن ينصب اهتمامهم في مرحلة لاحقة على تلك النصوص لمحاولة استنطاقها لتعويض النقص الذي تشكوه الحضارة العربية الإسلامية فيما يتعلق بوثائق الأرشيف وخاصة الوثائق ذات المنحى الاقتصادي والاجتماعي.

ويعتبر الأستاذ كلود كاهن من أول من نادوا بضرورة إعطاء أهمية خاصة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي، معتبرا أن كتب النوازل تستحق عناية خاصة وكرس لها مجموعة من الدراسات وإلى جانب كاهن اضطلع كل من : ربير برينشفيك و هادي روجي إدريس وجاك بيرك بجهود هامة في مجال الاهتمام بفقه النوازل والفتاوى وتوظيفها.

و”إذا كانت جل أعمال هؤلاء قد ظلت ـ حسب المؤلف ـ أسيرة النهج الوصفي المطل على الواقع من الخارج ومحكومة منهجيا بالإشكاليات التاريخانية للخطاب الاستشراقي النابع من محيط تاريخي تحكمه الذات المركزية الأوروبية ،فإن بعضها قد تحرر نسبيا من تلك المعوقات فعاين الواقع واستفاد من التطور الحاصل في العلوم الإنسانية ومناهجها، وقدم خدمات كبيرة لمؤرخي المغرب سواء على مستوى المضمون أو المنهج “.

واعتبر المؤلف أن أهمية هذه الأعمال لا تكمن في مضمونها فحسب،  وإنما فيما سنته من تقليد في مجال استغلال الفتاوى كمصادر تاريخية وإن كان ذلك الاستغلال قد ظل أحيانا استغلالا إخباريا محضا، وهي الطريقة التي ستهيمن ـ حسب المؤلف ـ على المراحل الأولى من تعامل الباحثين الجامعيين المغاربة مع هذا النوع الجديد من الوثائق التاريخية.

وأعطى المؤلف عناية خاصة لأعمال المؤرخين في الساحتين التونسية والمغربية لما تتميزان به  حسب المؤلف من حيوية وريادة في مجال مواكبة وتوظيف المناهج والأساليب الجديدة للبحث في العلوم الاجتماعية عموما والدراسات التاريخية على وجه الخصوص ، ولما يتوفر عليه المؤلف من معلومات تركيبية عن البلدين وإن تقادم بها العهد تونس1978،المغرب1986.

وتظهر الدراسات التي اطلع عليها المؤلف تفاوتا في الاهتمام بفقه النوازل وفي طرق توظيفه بالنسبة لمؤرخي البلدين ، فمن بين عشرين عملا علميا مكرسا للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي التونسي لم يستفد منها حسب المؤلف من الفتاوى سوى ثمان تتعلق بالفترة السابقة للقرن 16م ،أما الأعمال المتعلقة بالقرون اللاحقة (16 ـ 20)  فلم تشر إليها ببنت شفة وإن وظفت كثيرا الأحكام القضائية.

وأرجع المؤلف الأسباب في ذلك إلى  ندرة المعلومات في الحالة الأولى عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المصادر الأخرى، وتوفر مادة وثائقية غنية بالمعطيات الكمية والكيفية عن مناحي المجتمع لدى الباحثين في الحالات الأخرى.

وقد يكون مرد ذلك إلى التجذر التاريخي للسلطة المركزية في تونس وتغلغل أجهزتها داخل جسم المجتمع وهو ما يتجلى بشكل واضح في هرمية تنظيم الوظيفة العلمية في هذا البلد عكسا لما عليه الحال في البلدان الأخرى.

وقد تعززت تلك الخصوصيات مع استيلاء الأتراك على إفريقية سنة 1574م الذين عمدوا إلى احتكار السلطة والهيمنة على المجتمع جاعلين النظر في النوازل من اختصاص المفتين والقضاة الرسميين.

واعتبر المؤلف أن درجة استفادة المؤرخين التونسيين من الفتاوى والنوازل التي حفل بها العصر الوسيط، ما تزال نسبية باستثناء الجهود التي بذلها الأستاذ محمد الطالبي  والأستاذين سعد غراب ومحمد حسين.

وأشاد المؤلف بجهود الطالبي عميد أخصائي تلك الفترة الذي تنبه حسب المؤلف إلى الأهمية البالغة للمصادر الفقهية بشكل عام والفتاوى على وجه الخصوص في دراسة ماضي المغرب الاقتصادي والاجتماعي والتي وظفها توظيفا بنيويا في جل كتاباته عن تاريخ المنطقة.

واقتصر المؤلف على ذكر بعض الأعمال التي قام بها الطالبي كاهتمامه بدراسة الحياة العسكرية من خلال فصل الجهاد من كتاب النوادر والزيادات على ما في المدونة من غريب الأمهات.

وألقى الطالبي حسب المؤلف نظرة فاحصة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في إفريقية القرنين 9 ـ 10 م باستغلاله لسبعة وثلاثين فتوى من كتاب مسائل السماسرة للأبياني تتعلق بسماسرة الثياب في مدينة تونس التي انتزعت مكانة القيروان في أواخر القرن 9م.

واستقى الطالبي في دراسته لتاريخ إفريقية المؤسسي الاقتصادي والاجتماعي في القرن 3هـ ـ 9م معلوماته من بعض الكتب:كالمدونة لسحنون، وكتاب:الاموال لأبي جعفر أحمد بن نصر الداودي.

واعتمد الطالبي بوجه خاص على المدونة في تحليل جوانب من الحياة الزراعية مثل:الشفعة والقسمة والعارية والمنيحة ، وقد حلل انطلاقا من تلك النصوص ما امتازت به البنيات الزراعية والاجتماعية في القرن 9م من تفاوت كبير سواء على صعيد الهرمية الاجتماعية أو على صعيد توزيع الثروة وما لعبه الأرقاء من دور بارز فيما حققه ازدهار الزراعة آنذاك من رخاء في إفريقية.

