6 نوفمبر، 2025، والساعة الآن 9:24 مساءً بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 14

مركز مبدأ ينظم ندوة حول واقع العدالة في موريتانيا

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ) ندوة علمية حول العدالة في موريتانيا الواقع و الافاق و تستمر هذه الندوة التي يحتضنها فندق موريسانتر لمدة يومين ,

الندوة  التي افتتحها الأمين العام لوزارة العدل و الأمين العام لوزارة الإعلام و الاتصال و العلاقات مع البرلمان و المجتمع المدني إضافة إلى ممثل مشروع دولة القانون الممول من الاتحاد الأوروبي ، ستشمل العديد من المحاضرات و النقاشات حول العدالة في موريتانيا

وقد شهد اليوم الأول من الندوة العديد من المحاضرات قدم أولاها الدكتور القاضي هارون الديقبي ، و التي ناقشت القانون الجنائي الموريتاني و كيفية و تحسينه ، في ما كانت المحاضرة الثانية حول المسطرة القضائية الموريتانية و مدى الاستقلالية

 

وقد اختتمت جميع المحاضرات بنقاش مفتوح أمام الحضور المكون من المختصين في القضاء من قضاة و محامون و عدول منفذين و موثقين إضافة إلى أعضاء من المجتمع المدني و الحركات الحقوقية في موريتانيا و جمع من الإعلاميين و المختصين في المجالات ذات العلاقة ,

و ستسمر المحاضرات لليوم الثاني من خلال جلستين تشمل كل منهما عدة محاضرات و نقاشات حول موضوع العدالة

 

 

 

موريتانيا ورحلة البحث عن الذات:بين ترسيم العربية والتمكين للفرنسية

 

محمد ولد سيد احمد فال – رئيس المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية (مبدأ)

 

 

تطرح قضية تغلغل (1) الثقافة الفرنسية في الجهاز الإداري الموريتاني إشكالية تتجاوز بعد اللغة لتطال حدود الهوية، ولقد عمل الاستخدام الاجتماعي والسياسي الحالي للمعرفة

 

الاستعمارية مجسدا في اللغة الفرنسية بالإدارة على توتير العلاقة بين الإنسان الموريتاني وذاته والمواطن ودولته والتأسيس لعلاقة قلقة مع الذات والتاريخ.

 

لقد استعانت الدولة الوطنية في نشأتها أساسا بالمترجمين وعمال الإدارة الفرنسية على قيادة دفة البلاد الجديدة المنبثقة وسط مجتمع تقليدي، وارتبطت الحظوة المعرفية بمدى القرب من المرجعية الفكرية للفرنسيين وتملك الرؤية الثقافية للمستعمر ودرجت الأدبيات الإدارية للفرنسيين على اعتبار علماء الدين الموريتانيين الأجلاء أميين لعدم تحدثهم الفرنسية.

 

ولم تتمكن الدولة الناشئة من تحقيق القطيعة المطلوبة بين الماضي الاستعماري والحاضر المستقل فبات ينظر إليها كصنيعة استعمارية لتولي المقربين للثقافة الفرنسية زمام قيادتها، وظلت الفرنسية لغة الإدارة بامتياز مع أنها لم تتسلل إلى المحيط الشعبي الذي تغريه الوضعية الاقتصادية وغياب الإرث الدولتي للبلد بالإبقاء على قليل صلة بالإدارة.

ولقد شهد مسار التخلص من عقدة اللغة الفرنسية احتكاكات متعددة اكتسى بعضها لبوسا وطنيا في أحداث 1966 وثوريا في قرارات 1973*، وظلت المحاولات المتقطعة للتنصل والانسلاخ من الماضي الثقيل محكومة بسياق اقتصادي ضاغط وتاريخ ملح يقترب من الحاضر.

وعلي الرغم من انقضاء أزيد من نصف قرن على استقلال البلاد فان التوجهات التحررية تجلت أساسا في قرارات ظرفية أو إعلانات مبدئية لا تجد تجذيرا لها في الواقع بفعل العلاقة التاريخية المستبدة مستعمِر/مستعمَر و إكراهات الأنماط المقولبة التي تلصق أحيانا بالعربية من عجز عن مواكبة التطورات وعزلة في السياق .

ويحس المعربون العزلة في وطنهم من حيث فرص النفاذ إلى الوظيفة العمومية والترقي في الجهاز الإداري وسط نصوص نظرية تحتضنهم وواقع عملي يلفظهم في ما يجسد حقيقة الانفصام القائم بين النظرية والتطبيق.

 

وعلى الرغم من أن قضية التعريب باتت محسومة من الناحية الدستورية باعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية، فإن الإدارة الموريتانية ما زالت عصية على التعريب بإرادة من بعض السياسيين الموريتانيين ودعم من الفرنسيين وفي غياب كامل لأي مبادرة من شأنها ضمان تجاوز الوضع الراهن.

 

وتأسيسا على ملاحظة انسلاخ النصوص القانونية من محيطها وسعيا إلى ضمان التصالح مع الذات بالترسيم الفعلي للعربية، تستمد التساؤلات التالية وجاهتها وتؤسس لمشروعيتها: هل تكفي الآليات التنظيرية لتمكين الموريتاني من التصالح مع ذاته بتطبيق الترسيم الفعلي للغة العربية وتمكين المعربين من تجاوز عقدة تفوق المعرفة الاستعمارية؟ ما تجليات تلك العقدة وإلى أي حد ساهم النظام الرسمي في تجذيرها بالفعل أو بغياب الفعل؟ وما الآليات الكفيلة بالتخلص من الشعور المستبد بالدونية لدى المعربين تبعا لمساءلة النظام الإداري المعمول به وأملا في تعزيز الآليات الذاتية والموضوعية.

 

تأصيل:

” ظهر إسم موريتانيا لأول مرة في وثيقة للوزارة الكولونيالية الفرنسية في دجمبر 1899 وذلك أثناء تشييد المستعمر الفرنسي لقواعده في السنغال(2)، وقد عرفت هذه

المنطقة عدة مسميات اعتمد بعضها على معايير غير جغرافية لتحديد فضائها الجغرافي مثل العناصر الثقافية وأسلوب الحياة، ومن هذه المسميات : بلاد شنقيط ، أرض

الملثمين ، بلاد السيبة ، المنكب البرزخي ، بلاد التكرور ،أرض الرجال.

 

وتبعا لتعدد زوايا الرؤية والعصور تعددت زوايا معالجة الموضوع من قبل الباحثين بحساب مدى إيلاء الاهتمام حال التعريف للعناصر الثقافية أو السكانية أو السلطوية،

وفي هذا السياق اعتمد المؤرخ الموريتاني المختار ولد حامدن(3) على اللغة والعادات والتقاليد والتاريخ لتحديد وحدة المنطقة التاريخية والبشرية.

 

و اعتمد الباحث الانجليزي نوريس (Norris) على الخصائص اللغوية والأدبية باعتبارها المميزات الأساسية للشناقطة.

 

أما تيودور مونو(T. Monod)الذي وضع خريطة للمجموعات الثقافية بالصحراء الكبرى فقد انطلق من تنوع وأشكال رحل الجمل وخلص إلى أن ميزات الشناقطة يصعب تحديد أصولها كما عمد باحثون آخرون إلى معيار اللهجة الحسا نية لتحديد المجال الجغرافي.

 

وعلى المستوى الإداري لم تعرف المنطقة قيام سلطة مركزية توحد كل أطرافها وسكانها المتصلين في أرجائها كما لم تخضع لحكم سلالة بشرية أو ثقافية أو حضارية واحدة.

ومنذ قيام دولة المرابطين في القرن الخامس الهجرى (426 – 441 هـ) ظلت المنطقة بدون سلطان مركزي قبل أن يخضعها الفرنسيون لاستعمارهم بداية القرن الـ20.

 

“ومع ذلك فقد ظل التاريخ السياسي القريب لموريتانيا وثيق الصلة بالتحولات الكبرى التي مرت بها المنطقة الشمالية لإفريقيا، رغم ما يميزه من سمات خصوصية أبرزها دينامية نشوء الكيان السياسي الموريتاني في ظرفية تحكمها إحداثيات زمانية ومكانية تنضح بمؤشرات وضع داخلي متأزم و إرادة استعمارية مترددة وحركية استقطاب إقليمي مزدوج”(4)

 

و كان من الواضح كما تبين الأدبيات الاستعمارية ضرورة وجود منطقة عازلة بين الفضائين العربي المتوسطي والإفريقي للحد من المد الديني والثقافي العربي في تلك الربوع منذ ظهور الدولة المرابطية4، وهو ما سيؤثر لا حقا على المعطي الثقافي بالمنطقة بما فيه مكانة العربية ودورها في تشكل الذات والهوية بموريتانيا.

“وتتشكل الساكنة من أغلبية عربية وأقليات زنجية من مجموعات البولار السنونكية والوولف يدينون جميعهم بالإسلام” وشكلت مدارسهم حصنا كبيرا لمقاومة الاختراق الثقافي الغربي وساهم فقهاؤهم في نشر الدين الإسلامي والتمكين للثقافة العربية بإفريقيا.

 

إن إكراهات النشأة وتنازع النخبة حول هوية الانتماء وحتي مشروعية وجود الكيان الجديد ولدت تذبذبا مشهودا لدي النخبة السياسية الوطنية الحاكمة في رسم المشروع الوطني للدولة الجديدة وتحديد هويتها الثقافية وعلاقتها بالمحيط الإقليمي.

 

إلا أننا نلمس بصفة جلية في الخطاب السياسي للرئيس الأول المختار ولد داداه وعيا متزايدا بهذه الإشكالية ضمن مشروع بناء “الأمة الموريتانية””إننا أمة تنشأ6، ولدينا الوعي بذلك، فلنبن الأمة الموريتانية،إن موريتانيا هي بالفعل جسر طبيعي وهمزة وصل بين العالم العربي المتوسطي والعالم الإفريقي الأسود”……مع ذلك فهو لا يريد القطيعة مع فرنسا في نفس اللحظات ويشدد على ضرورة الحفاظ على علاقة قوية معها إنه باختصار يدرك كل الأبعاد والتحديات المحيطة به التي تهدد هوية الكيان الناشئ ووحدة ذاته.

 

إن استقراء تاريخ ونشأة وتطور الدولة الوطنية يعكس بجلاء حقيقة أن إحدى سمات الإشكالية الكبرى التي طرحت على مسار تكوين الكيان السياسي الموريتاني المستقل كانت مسألة الهوية الثقافية السياسية للبلد.

 

و على الرغم من تجلي الانتماء العربي وعراقه هذا الانتماء إلا أن المشروع الاستعماري الفرنسي مافتئ يعمل على طمس هوية البلد من خلال سياساته الثقافية والترتيبات الاندماجية الإقليمية.

 

ولقد شكلت الورقة الثقافية إحدى أبرز تجليات الصراع السياسي الداخلي بين المجموعات الموريتانية المختلفة ،فركز التيار القومي العربي ، الذي ترجع جذوره الأولى إلى بوادر نشوء الحركة الوطنية ،على المطالبة بانتهاج التعريب الشامل في مجالات الثقافة والإدارة والأشغال وهو ما سيترتب عليه الأخذ بمبدأ ترسيخ اللغة العربية الذي تبناه مؤتمر حزب الشعب الحاكم المنعقد 1966م الأمر الذي مهد لإرساء إصلاح تربوي يقضي بإلزامية وترسيم اللغة العربية في المدارس الحكومية.

 

وقد أفضى القرار مع ما يحمله من إرادة في التصالح مع الذات، ولو بالتقسيط،إلى أزمة داخلية عنيفة تمثلت في احتجاج مجموعة تضم تسعة عشر إطارا تنتمي إلى الأقليات الزنجية حيث اعتبرت أن هذا القرار بادرة “للتحكم السلطوي ” ولممارسة هيمنة عرقية وفرض الاستلاب الثقافي على الأقليات ثم تحول الاحتجاج إلي صدامات عنيفة ذهب ضحيتها بعض القتلى والجرحى من الجانبين ورغم احتواء الأزمة بسرعة إلا أنها خلفت جروحا عميقة ستمتد أثارها غضة في المراحل التالية وبالرغم من تكرير الانتماء المزدوج

 

الموريتاني عبر مقولة الأمة المندمجة الغنية بتعددها واختلاف مكوناتها فان كل تلك التأكيدات والخطوات لم توفق عمليا في حسم إشكالية الهوية ومكانة اللغة العربية .

 

غير أن خط التعريب وتركيز الهوية العربية للبلد قطع خطوات ملموسة بعد انضمام موريتانيا إلي الجامعة العربية عام 1973 واعتماد سياسة الاستقلال الثقافي (7) وتدعيم الأصالة التي أدت في ما بعد إلي الإصلاحات التعليمية وتكريس اللغة العربية كلغة عمل و إدارة بعدما كانت الفرنسية لغة العمل بموجب الدستور.

 

ثم ظهرت في ما بعد حركات قومية (8)(عربية الناصريون البعثيون حركة اللجان الثورية ) التي سعت إلى توطيد المكسب وإذكاء البعد العربي في البلاد.

ا

لحسم المؤجل:

لم تحظ إشكالية الهوية وتوابعها بمكانة متقدمة ضمن أولويات الحكام الموريتانيين منذ ظهور الدولة الوطنية وباتت تثار أساسا وفق ردات فعل طارئة أو ردا على

مستجد ضاغط ، وظلت البلاد محكومة في الجانب النظري باللغة العربية لغة رسمية وفي الجانب التطبيقي باللغة الفرنسية لغة عمل.

 

ولقد تسببت المراوحة بين تسييس النظام التربوي تعريبا وفرنسة في خلق جيلين متغايرين يسكنان الأرض ذاتها ويتكلم بعضهم لغات لا تمت إليها ولئن كان من الإنصاف الاعتراف بأن الخطأ لا يتحمله صغار القوميتين الذين كانوا ضحية نظام تربوي غير متوازن فإن الخطيئة تعود بالأساس إلى غياب الوعي الكافي لدى النخب الحاكمة بضرورة إيجاد حسم نهائي لإشكال الهوية وبمتطلبات التمكين للغة العربية وفاء للدستور و للتاريخ و للحاضر والمستقبل.

 

وفي ظل الانفصام الحاصل بين النظرية والتطبيق باتت المخرجات التربوية بعيدة كل البعد عن متطلبات السوق وعملت المؤسسات التعليمة على تخريج أجيال عاجزة تحمل شهادات غير مطلوبة وخبرات ناقصة وظلت السوق مغلقة أمام المعربين ومفتوحة أمام أقلية تتحدث باللغة الفرنسية تجد ذاتها أكثر حظوة في النفاذ إلى المراتب الإدارية وأقل شعورا بضرورات التصالح مع مكونات الذاتية الثقافية للبلد.

 

وفي كل عقدين تقريبا كانت الأحداث البسيطة والحوادث العرضية تنذر بانفجار و انشقاق اجتماعي شعاره اللغة ومن ورائه الهوية وكأن الدولة التي ينبغي أن تتفرغ لمعارك التنمية لم تحسم بعد أولوياتها في خيار الهوية بل باتت تؤجل في كل مرة الحسم أو تعمد إلى الطرق على أبواب مفتوحة حسم فيها الدستور منذ ظهور الدولة الوطنية وبات التجسيد العملي يعوزه تطبيق النصوص القانونية.

 

وفي عامنا هذا تكررت الأحداث ذاتها بعد تصريحات لمسؤولين حكوميين عن مكانة اللغة وعادت إشكالية اللغة من جديد بقوة بعد تبادل للاتهامات بشأن سعي بعض الأطراف بتصريحاته الهادفة إلى التعريب وتخوف بعض الطلبة الزنوج من فرض إلزامية التعريب بما يترتب على ذلك من إقصاء ممنهج من سوق العمل.

 

وانبرى القوميون من الفئتين مشجعين أو مستهجنين للقرارات الجديدة وفي كل الحالات تغيب المعالجة العقلانية ويطغي الطابع الاستعراضي الذي لا يسعي لمناقشة كنه الموضوع بقدر ما يهدف إلى الالتفاف عليه بالأساس أو كسب معركة إعلامية تتجدد كل سنتين ويكتفي أصحابها بالتمترس وراء عبارات القهر والإقصاء من جهة أو الانغلاق والعمالة من جهة أخرى.

 

تجليات مفارقة:

تعيش موريتانيا تناقضا صارخا بين الجانب النظري القاضي بترسيم العربية وفق مقتضيات الدستور وبين الجانب التطبيقي في الترسيم الفعلي للفرنسية.

 

وتكشف المتابعة الميدانية للحضور الفعلي و القيمي لهذه المعاناة في واقع التداول اليومي والأمثال الشعبية وللتندر والتنكيت ولم تتمكن الدولة الوطنية في مسارها الاستقلالي من التملص من هذه المفارقة في تصوراتها أو ممارساتها فاستسلمت لواقع ضاغط ولم تتملك الشجاعة اللازمة لبدء خطوة الترسيم الفعلي للعربية.

 

حتى رواد الإصلاحات التربوية الموريتانيين كانوا يرسلون أبناءهم صباحا إلى المراكز الفرنسية لتلقي الدروس وينعشون المحاضرات مساء حول واجب التعريب، كل ذلك إيمانا بأن المستقبل الوظيفي يفرض التعاطي بالفرنسية وتشكيكا بقدرة اللغة العربية على المواكبة أو المنافسة والتي لم تعد تطعم خبزا ولا تفتح آفاق عمل بالمفهوم البراغماتي الخالص.

 

لقد ساهمت عوامل متعددة في تعزيز هذا الحضور الدائم للفرنسية والإبقاء على اللغة العربية خارج التداول اليومي ومن بينها الارتباط التاريخي العلائقي مستعمر مستعمر وندرة العنصر البشري المتخصص في المجالات الفنية عند تأسيس الدولة وعدم مواكبة النظام التعليمي لمقتضيات التعريب وحرص النخب الجديدة في الدولة على الظهور بمظهر المنفتح الحداثي.

 

وظلت النظرة الممتهنة لخريجي اللغة العربية في المرفق العمومي من أكبر تجذرات التفرنس بالإدارة الموريتانية ومع هذه تجذر الظاهرة لم يعد تملك الإرادة السياسية لوحده كافيا للقضاء عليها ولا إعلانات الشرف أو المبادئ ما لم تتنزل ضمن مسار عام شجاع وجريء غايته التطابق مع القوانين المنظمة والتصالح مع ذاتية الشعب المسلوبة دون خوف ولا تسييس بتكريس التطبيق الفعلي للغة العربية لغة للادارة الموريتانية.

 

إن الاختيار، و الحسم بالنسبة للعربية في الواقع نظري، لأنه ليس اختيارا سياسيا وإنما هو حسم حضاري ووجداني. لا أحد يمكنه أن يتجرأ إلى حد أن يدوس تراكم القرون ويحرم ويسب الأجيال القادمة. الاختيار الوحيد الممكن والمعقول، بالنسبة لنظام جديد نابع من اختيار الشعب، هو إعطاء المشاكل الأساسية المعطلة حلولها وتحقيق ما عجزت أو امتنعت عنه الأحكام محل الجدل في جميع مناحي الحياة العامة، انسجاما وتطبيقا لتطلعات أغلبية المواطنين.

 

ويربط العديد من الباحثين الموريتانيين بين واجب الدولة في حماية حدودها وواجبها في الدفاع عن مقدساتها الثقافية.