وخلص المؤلف إلى أن الطالبي مهد السبيل للولوج إلى التاريخ الصامت للمجتمعات المغاربية من بابه الواسع.

ويذكر المؤلف في مجال التحقيق ما قام به الأستاذ فرحات الدشرواي  من نشر كتاب :أحكام السوق ليحي بن عمر بن لبابه ، وتحقيق :نوازل المزارعة والمغارسة و المساقات والشركة  من المعيار للونشريسي  من طرف محمد حسن موسى، وتحقيق :الأحكام للشعبي من طرف الصادق الجلوي، وقام الأستاذ انس العلاني  بتحقيق السفر الأول والثاني من كتاب الإعلام بنوازل الأحكام لابن سهل.

ويقدم الاستاذ سعد غراب في بحثه: كتب الفتاوى وقيمتها الاجتماعية الجزأ الأول  من نوازل البرزلي.

واستعرض غراب في البداية الآراء المتضاربة بشأن أهمية الكتب الدينية في دراسة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وميل إمام وفقهاء المذهب المالكي إلى الواقعية في الافتاء وتشبثهم بالواقع وابتعادهم عن الافتراضات النظرية والحيل الفقهية، واعتبارهم للعرف والعادة والعمل كأصول فرعية للتشريع قبل أن يتناول أهمية كتب الفتاوى المغربية، وما قيم به من توظيف تاريخي لها ولا سيما نوازل البرزلي وقيمتها الاجتماعية ليخلص إلى القول إن الثروة الكبيرة الموجودة في مثل هذه التصانيف تسمح لنا بتجشم أتعاب النظر فيها ودراستها وربما تحقيقيها علميا إذ ذاك يمكن لكل إنسان أن يفتش عن بغيته في هذا المنجم الخصب.

ويظهر سعد غراب ما تميزت به مواقف بعض الفقهاء في المدن الإفريقية من قساوة تجاه الأعراب بين الطعن في إسلامهم واستغراق ذمتهم اعتمادا على فتاوى لابن عرفة والبرزلي.

وتجلت تلك النظرة الإزدرائية تجاه المجموعات الريفية في اختلاف فقهاء القرن 8م بشأن التعارض القائم بين التعاليم الشرعية وبعض الممارسات الاجتماعية.

وتناول الأستاذ حسن محمد موسى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لهذه المسألة بتعمق وحصافة في دراسته عن الريف المغربي( الريف المغربي في أواخر العصر الوسيط ) إذ تعرض لما منح للتاريخ السياسي والعسكري العربي من عناية وما عاناه التاريخ الاقتصادي والاجتماعي من تهميش نتيجة لصعوبة البحث فيه لغياب أرشيف اقتصادي بالنسبة للمغرب الإسلامي وهيمنة كتب الحوليات والتاريخ على المادة الوثائقية وضحالة المعلومات الاقتصادية والاجتماعية الواردة فيها.

 وتناول أهمية كتب الفقه والفتاوى في هذا المضمار وأسباب عزوف الباحثين مستعرضا شروط استنباط المعلومات من الكتابات الفقهية ليخلص إلى المضمون الاقتصادي والاجتماعي لفصل المزارعة والمغارسة من المعيار إذ عالج بحس تاريخي البنية الفلاحية المغربية والمشكلات التي طرحتها على المجتمع الفلاحي المغربي من خلال دراسة وسائل الإنتاج الفلاحي وعلاقات الإنتاج (الشركات الفلاحية) إذ استعرض الهياكل العقارية وسماتها المميزة وعناصر الإنتاج إضافة إلى ظاهرة الخماس ووظيفته وعلاقاته برب العمل.

وخلص المؤلف إلى أن محدودية استغلال الفتاوى في الكتابات التاريخية هي السمة الغالبة على الانتاج الجامعي التونسي، وهو ما يخالف الوضع في المغرب نظرا لتفاوت تطور الهياكل الاجتماعية وتباين طبيعة الدور؟الاستعماري في حقل الإنتاج التاريخي.

وخلص المؤلف إلى أن خصوصية المغرب الأقصى الاجتماعية والسياسية ستتحكم إلى حد كبير في اهتمامات مؤرخيه وطبيعة الإنتاج التاريخي في فترة ما بعد الاستقلال .

وتطرق المؤلف إلى المراحل التي مر بها الانتاج التاريخي في هذا الحقل، وقد تميزت بمرحلتين أساسيتين هما:

*مرحلة التاريخ الوطني: (56 ـ 1975 ):

وقد هيمنت عليها هموم دحض الاستوغرافيا الاستعمارية وتأكيد الهوية الوطنية.

*مرحلة التاريخ الاجتماعي ( 1975 ـ إلى اليوم ).

وهي مرحلة شكلت حسب المؤلف نقلة نوعية في مجال الإنتاج التاريخي بالمغرب سواء من حيث المنهج أو من حيث مجالات الاهتمام .

وحسب المؤلف فإن جهود الجامعة المغربية أخرت على مدى عشرين عقدا من الزمن عن تخريج نخبة من المؤرخين الشباب المنفتحين على العلوم الاجتماعية الأخرى ومناهج البحث المعاصرة ، ولاسيما مناهج علمي الاقتصاد والاجتماع والواعيين بالمتطلبات الجديدة لمهنتهم وواقع البحث في بلادهم إذ انصب اهتمامهم على التاريخ الاجتماعي ( الكلي بمعناه البروديلي ) بدل التاريخ السياسي الذي هيمن على المرحلة الأولى .

وفي ظل هذا التوجه التحديثي اهتم الباحثون بالفتاوى الفقهية ضمن عملية تنقيب واسعة النطاق عن وثائق جديدة تسمح بإعادة صباغة الماضي صياغة معتبرة بشكل علمي.

ويظهر حضور الفتاوى في الأبحاث الجامعية المغربية إذ ارتبط  ارتباطا وثيقا بتطور البحث التاريخي بشكل عام وبتطور المناهج والاتجاهات الفكرية في الجامعة المغربية بشكل خاص.

وحسب المؤلف فقد ظلت الفتاوى حتى نهاية السبعينيات مستبعدة من قبل المؤرخين كمصدر تاريخي، وابتداء من سنة 1970 طرح الأستاذ عبد الله العروي بطريقة أكثر جلاء ضرورة توظيف الفتاوى في كتابة التاريخ المغربي إذ أن “فقه النوازل هو الكفيل بأن يقربنا أكثر من واقع الأوضاع السياسية والاجتماعية لكن هذا النوع من الكتابات ما زال لم يدرس دراسة شاملة”.

وقد أعطى العروي اتجاهات جديدة للبحث التاريخي وابتداء من ذلك التاريخ سيتبلور اتجاهان في مجال استخدام الفتاوى الفقهية كمصدر تاريخي أحدهما تراثي ببليوغرافي  النزعة ، والآخر بنيوي يعكسان ثنائية منهجية واضحة على مستوى العاملين في حقل البحث التاريخي المغربي، وتوجد قواسم مشتركة بين هذين الاتجاهين تتمثل في التزايد الملحوظ لكم المصادر الفقهية المستخدمة واتساع مجال توظيفها زمنيا ونوعيا بحيث لم يعد يقتصر على الفترة القروسطية، وإنما شمل الفترتين الحديثة والمعاصرة.

وسنقتصر في التمثيل لهذين الاتجاهين على عناصر محدودة لها دورها الريادي تجنبا لمزيد من الإفاضة في عنصر لا يشكل جوهر اهتمامنا الآني.

وحسب المؤلف فقد استمر الاتجاه الأول الذي استمر في استغلال الفتاوى استغلالا إخباريا محضا في مجالات مختلفة ويمثله كل من محمد حجي وإبراهيم حركات وعبد اللطيف الشاذلي.

أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه البنيوي الذي مثل نقلة كيفية في الإنتاج التاريخي المغربي ومن بين من سلكوا هذا النهج :أحمد التوفيق و محمد القبلي ومحمد مزين وعبد الله الحمودي وعبد القادر المؤدن  ومحمد اعفيف…

وخلص المؤلف إلى القول إن الفتاوى إذا كانت قد حظيت باهتمام كبير في مجتمعات لها تقاليدها العريقة في مجال التوثيق وتجاربها في مجال البحث التاريخي ،فإننا في المنكب البرزخي أحوج ما نكون إلى الاهتمام الجاد بهذه المادة الوثائقية الثرة وتوظيفها توظيفا بنيويا ونحن نخطو خطواتنا الأولى في مجال البحث التاريخي المعاصر.

المحور الثالث:الفتاوى الموريتانية من الكم إلى الكيف:

ويتطلب الحديث عن الكم والكيف في الفتاوى المتعلقة بما يعرف بموريتانيا حسب المؤلف التأريخ لتلك الفتاوى في هذا المجال ببعديه الجغرافي والبشري التاريخيين، إذ يرتبط الاستفتاء والإفتاء في هذا المجتمع كما في غيره من المجتمعات الإسلامية بتاريخ اعتناقه الإسلام وحظه من الثقافة العربية الإسلامية.

وإذا كانت التقاليد العالمة المحلية ترجع تاريخ دخول الاسلام إلى صحراء الملثمين إلى النصف الأول من القرن الثاني الهجري فإنه لا جدال في أن هذا الاسلام ظل سطحيا ويفتقر إلى العمق المعرفي حتى أواسط القرن 5هـ على الأقل.

وإذا كانت حركة المرابطين قد وطدت إسلام صنهاجة الصحراء ووضعت له دعائم عقائدية وثقافية ـ ما فتئت تترسخ مع الأيام ـ بقضائها على بقايا المعتقدات السابقة على الإسلام وتوحيدها الجميع في مذهب فقهي وعقائدي واحد وتعميقها المعارف الدينية والثقافية بإقامة المؤسسات التعليمية.فإن المنطقة حسب المؤلف لم تحقق على ما يبدو اكتفائها المعرفي إلا في القرن 10هـ ـ 16م :”إذ لم نعثر ـ يقول المؤلف ـ قبل هذا القرن على فتاوى لمفتين محليين إذ استثنينا ما أوردته الكتب الإخبارية عن الافتاءات التي كان يصدرها شفهيا على الأرجح ابن ياسين من حين لآخر بينما كان الاستفتاء معروفا في المنطقة منذ القرن 5هـ على الأقل”.

وحسب المؤلف فلا يمكن التعويل على الفتاوى كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني قبل الفترة الحديثة خلافا لما عليه الحال في تونس والمغرب.

وكانت أولى الفتاوى المحلية مع اند عبد الله بن سيد أحمد ت1530م وجيله من علماء ولاته و تينبكتو و تيشيت التي كانت من أولى مراكز  الإشعاع الثقافي في المنطقة وستترسخ ظاهرة الإفتاء وتنتشر في عموم البلاد خلال القرون اللاحقة مع الانتشار العمودي والأفقي للمعارف العربية والإسلامية وانتقال مركز الثقل المعرفي من المدن إلى البوادي.

ومن خلال عملية تقص أولية للفتاوى والمفتين المعروفين في الفترة ما بين القرن 16 والنصف الأول من القرن الـ 20 أحصى المؤلف 250 مفت منهم 85 لهم مجامع إفتائية ضخمة أحيانا ومرتبة حسب أبواب الفقه و”ليس لهذه الأرقام حسب المؤلف أية دلالة حصرية”.