 

“إذا كان واجب الدول أن تدافع، لكي تستحق اسمها وشرعيتها، عن حوزتها الترابية والوجود المادي لسكانها، فإن عليها أيضا بنفس الإلحاح أن تدافع عن روح شعبها،

الكائن المعنوي والاجتماعي، أي الخصوصية والتميز الثقافيين.

 

إن الشعب مستقل عن المجال الجغرافي، إنه موجود كتأكيد هوية وانسجام مجموعة مترتبة حول قيم معنوية واجتماعية. إن أي شعب يؤكد وجوده المستقل ويشارك بفعالية في التعددية المنتجة للتقدم بدفاعه عن خصوصيته.

 

إن الشعوب الصغيرة في العالم المتخلف مهددة في كينونتها بخطر الغرق في الفضلات الطاغية للثقافة الغربية. إن فرض ثقافة أجنبية ومكافحة الثقافة الوطنية، بمشاركة الأقوياء، يهدد بإيصالنا إلى حال اللاعودة: وضعية الاستلاب وقطع الجذور”(9)

 

ولا يعدم الباحثون تقديم أمثلة الذوبان الحضاري للشعوب المستلبة وكيف انقرضت روحيا وقيميا وهي موجودة.

 

إننا نعرف مصير حضارات الهنود الحمر، قبل الكولومبية. هذه الحضارات اللامعة انهارت بسبب الهجوم الشرس عليها من قبل الأوربيين. إن الهنود الحمر بعد فقدان ثقافتهم فقدوا توازنهم، بعد السيطرة عليهم واستلام الكنيسة المسيحية لهم وتعاملها معهم كأطفال، إنهم قد فقدوا كل طعم وكل ذوق للحياة وعاشوا في بؤس معنوي تعس. إنهم لم يعودوا يستوعبوا أي شييء، ويتصرفون فقط كالآلات وفقدوا الذاكرة المباشرة. نتذكر الحادثة الشهيرة المثيرة للشفقة: كانت الكنيسة تدق الجرس عند منتصف الليل لتذكرهم بالواجب الزوجي، لأنهم إذا تركوا لمبادرتهم الخاصة حتى ذلك لن يطرق لهم بالا.

 

ويربط العديد من الموريتانيين بين بقاء الكيان الموريتاني بمدى محافظته على لغته العربية.

 

إن الحفاظ على الروح والثقافة الوطنية يمر بالحفاظ والدفاع عن اللغة العربية. إذا بقيت اللغة العربية في هامشيتها، محاربة على النسق الحالي، مع مباركة الدولة، فإن مصير موريتانيا قد ختم: شعب مسلوب سيفقد كل صواب ومعنى في الحياة وكل رجاء في المستقبل.

 

في ما يخص اللغة العربية يبدو أن هناك أحكاما مسبقة وعقد خارجة عن الزمن والعقل يصعب، موضوعيا، استيعابها.

 

إنه أصبح الآن من المتعارف عليه عند المربين والمفكرين أن أي شعب لا يمكن له أن يتفتق ويصل إلى النمو بدون لغته الخاصة. إن أمثلة اليابان والصين وفيتنام وماليزيا تبرهن بشكل رائع على دور اللغة الوطنية في التقدم والتطور، أمامنا إذا: إما مثل اليابان و الصين وماليزيا وإما نماذج هايتي و قوادلوبه. فلنختر بينها.

معارضون:

كلما أثيرت قضية اللغة العربية في موريتانيا يراهن الطرح التغريبي على رفع لافتة الفرنسية كعنصر محدد للأقليات الإفريقية متناسين إسهامات المجموعات الموريتانية الإفريقية في مقاومة الغزو الاستعماري واختراق اللغة الفرنسية وتحول قراها إلى قلاع حقيقية لمقاومة الثقافة الاستعمارية (10) .

 

تعددت مبررات رفض التعريب العملي من قبل النخبة المستغربة و كانت اليافطات التي يحملها معارضو التعريب هي أن التعريب سيتسبب في فقدان العشرات لوظائفهم وفي غلق الإدارة أمام الطلبة الجدد المفرنسين متناسين أن التمكين للفرنسية تسبب في تعطيل الآلاف المعربين الذين لم تفتح الإدارة أمامهم أصلا وتعمل المنظومة التربوية سنويا على تخريج المئات منهم ليزيدوا معدل البطالة.

 

وعادوا مجددا إلى تكرار سيمفونية الإقصاء والقهر الثقافي للأقليات بينما يعني تطبيق الفعلي لترسيم العربية وجوبا خلق الوعي بالذاتية الثقافية السليبة بمكوناتها المتعددة وإسهاماتها في إغناء التاريخ المشترك للبلد المتنوع.

 

وكثيرا ما لا تطرح بالنسبة للنخبة المستغربة إشكالية تطوير اللغات المحلية بإلحاح و إنما فقط متطلبات الحفاظ على الفرنسية مشجبا للتصدي للتصالح مع التاريخ والهوية الوطنية في تغافل تام عن بديهة أن الفرنسية دخيلة بالنسبة للمعربين و بالنسبة للأفارقة أيضا وهي لغة أجنبية لا يعني متطلب الانفتاح عليها ضرورة التمكين لها على حساب اللغات الوطنية.

معركة الهوية : مخاطر التسييس والانغلاق

إن واجب الترسيم الفعلي للغة العربية بموريتانيا لغة إدارة وعمل وكجزء حاسم من التعاطي مع إشكالات الهوية باتت تطرح بإلحاح وفي ظل تجذر الخرق يبدو الخروج عليه نوعا من العبثية مؤلم ولكنه مطلوب. وتبدو واجبات النخبة أكثر تأكيدا في الاضطلاع بدورها في هذا السياق.

 

إن قضية التمكين للعربية يتعين انتزاعها من لوثة التسييس الذي أضر كثيرا بالنظرة إلى العربية وبات بعض ينظر إليها لغة يعني تعميمها قهر الأقليات مع أن هذه الأقليات لم تعرف يوما قبل الاستعمار إلا العربية لغة علم وعمل حتى ولو راهنت بعض نخبها المغربة على التعلق بجدار سميك من الدفاع عن الفرنسية لا دفاعا عن اللغات الوطنية بل سعيا خالصا للحؤول دون التمكين للعربية.

 

وكثيرا ما عانت إشكالية اللغة من التوظيف السياسي في موريتانيا مع أن الإشكال في هذا الصدد هو إشكال قانوني بامتياز، وفي حالات عديدة تتهدد الاعتزاز بالهوية مخاطر الإقصاء للآخر والانغلاق على الذات وقد أخطا الكثير من المدافعين عن اللغة العربية في موريتانيا وباتت أطروحاتهم تشي بقدر من الانغلاقية والفوقية بل والعدائية حيال اللغات الاخري وحيال الانفتاح وأساءوا للطرح بقدر ما أساء المتنكرون لأحقيتها.

 

إن تكريس العربية بهذا المفهوم العملي والقانوني يحمل في حد ذاته تطويرا للغات الوطنية لأن العملية تعني بالأساس وفاء المجموعة الوطنية لقيمها الذاتية التي تشكل ضمانة استمرارها وخشبة خلاصها من كل سلب واستلاب حضاري، ومن هذا المنظور قد يفهم تلقائيا أن أية عملية استعادة وتثمين للهوية الثقافية تشمل وجوبا تعزيز المكونات الثقافية الأخرى من بولارية و سوننكية ولفية و ويتم النظر إلى التمكين للغة العربية كجزء من مسار تصالح مع المكونات الذاتية بما فيها اللغات الوطنية

.

ولا إشكال في ضرورات التعايش بين اللغات وواجب التطوير المستمر للغات الوطنية التي تم في الثمانينات تأسيس معهد لتطويرها إلا أن طبيعة الأداتية والتسييس وفق المقاربات التي كانت طاغية حالت دون استدامته وإعطائه الزخم المناسب والدور المطلوب.

ما العمل؟ آليات التصالح مع الذات والقانون

إن المفارقة التي كانت محل مساءلة طيلة الصفحات السابقة تقتضي التسلح بالشجاعة اللازمة والوفاء للمطلب الجماهيري الملح والواجب الدستوري من قبل السلطات الموريتانية بالعمل على التمكين للعربية في محيطها الطبيعي.

 

غير أن المقاربة الشاملة تستدعي في البدء تخليص العملية من كل شوائب الاقصائية و الاستلاب والسياسوية ومباشرة الاجرءات التي بدونها تتحول عملية تكريس التعريب من محطة متدرجة ضمن محطات استعادة هوية أمة بما فيها تطوير اللغات الوطنية إلى مجرد سيطرة مكونة على أخرى مما يضر طابع التناغم والتكامل بين هذه المكونات.

 

من هذه الإجراءات:

– العمل على تكريس التصالح مع المقتضيات القانونية بترسيم اللغة العربية فعلا لا قولا لا سيما في الإدارات؛

– مراجعة النظام التربوي بما يكفل المزيد من الاهتمام بالعربية وضمان التواصل بين الأجيال المختلفة (الشعب الواحد باللغة الواحدة)

– تطوير اللغات الوطنية بإعادة افتتاح المعهد الوطني لتعليم اللغات وتأهيله و تشجيع المراكز والبحوث حول التاريخ الوطني في تعدده البناء وثرائه المشهود؛

– تكريس سياسة تعليمية منفتحة تجعل من تعلم اللغات الأجنبية أولويتها دون إحلالها المكانة الرسمية؛

– تشجيع الاندماج المجتمعي وتعزيز أبعاد التنوع؛

– تدعيم البحوث حول الهوية الوطنية ومناقشة أبعادها دون طابوهات ولا تسييس.

 

 

 

—————————————–

1- يمكن الرجوع إلى كتاب التوغل في موريتانيا،تأليف الرائد جيليى،ترجمة محمد ولد حمينا.

2- الهوية والانتماء في المجتمع الموريتاني،د/الشيح أحمد الجيلاني،دار يوسف بن تاشفين،ص176

3- حياة موريتانيا- التاريخ السياسي،المختار ولد حامدن،دار الغرب الإسلامي،الطبعة الأولى

4- السيد ولد اباه،موريتانيا الثقافة والدولة والمجتمع/مركز دراسات الوحدة،ص112.

5- تاريخ موريتانيا،العناصر الأساسية،د/حماه الله ولد السالم،مطبعة النجاح الجديدة،الدار البيضاء2007، ص 42.

6- المختار ولد داداه/موريتانيا على درب التحديات،دار النشر كارتالا باريس 2006 ص،149.6

7- يمكن التوسع في مقولة الاستقلال الثقافي وعلاقته بالهوية في كتاب المجتمع السياسي فيليب بيرو،ترجمة محمد عرب صاصيلا،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،الدار البيضاء،ص113.7

8- انظر كتاب موريتانيا المعاصرة/شهادات ووثائق/سيد اعمر ولد سيخنا،دار الفكر،نواكشوط،ص158

9- محمد يحظيه ولد ابريد الليل/ورقة مقدمة إلى الندوة التي نظمها منتدى الفكر والحوار حول الديمقراطية،2007في نواكشوط.

10- أنظر تاريخ قبائل البيظان/عرب الصحراء،تأليف الشيخ موسى كامرا،تحقيق حماه الله ولد السالم،دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،ص11

 

 

 

 

______________________________

 

البيبليو غرافيا

1) موريتانيا في الذاكرة العربية/د حماه الله ولد السالم/الطبعة الأولى /مركز البحوث والدراسات العربية/بيروت/لبنان2005 – مركز دراسات الوحدة العربية /ط الاولى/بيروت لبنان/2005

2) السياق والأنساق في الثقافة الموريتانية/محمد ولد عبدى/دار نينوى للنشر /سورية/دمشق2009

3) الامارات والنظام الاميرى الموريتاني/د محمد المختار ولد السعد/الطبعة الأولى/ نوفمبر2007

4) المجتمع البيضانى فى القرن التاسع عشر/محمد ولد محمدن/منشورات معهد الدراسات الافريقية2001

5) تاريخ موريتانيا العناصر الأساسية/د حماه الله/مطبعة النجاح الجديدة/الدار البيضاء/2007

6) الفتاوى والتاريخ/محمد المختار ولد السعد/دار الغرب الاسلامى/الطبعة الاولى2000

7) موريتانيا المعاصرة/سيد أعمر ولد شيخنا/دار الفكر/نواكشوط موريتانيا2010-

8) موريتانيا على درب التحديات/المختار ولد داداه /كارتالا/باريس2006

9) صحراء الملثمين /د النانى ولد الحسين/ دار المدار الاسلامى /البعة الاولى /2007

10) حياة موريتانيا/التاريخ السياسي/المختار ولد حامد/دار الغرب الاسلامى/الطبعة الاولى/2000

11) قبايل البيضان عرب الصحراء الكبرى /الشيخ موسى كمرا/تحقيق د حماه الله ولد السالم/دار الكتاب العلمية /الطبعة الأولى/2009

12) الفقه والمجتمع والسلطة /يحي ولد البراء /المعهد الموريتاني للبحث العلمي.

13) الزوايا فى بلاد شنقيط في مواجهة الاستعمار ايزيد بيه ولد محمد محمود/المطبعة الوطنية/الطبعة الثانية 2003

14) التوغل الاستعماري في موريتانيا/الرائد جلييه/ترجمة محمدو ولد حمينا/الطبعة الأولى /دار الضياء /2007

15) موريتانيا الثقافة والدولة والمجتمع/مجموعة باحثين /مركز دراسات الوحدة العرب

16) Tribus ethnies et pouvoir en mauritanie \Philip marchesin\Editions KARTHALA paris

الدولة عند فوكوياما :  الأطوار و الأشكال و نهاية السيادة

قراءة في كتاب “بناء الدولة” لـ فرانسيس فوكوياما

الشيخ الحسن البمباري

استهلال

“في أواخر القرن التاسع عشر سأل اوسكار وايد نفسه في سياق جدل مع معارضي إلغاء الرق و إعطاء المرأة و العاملين حق التصويت و حق المساواة و العيش الكريم داخل حدود الدولة الليبرالية هل هذه طوباوية ؟.

و كانت إجابته “نعم إنها طوباوية .قائلا إن خريطة العالم  التي لا مكان للطوباوية فيها لا تستحق حق عناء النظر”

نعم بكل صراحة نحن أيضا الأجانب و الغرباء و الملونون و المختلفون و أنصاف البرابرة خارج تخوم الدولة الليبرالية مثلنا في ذلك مثل رعاع الستينات داخلها نريد كل شيء و نريده الآن ” .

هل كان ميلتون فريدمان على خطئ حين دعا “خصخص , خصخص, خصخص” متجاهلا دور الإصلاح الاقتصادي بغياب دولة المؤسسات وحكم القانون خاصة بعد فشل اقتصاديات السوق في تحقيق أحلام العالم ما بعد اشتراكي “روسيا و بقية الدول السوفيتية” .

وكيف بنت “الأنظمة الوقفية” الدولة  في العالم الثالث ؟ في ظل حرصها على “النهب المتوحش” و “حكم الزعيم الضاري” (الحكام الطائفيين و الأسريين و القبائليين او المذهبيين أو حتى الاثنيين…) … الخ من أنظمة الحكم في المنطقة العربية و إفريقيا.

“بناء الدولة هو تقوية المؤسسات و بناء مؤسسات جديدة فاعلة  و قادرة على الاكتفاء الذاتي و البقاء ؟ فوكوياما .

و عرف فوكوياما الدولة أيضا “مدى الدولة وأفق مجالاتها و أنشطتها ووظائفها المختلفة بدءا من توفير الأمن و النظام و المرفقات و الخدمات العامة في الداخل و الدفاع عن الوطن ضد الغزو الخارجي مرورا بتوفير التعليم و حماية البيئة و انتهاء بوضع السياسيات الصناعية والاجتماعية و إعادة توزيع الثورة ”

” تحجيم الدولة و الحد من قدرتها من قبل الحملات الليبرتارية و إضعاف قدرتها المؤسساتية  خطأ لا بد من تصحيحه ” فوكو ياما .

يطالب فوكوياما بأن لا يصل تحجيم سلطات الدولة إلى حيز وضع السياسات الاجتماعية او إعادة توزيع الثروة .

وبالرغم من تقليص مدى الدولة في الثمانينيات و التسعينيات كيف حافظت هذه المؤسسات على قوتها وتحذرها  في الإنسان الغربي  و حفاظه على دولة الرفاه و الرعاية الاجتماعية وجه الخصخصة  الفريدمانية ؟.

هل تساءل فوكوياما عن بناء  دولة   التعادل بين اليمين و اليسار في العالم ” المتقدم ” الأمر الذي نجده سياسيا  في تعايش ميتران  الاشتراكي و شيراك الديغولي تحت سقف الاليزيه مع حكومات يمين ويسار الوسط  ؟.

وما مدى وجود شرخ حقيقي في تاريخ الليبرالية الغربية و هل تفتت “الهوية البروتستانتية الأوروبية” حسب تعبير صاموئيل هينتينغتون ؟

ثم كيف يبرر فوكوياما اتفاقه مع الليبراليين و الهنتغتونيين الجدد في  نزع السيادة عن الدول الضعيفة و الناشئة كما يصفونها” الصومال – أفغانستان- صربيا…من الدول المطربة من البلقان إلى الشرق الأوسط و صولا إلى جنوب أسيا ”   أليست هذه دول بالرغم  مما تمر به من ظروف خاصة ؟ و هل مبرر الحرب الوقائية كان مقنعا لسحب السيادة بسبب الإرهاب و التهديد النووي حتى إن كانا خارج الحدود الغربية؟

إلى أي حد يعي فوكوياما التناقض الصارخ بين النظام العالمي المنشود و الدعوة إلى استعمار الأخر (المختلف).و المتخلف اقتصاديا و بين الادعاء الليبرالي بنشر الديمقراطية و الحرية ونشر التعددية و حقوق الإنسان؟ و أيهما اخطر على السيادة الوطنية “المحلية” التدخل العسكري آم التدخل الإنساني ؟  .

“فيما مضى كانت الدول الغربية تغزو هذا البلد أو ذاك و تضمه إداريا إلى إمبراطوريتها  … ولكن اليوم ندعوا إلى نشر الديمقراطية و حقوق الإنسان و نؤكد أن محاولة حكم الشعوب الأخرى تبقى محاولة انتقالية … وليس طموحها استعماريا لذلك إن كان الغرب ليبراليا حقا و إنشاء الخروج بشرف من هذه الدول مستقبلا فعليه تحويل بناء الدولة إلى فن يتقنه تماما  و يبقيه مكونا مفتاحا من مكونات القوة القومية لا يقل أهمية عن القدرة على استخدام القوة العسكرية (حفاظا على النظام العالمي )” فوكوياما .

منذ الغزو الذي قادته أمريكا على أفغانستان تعلمت أمريكا  بعض الدروس المؤلمة  عن بناء الدولة في كل من العراق و أفغانستان و حسب مقاربتها في كل بلد على حدة جسدت نموذجي احتلال متباينين حيث مثل نموذج أفغانستان مقاربة خفيفة الوطأة في حين كانت مقاربة الحكم في العراق اشد وطأة .

أبعاد الدولة المفقودة

يرد فوكوياما تاريخ نشأة الدولة إلى مجتمعات ما بين النهرين أي حوالي ستة آلاف سنة ثم الدولة البيروقراطية في الصين فيما يصف الدول الأوروبية  بالحديثة رابطا قيامها بالجيوش و الضرائب و قيام نظام بيروقراطي مؤسساتي مؤرخا لها بحوالي أربع مئة عام من خلال الملكية الفرنسية والاسبانية والسويدية القائمة على ثلاث ضرورات هي توفير الأمن والنظام و حكم القانون و حماية حقوق الملكية هذه النماذج حسب فوكوياما هي ما سمح بظهور الدولة كما نعرفها اليوم .