 ويعتبر القرن 17 قرن ظهور المجامع الإفتائية الكبرى في موريتانيا مع محمد بن المختار بن الأعمش ( ت1107 /1695 م ) ومحمد بن أبي بكر الهاشم الغلاوي  ( ت 1098 / 1686 م ) والقاضي عبد الله بن محمد بن حبيب العلوي ( 1102 / 1692 م )  والحاج الحسن بن آغبدي الزيدي (ت 1192 / 1711م ) .

كما ظهرت في هذا القرن أولى عمليات تطويع الفقه المالكي للواقع المحلي المعيش بترجيح عرف البلد ـ أحيانا ـ على مشهور المذهب اعتبارا لمقاصد الشرع وحرصها على مصلحة الناس في كل زمان ومكان.

ويظهر الجدول التصنيفي التالي لـ 250 مفت و82 مجمعا إفتائيا تزايدا مضطردا لهم عبر العصور الأخيرة .

الجدول:1

القرن عدد المفتين عدد المجامع الإفتائية
16 5 ؟
17 15 4
18 62 25
19 94 29
النصف الأول من ق:20 74 24
المجموع 250 82

و سنلاحظ أن عموم المناطق الموريتانية قد عرفت الإفتاء إذا حاولنا توزيع هؤلاء المفتين توزيعا جغرافيا وأن هناك ـ على ما يبدو ـ تعالقا كبيرا بين حظ المناطق منه ومستوى إشعاعها الثقافي أو وعيها الفقهي على الأقل ،كما يتضح من الجدول الموالي:

القرن 16 17 18 19 النصف الأول من ق 20 المجموع الجزئي
شرقي البلاد 4 4 26 10 4 48
الوسط 1 1 10 11 13 36
الشمال ـ 5 5 7 3 20
الجنوب الغربي ـ 5 21 66 54 146
المجموع 5 15 62 94 74 250

فالإفتاء في القرن 16 قد اقتصر على المنطقتين الشرقية والوسطى من البلاد حيث كانت لمحور تينبكتو  ولاته تيشيت الهيمنة الاقتصادية والثقافية منذ أواسط القرن 14 م .

ومع التحولات التي عرفتها المنطقة في ملتقى القرنين 16 ـ 17م وما انجر عنها من تبرمات  سياسية وهجرات بشرية ( ولا سيما من المراكز القروية إلى الأرياف ) وزحزحة مسالك التجارة البعيدة المدى نحو الغرب سنلاحظ تقلصا تدريجيا في عدد المفتين في شرق ووسط البلاد وظهورهم بشكل ملحوظ في الشمال والجنوب الغربي.

أما القرن 18م الذي استقرت فيه ـ عموما ـ الخريطة البشرية والسياسية للمنطقة فقد كان نسبيا ـ حسب المؤلف ـ قرن رخاء اقتصادي وازدهار ثقافي تلمس مظاهره المختلفة في مدونات المفتين الذين تكاثر عددهم في ذلك القرن في عموم البلاد ولاسيما في شرقها ووسطها وجنوبها الغربي.

وستستمر نفس الظاهرة في القرن 19م والنصف الأول من القرن العشرين و”إن كنا ـ حسب المؤلف ـ نلاحظ خلال هذين القرنين صعودا ملحوظا لعدد المفتين في المنطقة الجنوبية الغربية أكثر من غيرها من مناطق البلاد الأخرى.

وأرجع المؤلف ذلك إلى “خصوصية العوامل التي أثرت في تطور المنطقة المعاصر أو إلى نقص في المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن ـ يقول المؤلف ـ عن الإفتاء والمفتين  في هذه الفترة ولاسيما في المنطقتين الشرقية والوسطى”.

ولإعطاء فكرة كمية وكيفية أكثر ملموسية عن الفتاوى وأهميتها في دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني اختار المؤلف  عينة من 6 مفتين موزعين على القرون:17،18،19م تشتمل على 1453 فتوى تمثل المسائل المتعلقة بالحياة الاقتصادية منها 27.84% ( 406 فتوى)  في حين تمثل الفتاوى ذات المنحى الاجتماعي 44.87% (652 فتوى) وهو ما يمثل في مجموعه 72.81% (1058 فتوى).

 ويمثل الجدول التالي تلك المعطيات بالتفصيل بالنسبة لكل مفت:

اسم المفتي العدد الإجمالي للفتاوى المصنفة حقل الفتوى عددها النسبة الجزئية النسبة العامة
محمد بن المختار بن الأعمش (1625ـ 1695) 286 فتوى الحياة الاقتصادية 115     40.20%
فتاوى المعاملات 87 75.65%
فتاوى العبادات 28 24.34%
الحياة الاجتماعية 75     26.22%
الأنكحة وما يتعلق بها 45 60%
العلاقات الاجتماعية 30 40%
الحياة الدينيةوالثقافية 96     33.56%
الحياة الدينية 75 78.12%
الحياة العلمية 21 21.87%
سيد عبد الله بن الحاج ابراهيم(1740ـ1818) 333 الحياة الاقتصادية 55 ؟ 16.61%
الحياة الاجتماعية 206 ؟ 61.86%
الحياة الدينية 72 ؟ 21.62%
أحمد بن العاقل 74 الحياة الاقتصادية 25     33.78%
فتاوى المعاملات 9 36
فتاوى العبادات 16 64
الحياة الاجتماعية 18   24.32%
الأنكحة وما يتعلق بها 12 66.66
    العلاقات الاجتماعية 6 33.33  
الحياة الدينية 14 ؟ 18.92%
القضايا السياسية 17 ؟ 22.97%
محنض بابه بن اعبيد (1771 ـ 1860) 280درست منها 203 الحياة الاقتصادية 91     24.32%
فتاوى المعاملات 61 67.03
فتاوى العبادات 30 32.97
الحياة الاجتماعية 52     25.61%
الأنكحة وما يتعلق بها 22 42.30
العلاقات الاجتماعية 30 37.69
الحياة الدينية والثقافية 60     29.55%
الحياة الدينية 40 66.66
الحياة العلمية 20 33.33
الشيخ سيديه بن المختار بن الهيبه ( 1776 ـ 1868) 332 الحياة الاقتصادية 58     18.01%
فتاوى المعاملات 19 32.76
فتاوى العبادات 39 67.24
الحياة الاجتماعية 193     59.94%
الأنكحة وما يتعلق بها 78 40.41
العلاقات الاجتماعية 115 59.58
الحياة الدينية والثقافية 54     16.77%
الحياة الدينية 25 46.30
الحياة العلمية 29 53.70
القضايا السياسية 17 ؟ 05.28%
محمذن فال بن متالي 225 الحياة الاقتصادية 62     27.55%
فتاوى المعاملات 33 53.23
فتاوى العبادات 29 46.77
الحياة الاجتماعية 106     47.11%
الأنكحة وما يتعلق بها 19 17.92
العلاقات الاجتماعية 87 82.08
الحياة الدينية 57 ؟ 25.33%