و الدولة عند فوكوياما تتمتع بمدى واسع من الوظائف  المختلفة تستخدمه في الوجهين و السلبي و الايجابي “سلطة” القسوة الإكراه تتيح حماية حقوق الملكية و توفير الأمن و السلامة العامة هي السلطة ذاتها التي تخولها مصادر الأملاك الخاصة و الاعتداء على حقوق المواطنين إضافة إلى احتكار الشرعية ” حسب فوكوياما هو ما يبرر ” حرب كل إنسان ضد كل إنسان آخر” (حسب تعبير هوبز)  .

و لكن هذه الوسائل أو المعنى يبقي الدولة بعيدة كل البعد عن وصفها بالمؤسسة الإنسانية أو العمومية أو حتى العالمية فهذا النمط مثلا لم يكن هو الموجود في إفريقيا في فترة ما قبل الاستعمار و إن نجحت الهند والصين في تطبيقه ما بعد الاستعمار فان غالبية الدول الأخرى حافظت على ما يسميه د . محمد بدي ولد ابنو ” الدولة الكومبرادورية المعلقة ” و هذا ما جعل حداثة الغرب الليبرالي بعيدة المنال عن العديد من الدول و مجتمعات العالم و هو ما دفع و يدفع إلى الهجرة في وجهة واحدة .

وهنا يلخص فوكوياما إشكالية بناء الدولة في أجزاء العالم إن كانت مؤسسات وقيم الغرب الليبرالي كونية وعالمية حقا أم أنها مجرد امتداد للثقافة السائدة في جزء معين من أوروبا الشمالية .و هنا بالذات يسأل فوكوياما عن تسويق النموذج الغربي الليبرتاري للدولة و تجاوزه لمقولة التخلف أو الاختلاف هو ما تعنيه أجزاء العالم الأخرى .؟

دور الدولة المتصارع عليه

 

إن الخلاف حول حجم وقوة الدولة المناسبين هو ما يجسده نموذج بريطانيا  العظمى مع بداية القرن العشرين كدولة ليبرالية رائدة آن ذلك و التي لم يكن نشاطها خارج المجال العسكري واسعا جدا حتى داخل أوروبا نفسها فهي فشلت تقريبا في الحصول على ضرائب الدخل في أمريكا أو القيام ببرامج مكافحة الفقر… الخ من المشاريع التي تعكس سيطرة الدولة ومع نهاية الحرب العالمية الأولى أصبحت ادوار الدولة أكثر تقلصا و تمركزا و اعتمادا على الليبرالية لنصبح أمام ما سماه فريد ريتش و برويزنسكي 1945 ” الدولة الشمولية ” التي حاولت إلغاء المجتمع المدني و إخضاع الأفراد لأغراضها السياسية الخاصة و أن النسخة اليمينية منها انتهت في العام 1045 بهزيمة ألمانيا النازية و انتهى جزؤها اليساري بانهيار جدار برلين 1989 في ما وصف بالتناقض الداخلي داخل الدولة الشمولية “.

في نفس الوقت كانت وظائف الدولة و حجمها يتوسعان في البلدان غير الشمولية ” الديمقراطيات الغربية” و لكن انهيار الدولة الاستئثارية ” الشيوعية” أعطى دفقا إضافيا للدولة الليبرالية لتقليص حجم الدولة في البلدان غير الشيوعية و الحد من القطاع الحكومي و إبقائه في أدنى مستوياته .

من هنا نسال هل كان فريدريك هايك على حق حين أشار إلى وجود علاقة بين و دولة الرفاه و الرعاية الاجتماعية خاصة من العام 1992حيث مثلت فترة وصول الأحزاب المحافظة  و أحزاب يمين الوسط مقاليد الحكم كمظهر سياسي يبرر رؤية هايك أو حتى أكاديمي بالاعتماد على الاقتصاد الكلاسيكي كفرع رائد في الدراسة في مجال علم الاجتماع.

ثم ما الذي مثلته الموجة الثالثة من الديمقراطية حسب تعبير هينتينغتو “خاصة مع تحرر العديد من الدول الشيوعية و تحرر دول آسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية و إن كان هذا التحرر لم يوقف عدوى “تورم الدولة” التي  كانت خاصية شيوعية إلى دول أخرى ففي المكسيك مثلا ازدادت حصة الدولة في الناتج المحلي الإجمالي من 21%1970 إلى 48%1982  و نفس الشيء في إفريقيا حي مثلت الدولة دورا رياديا في إدارة شركات كبيرة تحكم اقتصاديات هذه الدول و ما سعى “إجماع واشنطن ” أو مسماه رافضوه (الليبرالية الجديدة) إلى الحد منه خاصة فيما يتعلق بتحجيم دور الدولة كشرط للحصول على مساعدات البنك الدولي و غيره من المؤسسات المانحة .و بالتالي هل على الدولة التنازل عن السيادة لصالح رجال أعمال أو مؤسسات لا تدري مدى قدرتها على الاسمرار أم أن شرط السيادة يحرم هذه الدول من المساعدات المالية .في ما يتعلق بدور الدولة يقول فوكوياما “إن الفشل كان على مستوى تحديد المفهوم و الفهم الدقيق لأبعاد الدولة الواجب تحريرها و علاقة هذا التحرير أو الخصخصة بالتطور الاقتصادي .

المدى مقابل القوة

 

 

في إجابته عن سؤال إن كانت الولايات المتحدة دولة قوة أم لا؟ يجيب ليبسيت 1995 أن المؤسسات الأمريكية مصممة عمدا لإضعاف الدولة مضيفا أن أمريكا ولدت في ثورة ضد الدولة  (النظام الفدرالي فصل السلطات..),فدولة الرفاة في أمريكا نشأت لاحقا و بقيت محدودة “فأمريكا ليس لديها نظام الرعاية الصحية “. هذه النظرة ناقضها فوكوياما تماما بالاعتماد على تعريف ماكس فيبر 1946 ” الذي يرى أن الدولة مجتمع سياسي يمارس (بنجاح) حق احتكار شرعية استخدام القوة في منطقة معينة ” و يقرب فوكوياما التعريف بأن الشخص بالزي الرسمي قادر على إجبار الناس على إطاعة قانون الدولة و الامتثال لمشيئتها بهذا المعنى تبدو الدولة أكثر قوة أو النموذج الأمريكي على الأقل الذي يعتبره مثار حسد في جميع أنحاء العالم على اعتبار أن تذمر الشعب الأمريكي من القوانين لا يذكر إن حاولوا الحصول على خدمات في بلد كالمكسيك أو أندنوسيا .

و يفرق فوكوياما بين نشاط الدولة (الوظائف و الأهداف المختلفة التي تطلع بها الدولة) و بين قوة السلطة (قدرة الدولة على تنفيذ سياساتها و فرض القوانين و ما سماه قدرة الدولة أو القدرة المؤسساتية محذرا من استخدام “القوة” بشكل اعتباطي لا يفرق فيه بين مدى الدولة و قدرة الدولة أو قوتها  .

ورتب فوكوياما نشاط الدولة  على النحو التالي (وظائف ضرورية ومهمة – وظائف اختيارية أو مرغوبة – وظائف ذات نتائج عكسية و تدميرية)مضيفا انه ليس ثمة تراتبية  مشروطة و إن كان من الأولى على الدولة “توفير النظام العام في الداخل و الدفاع عن مواطنيها ضد الغزو الخارجي كل ذالك قبل توفير الضمان الصحي الشامل أو التعليم العالي المجاني

المدى و القوة والتطور الاقتصادي

 

هنا يساءل فوكوياما أيهم أولى الدولة بمؤسسات قوية و مدى شامل أو بمؤسسات ضعيفة ودولة محدودة و إن كانت دولة التسعينيات تبنت النموذج الأخير القائم على أساس إن الأسواق تنظم نفسها بنفسها .منبها إلى العديد من الدول وقعت في خطئ (قلصت من مدى الدولة حتى قللت من قوتها أو خلقت أنماط جديدة من قدرة الدولة كانت ضعيفة أو معدومة )هذا التكيف البنيوي يمثل حسب فوكوياما تقطيعا لأوصال الدولة و تقليص قدراتها في كل المجالات .

وهناء يساءل هل كانت هذه الليبرالية أو تقليص مدى  الدولة  هو ما أنتج الأنظمة الوقفية  الجديد (القائمة على النهب المتوحش ) وجعل السلطة و قفا على شبكة زبائنية من مؤيدي قادة الدولة تسخر السلطة لصالحها “كما  حدث في زائير مثلا” الذي وصفه انفيز 1989 “بسلوك النهب المتوحش ” و في جميع النماذج يصر فوكوياما على قوة الدولة أكثر أهمية من مداها متخذا من نجاح نماذج  اقتصادية آسيوية (هونكونغ كدولة أكثر ادنوية  ” ليبرالية” و كوريا الجنوبية كدولة عالية التدخل “شمولية”) .و بالنسبة لضرورة المؤسسات للدولة تحدث عن أربعة جوانب ينبغي تناولها (التصميم التنظيمي و الإدارة – تصميم النظام السياسي – أساس الشرعية – و العوامل الثقافي و البنيوية ).

  • = التصميم التنظيمي و الإدارة : و يمثل مجموعة من العلوم الفرعية المتخصصة ومجموعة خبرات وكفاءات و يمكن للمرء تعلمها .
  • = تصميم النظام السياسي : يميل هذا المحور إلى معاجلة المستويات بين أهداف التصاميم السياسية المختلفة .
  • = أساس الشرعية : لا يتمثل مظهر الدولة في عمل المؤسسات بطريقة لائقة بالمفهوم الإداري بل يجب النظر إليها كمؤسسات شرعية من قبل المجتمع . و إن كان هينتينغتون لم يوافق على سهولة الفعل بين قدرة الدولة على شرعيتها و إن كان تطبيق هذه الرؤية على الاتحاد السوفيتي اثبت شيئا من صدقيتها “فهو بدأ ينهار لان طابعه الديكتاتوري  قلل من شرعيته لدى المواطنين”.

وفي المستوى الثاني من الشرعية هل من السهل الوصول الفصل بين الديمقراطية وإدارة الحكم الجيدة (فالمؤسسة الحكومية الجديدة تخدم مواطنيها بكفاءة و شفافية ) و هنا نساءل هل كان نموذج عمر ابن الخطاب ديمقراطية أم نموذج حكم جيد ؟

في رأيه حول الشرعية قال فوكوياما   إن الدولة من اكبر مصادر الشرعية و إن كان ثمة هامش مناورة بالخصوص للأنظمة الشمولية لكسب بعض الشرعية و إن انتهت مع أول مشكل اقتصادي يواجها و العكس تماما في الدول الديمقراطية التي يصفها بأنها أكثر قدرة على تخطي العوائق و بالتالي تجسيد شرعيتها .

  • = العوامل الثقافية و البنيوية : و تشمل المعايير و القيم الاجتماعية السائدة أو ما يسميه فوكوياما “مظهر تحت سياسي” أو اقل مباشرة في علاقته بالسياسة حيث يمثل هذا البعد عائقا في وجه الدولة من خلال من خلال خلق رهاب مؤسسات معينة .و تجدر الإشارة هنا إلى أن ما قله تشالمز جونسون 1982 (بأن تحقيق اليابان لنمو اقتصادي … لا يرجع إلى الثقافة بل إلى المؤسسات الرسمية التي “الصناعية والسياسية ..التي خلقتها) .

 

المعارف المؤسساتية القابلة للتحويل

 

الدولة الضعيفة وثقب الإدارة الأسود

 

إن إشكالية كيفية مساعدة البلدان النامية على تقوية دولتها تفرض أن تكون الحلول الفعالة محلية الطابع الأمر الذي يتطلب إقامة نوعية مختلفة من العلاقات بين الدول النامية وتلك المانحة والمستشارين الأجانب . وان كانت نظرية التنظيم تساءل حول تفويض السلطة و الصلاحيات ضمانا لتحقيق الكفاءة الاقتصادية و إن كان هذا التفويض للآخرين يحيلنا إلى عملية السيطرة و الإشراف . ولكن ما قدمه آلتستايان  على النقيض من هذا الجدل حول علاقة الدولة بالمانحين معتبرا” أنها علاقة طوعية بين مشاركين و في سوق إنمائي اقتصادي “, و بالتالي يمكن فهم التراتبية في العلاقة . بين الدول الضعيفة و الدول المانحة على أنها مجموعة متوازنة من عقود العمل يوافق بموجبها على القبول بالسلطة الخارجية .

و ثمة ثلاث أسباب منهجية حسب فوكوياما لعدم وجود مواصفات مثلى للمؤسسات الرسمية وضعية تنظيم مؤسساتي يتبناها المانحون أو الشركاء الخارجيين  :

  • =عدم وضوح الأهداف : تتطور الأهداف عبر التفاعلات بين الجهتين “موقع في المؤسسة يحدد مكانتك “
  • = نظم المراقبة والمحاسبة : مما يؤدي إلى مراجعة سلوك الوكيل بمعايير غير رسمية .
  • = تباين الدرجة المناسبة من السلطة و الصلاحية تبعا لشروط أشكال التعويض .

 

لامركزية الصلاحية

 

و التي تعني عند فوكوياما نوعا من التناسب بين حيز المسؤولية الممنوحة مع المشاغل في نطاق السيطرة و هو ما يسميه علماء السياسة “مبدأ التناسب” أي  وجوب اتخاذ القرارات على مستويات حكومية لا تزيد عن الحد الضروري لأداء وظيفة معينة “.

إن الهوة بين هذين المستويين من الصلاحية مثله فشل اللجنة التي بعثت بها الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1945 لإصلاح نظام ما كانت  تصفه بالبيروقراطية و قلة التنظيم في اليابان و انتقد فوكوياما تجاهل هذه اللجنة للثقافة و المنظومة المؤسسية القائمة في اليابان و غطرستها في التعامل مع اليابانيين كشعب بدائي يراد أن نتقل إليه تجربة أمريكا و كندا في و هذا حسب رأي فوكوياما هو  اكبر سبب لفشل هذه الجنة التي ترأستها مجموعة من صفوة الإداريين في البلدين .

مبررا أن البيروقراطية اليابانية كانت في مناح عدة نخبوية و كفؤة ومحمية من متطلبات الرعاية و المحاباة السياسية بدرجة تفوق نظيرتها الأمريكية لذالك لم ينجح “المصلحون ”  في إزالة هذا النظام القائم في اليابان كجزء من مؤسسات الدولة .

 

 

الدولة الضعيفة و الشرعية الدولية

يمثل تآكل مفهوما السيادة و الأمة باعتبارهما حجر الزاوية في النظام العالمي ما بعد “اتفاقية وستفاليا” . وتعرض المفهومين لهجوم عنيف  لان ما يحدث مع الحكم و الإدارة المحلية  يؤثر على الأعضاء الآخرين في النظام العالمي . مما دفع إلى السؤال من يمتلك حق أو شرعية انتهاك سيادة دولة أخرى و لأي أغراض ؟ و هل ثمة مصدر آخر للشرعية الدولية لا يعتمد بحد ذاته على وجود قوة الأمم “الدول ذات السيادة”؟وان لم يكن الأمر كذالك ألا يصبح الاعتداء على السيادة مشروعا متناقضا ذاتيا ؟

بعد نهاية الحرب الباردة ظهرت مشاكل كبيرة في الدول الضعيفة أو النامية و باتت تمثل بالتالي مشكلات النظام العالمي الجديد من قبيل ( انتهاك حقوق الإنسان و الحروب الداخلية و الهجرة ليصل الأمر إلى تصدير الإرهاب في الفترة ما بين سقوط جدار برلين و تفجيرات الحادي عشر سبتمبر 2001 حيث مثلت مرحلة انتزاع السلطة و الاستيلاء عليها و انتزاع مهمة الحكم من الحكام المحليين  لصالح ما بات يعرف بالمجتمع الدولي  , وفي هذه الفترة كانت مجموعة من الدول (الفاشلة) – كالصومال و هيتي و كمبوديا و البوسنة و تيمور الشرقية- مجال تدخل المجتمع الدولي لنزع الشرعية  حيث مثلت حجة تنظيم القاعدة في أفغانستان الذي سيطر على دولة برمتها فرصة أخرى ليكون هذا التدخل الخارجي أكثر شرعية و مبررات لنزع الشرعية من الحكومات المحلية .

و تعتبر حجة تهديد السلم العالمي من أكثر المبررات التي استخدمها المجتمع الدولي في هذا الاتجاه , و إن كان من غير المبرر الاعتماد على ما سماه برنامج الأمم المتحدة للتنمية 2002 غياب الديمقراطية و التعددية “المشاركة الفاعلة ” في الحياة السياسية في معظم الدول العربية ذريعة للتدخل في بلدان كالعراق

الامبراطورية الجديدة

 

منذ أحداث أيلول / سبتمبر  2001 أخذت أمريكا على عاتقها مسؤولية حكم الدول الضعيفة و شرعنة تلك السيطرة من خلال المجتمع الدولي . فشكل خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش في جامعة  وست بوينت العسكرية 2002 الذي أعلن في ه عن إستراتيجية الأمن القومي في أمريكا بداية تبني “الحرب الاستباقية ” هذا جعل أمريكا عمليا مخولة لتغزي أي بلد تعتبره يمثل تهديدا امنيا لأمنها القومي و هذا بالضبط ما حدث مع أفغانستان 2001 و العراق 2003 .

 

تآكل السيـــــــادة

 

 

يطلق فوكوياما مفهوم الضعف على مجموعة من الآليات التي تشمل ضعف القدرة المؤسساتية لتنفيذ و فرض السياسات و افتقار النظام السياسي في أحيان كثيرة إلى أساس الشرعية و من هنا يظهر تأكل السيادة عند فوكوياما وذالك بسبب المشاكل التي تولدها الدول النامية أو الضعيفة لنفسها و بالتالي للعالم  وهو ما جعلها محط تدخل قوى ترى نفسها وصية على هذه الدول و مسؤولة عن حماية مواطنيها في نفس الوقت .

و انتقد الكثيرون العقيدة الهجومية الاستباقية  لإدارة بوش  باعتبار أن “مبدأ السيادة عند ها يقوم على الانتهاك الدوري للسيادة” هاسر 2002.

أما بعض المهتمين بالسيادة فقد حددوا تاريخ بداية السيادة قبل ما بعد 11 أيلول و اعتبروه بدأ مع التدخلات الإنسانية في البلقان و الصومال … حيث تجاوز المجتمع الدولي العمل الإنساني إلى التمهيد للتدخل الخارجي . ومثلت نهاية الحرب العالمية الثانية إجماعا في المجتمع الدولي على مبدأ الشرعية السياسية وحقوق الإنسان و هو ما يتنافى تماما مع التسليم بالسيادة الوطنية .

إن فوكوياما يعتبر أن السيادة في دول “أمراء الحرب ”  ما هي إلا “نكتة رديئة” و بالتالي هو يبرر التدخل الخارجي أو يميل إليه من اجل إعادة الشرعية و إن على حساب السيادة الداخلية لهذه الدول . في حين تم تعليق السيادة الوطنية لدول ك الصومال و البوسنة و أفغانستان و سمح هذا للمجتمع الدولي بالتحول من مجرد مصطلح ليكتسب وجودا “نابضا بالحياة “.