منزلة الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية من مجموع فتاوى 6 مفتين من أهل القرون:17،18، 19:

إن نظرة إجمالية سريعة إلى الجدول الاستنباطي تظهر أن القضايا الاجتماعية بمعناها الضيق( الأنكحة وما يتعلق بها من ممارسات ،والعلاقات الاجتماعية بين فئات  المجتمع …) قد احتلت الصدارة من الناحية الكمية في إفتائات هؤلاء المفتين ( حوالي:45% من المجموع العام ) على مدى ثلاثة قرون في مناطق مختلفة من البلاد ، وإذا ما أضيف إلى هذا الرقم نسبة الممارسات الدينية والثقافية من تلك الفتاوى فإن نسبة مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية ستصل إلى 72% وهذا يعني أن هذا المجتمع كان أكثر حركية و أقل رتابة مما توحي به النظرة الانطباعية العامة عن واقعه، وأن الحياة الاجتماعية كانت تطرح على سكان المنطقة من النوازل التي تتطلب تأسيسا فقهيا أكثر مما تطرحه حياتهم المادية التي لم تتجاوز نسبتها 28%من تلك المدونة الإفتائية. 

أما إذا أخذنا فتاوى كل مفت على حدة، واقتصرنا على القضايا الاجتماعية المحضة فإننا نجدها قد فاقت غيرها من القضايا في فتاوى كل من سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم والشيخ سيديه بن المختار بن الهيبة، ومحمذن فال بن متالي حيث بلغت نسبتها:56.74% من مجموع فتاويهم بينما تفوقت عليها القضايا الاقتصادية في فتاوى محمد بن المختار بن الأعمش، وأحمد بن العاقل ، ومحنض بابه بن اعبيد.

وأرجع المؤلف أسباب ذلك إلى المحيط الطبيعي والتاريخي لهؤلاء الذين كان عليهم مدار الإفتاء في المناطق التي عاشوا فيها، فقد عاش بن الأعمش في القرن 17م  بمنطقة آدرار الجبلية القاحلة ذات الحجم السكاني المحدود والتي تقوم حياتها المادية في الأساس على زراعة الواحات والتجارة عبر الصحراء، وتحديدا في مدينة شنقيط التي كانت في ذلك الوقت تعرف بداية ازدهارها الاقتصادي، وتألقها الحضاري باعتبارها محطة أساسية في تلك التجارة وملتقى لقوافل الحج  بالمنطقة ومركزا علميا مهما ،ومن الطبيعي في مجتمع كهذا أن تحتل المشكلات ذات الطابع الاقتصادي الصدارة على حساب القضايا الاجتماعية فقد أصدر ابن الأعمش 87 فتيا بشأن المعاملات وحدها (البيع ،السلم ،المطل ، الضمان،العارية ،الشركة،القراض،الإيجار،الجعل،الوديعة… ) منها 30 فتيا تتعلق بالبيع ،و12 بالإجارة،و7 بالمطل،في حين أصدر 44 فتيا بشأن الأنكحة 21 تتعلق بالزواج و20 بالطلاق و3فتيا بالعدة والاسترعاء والحضانة…

أما ابن العاقل فقد عاش جل حياته في القرن 18 بمنطقة اترارزة السهلة الساحلية التي تقوم حياة سكانها على الرعي ( ولاسيما تربية الأبقار) والتجارة والزراعة بدرجة محدودة، وفي منطقة إيكيدي  بوجه خاص ووسط المجتمع الشمشوي المعروف بتمسكه بالمثل الدينية وبنهجه الأخلاقي المتميز.

وقد عرفت المنطقة في عهده استقرارا سياسيا واجتماعيا بعد الاضطرابات والهزة العنيفة التي عرفتها في أواخر القرن 17م جراء حرب شرببه ، وبداية رخاء اقتصادي لعبت فيه عائدات تجارة العلك مع الأوربيين دورا مهما،وإذا كانت فتاويه ذات الطابع الاقتصادي أعلى نسبة من فتاويه ذات المنحى الاجتماعي ( 33.78% مقابل 24.32% من مجموع فتاويه) فإن فتاوى العبادات في الصنف الأول قد فاقت فتاوى المعاملات ( 64%مقابل 36% من الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية.

 وإذا قارنا عدد فتاوى الحقلين الأساسيين في المجالين الاقتصادي والاجتماعي فإن فتاوى الأنكحة أهم بقليل من فتاوى المعاملات (12 مقابل 9).

وعاش محنض بابه خلال القرن 19م بنفس المحيط الطبيعي والبشري الذي عاش فيه أحمد بن العاقل ،وعرفت المنطقة في عهده عصرها الذهبي سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي، وكانت تجارة العلك مع الأوربيين، وما يتولد عنها من نشاطات اقتصادية،وإشكالات فقهية تعيش أوج ازدهارها في عهد هذا المفتي القاضي المركزي للإمارة ،وأخذت تلك الإشكالات حيزا ملحوظا من اهتماماته واهتمامات معاصريه.

وبالعودة إلى فتاويه فقد هيمنت عليها الإشكالات الاقتصادية (44.83%مقابل 25.61% للاستشكالات الاجتماعية) ولاسيما قضايا المعاملات التي استحوذت على 67.03%من الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصادية.

فقد أصدر 39 فتيا بشأن البيوع وما يتعلق بها من معاملات في حين لم تتجاوز فتاوى الأنكحة ومتعلقاتها 16 وهو ما يمثل نسبة 2.43% وهذا يعني أن الإشكالات التي طرحتها حياة الناس المادية في تلك المنطقة خلال النصف الأول من القرن 19 كانت  أهم من تلك طرحتها حياتهم الاجتماعية.

وارجع المؤلف السبب في ذلك إلى ما عرفه النشاط الاقتصادي في المنطقة من تعقيدات ومستجدات بفعل التغلغل البضاعي في حين ظلت الحياة الاجتماعية تعيش رتابتها التاريخية  حسب المؤلف بمنأى عن المؤثرات الخارجية.

ولتوضيح أهم القضايا ذات الطابع الاقتصادي التي تناولها هؤلاء المفتون يقدم المؤلف فتاوى ابن الأعمش ومحنض بابه والشيخ سيديا فقط التي تمكن من الحصول على جرد شبه دقيق لها كما يظهر من الجدول التالي:

4

موضوع الفتاوى عددها نسبتها الحقلية* نسبتها من المجموع العام**
البيوع وما يتعلق بها 77 29% 7.90%
السلم 10 3.78% 1.02%
القيم وأنواعها 9 3.4% 0.92%
القرض 9 3.4% 0.92%
الضمان 8 3.03% 0.92%
الإجارة والكراء 17 6.44% 1.74%
الشركة 3 1.13% 0.30%
الربا 10 3.78% 1.02%
المداراة 12 4.55% 1.23%
الزكاة 28 10.6% 2.97%
الحبس والوقف 39 14.77% 4%
أشكال من التعاون الاقتصادي ( ونكالة ـ خلط الطعام عند صانعيه) 3 1.13% 0.3%

*  تبلغ فتاوي هؤلاء المفتين الثلاثة ذات الطابع الاقتصادي 264 فتوى .

** مجموع المدونة الافتائية الماخوذة كعينة تبلغ 974 فتوى.

وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الجدول التالي يبين أهم الاستشكالات الاجتماعية المطروحة على هؤلاء المفتين بوصفها تجليات لممارسات المجتمع ونظام قيمه الذهنية .

أهم القضايا الاجتماعية المثارة في فتاوى العلماء الثلاثة.

موضوع الفتوى عددها نسبتها الحقلية نسبتها من المجموع العام
الزواج وما يتعلق به 107 23.44% 10.98%
الطلاق 39 12.18 4%
العتق والولاء 19 5.94 1.95%
المغارم 4 1.25 0.41%
الفداء 3 0.94 0.31%
وضعية الرقيق 5 1.56 0.51%
استغراق الذمة والنظرة إلى بني حسان 17 5.31 1.75%
قضايا التصوف 65 20.31 6.67%
الجنايات 18 5.62 1.85%
القضاء والتقاضي 31 9.69 3.18%
الصدقة والهبة 12 3.75 1.23%

ويقسم المؤلف القضايا الاجتماعية الواردة في هذا الجدول تبعا لحضورها في المدونة الإفتائية إلى ثلاثة محاور هي:

1ـ الأنكحة أو ما يقع بين اثنين .

2ـ الممارسات  السوسيودينية.

3ـ العلاقات بين الفئات الاجتماعية.

وقد شكل المحور الأول المشغل الاجتماعي الأساس في حياة المجتمع آنذاك باستحواذه على 146 فتيا من أصل 320 فتوى (45.62%) وهو ما يعكس حسب المؤلف  تفاعل النصوص الشرعية مع الجانب الاجتماعي بقوانينه الفرعية السائدة وشبكات بناه القرابية والفئوية بمستوياتها المختلفة.

فقد مثل الزواج نسبة 73.28% ( أي 107 فتيا) من فتاوى الأنكحة بينما مثل الطلاق 26.71 % (39 فتيا) وهو ما يشكل حسب المؤلف مؤشرا على أن تفشي ظاهرة الطلاق في المجتمع إذ ذاك كان محدودا نسبيا وأن الحياة الأسرية كانت تتسم بنوع من الاستقرار لاسيما وأن 20من فتاوى الطلاق تتعلق بالقرن 17م وبمفت واحد حسب المؤلف.

واحتلت الممارسات السوسيودينية المنزلة الثانية من الناحية الكمية حيث تناولتها المدونة الإفتائية في 126 فتيا 65 منها مكرسة لقضايا التصوف و31 للقضاء و18خاصة بالجنايات و12 بالصدقة والهيبة.

وأشار المؤلف إلى أن فتاوى التصوف خاصة بالقرن 19 ذلك القرن الذي حققت فيه تلك الظاهرة انتشارا أفقيا لم يسبق له مثيل في الأراضي الموريتانية الحالية ،وأن تلك الفتاوى صادرة عن الشيخ سيديا  الكبير وحده الذي كان رائد القادرية في الجنوب الغربي الموريتاني.