بناء الأمـــــــــــــة

 

للتحول إلى هذه النتيجة تبنى فوكوياما دافع الرغبة في إعادة بناء المجتمعات التي مزقتها الحروب و النزاعات أو ما سماه “تفريغ مناطق تفريخ الإرهاب في العالم ” و هو ما تسميه الولايات المتحدة “بناء الأمة ” أما في أوروبا فالفروق أكثر وضوحا بين الأمة والدولة فبناء الأمة هو إشارة إلى مجتمع يرتبط أفراده بتاريخ وثقافة مشتركين يتجاوز القدرات الخارجية على تهيئته , بينما الدولة يمكن بناؤها عن عمد و بشكل مدروس و إذا نشأ عن بناء الدولة قيام امة فتلك مجرد عملية حظ و ليس شيء مخطط حسب ما يقول فوكوياما .

و حدد فوكوياما ثلاثة أطوار لبناء الدولة

  • =إعادة العمار هي مرحلة ما بعد النزاع المسلح : يشمل دول كانت في نزاع عنيف تطلب إعادة بنائها من القمة إلى القاعدة .
  • = إقامة مؤسسات حكومية قادرة على البقاء و الاكتفاء الذاتي بعد انسحاب قوى التدخل الخارجي .
  • = ما المحور الثالث فهو متداخل جدا مع الثاني إذ يتمثل في تقوية الدول الضعيفة التي لا تزال سلطة الدولة فيها قائمة إلى حد معقول .

 

أصغر ولكن أقوى

 

إن مسالة تحجيم الدولة و إطلاق العنان للاقتصاد وحركة رأس المال و المجتمع المدني بات ضرورة من اجل بناء دولة فردية و في مقابل ذلك فان الدول النامية أثبتت إنها ليست بحاجة إلى دولة شمولية وواسعة بل إلى دولة قوية وفاعلة ضمن المدى المحدود لوظائف الدولة الضرورية . ففوكوياما يرى أن ما تحتاجه الدول هو حصر استخدام القوة وقصرها على أغراض محدودة و هي سلطة ضرورية لغرض تطبيق القانون محليا و الحفاظ على النظام العالمي دوليا .

 

 

الخاتمة

 

و يمكن القول إن الذين بشروا “بغسق السيادة ” سواء كانوا من دعاة الأسواق المفتوحة يمين الخارطة السياسية أو ملتزمين يسارها وتقديم بديل للسلطة و سيادة الدولة الأمة .و إن كان البديل الوحيد حتى الآن هو حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات التي تحكم العالم إضافة إلى مجموعة الهيئات غير الحكومية و المنظمات الإرهابية .

فهل ستتمكن من سد الفجوة في جميع أشكال الدولة التي حاول فوكوياما التنظير لها و الدفاع عنها “؟

و بالتالي السبيل الوحيد في ما يبدو هو العودة للدولة الأمة ذات السيادة والسلطة و محاولة فهم العراقيل و الآليات التي تجعلها قوية وفعالة”.

قراءة في الإستراتيجية الوطنية للترقية النسوية 2005-2008

قراءة في الإستراتيجية الوطنية للترقية النسوية 2005-2008
قراءة و مساءلة
 
عملت الدولة الموريتانية على الرفع والتحسين من وضعية النساء إلا أن هذه الجهود اصطدمت بالعديد من الصعاب الاجتماعية والمالية و التنظيمية مع أن موريتانيا ومن خلال دستورها و الميثاقين العالمي و الإفريقي لحقوق الإنسان أكدت على المساواة بين النوعين و ضرورة دمج المرأة بشكل ايجابي في العملية التنموية
 
الشيخ الحسن البمباري  
05/05/2017
 

المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ)

 

 

 

 

 

استهلال

تشكل النساء في المجتمع الموريتاني ما يقارب 52% من النسيج الاجتماعي لذالك كان من الضروري حلول جذرية لإشراكهن في العملية التنموية في عموم البلاد وقد وضعت الدولة عدة مشاريع واستراتيجيات لحل أزمة وصول المرأة وتمكينها لتأخذ دورا يتناسب مع حجمها في النسيج المجتمعي ولتجاوز النظرة التقليدية السائدة في المجتمع ومنذ العام1988 بدأت الإستراتيجية الوطنية للرفع من أداء المرأة اجتماعيا و اقتصاديا وسياسيا  إذ في الدستور أصبح منذ 20 يوليو  1991 من المتاح للمرأة المشاركة السياسية بنص القانون حيث كرس هذا القانون دون تمييز كافة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمرأة  كما نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) و الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب (1981) . و أسست كتابة الدولة لشؤون المرأة التي تعنى بشؤون المرأة و كان دورها ضمان ترقية المرأة الموريتانية و مشاركتها التامة في جميع المجالات وفقا للقيم الإسلامية كما انضافت لها سنة 1998 مفوضية مكلفة بحقوق الإنسان ومكافحة الفقر والدمج .

وبأي حال فان هذه الإستراتيجية التي بين أيدينا مكونة من مجموعة من الأهداف و الخطط قصد الرفع من مكانة المرأة ووضعها على طريق المشاركة و رفعها عن مصاف العوائق التنموية .

        I.            حصيلة انجازات الإستراتيجية الوطنية للترقية النسوية (1995-2000)

الأنشطة التي تم انجازها :

و قد انقسمت أنشطة كتابة الدولة لشؤون المرأة في إطار تنفيذ إستراتيجية الترقية النسوية  1995 -2000 إلى المحاور التالية :

  • التكوين ومحو الأمية الوظيفية : حيث قيم ببرامج تكوين لصالح التعاونيات النسوية في مجال التسيير و التنظيم (زراعة الخضروات – صناعة شباك الأسلاك الحافظة …) مع بناء بعض مراكز التكوين كما تم اعتماد مقاربة كريه (cree) وجرم (germe) من خلال إتباعهما للتدريب في مجال محو الأمية الوظيفية ما تم إعداد ورشات تدريبية على المشاريع المدرة للدخل للنساء الحاصلات على الشهادة و برنامج محو الأمية الوظيفية خلال الفترة 1993 – 2000 و استفاد منه 10000امراة في أكثر من 8 ولايات داخلية .

*مساءلة : يتضح أن هذا البرنامج لم يصل إلى الكم الكافي من النساء ليس فقط ليس فقط بسبب اقتصاره على 8 ولايات و إنما عدم وصوله إلى جميع المستهدفين في هذه الولايات .

    –  التمويلات الصغرى و الأنشطة المدرة للدخل : إذ أقام القطاع 17 هيئة للادخار والقرض (نساء بنك / كوبك ) تتولى النساء تسييرها في 18 مقاطعة بولايات (كوركول / غيدي ماغا / لبراكنة / الحوض الغربي / نواديبو / نواكشوط ) ومولت 2419 مشروعا صغيرا استفادت منه 8660 امرأة بمبلغ إجمالي قدره 223960560 أوقية هذا بالنسبة للتمويل ففي الأنشطة المدرة للدخل تم إنشاء 99 مشروعا صغيرا للنساء في أربع ولايات داخليات هذا مع تنظيم معرض سنوي للأنشطة النسوية .

*مساءلة : نلاحظ هنا ضيق دائرة هذا التمويل فمالذي تمثله 4 ولايات من أصل 13 ولاية هل تكفي 99 مشروعا لولاية واحدة أخرى ل4 ولايات فهذا يعكس ضعف التخطيط و المعلومات الميدانية للجماعات المعنية و ان كانت وفق إلى حد كبير في اختيار الولايات المستفيدة (لبراكنة / انشيري / الحوض الشرقي / العصابة ) .

    – الحركة الجمعوية  : تمثلت في إنشاء رابطات و جمعيات مثل الرابطة الموريتانية للنساء التاجرات والمقاولات – الرابطة الموريتانية للنساء الحقوقيات ودعم مشاركة المرأة في المنظمات غير الحكومية .

    – الأسرة : تدخلت الدولة على مستوى النزاعات الأسرية ومدونة الأحوال الشخصية 2001  , تنظيم رحلات دراسية للاستفادة من تجارب أخرى كتونس في مجال سياسة الأسرة و المغرب في مجال النزاعات الأسرية ومصر في الترقية الاجتماعية و الاقتصادية للأسرة .

*مساءلة : أمنة بنت المختار(رئيسة رابطة النساء معيلات الأسر) لا ترى في مدونة الأحوال الشخصية فائدة كبيرة كونها قاصرة وغير مطبقة و تطلب الاستشارة مع المجتمع المدني من اجل ترقيتها .

    – الإعلام والتهذيب والاتصال : عملت كتابة الدولة لشؤون المرأة على تمدرس البنات ونش المعاهدة المتعلقة بحقوق الإنسان و العديد من النشاطات التوعوية ( النساء الحوامل …)

    – القدرات المؤسسية : ساهمت بالأساس بتوفير تجهيزات مكتبية ومعلوماتية مركزيا و جهويا و تقنيات الاتصال ودمج مقاربة النوع و إنشاء لجان وفر تشاور .

      II.            التقييم النقدي للحصيلة

يمكن تلخيص جملة من النواقص في النقاط التالية :

  • البرامج التي تم إنشاؤها لم تستهدف إلا القليل من النساء داخل البلاد
  • الموارد التي تم توزيعها لم يتم بشكل متساو فولاية كتيرس لم تستفد بشكل كافي من هذه البرامج مقارنة مع بعض نظيراتها
  • غياب لامركزية الوسائل
  • بروز مشاكل التنسيق في مستويات عدة (في كتابة الدولة لشؤون المرأة و شركائها محليا وعالميا )
  • غياب التركيز الكبير على المتابعة والتقييم
  • محدودية برامج التكوين والدعم
  • استعجال النتائج خاصة في ما يتعلق بالنظرة الاجتماعية لإشراك المرأة
  • مشاكل التشغيل والراتب لم تكن مفصلة في طرح الوكالة لذالك خلقت هي نفسها مشكلا
  • نقص البيانات الإحصائية

   III.            تحليل وضعية النساء

الوضعية الاجتماعية للمرأة

المعطيات الديموغرافية وظروف المعيشة : ارتفع عدد السكان في موريتانيا من 1.8 مليون /ن سنة 1988 إلى 2.5 مليون /ن سنة 2000 تمثل النساء 50.5% منهم وساهمت عوامل متعددة في الحراك الديموغرافي للمرأة كزيادة متوسط العمر من 47سنة 1990 إلى 57سنة 2004 إضافة إلى انخفاض في الخصوبة (انتقل مما يزيد على 6في الثمانينيات إلى 5 في بداية الألفية الجديدة ويعود بالأساس إلى ابسن عند الزواج الأول (انتقل من 16سنة إلى 21 سنة في السنوات 1988 / 2000 على التوالي ) مع بروزها في الريف بشكل كبير و ربطت التقارير هذا المعدل بارتفاع نسب الطلاق (31%) و الترمل (4%) عند النساء (المسح الديمغرافي الصحي في موريتانيا 2000 /2001) . ومع الحديث عن تحسن المعيشة بشكل عام فان الأسر التي تعيلها نساء ازدادت تدهورا  خاصة في الوسط الريفي إذ انتقل اثر الفقر من 40.5% إلى 45.6% خلال الفترة 1996/2000 ولوحظ أن زيادة إنفاق الفرد في اسر يديرها رجال تفوق بنسبة 3% لإنفاقه في اسر تدار من طرف نساء .

  • محو الأمية والتربية والتكوين المهني : و شهدت تحسنا بالمجمل حيث ارتفعت من 39% إلى 53.1% في الفترة 1988 / 2000 تواليا و بالنسبة للمرأة انتقل معدل محو الأمية من 30% 1988 إلى 45.3% 2000حتى أن النسب في النساء تكاد توازي تلك لدى الرجال. إلا أن هذا التحسن يتمايز بشكل كبير بين الولايات إذ تصل في نواكشوط إلى 68.6%و 69.8% في نواذيبو و 31.5% في الحوض الشرقي و28%في كيدي ماغا و20%في كوركول . وتسهم مشاكل كالأمومة المبكرة و الالتحاق المحدود للبنات بالمدرسة وتدني نسب محو الأمية لدى النساء
  • النفاذ إلى التعليم : إذ تميزت معدلات التمدرس الخام بتحسن الوضعية لصاح البنات حيث بلغ معدل التمدرس الخام للبنات 2001/2002 ما يساوي (89.9%للبنات مقابل 88.5%للأولاد ) و ارتفع في العام الموالي 2002/2003إلى 92.7%مقابل90.7% تواليا مع انتقال نسبة مشاركة البنات في التعليم الأساسي من 41.5 %1990 إلى 48.2% 2000مع تسن في معدل استمرار البنات في الدراسة .
  • التعليم الثانوي : تحسنت النسبة من 31.35 1990 إلى 43% 2000 مع تزايد مطرد لاستمرار البنات في التعليم .
  • التعليم العالي : وصلت النسبة إلى 21.3 سنة2000 مقابل 13.2 1990 مع تسجيل تقدم للبنات على الذكور في الاستمرار حيث وصلت النسبة إلى 38%مقابل 26%لصالح الإناث .
  • التكوين المهني والفني : حيث تمثل النساء نسبة 26% من حملة شهادة هذا القطاع عام 2000/2001و29%من المسجلين سنة 2001/2002 في مجموع المؤسسات المهنية التي تقدم تكوينا دائما , وفي المراكز التي تقدم تكوين غير دائم 42% من حملة الشهادة سنة 2000/2001و35% من المسجلين في نفس العام .

الوضعية الاقتصادية للنساء

شهدت مشاركة المرأة  في الموريتاني تزايدا في الفترة مابين 1988/2000 حيث ارتفعت النسبة من 23.5%سنة 1988إلى 28.1% سنة 2000وهذا يعني أن مشاركتهن وإتاحة الفرصة لهن سيمكن من تسريع وتيرة النمو في البلاد .

  • النساء في مواجهة سوق العمل : مازالت المرأة تعاني من تهميش على مستوى الشغل وحسب آخر الإحصاءات مازال النشاط الإجمالي حسب النوع شبه مستقر بنسبة 68.9% في 1988 و 63.6% في 2000للرجال مقابل 25.3% و 27.7% للنساء على التوالي وفي نفس الفترة تراجعت نسبة البطالة عند النساء من35.9%1988 إلى 27.4%2000 مع أنها تمس بشكل اكبر الشباب في هذه الفئة البنات هن الأكثر تضررا . هذا مع مشكلة عدم فتح الأعمال التي تدر دخلا أمام النساء وان استفاد سنة 2000 12.4% من النساء حاملات الشهادة من دعم في هذا الخصوص .و حسب قطاع النشاط تتواجد المرأة في قطاع الزراعة بنسبة 48.6%من النساء سنة2000 و14.6%في قطاع الإدارة و13.5 في التجارة (الإحصاء العام للسكان والمساكن) ويكون مرتب النساء في المتوسط اقل ب60% من مرتب الرجل حتى أن تساويا في التعليم والتكوين والتجربة .
  • النفاذ إلى القروض : وتواجه النساء مشاكل كبيرة في النفاذ إلى القروض بسبب عدم ملاءمة الأدوات المستعملة و جهل النساء بفرص القرض و الإجراءات المطبقة و إن كن استفدن من بعض القروض الخفيفة (أبرومي ) 52%و إن كانت غالبية القروض تأتي من مصادر غير رسمية و جلها في الوسط الريفي (70/90%) من القروض . وأقامت الدولة محاولتين لترقية الوضعية الاقتصادية للمرأة ( التجمعات النسوية للقرض والادخار التي أطلقت 1996 و نساء بنك التي تسعى لتسهيل الموارد المالية للمنظمات و التكتلات النسوية إلا أن تغطيتها ظلت ضيقة (13 مقاطعة في 5 ولايات داخلية و 4 من مقاطعات نواكشوط ) ووزعت 2419 قرضا بقيمة 223960650اوقية وعملت المفوضية المكلفة بحقوق الإنسان و محاربة الفقر والدمج منذ 1998 في تمويل أنشطة مدرة للدخل موجهة للنساء بالدرجة الأولى حيث مثلن (36000 من أصل 40000 مستفيد )

وضعية النساء في الوسط الريفي

وتعد وضعية النساء في الوسط الريف ي أكثر هشاشة منها في الحضر بسبب ضعف النفاذ إلى التعليم و الصحة وعدم التحكم في عوامل موارد الإنتاج (القروض – الملكية العقارية ) وضعف الإنتاجية بسبب الأمية 82.4%من النساء العاملات في الزراعة ليس لديهن أي مستوى تعليمي و في ما يتعلق بالعقار فقط 18.7 % من النساء لهن أملاك عقارية مسجلة بأسمائهن .

    IV.            مكانة المرأة في المجتمع الموريتاني

  • مقاربة الأسرة :

منذ 1988 ووضعية المرأة في نفس الاتجاه بسبب ارتفاع نسب الطلاق والترمل في سنة 2000 كان عدد النساء المطلقات يقارب 4.6% وهي اكبر 4مرات من نسبة الرجال و تتسع النسبة إذا تعلق الأمر بالترمل حيث تصل 3.7%للنساء و0.3 للرجال  وذالك بفعل فارق السن بين الزوجين لصالح الرجال و قد ارتفع سن الزواج بالنسبة للنساء ومع ذالك ظل عدم الاستقرار الزوجي بارزا ففي نواكشوط مثلا 40% من النساء تزوجن أكثر من مرة وقد أدت سرعة نمو الأنشطة النسوية إلى إحداث بعض القوانين  لحماية المرأة (سياسة الأسرة والطفولة …).

  • حقوق المرأة والطفل :

أكدت المادة السادسة من الدستور الموريتاني على أن المواطنين متساوون أمام القانون (دستور 20يوليو 1991) و المرأة باعتبارها مواطنة لها حق ممارسة حقوقها السياسية  و الاجتماعية و الاقتصادية هذا إضافة إلى مدونة الأحوال الشخصية 2001 و التي تسعى لإقامة وضع أكثر إنصافا للمرأة داخل المجتمع و تنص مبادئها العامة على مساواة جميع  المواطنين أمام القانون و الكرامة البشرية الخاصة بكل فرد والمساواة بين النوعين وحرية الإرادة ثم تمت إضافة قانون إلزامية التعليم للأطفال من 6-14 سنة 2002 مع الديباجة الدستورية التي تعلن ضمان عدم المساس بالحقوق الاجتماعية وحق العمل وحق الرعاية الاجتماعية والتعليم .

  • المشاركة السياسية والاجتماعية النساء :

مازالت مشاركة المرأة في هذه المجلات ضعيفة بالرغم من بعض المؤشرات الايجابية كتولي بعض النساء مناصب وزارية و أن نسبة 3.3%من النساء يشغلن مناصب انتخابية و تبلغ النسبة 19.1 في نوا كشوط وهناك 37% من النساء برلمانيات و 3.6 في مجلس الشيوخ و قد برزت المرأة في المجال الجمعوي حيث وجدت 1271 تعاونية نسويه في الداخل ضمت 73500 امرأة و إن كانت لهل مجموعة من المشاكل (جوانب التسيير – تسويق المنتجات – التأهيل الفني – رأس المال ) زفي سنة 2000 كانت النساء معيلات الأسر في الريف يشاركن بنسبة أعلى مرتين من نظيراتهن في الحضر في المنظمات النسوية . و في مؤشر تحليل المشاركة السياسية حسب الفئات العمرية يظهر فروقا و هي تتقلص في الأجيال الحديثة  فحسب المسح الدائم للمعيشة سنة 2000 تكاد تكون النسب بالنسبة للمشاركة السياسية و الاجتماعية لأفراد الأسرة متشابهة بالنسبة لفئة 15-25 سنة (6%للرجال 5% للنساء) و متطابقة في فئة 25-34 سنة (10%للجنسين) و يزداد الفارق ابتداء من 35 سنة (ب 18%للرجال من فئة 35-44سنة مقابل 11%للنساء )فيما ظهر تساوي بالنسبة للتصويت سنة 2000في فئة 15-44 سنة مما يظهر تقدم ايجابي للمشاركة السياسية للمرأة .

      V.            الإستراتيجية

 الرؤية المستقبلية للمرأة الموريتانية

في سنة2000 وضعت إستراتيجية هدفها خفض الفقر  إلى 17%في المجتمع الموريتاني بشكل عام وكانت المرأة في قلب هذه الخطة إلا أن تقارير سنة 2003 أكدت أن مجموعة من المعوقات ما تزال تقف إمام المرأة ( نقص التمثيل في أجهزة اتخاذ القرارات  و الضعف النفاذ إلى التربية و الصحة و أدوات الإنتاج هذا مع المعوقات الاجتماعية مما أدى بالدولة إلى الاتجاه إلى صياغة إستراتيجية خاصة بالمرأة على ضوء تلك السابقة كان هدفها ( تعزيز المشاركة الاقتصادية للنساء – القضاء على الأمية و ضمان نفاذ البنات للتعليم – تحسين صحة الأم و الطفل – المزيد من مشاركة المرأة سياسيا و اجتماعيا و القرار الكامل بحقوق النساء .

  • تعزيز المشاركة الاقتصادية للنساء : و تعتمد على مجموعة من الأهداف أهمها
  • تحسين وصول النساء إلى عوامل الإنتاج (التمويلات والادخار و القروض –الأمن العقاري–الأنشطة المدرة للدخل )
  • مكافحة البطالة و التشغيل (التكوين المهني- المقاولات النسوية الصغيرة –مشاركة النساء في البرامج ذات الكفاءة العالية)
  • تعزيز الإنتاجية (محو الأمية الوظيفية – التوجه نحو القطاعات الإنتاجية …)
  • تحسين النفاذ إلى السوق (تشجيع نشاطات التجارة التي تديرها نساء – توفير قنوات للتسويق – توفير معلومات السوق لتسهيل النفاذ …)
  • تنمية المقاولات النسوية (دعم و تحسين التمويلات … )
  • تحسين مستوى نفاذ النساء إلى الخدمات الاجتماعية القاعدية : وشمل الأهداف التالية
  • القضاء على الأمية لدى النساء
  • ضمان توفير التعليم القاعدي للبنات
  • تحسين صحة النساء
  • تحسين ظروف حياة النساء
  • الحقوق ومشاركة النساء :
  • تعزيز حقوق المرأة (تطبيق مدونة الأحوال الشخصية و كافة القوانين الخاصة بالنساء . الإعداد والمصادقة على القوانين المساعدة للمرأة بشكل عام )
  • تشجيع مشاركة النساء على اتخاذ القرارات (زيادة تمثيلهن في المراكز الانتخابية – زيادة حضورهن في الإدارة العامة – تشجيع وصولهن لمراكز القرار
  • تنمية استراتيجيات لتغيير العقليات :

ويتمثل في تطبيق برنامج فعال وواسع للإعلام والتهذيب و الاتصال وهذا من مهمة كتابة الدولة لشؤون المرأة . وتتمثل إستراتيجية تغيير العقليات في :

  • النفاذ إلى المعارف وتنمية المسلكيات المناسبة للنساء – خلق محيط ملائم لترقية المرأة – إعداد سياسة للاتصال في مجال الترقية النسوية و النوع .
  • تعزيز القدرات المؤسسية لكتابة الدولة لشؤون المرأة : وذالك من خلال – تعزيز هياكل القطاع ومهامه – تعميق لا مركزيتها – تجديد نظام التنسيق وتنفيذ الأعمال الإستراتيجية الوطنية للترقية النسوية من خلال توسيع الشراكات وتحسين الطواقم .
  • إقامة نظام لتقييم و متابعة الإستراتيجية

وشكل ضعف الموارد البشرية و المالية اكبر المخاطر أمام تنفيذ الإستراتيجية هذا مع ضعف التنسيق  بين الوزارات و الإدارات الحكومية المكلفة بالمسالة النسائية .

الخاتمة

مع أن الأفق المحدد للإستراتيجية كان العام 2015 فإننا الآن ونحن في العام 2015 لم يبرز ذالك التحسن الكبير و إن كان ثمة تقدم ملحوظ إلا أن بعض الانتقادات كاستخدام إشراك المرأة كمطية للحصول على الدعم الدولي وهو السمة البارزة لعديد الأنظمة المتلاحقة , فان تولي سيدتين منصب وزيرة الخارجية و تعيين العديد من السيدات و انتخابهن في المجالس المحلية (سواء في نواكشوط أو الداخل ) مثل خطوة على الطريق السليم لإشراك المرأة في العملية التنموية مع أن الأمر الأهم هو أن المجتمع بدا يعي أهمية المرأة بالنسبة للتنمية لذالك بات دخولها العمل ملاحظ بشكل كبير و لم يعد لدى المجتمع خاصة الرجال تلك العقدة الاجتماعية لعمل المرأة و المشاركة في العملية الإنتاجية بل وحتى دورها في المصروفات المنزلية و العائلية . ويمكن القول ان نسبة لا باس بها من أهداف الإستراتيجية قد تم تنفيذها إلا أن المهمة الأصعب هي تنفيذ الباقي والحفاظ على ما تم انجازه .

المحتويات

الاستهلال. 2

  1. حصيلة انجازات الإستراتيجية الوطنية للترقية النسوية (1995-2000). 2

الأنشطة التي تم انجازها : 2

  1. II. التقييم النقدي للحصيلة. 3

III.                                                          تحليل وضعية النساء. 4

الوضعية الاجتماعية للمرأة 4

الوضعية الاقتصادية للنساء  5

وضعية النساء في الوسط الريفي   5

  1. IV. مكانة المرأة في المجتمع الموريتاني.. 5
  2. الإستراتيجية. 6

الرؤية المستقبلية للمرأة الموريتانية. 6

الخاتمة. 8

 

  

 

 

“الإسلاموفوبيا” مفهوم للمراجعة والإلغاء

مصطلح انتشر كالنار في الهشيم في العشرية الأخيرة وهو مكون من كلمتين: الإسلام وكلمة إغريقية الأصل تستخدم عادة في ميداني التحليل النفسي وطب الأمراض العقلية تعني بالضبط “حالة من الخوف المبالغ فيه وغير المنطقي أمام ظاهرة مّا تعتري شخصا معينا نتيجة خلل في شخصيته، تؤدي به إلى نوبات من الفزع الشديد، وقلق متواصل وتوجس من رجوعها ومحاولة لتفادي كل ما يؤدي إليها”.

إن أشهر هذه الحالات هي الأقورافوبيا (Agoraphobie) وهي الخوف من الساحات العمومية ومن الاكتظاظ البشري وينتهي بالمرء إن لم يعالج إلى الانكفاء على نفسه وإنهاء حياته الاجتماعية.

“الالتزام بالمعنى العلمي لمصطلح “الإسلاموفوبيا” سيقودنا إلى عراق اليوم, حيث ينقسم إلى “الشيعة فوبيا”عند السنة و”السنة فوبيا” عند الشيعة ومن مظاهره القصوى القتل على الهوية والتهجير القسري”

إذا قبلنا أننا لا نتحكّم في المصطلحات وأن علينا استعمالها بالمعنى الذي يقرّه القاموس، فيجب أن نبحث في ظاهرة “وجود خوف شديد وغير منطقي ونوبات فزع من الإسلام والمسلمين”.

المشكلة أن الالتزام بهذا المعنى العلمي سيقودنا إلى عراق اليوم حيث ينقسم “الإسلاموفوبيا” إلى “الشيعة فوبيا” عند السنة و”السنة فوبيا” عند الشيعة ومن مظاهره القصوى القتل على الهوية والتهجير القسري.

ولو تابعنا حالات التعذيب التي يتعرض لها المسلمون اليوم من أجل أطروحاتهم الإسلامية لاكتشفنا أنها وقعت ولا تزال في بلدان إسلامية.

وإذا كان ما نعنيه بالإسلاموفوبيا هو التصدي للمسلمين في عقيدتهم كالحجاب لاتضح أن البلد الأكثر تشددا في معاداة هذا الحق الشرعي المضمون من قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو تونس التي يحارب نظامها بشراسة منقطعة النظير هذا التقليد الإسلامي وذلك عبر المنشور 108 الذي صدر سنة 1989 وطبق بصرامة منذ ذلك الحين إلى حد اقتلاع الحجاب من عابرات السبيل ناهيك عن غلق باب العمل والدراسة في وجه المحجبات.

حتى فرنسا التي نقلت هذا التشريع عن تونس لم تتجاسر على شيء كهذا.

لقائل أن يقول إن المقصود بالفوبيا تفاقم مشاعر عداء للإسلام والتعدي على مقدساته والريبة في المسلمين وهي ظاهرة لا جدال فيها.

ثمة اعتراف ضمني بأن المفهوم يستعمل كلمة بداهة في غير محلها. ربما كان من الأصح استعمال كلمة التحامل على الإسلام في العربية أو (Islamo prejudice) بالإنجليزية.

المهم أن “الإسلاموفوبيا” مفهوم ضعيف بالمعلومات وغني بالعواطف حيث تنضح منه مشاعر قوية تحوم بالأساس حول اتهام الآخر المبهم بمعاداة الإسلام وبالجهل به. والسؤال عندما نعتصر منه مكونه “أنتم تعادون الإسلام” هو: وما الجديد؟

يجب التذكير هنا بأن المفهوم استعمل لأول مرة سنة 1921 من الكاتبين أتيان ديني وسليمان بن إبراهيم مما يثبت أن “الإسلاموفوبيا” كانت موجودة آنذاك وعلى الأرجح قبل ذلك بكثير.

ما يجهله الكثير من المسلمين أن واجهات كاتدرائيات العصور الوسطى مرصعة بتماثيل جلها مخصص للدعاية الكنسية ولكنها تحفل بتماثيل تذم الإسلام منها تمثال شبه قار لشيطان يصور في أفظع الصور واسمه -في إشارة واضحة للرسول الكريم- “Baphomet”. فهل سنطالب بهدم الكاتدرائيات الأوروبية؟

بخصوص التهمة الثانية “أنتم تجهلون ما هو الإسلام ومن ثمة تحاملكم عليه” يستطيع التشخيص الموضوعي، لا فقط التذكير بأنه لا جديد تحت الشمس، ولكن توجيه أصبع الاتهام للشاكي نفسه.

“المطالبة بمعاقبة الصحيفة الدانماركية والاعتذار بسبب الرسوم المسيئة لم يأت من جماهير جاهلة ولكن من نخب دينية يفترض فيها أنها تعرف أن النظام السياسي في الغرب ليس كنظامنا, وهو ما يكشف عن عمق جهلنا ”

قال عمر بن الخطاب “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”. ماذا لو حاسبنا أنفسنا في طريقة تعاملنا مع قضية الرسوم الكريهة البشعة المدانة بالطبع التي اندلعت في فبراير/شباط 2006.

ظاهرتان للتدليل على عمق جهلنا نحن. ثمة أولا مطالبة رئيس وزراء الدانمارك بالاعتذار ومعاقبة الصحيفة والمسكين ضحية صحافة حرة لا سلطة له عليها.

هذا الطلب لم يأت من جماهير جاهلة ولكن من نخب دينية يفترض فيها أنها تعرف أن النظام السياسي في الغرب ليس نظامنا حيث يمكن للرئيس المزمن أن يقول للأشياء “كُوني فتكون”، أو أن كل ما يصدر في الصحف هو بإيعاز منه.

ثمة أيضا القضية التي قدمت في فرنسا بحق صحيفة “Charlie Hebdo” (التي أعادت نشر الرسوم في فبراير/شباط 2006) من قبل منظمات إسلامية.

إن من يقرأ هذه الصحيفة الهزلية الناقدة يعرف أنها كانت منذ بروزها أكبر عدو للدين بصفة عامة وللديانة المسيحية بصفة خاصة وأنها نشرت في السبعينيات إنجيلا أعادت كتابته بصفة ساخرة أذكر أن قراءته تسببت لي -أنا المسلم- في صدمة كبيرة.

وكثيرا ما تقدمت مؤسسات دينية مسيحية بشكاوى ضدها دون جدوى. السبب ليس فقط استقلالية القضاء الفرنسي وتعلقه بمبدأ أساسي في الديمقراطيات الغربية هو حق الرأي، ولكن أيضا حساسية كبرى قديمة ضد الدين وتحديدا ضد الكاثوليكية نظرا لوقوف الكنيسة ضد الثورة الفرنسية.

وقد بلغ الجهل ذروته عندما وقع الخلط بين صحيفة مغمورة وأقلية عنصرية تحرض على كل الأجانب وليس فقط على المسلمين في الدانمارك، وبين دولة وشعب أفاقا مذهولين على مظاهرات صاخبة تنادي بالموت لكليهما.

لا أحد لاحظ أنه خلط شبيه بخروج الأميركيين عشية 11سبتمبر/أيلول لحرق سفارات البلدان العربية والإسلامية والمطالبة بتدمير بلدانهم أو خروج الإسبان والإنجليز في نفس المظاهرات جراء تعرضهم لاعتداءات من قبل أقليات لا تمثل إلا نفسها.

كل هذا لأن وسائل التعليم والإعلام لا تعلم أطفالنا وشعوبنا باكرا التفريق بخصوص الغرب مثلا بين الأنظمة الغربية والقيم الغربية والمجتمع المدني الغربي وداخل هذا الأخير بين أقليات عنصرية مناوئة للعرب والمسلمين وبين أكثرية من الجمعيات التي تساند كل نضالاتهم المشروعة.

كانت أزمة الرسوم أكبر دلالة على تساوينا مع الغربيين في الجهل. هم يجهلون خطوطنا الحمر ونحن نجهل خطوطهم الحمر، ووجد العقلاء من الجانبين أنفسهم وسط جهل يواجه جهلا وعداء موروثا أوقظ من سباته القديم ليواجه عداء قديما لا يطلب شيئا غير العودة للسطح.

أضف لهذا أن هذه الأزمة لم تكن التعبير عن عمق إيماننا وإنما عن عمق حساسيتنا وعمق هشاشتنا، فهل من المعقول أن تهتز قلعة لأن ذبابة قذرة حطت عليها أو أن نستعمل المدافع الثقيلة ضد الذباب.

يبقى السؤال ما جوهر المسمى الذي لم يفلح مصطلح “الإسلاموفوبيا” في تسميته؟ من يسعى لنشر أبشع الصور عن الإسلام والمسلمين في البلدان الغربية مثلا؟

“الإسلاموفوبيا مصطلح مبني على الخلط لتتوسع دائرة الخوف والكره من أقلية نشطة وغير ممثلة للإسلام إلى أغلبية ممثلة لكن لا حول لها ولا قوة تبدو وكأنها جاثمة على صدور هذه الأقليات العنصرية”

بديهي أنها جماعات يمينية متطرفة سياسيا في بلدان مثل هولندا وسويسرا والدانمارك وبلجيكا وفرنسا والنمسا وألمانيا، تكره الأجانب عموما والمسلمين تحديدا، في علاقة خاصة بقضايا داخلية محض تتعلق بالضغط على سوق الشغل والخوف على الهوية الوطنية نتيجة ارتفاع نسبة الأجانب، كل هذا في إطار المخزون التاريخي القديم والقريب ككره العرب في فرنسا عقب حرب الجزائر أو ككره الأتراك في ألمانيا.

كيف تستطيع هذه الجماعات توسيع نفوذها؟ طبعا باستغلال الأحداث الدامية التي شهدتها نيويورك ولندن ومدريد وبسلان وما تبعها من خوف وريبة في البلدان المستهدفة.

معنى هذا أننا لو استعملنا مصطلح “الأصولية الإسلامية المسلحة- فوبيا” أو بالإنجليزية “Islamism -phobia” وليس “Islam-phobia” لما جانبنا الصواب كثيرا.

العملية مبنية إذن على الخلط لتتوسع دائرة الخوف والكره من أقلية نشطة وغير ممثلة للإسلام إلى أغلبية ممثلة لكن لا حول لها ولا قوة تبدو وكأنها جاثمة على صدور هذه الأقليات العنصرية.

من له أيضا مصلحة في نفس الخلط؟ إنه الجزء الأصولي المسلح الذي يهاجم المدنيين خارج ديار الإسلام والذي تثير أعماله سواء داخل البلدان الإسلامية أو خارجها كل ما توحي به كلمة فوبيا.

فهؤلاء الذين يقتلون المدنيين خارج ديار الإسلام هم بالطبع الذين لهم مصلحة في متابعة الخلط بين واقعين جد مختلفين وإيهام أنفسهم وغيرهم أن الاعتداء عليهم أو مقاومتهم هو اعتداء على الإسلام.

وهم أيضا كنظرائهم على الضفة الأخرى خبيرون في استعمال هفوات العدو وتضخيمها لتوسيع رقعة نفوذهم. من هذا المنظار لا نستطيع إلا أن نسخر من الأنظمة الاستبدادية التي سارعت في المزايدة بقضية الرسوم المسيئة للرسول الكريم تظن أنها تخدم مصلحتها وهي تنزلق في أجندة من تحاربهم حربا لا هوادة فيها.

وإن أردنا ألا نكون بيادق لأي طرف فلا خيار لنا غير القول إننا لا نقبل المفهوم كما لو كان بديهيا وأننا سنفككه إلى مكوناته وقد نلغيه أو نبدله بمصطلح أدق. وفي كل الحالات فإننا تجاه انتشار الصورة السيئة عن الإسلام خارج دياره:

1-لا نقلل من الظاهرة ولا نهوّل منها ونضعها في سياقها التاريخي ونتحمل نصيبنا من المسؤولية فيها دون جلد للذات، ونحمّل الآخر نصيبه من المسؤولية دون “بارنويا” وعقدة المؤامرات.

2-نرفض أن يُعتدى على مقدساتنا، أو أن يعامل مواطنو بلداننا بأي كيفية تخل بكرامتهم، كما نرفض أن ترهنهم مجموعات عنصرية أو تستعملهم كبعبع للوصول إلى السلطة حسب تقنيات قديمة قدم السياسة بتسليط مسؤولية المصاعب على الغرباء.

3-نرفض أن ترتهن مجموعات مسلحة عنيفة الإسلام لتشيع الخوف بين شعوب مسلمة، أو غير مسلمة نرفض الخلط بينها وبين حكوماتها.

ونحن إذ ندين العنف الموجه ضد المدنيين داخل وخارج حدودنا لا نسعى ليعجب بسماحتنا أحد أو أن نقول للغرب أو للروس أو أي شعب آخر انظروا كم نحن متسامحون وأي دين عظيم ندين به، ولكن لكي نكون جديرين بهذا الدين ولكي نتوافق مع أوامره ونواهيه وذلك تحت راية الآية الكريمة “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.

“المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون اليوم ليست “الإسلاموفوبيا” وإنما تأرجحنا بين الاستبداد بكل أقنعته الأيديولوجية والفوضى، ولنا في العراق أبشع مثال”

4-إننا واعون لأن الخلل الأصلي هو في بلداننا التي ولّد فيها الاستبداد عنف الجماعات المسلحة, لكن هذه الجماعات ردود مغلوطة على إشكاليات حقيقية لأنها تقودنا إما لتأبيد الاستبداد الحالي أو في حال نجاحها لتشبيب الاستبداد في شكل ديني.

وفي الخلاصة فإن المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون اليوم ليست” الإسلاموفوبيا” وإنما تأرجحنا بين الاستبداد بكل أقنعته الأيدلوجية والفوضى، ولنا في العراق أبشع مثال.

الحل الجذري لمآسي الإسلام ليس في اتخاذ وضعية الضحية ووضع مسؤولية إخفاقنا على الآخرين فهذا أمر لا يليق بحضارة عظيمة كحضارتنا، وإنما في استتباب نظام سياسي يوقف الرقاص المجنون المنطلق من الفوضى إلى الاستبداد ومن الاستبداد إلى الفوضى ليستقر في موضع وسط هو إجباريا تلاقي قيم الإسلام وتقنيات الديمقراطية.

آنذاك لن يكون تحسن صورة الإسلام والمسلمين خارج دياره إلا أقل الإنجازات أهمية بالقياس لما تحقق أخيرا بالمصالحة في بلداننا بين متطلبات الروح والعقل، بين ضرورة التجذر في ماضينا والانطلاق منه نحو مستقبل أفضل.

 

الجزيرة

المقترب الانقسامي للمجتمع القروي بالمغرب: التحليل والحدود (إرنست غيلنر نموذجا)

شكل المجتمع المغربي عموما، والقطاع القروي منه على الخصوص – منذ فترة ليست بالقصيرة – موضوعا للعديد من الدراسات والأبحاث التي لا يمكن، الجدال في مدى قوتها وجودة وغنى المعطيات التي ساهمت في تجميعها وعرضها. والدراسات المذكورة، كما هو معلوم، تنتمي لقطاعات معرفية وتخصصية متعددة ومتباينة : كالسوسيولوجيا، والاثنولوجيا، واللسانيات، والأركيولوجيا، والسيكولوجيا، والتاريخ، والأدب.

وقد تمخض عن هذه الدراسات الخصبة والمعمقة في الوقت عينه العديد من الآثار œuvres، والكثير من الوثائق، تراوحت بين المونوغرافيات، والنشرات، والتقارير، والبحوث والمذكرات … ما زالت تثير في وقتنا الراهن شهية الدراسة؛ والاطلاع، وتدعو إلى المزيد من التساؤل بصدد مناهجها، وإشكالياتها؛ والخلاصات التي توصلت إليها بغرض مراجعتها، وتقويمها أو من أجل رسم حدودها1 .

ارتبط مسلسل الدراسات الأولى، التي اتخذت فيما بعد سمة الكولونيالية في المغرب، باحتلال الجزائر سنة 1830. وتعود أسباب ذلك إلى كون فرنسا في تلك الآونة كانت بصدد التفكير في الانفلات من المصيدات التي سقطت فيها في بلدان أخرى، والتي اتخذت شكل المواجهة المسلحة العنيفة الشيء الذي جعلها تفكر في إرساء استعمار على قاعدة علمية تقطع مع كل أشكال إراقة الدماء التقليدية. ولربما هذا هو ما حدا بأحد منظري الاستعمار ألا وهو رايمون طوماسي كيما يؤكد بأن العلم والعلم وحده هو أول سلاح يلزم توظيفه بوصفه العامل الحاسم المعبد للأرض التي يتعين الزحف عليها2.هكذا إذن لاحت في الأفق؛ وبالضبط إثر هزيمة المغرب في موقعة إيسلي سنة 1844 سلسلة من النشاطات الاستكشافية بلغت ذروتها سنة 1880 مع الأب شارل دوفوكو3.

وتبعا لذلك حظي المجتمع المغربي باهتمام الزوار والمستكشفين الذين ما انفكوا يدونون أدق التفاصيل عن الجهات التي كانوا يعبرونها؛ حيث اهتموا بأنماط عيش السكان، وأنشطتهم، وأزيائهم، وتقاليدهم، وعاداتهم، ومؤسساتهم، وقيمهم، ونمط تفكيرهم نظير اهتمامهم بالمدن العتيقة، والتاريخية.

و إذا كانت التقارير الأولى قد اهتمت بالعالم الحضري على الخصوص، فإن العالم القروي لم ينل حظه من الدراسة إلا مع بداية القرن التاسع عشر حيث انطلق مسلسل الاستكشافات ذات الطابع السوسيولوجي، والأنتروبولوجي، والتاريخي التي أشرف عليها الحاكم العام في الجزائر: جول كامبون سنة 1890 فأثمرت على يد كل من مولييراس ودوتي اللذين قاما معا بجمع، ووصف، وتأويل كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية من تغذية، ولباس، وأعراف، وطقوس قروية4. كما تميزت أعمال أخرى بغلبة الطابع السردي، والنمط الحكائي، والوصفي الطافح بمعلومات على قدر كبير من الأهمية سياسيا، وسوسيولوجيا، وأنثروبولوجيا. نشير هنا مثلا إلى التقارير التي كان يدونها هاريس مراسل جريدة التايمز5 أساسا.

ومن بين المناطق المغربية التي حظيت باهتمام البحاثة الأجانب، نذكر المناطق الصحراوية، والحدود المغربية الجزائرية. فقد أثارت هذه المناطق اهتمام الباحثين وضباط الشؤون الأهلية بالجزائر.

فحينما أيقنت فرنسا أن المغرب، آيل إليها لا محالة قامت بإعداد دراسات مفصلة حول السكان، والثروات، والتاريخ المحلي. وتمثلت اللحظة الحاسمة التي عاشتها البلاد في احتلال واحة توات سنة 1899. ويمكن القول بأنه بدء من هذه السنة أعطيت الانطلاقة للقيام بما سيعرف لاحقا “بالدراسات النسقية”6حولطبيعة المجتمع المغربي التي نشطت مع حركة “البعثة العلمية” التي توجت أبحاثها بنشر: المحفوظات المغربية، والمحفوظات البربرية، ومجلة العالم الإسلامي بالإضافة إلى ترجمة، ونشر العديد من الوثائق المتعلقة بتاريخ المغرب، والدين الإسلامي؛ كما اهتمت هذه الدراسات الشمولية بالمخزن، والنسق القبلي، وظاهرة الزوايا المرابطية إلى جانب الاهتمام بالعالم القروي، والتربية، والثقافة السائدة7.

1-النسق المخزني:

أكد اغلب الباحثين الأوربيين؛ خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ؛بأن ثمة تشابها إلى حد كبير بين المجتمع المغربي وباقي بلدان شمال إفريقيا التي كانت تخضع لنفوذ الخلافة العثمانية. كما ذهبوا إلى أن المغرب يتوفر على عناصر تنظيم بيروقراطي إلى جانب تنظيم قبلي قوي ومحكم البناء ؛ وعلى هذا الأساس عمدت هذه الدراسات إلى الاهتمام بالهيئة المخزنية في علاقتها بباقي القبائل المغربية. وضمن هذا السياق تم النظر إلى السلطان باعتباره قطب رحى النسق السياسي المغربي. ومن أهم الأعمال التي ركزت على ذلك دراسة إيركمان الموسومة ب » المغرب الحديث« . فقد اجتهدت هذه الدراسة في إعطاء تفاصيل مدققة حول البلاط السلطاني والجيش المغربي فضلا عن وصف كتاب المخزن في »البنيقات « ومختلف الإداريين والأعيان كما اهتمت بوصف مميزاتهم ومستوياتهم الثقافية8.

هذا من جهة؛ومن جهة ثانية انتبه ايركمان؛ومن لف لفه، إلى الصراع الذي كان يطبع علاقة القبائل بالمخزن. فقد استنتجوا؛ من دراساتهم؛ أن سلطة السلطان لا تعدو أن تكون سلطة دينية محض لا سلطة زمنية نظرا لأن القبائل تعترف بالسلطان كرئيس ديني؛ وكرجل مكلف من قبل الله بالدفاع عن التراب ضد الغازي الأجنبي؛ ولأجل هذا تقام الصلوات باسمه9.

2- النسق القبلي والعالم القروي:

خلص الباحثون الأجانب من دراساتهم للقبائل المغربية ؛وفي إطار تدشينهم للقول بثنائية بلاد السيبة وبلاد المخزن10، المغرب النافع والمغرب غير النافع ؛التي ستفعل فعلها القوي فيما بعد سنة 1912 إلى أن سلطة المخزن لا تمارس سوى في جزء ضئيل من العالم القروي ؛وهو الجزء الذي يشمل أطراف المدن، والسهول، في حين ان المناطق الجبلية والمتاخمة للصحراء تعد مناطق الفوضى العارمة، والثورات، والقلاقل، والاضطرابات المستمرة.

3- الزوايا والمرابطية :

استرعت الظاهرة الدينية في المغرب اهتمام الباحثين الأجانب والرحالة الذين زاروا مغرب القرن التاسع عشر فرادى أو زرافات. وقد انتبه هؤلاء المستكشفون إلى وجود نوعين من الإسلام في المغرب :الإسلام الأول هو إسلام رسمي اورثوذكسي يتمركز في المدن وهو إسلام العلماء، والشرفاء، والفئات الارستقراطية المدينية. والإسلام الثاني هو إسلام شعبي ينتشر في العالم القروي ؛ويتضمن هذا النوع من الإسلام تقديس الأولياء الذي يعود بأصوله إلى التأثير الرمزي والسياسي لبعض الشخصيات المرابطية ذات الحظوة الكبيرة .

وقد أفاضت الدراسات الاثنولوجية في إعطاء تفاصيل حول المقدس بالمغرب . وفي هذا الصدد أكدت تلك الدراسات بأن المرابط يعتبر مصدرا أو سببا في الممارسة الطقوسية الشخصية أو الجماعية إذ إن الجماعة المحلية باعتبار حاجتها إليه؛ تطلب توسطه في كل ما يتعلق بالشؤون الدينية والاجتماعية الاقتصادية. يضاف إلى هذا أن الولي يتدخل في العالم الطبيعي قصد جعله ملائما للناس وقصد طلب الفأل الحسن فضلا عن أنه يتميز بحضوره الفاعل في السير العادي لشؤون الجماعة. ولربما هذا ما يفسر الإخلاص الجماعي/ القبلي؛ والجهوي بل وحتى الوطني لكبار المرابطين. وبمكنتنا أن نستشف من ذلك اختلاف وتنوع الالتزامات، والواجبات، ورموز الاعتراف بقوة هؤلاء الأولياء بمناسبة الزيارات أو التظاهرات الموسمية أو السنوية11.

على أن هذا التبجيل لا يقتصر على الأولياء والمرابطين الذين يتمتعون ب »البركة « فحسب ؛بل يتعداهم إلى تقديس ظواهر طبيعية أخرى كالقبور، والمزارات، والمغارات، وعيون المياه،وبعض النباتات…12.

إن هذه الممارسات التي أشرنا إليها تدخل، كما هو واضح ؛في سياق إسلام شعبي يشكل مزيجا من المعتقدات الموروثة المتجذرة في التاريخ؛ وخليطا من العقائد الإسلامية الأورثوذكسية…

4-سيكولوجية الإنسان المغربي:

انصب اهتمام البحث الغربي أيضا في المغرب على طبيعة الشخصية المغربية القاعدية personnalité de base وبأسس تربيتها، وبنسقها القيمي، والتقليدي كمحاولة للإحاطة بسيكولوجية الإنسان المغربي؛ولأجل هذا اتجه البحث صوب التأمل في طبيعة» العقلية الإسلامية « والأهلية للكشف عن مميزاتها وخصوصيتها. والملاحظ أن هذه الأبحاث كرست مقولات الاستشراق التقليدي وأنثروبولوجيا الفكر الغرائبي الذي تحكمه المرجعية الأرومركزية كمنطق؛ وتفكير إذ تم تقديم »عقلية الإنسان المغربي « بوصفها عقلية ميالة إلى الإفراط في التدين؛ وقاصرة عن القيام بالاستدلال التدريجي، والتأمل النظري الخالص. بالإضافة إلى كونها عقلية تنفر من محاولات التركيب والتحليل …إلى غير ذلك من النعوت المعيارية والقيمية التي وصفت بها »عقلية الإنسان المغربي13«.

أوردنا في ما سبق نظرة مقتضبة لمجموعة من الدراسات التي قام بها الفرنسيون من مستكشفين وباحثين حول المجتمع المغربي؛ وذلك خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ومما لا شك فيه أن هذه المساهمات السوسيولوجية والأنثروبولوجية تشكل في الواقع وثائق أساسية لا غني عنها لكل باحث في العلوم الاجتماعية؛ والتاريخية، والأنثروبولوجية تتوق إلى دراسة المجتمع المغربي14.

غير انه بعد “الثورة المالينوفيسكية” في مجال علوم الإناسة تم التصدي للأفكار التطورية، والتاريخانية بسبب طرحها لمشكلة العلاقات بين المؤسسات الاجتماعية البريطانية من منظور تعادل الوظائف. ففي هذا الصدد بحث مالينوفسكي بمعية زميله رادكليف براون عن طريقة ما لتأسيس “علم طبيعي للمجتمع” ويهدف هذا العلم ، من بين ما يهدف إليه، حسب مالينوفسكي، إلى إنجاز دراسات إختبارية حول الشعوب البرية/ المتوحشة Sauvages، ترتكز على مصادرة أساسية تتمثل في اعتبار مؤسسات تلك الشعوب أنساقا ثقافية بالدرجة الأولى15، وأن دراسة الإنسان البدائي من شأنها أن تكون سبيلا لدراسة الإنسان عامة16

وعندما عمدت الأنثروبولوجيا الأنجلوسكسونية، وبالضبط البريطانية، إلى دراسة مجتمعات حوض البحر الأبيض المتوسط وافريقيا بعد الحرب العالمية الثانية ركزت بشكل رئيسي على ظاهرة السلطة داخل هذه المجتمعات. ومرد ذلك إلى أن البريطانيين رغبوا في دراسة الأنظمة السياسية المحلية17بهدف المزيد من إحكام الطوق عليها وهكذا برز في ميدان الأنثروبولوجيا نموذج تحليلي جديد للمجتمعات “البرية” سيعرف لاحقا بالتحليل الانقسامي كتحليل طفق يمارس جاذبية وإغراء لا يستهان بهما في مجال العلم الأنجلوسكسوني والذي سيبلغ أوجه في التطبيق على يد ثلة هامة من الباحثين أقصد بذلك: غيلنر، وواتربوري، ورايمون جاموس تحديدا18،إلا أنه فيمحاولتنا هذه سنركز على الباحث غيلنر كنموذج لهذا التحليل. وفي هذا الصدد سنتساءل:

ماهي جذور النظرية الانقسامية؟ وما هي عناصر التحليل الانقسامي؟ ثم ما هي مرتكزاته المعرفية؟ وكيف تم تطبيق هذا النموذج التحليلي من قبل أبرز علماء الأنثروبولوجيا البريطانيين المعاصرين ونقصد بذلك غيلنر؟ واخيرا لا آخرا، ما هي إمكانيات وحدود تطبيق التحليل الانقسامي ؟

حاول الأستاذ الراحل بول باسكون (1923-1985) في إحدى دراساته البحث عن جذور مفهوم “انقسامية” أو “تقاسمية”؛ فخلص إلى القول بأن المفهوم مأخوذ من مصطلحات علم الحيوان أكثر مما هو مأخوذ من مجالي الفيزياء، والرياضيات. فالحيوانات المسماة انقسامية مكونة تكوينا معينا يمكن معه للحيوان الواحد أن ينقسم على نفسه قسمين مخرجا إلى الوجود كائنين قادرين على الحياة19.

ويعتبر إميل دوركايم (1858-1917) أول باحث وظف مفهوم “انقسامية” في ميدان علم الاجتماع معتمدا في ذلك على معطيات أثنوغرافية مختلفة كتلك الواردة في دراستي هانوتو ولوتورنو من جهة، وماسكري من جهة ثانية20، بحيث أعد نظرية البنية الاجتماعية القائمة على مفهوم التضامن وذلك في عمله: » في تقسيم العمل الاجتماعي«21.فقد بين بأن المجتمعات الإنسانية تنتقل بالتدريج خلال صيرورتها التاريخية، من أشكال التضامن الميكانيكي إلى أشكال التضامن العضوي، أي من أشكال التضامن الناهضة على أساس التشابه بين العناصر المكونة للمجتمع إلى نمط آخر من التضامن يفرض الاختلاف؛ والتكامل الناجمين عن تقسيم العمل الملازم للنمو الديموغرافي.

وهكذا فإن أشكال التضامن العضوي هي التي تسود أوروبا المعاصرة، في حين أن مجتمعات التضامن الميكانيكي هي مجتمعات العشائر؛ والتكتلات البسيطة المتميزة بانقساميتها22. يكتب دوركايم في هذا الصدد “نقول إن هذه المجتمعات انقسامية، لأنها مبنية على تكرار تكتلات تتشابه فيما بينها، مثل الحلقات المتتالية، ويمكن تسمية الكتلة عشيرة باعتبار أن هذه الصيغة تعبر عن طبيعة مزدوجة: عائلية وسياسية في آن واحد. والواقع أن هنالك قرابة دم تجمع بين جل أفراد العشيرة، الشيء الذي يخلق بينهم شعورا بروابط القرابة”23.

وبوسعنا تلخيص أهم سمات المجتمعات الانقسامية في النقاط التالية :

– محورية النسب وأسطوريته إذ يتم الاعتقاد في الجد المشترك المؤسس.

– ضعف تقسيم العمل الاجتماعي حسب فئات العمر وحسب الجنس أيضا.

– أهمية وأولوية نظام القرابة؛ والروابط العائلية، وروابط الدم لأن هذه العناصر متظافرة تشكل القوة الجاذبة نحو المركز، ويمكن أن نضيف إلى هذه العناصر عدم تفرد الملكية.

– لامركزية السلطة، بحيث ينجم عن هذه اللامركزية ما يسميه إيفانز بريتشرد “الفوضى المنظمة”. فالمجتمعات الانقسامية لا تتوفر على جهاز سياسي متخصص، كل ما يوجد هنالك هو شخص ينتمي لسلالات معينة قد يكون أجنبيا، فيقوم من ثمة، بدور الوساطة بين المتخاصمين ويعرف في قبائل “النوير” الافريقية بـــ “ذي فروة الفهد” ويعرف في القبائل المغربية بــ “أكرام” أو المرابط أو الولي أو الصالح.

– قوة الوعي الجمعي.

– أهمية العامل الديني كعامل للضبط الاجتماعي.

– شعار المجتمع الانقسامي يتمثل في المقولة التالية : “لنتجزأ كي لا يحكمنا أحد”24

على أن التوازن بين مختلف القسمات يحصل بفعل عمليتي الانصهار والانشطار. فالانشطار يتمثل في تعارض القسمات فيما بينها؛ والانصهار هو تكتل مجموع القسمات ، كلما تهددها خطر خارجي، في إطار لفوف وصفوف25تكون بمثابة قوى متساوية مما يضمن للنسق الاجتماعي استمراريته واستقراره26.

ويمكن تفسير ذلك من خلال هذا الجدول :

ويعني ذلك أنه حينما تتعارض ز1 مع ز2 لا تنضم القسمات الأخرى للصراع. ولكن حينما تتصدى ز1 ل ص 1 يتحالف ز1 مع ز2 ليشكلا تحالفا واحدا هو ص 2، كذلك عندما تتعارض ص 1 مع س 1 فإن ص 1 وص 2 تتحالفان داخل لف ب للحفاظ على التوازن27.