أما محور العلاقات بين الفئات الاجتماعية فقد اشتمل على 48 فتيا (15% من مجموع الفتاوى الاجتماعية) كرست 19 منها لإشكالات العتق والولاء و17 باستغراق الذمة ونظرة الزوايا ـ القيمين على الإفتاء والإنتاج المعرفي بوجه عام حسب المؤلف ـ إلى بني حسان، و5 بالرقيق ووضعيته القانونية في ذلك المجتمع، و4 بالمغارم  و3 بظاهرة الفداء.

المحور الرابع: الفتاوى في الزمان والمكان أو من الفقه إلى التاريخ:

حاول المؤلف في هذا المحور رصد بعض مظاهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتلمس العلاقات الوثيقة بين الأحداث الاجتماعية والمؤشرات الاقتصادية والتفاعل بينهما عبر الزمن البطيء  من خلال تجليات فتاوى علماء القرون الثلاثة الماضية من خلال المدونة الإفتائية التي تعتبر بحق”أرشيف مجتمع بلا أرشيف”.

وستتمحور النماذج المستقرأة حول بعض أساليب التعامل الاقتصادي والممارسات الاجتماعية والعلاقات بين فئات المجتمع.

أـ أساليب التعامل الاقتصادي:

وأكد المؤلف أن هذه البلاد لم تعرف قبل عشرينيات القرن العشرين استخدام العملة وتحديدا سنة 1919، حسب مختلف الشهادات التاريخية ففي القرن 15م يؤكد سادا موستو عدم وجود الدراهم المسكوكة،كما يؤكد ذلك فالانتين فيرناندس في مطلع القرن 16 في معرض حديثه عن سكان الأراضي الموريتانية الحالية حين قال:(إن العرب ليست لديهم عملة باستثناء الفضة التي تأتيهم من بلاد النصارى والتي هي أغلى عندهم من الذهب (…) فليست لديهم وسيلة أخرى للشراء أو للبيع سوى مقايضة مادة بأخرى). ويقول شامبونو في الربع الأخير من القرن17 إن (كل التبادل يتم عن طريق المقايضة دونما استخدام للعملة). كما أكد ذلك الشيخ محمد المامي في القرن19 عندما اعتبر أن (التقويم بالعروض في أرض لا سكة فيها تشهد له الأصول)، وقال بضرورته( في بلادنا التي لا توجد فيها السكة (…) وإنما عروض تغلب في هذا الجزء من البلد وغيرها يغلب في جزء آخر ويتعين التقويم بها). وأشار المؤلف إلى أن الرأي القائل بالتقويم بالعروض ذهب إليه أكثر من مفت في البلاد. و”هكذا ـ يقول المؤلف ـ  ظلت طرق التعامل تسودها المقايضة حيث لعبت المواشي وبعض المواد المحلية دور وسيلة التبادل الأساس في هذه الفترة أو تلك ، وإذا ما تركنا جانبا الدور الذي لعبه الملح والذهب في التجارة الصحراوية (…) فإن الودع وبيصة النيلة والأنعام قد شكلت وسائط التقويم والتبادل الأساسية في البلاد تبعا لخصوصيات كل منطقة”.

ب ـ الممارسات الاجتماعية:

واعتبر المؤلف أن المشغل الاجتماعي كان حاضرا حضورا مكثفا في فتاوى الفقهاء الموريتانيين في القرون الماضية حيث تعكس فتاويهم مشاكل مجتمعهم وممارساته الاجتماعية على اختلاف مظاهرها.

إذ “من الطبيعي ـ يقول المؤلف ـ في مجتمع قبلي من البداة الرحل يعيش تقلبات الظروف الإيكولوجية لمحيط طبيعي  غير مضياف، وشحا في مصادر عيش يعتمد ـ في الأساس ـ على الإنتاج الرعوي المتميز بالقلة ،وتسيبا سياسيا متأصلا ،من الطبيعي إذن أن يعرف هذا المجتمع ضروبا من الفوضى والمظالم ذات الجذور المادية والاجتماعية كالسلب والنهب والمداراة والمغارم”.

وقد احتفظت لنا النصوص الإفتائية منذ القرن 5هـ /11م بمعطيات عن شيوع ظاهرة السلب والنهب في المنطقة واستفتاء أهلها عن موقف الشرع من الأموال المغصوبة إذ استفتى  مرابطوا الصحراء ابن رشد عن مسالة غصب نزلت عندهم.

ويؤكد اللمتوني استمرار تلك الظاهرة في مجتمعه خلال القرن 9هـ /15م وتعج المصادر الإخبارية المحلية في القرون اللاحقة بحوادث السلب وما يصاحبها  عادة من عنف،كما طفحت إفتاءات العديد من الفقهاء في القرون الثلاثة الماضية بمظاهر مختلفة من الإشكالات التي طرحها الغصب والنهب على الناس في مشارق هذه الجزيرة السودانية ومغاربها.

ويختم المؤلف حديثه عن السلب والنهب بالقول “إن الأمر يتعلق بظاهرة ضاربة الجذور في تاريخ هذا المنكب البرزخي (…) فقد مورس في عهد المرابطين (…) وفي عهد الإمارات الحسانية (…) ويمارس اليوم ـ يقول المؤلف ـ في ظل الدولة المركزية على الممتلكات العمومية بشتى الطرق،وليست  الكزرة (القسر) بمظاهرها الاقتصادية والسياسية والعسكرية سوى إحدى التجليات المعاصرة لظاهرة الغصب والنهب المتأصلة في هذه الأرض فالمسلكيات والعقلية المحركة لتلك الممارسة هي نفسها وإن اختلفت الأساليب والطرق باختلاف العصور وأنماط العيش… “. وإذا كان السلب والنهب حاضرين في المجامع الافتائية للعلماء الموريتانيين فإن “المداراة والمغرم” قد شكلت مشغلا بارزا لدى العلماء الموريتانيين وشغلت حيزا كبيرا من مجامعهم الإفتائية في القرون الثلاثة الماضية لكثرة ما طرحت من إشكالات بالنسبة للأفراد والمجموعات في هذا البلد. وقد تولدت هاتان  الظاهرتان عن ظروف الفوضى الأمنية وسيادة قانون الغاب في بلادهم السائبة.