والحال أن الدراسة التي أنجزها دوركايم حول المجتمع القبائلي، وقوله بانقسامية هذا المجتمع، لم تلق أصداء في أوساط الباحثين؛ كما لم تحظ نمذجته بالاهتمام المستفيض سوى في ثلاثينيات القرن العشرين وتحديدا لما اكتشفت الأنثروبولوجية البريطانية دوركايم ومارسيل موصMauss (1950-1872)، وفي هذا الإطار كان إيفانز بريتشرد مساعد رادكليف براون (1881-1955) أول من عاين نماذج من المجتمعات الانقسامية وذلك في دراستين مهمتين:

أ‌-الدراسة الأولى: وهي الدراسة التي خص بها قبائل “النوير” NUER السودانية حيث حلل أنظمتهم الاجتماعية التي يطبعها التعقيد والتشابك.

فقبائل النوير قبائل تعيش متقوقعة على نفسها لأن كل قرية معزولة عن غيرها. وتشكل الأنساب ضمنها وحدات اقتصادية ثابتة تتعاطى لتربية المواشي؛ والزراعة، والصيد في آن معا. أما علاقات النوير مع جيرانهم فهي علاقات يطبعها العداء خصوصا مع “الدنكا”. فالأساطير تفرض على النوير غزو الدنكا باستمرار.وإذا كان الأمر كذلك على مستوى العيش؛ والتنظيم الاجتماعي عامة فإن التنظيم السياسي يتميز بكونه بنية متألفة من عناصر متداخلة فيما بينها. وتجدر الإشارة إلى أن القرية تشكل الوحدة الاقتصادية الثابتة ، في حين تمثل المقاطعة الوحدة السياسية القارة، والقبيلة تعتبر الوحدة السياسية الأكثر اتساعا.

وقد خلص بريتشرد من دراسته هاته إلى القول بأنه لا وجود لنظام سياسي واضح المعالم ومتعارف عليه لدى النوير ذلك لأن القسمات داخل القبيلة تنزع إلى التعارض باستمرار كما تنزع إلى التحالف فيما بينها كلما هددها خطر خارجي.

ومما تجدر الإشارة إليه أن المؤسسة التي تقوم بالحفاظ على التوازن بين القسمات هي مؤسسة ” ذو فروة الفهد” الذي يشرف على عمليات المصالحة والفصل في مختلف النزاعات التي تحصل بين العشائر والأشخاص28.

ب‌-الدراسة الثانية :وهي الدراسة التي أنجزها حول الحركة السنوسية بليبيا سنة 1949 وهي الحركة الصوفية التي امتدت فروعها عبر ربوع ليبيا من سنة 1837 إلى بداية الاجتياح الايطالي.

وبعد مرور حوالي عشر سنوات على تينك الدراستين لبريتشرد طرح من جديد موضوع المجتمعات العربية القبلية، مع الباحثين الأنجلوسكسونيين، من خلال الاعتماد على فرضيات، ومنطلقات النموذج الانقسامي. وهكذا بدأت منذ 1959 تتوالى دراسات كل من بارط، وبيترز، ومورفي، وماركس، وكاسدان الذين أكدوا على أن للقبائل العربية ذات الخصائص الأساسية التي تميز باقي المجتمعات ذات الطبيعة الانقسامية. فقد مكنت دراساتهم من تطوير وإغناء أسس وآفاق الانقسامية على المستويين النظري والميداني. ولعل من أبرز الباحثين الذي استلهموا النموذج الانقسامي؛ مثالا لا حصرا؛ الباحث إرنست غيلنر في كتابه الشهير صلحاء الأطلس29. ويمكن مقاربة الإشكالية العامة لهذا العمل في تساؤلين اثنين:

-ما هي الخصائص البنيوية للقبيلة المغربية؟ وموازاة مع هذا كيف تستطيع القبيلة المغربية المحافظة على أمنها وتوازنها في غياب سلطة مركزية قوية أي في غياب الدولة؟

يعتبر غيلنر، بدون شك أشهر من طبق في دراسته المشار إليها حول قبائل الأطلس الكبير المركزي؛ النظرية الانقسامية كنموذج منهجي مثالي30، على اعتبار أنه كان مقتنعا تمام الاقتناع بأن قبائل شمال إفريقيا قبائل انقسامية بامتياز. لذلك ظل يؤكد على أن المبادئ الانقسامية هي وحدها الكفيلة بل والملائمة لفهم الإواليات التي تحكم وتتحكم في تلك القبائل.

ينتقد غيلنر بشدة مساهمة البحث الفرنسي في دراسة الحياة السياسية للأمازيغ بسبب تجاهلهم للبنية القبلية الانقسامية. فالباحثون الفرنسيون لم يتمكنوا، في تقديره، من فهم الطريقة التي تنتظم بها قبائل الأمازيغ أمام غياب كل مؤسسة سياسية متخصصة31بسبب غياب سلطة مركزية داخل القبيلة فضلا عن ان السلطة السياسية تكون مشروطة بوضعيات معينة…32″

ومبررات ذلك أن الأمغارات ينتخبون في سياق نظام يحكمه العرف بالدرجة الأولى؛ ويحدث ذلك على الشكل التالي: مثلا إذا كانت هنالك ثلاث عشائر :أ-ب-ج ؛ففي السنة الأولى ينتمي الأمغار (الرئيس) إلي العشيرة أو ينتخب من قبل ب وج؛وفي السنة الثانية ينتمي إلى العشيرة ب ويتم انتخابه من طرف أعضاء أ وج. وتجدر الإشارة إلى أنه من غير المقبول إعادة انتخاب أمغار مرتين متتاليتين كما أن عملية الاقتراع لا بد وأن تتم في موضع محايد يخضع لنفود ولي صالح يدعي “أكرام”33.

ومما أثار انتباه غيلنر هو أن سلطة الامغارات المنتخبين سلطة هشة نظرا لأنهم لا يحوزون على وسائل مادية كفيلة بزجر العنف؛ ولا يتوفرون على شبكة من المصالح الإدارية أو الأمنية. إنهم يستندون فقط على الضغط المعنوي الذي يمارسه «الرأي العام» داخل القبيلة وعلى الاواليات العادية للمجتمعات الانقسامية التي يحركها غضب فرقة من زمرة إن هي تعرضت لإهانة ما34.

ويغلب على ظن غيلنر أن هذا النظام هو الذي ساعد قبائل الأطلس الكبير المركزي على تفادي السقوط في قبضة الاستبداد القاسي الذي هيمن بصورة عابرة على الجزء الغربي من الأطلس الكبير خلال القرن العشرين35؛مما جعلها تعيش أقصى درجات الهامشية بحيث تتمفصل مع السلطة المركزية لكنها مع ذلك تتخذ مسافة معينة منها. على أنه في إطار هذه الهامشية تستطيع القبائل ضمان استمراريتها والمحافظة وعلى توازناتها بفعل حضور أكرام أو الصالح.36فالمرابطون ؛حسب غيلنر ؛رغم كونهم يقطنون في المناطق المحايدة بين القبائل؛ فإنهم يضطلعون بأدوار من الأهمية بمكان داخل القبيلة مثل تنظيم المبادلات التجارية ومساعدة الزوار الذين يفدون على الأسواق المجاورة لهم وضمان أمن الحدود37؛ وتنظيم انتخابات من أجل اختيار الأمغارات؛ إلى جانب اضطلاعهم بدور فض النزاعات بين المتخاصمين … وتعود أسباب ذلك إلى كونهم شخصيات “محايدة ومسالمة” وفوق كل نزاع قبلي انقسامي؛ ولربما هذا هو ما أهلهم للقيام بأدوار تحكيمية بحسبان أنهم يتوفرون على وسائل الإقناع وعناصر الوساطة؛ خصوصا وأن رجال القبائل يعتقدون بان سلطة المرابط سلطة روحية هائلة تصدر عن الله وليس بوسع البشر رسم حدود لها.38

نقد النموذج الانقسامي:

تعترض غالبية الدراسات والأبحاث التي أنجزت من قبل الباحثين الفرنسيين والأنجلو سكسونيين حول المجتمع القروي المغربي “عوائق ابستمولوجية” كبرى تحول دون معرفة موضوعية دقيقة بالواقع الاجتماعي المغربي39؛ا ذ يظل الجزء الأكبر من المونوغرافيات حول القبائل وكذا حول المجموعات القروية مشبعا بنزعة أثنولوجية ذات رنين تاريخاني أورومركزي. ويمكننا أن ندرج في هذا الإطار النظرية الانقسامية التي يرتكز طرحها وحيثياتها على مقولة “الفوضى القبلية” .

وبناء على هذا نسجل المؤاخذات الآتية على المقاربة الإنقسامية:

أ‌- إسقاط النموذج:ونعني بذلك أن الانقسامية سقطت في فخ النموذج الذي كان دوركايم قد رسم معالمه فيما سبق واستكمل انجازه ايفا نز بريتشرد في إطار مجتمع نيلي40له خصوصيات تميزه عن المجتمع الإسلامي في منطقة برقة.إن بريتشرد اقتصر على نقل النموذج على النحو الذي استخلص من واقع قبائل النوير دون تعديل؛ وأضاف إليه عناصر من تاريخ الحركة السنوسية في علاقاتها مع الإدارة العثمانية ثم مع ايطاليا غداة غزوها لليبيا.

ومن المعروف أن هذا النموذج تم توظيفه من قبل الانقساميين لدراسة القبائل المغربية. من ثمة اتجه النظر إلى اعتبار البنيات الاجتماعية المغربية مماثلة إلى حد كبير للبنيات الاجتماعية التي درسها بريتشرد.

ب‌- إهمال البعد التاريخي والتراتب الاجتماعي:يضاف إلى ما سبق أن التناقض البارز الذي وقع فيه الانقساميون هو التناقض مع واقع القبائل التي قاموا بدراستها وهذا هو الذي أدى بهم إلى فصل القبائل عن سياقها التاريخي العام؛ والذهول عن صيرورة الأحداث المكونة لها إلى جانب القول بستاتيكية المجتمع المدروس41، والإعراض عن دراسة التراتبات الاجتماعية جراء القول بالمساواة بين الأفراد فيما يتعلق بالحقوق. على أن الأستاذ عبد الله حمودي؛ في دراسته النقدية لانقسامية غيلنر؛ بين كيف أن هذا الأخير لم يفطن لأمر وجود عائلات كبرى تحظى بالتقدير الكبير من لدن العطاويين وهم المعروفون بـــ “اختارن” مفرد “أختار” وتعني الكلمة الشيخ أو الكبير/كبير القوم . فـــ » إختارن« هم الذين يحتكرون الرئاسة نظرا لعراقة نسبهم وكرمهم.يقول حمودي في هذا الإطار : “يحدد النسب ظاهريا القسمات الاجتماعية باعتبارها مفهمة للمجموعات البشرية ولمستويات الانقسام التي تحتلها وكذلك لنقاط الانصهار والانشطار.غير أن هذه القسمات ليست متساوية. كذلك الأمر بالنسبة للأفراد إذ أن الأصل يستحضر في الوقت المناسب لإضفاء المشروعية التاريخية على التفاوت القائم”42.

ويضيف الأستاذ حمودي إلى ما سبق أيضا : “على سبيل المثال تستطيع بعض السلالات أو بعض الأسر أن تدلي بشجرة تشهد على انتسابها إلى جد القبيلة عبر سلسلة متصلة من الأجداد ؛في حين يتعذر ذلك على بعض الأسر الأخرى ولا تحظى ادعاءاتها النسبية باعتراف الجماعة ؛إذا كان النسب يمد بمفهمة للانقسام ؛فانه يقيم كذلك أساسا للتراتب، وللنفوذ مع كل ما ينتج عن ذلك من نتائج عملية على المستوى السياسي بوجه خاص”43.

ج- إهمال أشكال الملكية: وفضلا عن ذلك إن ما يبعث على الاستغراب والدهشة لدى الباحثين ذوي المنحى الانقسامي إهمالهم لمسألة تحليل أشكال الملكية داخل المجتمعات القبلية؛ وذهولهم الشديد عن البت في تأثير الإسلام على نظام الملكية. إن النموذج الانقسامي عجز عن تحديد أنواع التناقض بين أشكال الملكية؛ ونماذج الانقسام كما عجز عن إعطاء الحلول الجزئية التي يلجأ إليها السكان من أجل الدفاع عن أراضيهم ناهيك عن البحث في أنواع النفاوت الاجتماعي الذي يبدو على مستوى توزيع السلطة44

د- نقد نظرية الجد المشترك: حينما ركزت النظرية الانقسامية على مسألة الجد المشترك الذي تنحدر منه القبيلة فإنها بذلك جانبت الصواب كثيرا. فالواقع يثبت بما لا يدع مجالا للارتياب، أن الجد المشترك المزعوم قد لا يكون جدا فعليا. ولتوضيح ذلك يرى الأستاذ حمودي بأنه بسبب الصراعات القبلية المستمرة يحدث أن تستولي قبيلة ما على أدوار أو على قبيلة أخرى فيتم إدماج المجموعات المغلوبة ضمن المجموعات الغالبة؛ ومنح أعضائها حق اللجوء، والضيافة وفي نهاية المطاف إعطاء أسماء جديدة للمناطق التي تم إخضاعها، ومثال ذلك أن قبيلة آيت عطا كانت قد استولت منذ الأيام الأولى للحماية على عدد كبير من واحات درعة فضمت إليها الأشجار، والأراضي، والمياه، وأقامت فيها مستوطنات. وحول هذا كتب الأستاذ حمودي: “إننا هنا بكل تأكيد أمام ظاهرة شائعة جدا تتمثل في تبني العناصر المغزوة ودمجها من طرف الغزاة45. ويردف حمودي قائلا: “بهذا الأسلوب يبرر الغزاة شرعية وجودهم واستحواذهم على أراضي القرية، كما يحاولون إعطاء صورة متجانسة بالنسبة للخارج عن المجموعة التي يشكلونها مع “مستقبليهم”46.

إن استخدام مقولة الجد المشترك يمكن فهمها انطلاقا من وظيفتها الهادفة إلى تحديد هوية المجموعة؛ والرامية إلى المساعدة على التمييز داخل المجموعة نفسها بين الأسلاف الفعليين وما عداهم أي بين الغزاة والخاضعين لهم، ولهذا السبب وحده لا يتم انتخاب رئيس القرية سوى من ذرية الجد47.

هـ- المرابطون وطوبى التحكيم:

يتبين مما سبق أن غلينر يعطي أهمية قصوى للمؤسسة المرابطية في الحفاظ على توازن القبيلة؛ وضمان السير العادي للانتخابات، وفض النزاعات المختلفة التي تحصل بين الفينة والأخرى. فقد اعتبر غيلنر أن الصلحاء يشكلون أسرا مبجلة مجردة من السلاح؛ ويتصفون بأقصى ما يمكن من الحياد والمسالمة باعتبار وظيفة التحكيم التي ينهضون بها والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تعتبر فئة الصلحاء فعلا فئة مسالمة كما ذهب إلى ذلك غيلنر؟

تفيد بعض الدراسات التي أنجزت في حقل التاريخ الاجتماعي المغربي أن الصلحاء كانوا رجال حرب من الدرجة الأولى؛ فقد كانوا يكلفون بمهام إخماد الفتن؛ وشد أزر السلطان عبر التعاون وممثلي المخزن المحليين لإخضاع السكان إما، بالترهيب وإما بالترغيب، فالولي طالما أنه ينتمي لمنطقة نفوذه، يكون على دراية تامة بأحوال أهلها؛ وأعيانها، وعلى علم أيضا بتحركاتهم… وهذا ما يجعله مؤهلا ليكون صلة وصل بين القبائل والحكم المخزني، ويمكن ان نورد في هذا المضمار أمثلة على هؤلاء المرابطين/ الأعوان الذين كانوا يضطلعون بأدوار تيسر مهمة السلاطين وخلفائهم:

– نموذج الحسين أهاشم في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمان.

– شيخ الزاوية الوزانية.

– شيخ الزاوية الشرقاوية48.

و في السياق نفسه ذكر الأستاذ عبد الله حمودي بأن صلحاء زاوية أحنصال التي درسها غيلنر كانوا يتميزون بقدرة هائلة على إخماد الفتن بالقتال الضاري الشيء الذي يجرنا إلى القول بأن “الأكرام” زعيم عسكري يقود جموعه التي يرتكب بها أحيانا مجازر وحشية في حق معارضين الأمرالذي يضحى معه خطرا على السلطان نفسه كما حدث مع الولي سيدي يوسف أحنصال. وهو ما يقذف بنا إبى القول بأن مسالمة الصلحاء، وأدوارهم التحكيمية بين القسمات المتنازعة؛ كما لاحظ غيلنر، تظل في تقديرنا في غاية النسبية.

إحالات مرجعية وهوامش

[1] – Houroro (F.M.) : 1988, « Sociologie politique coloniale au Maroc, cas de Michaux-Bellaire » Afrique Orient, pp. 9 -10.

2 – Burke III ( E) : 1979, « La Mission scientifique au Maroc, sciences sociales et politiques dans l’âge de l’impérialisme », IN : Actes de Durham, recherches récentes sur le Maroc moderne, pub.du B.E.S.M. documents. p :39 أنظر أيضا: عياش (جرمان) 1986، دراسات في تاريخ المغرب. الرباط ص11-13

3 – De Foucauld (V.Ch) :1985, Reconnaissance au Maroc (1883-1884) Paris.Editions d’aujourd’hui.

4 – Moulieras (A) : 1902, Le Maroc inconnu, étude géographique et sociologique, 2 Volumes, Paris, Challamel.

__ Doutté (E) :1914, en tribu, Paris, Geuthner. __Douté (E) : 1905, Marrakech, Paris.

5- Harris (W) : 1929, Le Maroc disparu, Paris, Librairie Plon.

6 – Michaux-Bellaire(E) : 1925, La mission scientifique du Maroc, conférence faite au cours des affaires indigènes, Cours des affaires indigènes, pp.3-22.

7 -Ibid.p.6.

8 – Erckmann (J) :1885؛le Maroc moderne ؛Paris Challamel pp 244-245-246 et Sq.

9 -Michaux-Bellaire(E) :1909 « L’organisme marocain » R.M.M.N°9.PP.1-2.

10 – يسمى بعض الباحثين هذه الثنائية ب :La Vulgate marocaineانظر في هذا الصدد:

D . Seddon :sa préface à l’édition anglaise de :R Montagne : « The Berbers.their social and political Organisation ».IN Regards sur le Maroc .actualité de R : Montagne . préface de J.Chirac. Paris.pub du C.H.E.A.M.1986.P.110

1[1] – Bouasla (E) –Bentahar (M) : 1988, « La sociologie coloniale et la société marocaine 1830-1960 », IN : La sociologie marocaine contemporaine, bilan et perspectives, Rabat, Pub. De la faculté des lettres et des sciences humaines, serie colloques et séminaires, N°11 p.35.

[1]2 – Pascon (Paul) : 1986, Mythes et croyances au Maroc, IN 30 ans de sociologie du Maroc. B.E.S.M.N° double :155-156. Pp : 73-74.

[1]3 – Hardy (G) : 1926, L’âme marocaine d’après la littérature française, Paris.pp.20-67.

14- التوزاني (نعيمة هراج): 1979، الأمناء بالمغرب في عهد السلطان مولاي الحسن 1873-1894 موافق 1290-1311 ه الرباط. منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية. سلسلة أطروحات ورسائل، مطبعة فضالة- المحمدية. أنظر مقدمة جرمان عياش ص ص 5-11.

و أيضا : عياش (جرمان): دراسات في تاريخ المغرب، مرجع مذكور: ص ص 47 – 50. حيث لا يقتنع جرمان عياش بأطروحات ووثائق السوسيولوجيا الكولونيالية إذ يعتبرها ضحلة وناقصة من الناحية المعرفية، من تم وجه تلامذته الباحثين إلى ضرورة التنقيب عن الوثائق الوطنية والمحلية لإعادة كتابة التاريخ الوطني ولسد ثغرات العلم الكولونيالي.

[1]5 – Pitt- Rivers (J)- Kayser (B) : 1986, « Anthropologie méditerranéene », IN : Benard Kayser : Les sociétés rurales de la Méditerranée, Aix-en-Provence, Edisud.pp.5 et 6.

16 – حرب (علي): 1983، الهوية الثقافية: السياسية من منظور أنثروبولوجي، تقديم لــ “أثريات العنف” لكلاستر. مجلة الفكر العربي، عدد مزدوج : 33 – 34، السنة، الخامسة، آب/ غشت 1983. ملف: المجتمع والسلطة : دراسات في أنتروبولوجيا السياسة والاجتماع، الجزء 1 . ص 76.

[1]7 – Middelton (J)- Tait (D) : 1958 ; Tribes without Rulers , Studies in African Segmentary Systems ; London ; Mair (L) M 1962, Primitive government.

[1]8 – Voir : Gellner (F) : 1969, Saints of the Atlas, London. Weidenfeld and Nicolson ; Jmous (R) : 1981, Honneur et baraka, les structures sociales traditionnelles dans le Rif, Maison des sciences de l’homme et Cambridge University Press ; واتربوري (جون) :1982، الملكية والنخبة السياسية في المغرب، ترجمة ماجد نعمة، عبود عطية، بيروت، دار الوحدة.

[1]9- Pascon (P) : 1979, « Segmentation et stratification dans la société rurale marocaine ». IN : Burke III op.cit.pp. 107-108.

20 – Masqueray (E) : 1886, Formation des cités chez les populations sédentaires de l’Algérie, Paris ; Leroux ; Hanoteau (A) et Letouneux (A) : 1893, la Kabylie et les coutumes Kabyles. Paris Challamel.

21 – Durkheim (E) : 1996, De la divison du travail social, Paris, PUF.

22-Op.Cit.pp.98-102.

23-Op.Cit.p150.

24 -Sadki (A) : « Sur la théorie de la segmentarité appliquée au Maroc », Hésperis XXIII, Fascicule unique.p.107.

25 – تسمى في جنوب المغرب خصوصا في الأطلس الصغير الغربي: تحكات وتكزولت.

26-Berdouzi (M) : 1986, « Robert Montagne et les structures politiques du Maroc pré-colonial ».IN : Regard sur le Maroc.op.cit.p.138.

27 – Khatibi (A) : 1983, Maghreb pluriel, Paris. S.M.E.R et Denoel, pp.98-99.

28 -Evans-Pritchard (E) :1968, les Nuer, traduction française, par Louis Evard, Paris, Gallimard.

29- Gellner (E) : 1969, op.cit.

30 -C.f ; Gellner (E) : « Comment devnir marabout », B.E.S.M N° double 128-129.

31- Sadki(A) : Op.cit.p.105.

32 – 106:p.Ibidولو أن غيلنر انتقد الفرنسيين، فإن مع ذلك اعتمد على مفهوم “الديمقراطية” في هذه القبائل كما بلور ذلك هانوطو ولوتورنو وصاغه مونتاني، أنظر في هذا الصدد :

a- Montagne (R) : 1953, Révolution au Maroc, Paris, ed. France-Empire, p.46 et Sq.

b- Montagne (R) : 1986, « La vie sociale et politique des bérbères », IN : Regards sur le Maroc.

Op.Cit.p.53 et Sq.

33 – بنسالم (ليليا) 1988، “التحليل الانقسامي لمجتمعات المغرب الكبير، حصيلة وتقييم”، موجود في: الأنثروبولوجيا والتاريخ، حالة المغرب العربي، ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، الدار البيضاء، دار توبقال، ص 21.

34 – غيلنر (إرنست): 1988، “السلطة السياسية والوظيفة الدينية في البوادي المغربية”، موجود في : الأنثروبولوجيا والتاريخ. م.س، ص ص 48-49.

35- المرجع نفسه، ص 49.

36- Morsy (M) : 1985, « Réflexion sur le système politique marocain dans la longue durée historique ». In : L’espace de l’Etat au Maroc et dans le tiers monde, Rabat, Edino, p.93.

37- Skelly Ponasik (D) : « Les fonctions modernes du souk marocain » B.E.S.M, N° double : 128-129.p.155.

38- حمودي (عباد الله ): 1988، “الانقسامية والتراتب الاجتماعي والسلطة السياسية والقداسة، ملاحظات حول أطروحة غيلنر”: موجود في ليليا بنسالم. م.س، ص 64.

39 – بنسعيد العلوي (سعيد) 1994، “صورة المغرب في الاستشراق المعاصر”، مجلة الاجتهاد، العدد 25، السنة السادسة، ص ص 121 – 122.

40 – نسبة لنهر النيل.

40- واتربوري (جون) : 1982، الملكية والنخبة السياسية في المغرب، مرجع سابق.

42 – حمودي (عبد الله) : 1988، مرجع سابق، ص 69.

43-المرجع نفسه، ص 69.

44 – Bensalem (L) : 1982, « Interêt des analyses en termes de segmentarité pour L’étude des sociétés du Maghreb », R.O.M.M. N°33. P. 130.

45- حمودي: م.س، ص 66.

46-المرجع نفسه والصفحة ذاتها.

47- المرجع نفسه، ص 67.

48-المحمدي (علي): 1989، السلطة والمجتمع في المغرب، نموذج آيت باعمران، الدار البيضاء، دار توبقال، ص 95-100.

حقوق المؤلف محفوظة “للمركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية”

الكاتب: ناصر السوسي

المصدر

الاتحاد المغاربي والرؤوس والكسكوس

د. محمد بدي ابنو

“المقياس الأكثر وضوحا هو إعادة فتْح خدمات الطرق والسكك الحديدية بين الجزائر والمغرب، و هي المهمة التي لا تتطلب من العمل إلا بضعة أسابيع “. غاري كلايدهوف باورا و كلير برونيل  في دراستهما : “الإقليم المغاربي و الاندماج الاقتصادي العالمي”

ـ1ـ

يحبُّ صديقنا “بول بالتا” أن يروي أنه في بداية عمله كصحفي في دول المغرب سأل أحد أصدقائه عن الصفات المشتركة لشعوب هذه البلدان. فكانت الإجابة أن ما يجمعهم هو “حكّ الرؤوس ولبس البرنس وأكل الكسكوس″.

قد يكون فعلا حكّ الرؤوس وأكل الكسكوس يعبران بشكل خاص، واقعا ومجازا، عن نمطٍ من السلوك السياسي الذي حكمَ وربما ما يزال يحكم مستوى معتبرا من العلاقات التي تربط الأنظمة الحاكمة في دول المغرب. صحيح أنّ التّجانس المذهبيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ والاستمرار الجغرافيّ يمثّل ميزة يُفتَرض أنّها تمنح دول المغرب فرصا أكثر في التّكامل. وصحيح أنّ طموحات بعض هذه الدّول في إيجاد موقعِ قدمٍ جدّي في فضاءات أخرى موازية قد فشلتْ بنسبة كبيرة خصوصا منذ بداية تراجع الحرب الباردة. ولكن صحيح أيضا أنّ الـ27 سنة التي مضتْ من عمر الاتحاد قد أظهرتْ أن المشترك السياسي لم يتجاوز كثيرا مستوى الإجابة المسجوعة.

ـ2ـ

تُجمِع المعطيات المنشورة على أنّ نسبة التّبادل التجاريّ البيني في فضاء دول المغرب الخمس أقلّ من ثلاثة بالمئة من مجموع تبادلاتها التّجارية الخارجية. بينما يصل التّبادل التّجاريّ البينيّ مثلا في فضاء الاتّحاد الأوروبيّ نسبة 67 بالمئة من مجموع التّبادلات التّجاريّة الخارجيّة لدول الاتّحاد. تُظهر هذه النّسبة الإشكاليّة الأساسيّة الّتي عانتها مؤسّسات الاتّحاد المغاربيّ منذ إنشائها رسميّا في 17 فبراير 1989. لقد كانت الفكرة حينها هي أنّ الخلافات بين الدّول المغاربيّة هي أساسا سياسيّة موروثة عن استقطابات الحرب الباردة. وأنّ مناخ ما بعد هذه الحرب سيدفع شيئا فشيئا إلى تراجع الخلافات السّياسيّة. وأنّ تهيئة تراجع هذه المشكلات بين الأنظمة هو فصلها عن المصالح اليوميّة لمواطني الدّول الخمسة عن طريق تكامل اقتصاديّ تدريجيّ والسّماح بالتنقل الحرّ للأفراد والبضائع والخدمات والرساميل. وأنّ هذا التكامل التدريجي سيمثّل أرضيّة تُحَجِّم شيئا فشيئا نقاط الخلاف السّياسيّ وتدفع الرّأي العامّ إلى تجاوزها. وبداهة كان مناخ تشكّل عشرات التكتلات الاقليمية في أواخر الثمانيات عاملا محفزا. كما أنّ انتهاء الحرب الباردة قد أشعرَ الأنظمة المغاربيّة حينها أنّ المنظومات الأمنيّة الدّوليّة الّتي كانت “سندها” هي إمّا قيد الاندثار أو قيد إعادة التّشكّل حسب الدّول. إلى ذلك كان التّكامل الأوروبّيّ (حينها المجموعة الاقتصادية الأوروبّيّة) هو النّموذج الحاضر في الإنشائيات التسويقية. ما كان يُستنفرُ هنا في هذا المثال هو طبعا كون الدّول الأوروبّيّة، الّتي عرفتْ ليس فقط خراب الحرب الكونية الثانية (ما يناهز 50 مليون قتيل) ولكن سلسلة من الحروب الطّويلة والنّزاعات الوطنية، نجحتْ “أخيرا” عبر البوّابة الاقتصاديّة ( تجارة الفحم والصّلب) في تحييد الخلافات السّياسيّة تدريجيّا. نجحتْ إلى درجة أن ألمانيا وفرنسا تخطتا الخلاف حول انتماء الأَلْزَاس وَاللُّورِين رغم سلسلة الحروب الإبادية الّتي خاضتاها بسببهما.

ـ3ـ

ركزتْ الدراسات والتقارير المتعلقة بهذه النقطة على امكانية تكامل اقتصادي يسمح بزيادة الإنتاج الكلي للدول الخمس بالنصف خلال سنتين. وتلاحظ تقارير البنك العالمي أن التبادلات التجارية تتم أساسا بين دول المغرب وأوربا لأسباب تتعلق بانعكاسات ظروف تاريخية من جهة وطبيعة السلع المتبادلة من جهة اخرى. ولكن أيضا يضيف التقرير بسبب الجهود التي تقوم بها دول الاتحاد المغاربي بصفة فردية معزولة عن بقية الدول الأخرى بينما يظل شريك كل منها الاتحاد الأوربي مجتمعا. وهو ما يعني من جهة أن هذه الدول لا تقوم بجهود موازية لرفع مستوى تبادلها البيني البالغ الانخفاض. ومن جهة ثانية أن تعاملها فرادى مع الاتحاد الأوربي، وأيضا مع الولايات المتحدة ومع الصين، يحْرمها من مزايا موقع القوة النسبي التفاوضي الذي يُفترض أن التنسيق الاتحادي أو الجماعي يسمح به. ويصدق ذلك خصوصا بالنظر إلى امكانية تكامل المصادر البشرية و الطبيعية المغاربية (تقرير البنك العالمي عن الاتحاد المغاربي 2010) واستثمار الموقع الجيوستراتيجي متوسطيا وأطلسيا وإفريقيا والتقاطعات المرتبطة به (التقرير المشترك لمؤسسات الاتحاد الأوربي عن الاندماج الجهوي المغاربي 2012). وتكررّ جلّ الدراسات أنه بالرغم من وجود مصادر استثنائية استراتيجية في دول المغرب إلا أن استغلالها مازال جدّ ضعيفٍ لأسباب سياسية. فتلاحظ مثلا على صعيد مصادر النفط والغاز غيابَ العمل على توسيع شبكة الأنابيب التي قد تكفي إنْ تمّ تطويرها لتغطية الحاجيات الأساسية المحلية الطاقية قبل 2020 (مثلا دراسة غاري كلايدهوف باورا وكلير برونيل، الاقليمي المغاربي و الاندماج الاقتصادي العالمي : حلم لكي يُحقق،  دورية التحليلات السياسية والاقتصاد الدولي 2008). كما تلاحظ نفس الدراسة الأخيرة أن البنوك المغاربية تحتوي كميات كبيرة من السيولة الغير المستخدمة والتي لا تتمتع بأدوات مالية تكاملية عبر سوق مشتركة. وطبعا هنالك ملاحظات مشابهة حول شبكة الطرق والتكامل في الأمن الغذائي.

ـ4ـ

يبدو أن اشكالية العجز الشرعوي للأنظمة والاستقطاب الجيوستراتيجي واختلاف الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والبنْينة القطرية للنخب، مع ارتباطها بمناخ الحرب الباردة الذي يفترض أنه تمّ تجاوزه، مازالت قائمة بنسب معينة. وبالرغم من التحسن النسبي في التداول السياسي مثلا في المغرب والجزائر خلال العقد ونصف العقد الأخيرين (الانتقال التعددي في المغرب و خروج الجزائر من العشرية الدموية) و بالرغم من وجود نقاش حيوي حول قضايا كثيرة لدى النخب السياسية والثقافية في البلدين إلا أنّ نظاميهما نجحا في نقل حزازاتهما الموروثة أساسا عن استقطابات الحرب الباردة إلى النخب والإجماع السياسي بينها (أنوي أن أعود بشكل خاصّ إلى موضوع الصحراء في حديث قادم). فيمكن أن يقال دون كبير مبالغة إن المجتمع السياسي في الجزائر يختلف تقريبا على كل المواضيع المناقشة لديه باستثناء موضوع الحزازات مع المملكة كما يمكن أن يقال نفس الشيء عن المجتمع السياسي في المغرب تجاه الحزازات مع الجزائر. وشرائح واسعة من نخبهما منكفئة على اجترار الاصطدامات البينية المرحلية واستثمارها ومحاولة تأبيدها وأسْطرتها. وطبعا لا يتعلق الأمر فقط بالجانب الدعائي المحلي ولكنه يتعلق في مستوى معتبر بالسلوك السياسي الداخلي والخارجي. وحتى المجموعات التي كانت تقف مثلا في السبعينات والثمانينات خارج هذا الاجماع قد أُدمجتْ أو اندمجتْ فيه شيئا فشيئا. فقد شهدتْ الساحتان عملية إعادة تمركز إيديولوجي أصبحتْ معها شرعية التموقع الداخلي مرتبطة بالقدرة على رفع الحزازات الصغيرة مع الجار المشيطن إلى مستوى “الثوابت”.

وكما رأينا في أحاديث سابقة فإن الدراسات المتوفرة حاليا تُظهر أن الجزائر والمغرب تقفان الآن أمام فرص استراتيجية معتبرة على الصعيد الاقليمي. ولكن نفس الدراسات تلحّ على أن ما يحجِّم قدرة البلدين بهذا الخصوص هو أنهما يستنفدان داخليا وخارجيا جزءا كبيرا من طاقتهما في حزازاتهما البينية. *  مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

النهر والرمل والبحر

 د. محمد بدي أبنو

جزيرة سان لوي، جسر الجنرال لوي فيديرب، 17 نوفمبر 2016

-1-

تتهادى هذه الجزر الأرخبيلية بشكل طريفٍ بين الماء والماء. تلامسُ بقبضةٍ واحدةٍ مصبّ النهر (السنغال) وساحل المحيط (الأطلسي).

كلُّ من مرّوا هنا جذبتْهم أو صدّتْهم هذه الثلاثية التزاحمية : النهر والرمل والبحر. فمجْمع البحرين الذهبي والأزرق هو أيضا ملتقى الرمل والباؤوباب.

عَـبْرَ الرملِ والنهر جاء السكّانُ الأوائل، من الضفافِ والصحراء، على ظهور الجمال وفي أحضان القوارب والزوارق العتيقة. وعبْرَ البحر أو، بعبارة أدقّ، عبْرَ المحيطِ تَنافَسَ لاحقاً القادمون مع التجارة الثلاثية من البلدان الأوربية الصاعدة. تسابقتْ السفنُ العسكرية والبواخر التجارية. وتصارع البرتغاليون والهولنديون، ثم الفرنسيون والانجليز.

-2-

في “البدء” سكنَ القادمون من الضفاف والصحراء مع الصيادين في “غتّ اندرّ” (توجد روايات ومرويات متضاربة بشأن أصل هذه التسمية) وسَطَ الشريط الرملي الرقيق الذي يحاذي غرْباً ـ دون أن يلمسَ ـ جزيرة سان لوي. يقال غالباً، رغمَ تردّد بعض الؤرخين، إنّ بحّارةً نورمانديين همْ من أطلقَ عليها هذه التسمية سنة 1659 باسم الملك الفرنسي لويس الأكبر (لويس الرابع عشر)، استحضاراً لذكرى جدّه لويس التاسع، المعروف بـسان لوي (القدّيس لويس) التي هي طبعاً لقبُه التعميدي البَعْدِي.

فمنذ مَـقْدمهم اختارَ الأوربيون هذه الجزيرة الوسطى، فهي محصّنة نسبياً بسلاح الطبيعة. تالياً أصبحَ اسمُ “سان لوي” يُطلق على أكثر من ذلك. فهو يشملُ غرباً حي “غت اندر” وامتدادَه شمالا أي حييْ “اندر توت” و”غوخومباث” (بعض الناطقين بالعربية الذين يُمَثّلون ربّما أغلبَ سكان هذا الحي الأخير يلفظون اسمه تقريباً : “بوخمباي”). كما يشمَلُ شرْقاً جزيرة سور، بلْ وضواحي أخرى.

-3-

تمييزاً لها عن يقية المدينة، تُسمى هذه الجزيرة سان لوي البيضاء نسبةً إلى لون بيوتها الاستعمارية و، بداهةً، إلى سكّانها الأوربيين. معظمُهم هجَرها منذ عقودٍ. ولكنَّها ظلّتْ على صلةٍ موسمية ما بهم. تُحاولُ بصعوبةٍ أنْ تستثمرَ حنينَهم وتساؤلات أبنائهم وأحفادهم. فالعابرون مع ناي الشّجن همْ غالباً من سوّاح كبار السنّ، الباحثين في هذه الأرصفة الهرِمة عن كلمات السرّ في ذاكراتٍ معْتمة. أمّا من معهم من الشبّان والشابّات فكانّهم قدْ خَرَجوا للتو من بعْض روايات بلزاك وزولا ولوتي.

-4-

يفصلُ الذراعُ الغربي للنهر بين الشريط الرملي وجزيرة سان لوي. ويربطُهُما اليومَ جسران. أحدهما (التدشين الأول: 1856) من جهة حي “غت اندر” والثاني من جهة الحي المجاور له شمالا “اندر توت” (التدشين الأول: 1