ج ـ العلاقات بين الفئات الاجتماعية:

واقتصر حديث المؤلف في هذا المحور على نظرة الفئة الزاوية ـ القيمة على الإفتاء ـ إلى الفئة الحسانية صاحبة السلطة الزمنية في موريتانيا الأمس ومعالجة الفقهاء لإشكالية العلاقة مع الأتباع والموالي والأهلية القانونية للرقيق.

وإذا كانت آراء المفتين بهذا الخصوص تحاول الاستناد إلى مرجعية فقهية مالكية عامة ـ ولاسيما في قراءتها المغربية فإنها تنطلق في الغالب الأعم من العادات المنبثقة من الواقع الهرمي للمجتمع القائم على تقسيم وظيفي للعمل ، وما انجر عنه عبر الزمن ـ من علاقات اجتماعية  غير متكافئة بين مختلف فئاته.

وركز المؤلف على القضايا التالية:

1ـ نظرة الزوايا إلى حسان: إذ انطلقت مواقف الفقهاء حسب المؤلف من بني حسان(بالمعنى الوظيفي) من مقولة “استغراق الذمة” التي عالجوا من خلالها حسب المؤلف جملة من القضايا تتعلق بمعاملتهم وحكم هداياهم وودائعهم وتصرفاتهم وأحباسهم… ولم يجد هؤلاء الفقهاء بينهم ـ حسب المؤلف ـ كلمة سواء بشأن بني حسان ربما بسبب اختلاف بيئاتهم وتباين سلوك المعنيين فيها،فانقسموا طرائق قددا منها حيث انطبعت مواقف البعض بالتسامح في حين امتازت مواقف البعض الآخر بالتشدد وعدم الإنصاف تجاه تلك المجموعة.

2ـ الفقهاء وإشكاليات العلاقة مع الأتباع والموالي:

إذ اعتبر المؤلف أن الفقهاء ينظرون إلى الأتباع والموالي الذين لا يحمون أنفسهم (بركاب ولا كتاب) نظرة ازدراء ، واعتبر المؤلف أن مصدر تلك النظرة الدونية إلى الأتباع يعود إلى الرغبة في إبقائهم في حالة التبعية للمجموعة الأروستقراطية بقطبيها الزاوي والحساني.

ورأى المؤلف “أن الفقهاء وإن كانوا حريصين عادة على تمثل موقف الشرع المجرد في فتاويهم وأحكامهم يظلون مع ذلك محكومين ـ عن وعي أو غير وعي ـ بظروفهم المكانية والزمانية وواقعهم الاجتماعي وبنيتهم الذهنية التي تؤطر مواقفهم ورؤاهم وهذا ما يفسر ـ يقول المؤلف ـ اتحاد نظرتهم الاجتماعية لهذه المجموعة،واختلاف آرائهم فيما يتعلق بإشكاليات العلاقة معها، وتتبع المؤلف آراء بعض الفقهاء بشأن مال الأتباع، وإشكالية العتق والولاء والأهمية القانونية للرقيق.

وختم المؤلف كتابه بجملة من الملاحق نورد عناوينها مرتبة مع الإحالة إلى الصفحة في الجدول التالي:

رقم الملحق عنوان الملحق الصفحة
1 قائمة المفتين الذين شملتهم عملية التقصي الأولية 137 ـ 145
2 فتوى الشريف حمى الله التيشيتي بشأن النهب 146 ـ 147
3 فتوى الشريف محمد بن فاضل التيشيتي  بشأن المداراة 148 ـ 149
4 صورة أصلية من وثيقة تتعلق بالغصب الناجم عن عدم دفع المغرم ودفع ذلك المغرم 150 ـ 151
5 نموذج لوثائق المداراة التي تكاثرت في القرن19م 152
6 فتوى الشيخ سيدي المختار الكنتي عن حكم الأموال المأخوذة من المحاربين  واللصوص 154 ـ 162
7 فتوى لابن الهاشم الغلاوي بشأن الانتفاع بهدايا الظلمة 163
8 نظم امحمد بن أحمديورة  في الرد على من عاب عليه وعلى قومه الانتفاع بمال الظلمة ومستغرقي الذمم 164 ـ 168
9 فتوى محمدفال بن محمذن (ببها) بشأن إشكال وراثة المستظل بهم من المستظلين أو الانتفاع بأموالهم 169
10 الطعن في أهلية مستغرقي  الذمة القانونية 170 ـ 171

وقد يكون من المفيد أن نختم هذه القراءة بما ختم به المؤلف في المقدمة حين قال”… وعسى أن يساهم هذا العمل في نفض الغبار عن هذا الكنز الوثائقي الثمين الغائب حتى الآن من مصادر واهتمامات مؤرخينا وأن ينير سبل استغلاله المنهجي والتاريخي الكفيل بتعويض جفاف وحدثية مصادرنا التقليدية”.

ولله الأمر من قبل ومن بعد .

_٢٠١٨٠٩٢٩_١٠٥٣٤٤.JPG

……………….

*الفتاوى والتاريخ تأليف د . محمد المختار ولد السعد ، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة نواكشوط (1985-2004)، باحث في دائرة القضاء بدبي منذ العام 2009 ، أستاذ بجامعة عجمان بالإمارات العربية المتحدة ، له أزيد من 10 كتب منشورة منها الإمارات والنظام الأميري الموريتاني، الفتاوى والتاريخ الذي بين أيدينا

** الحاج أحمدو ، باحث في المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية – مبدأ

اقرأ أيضا على مبدأ
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة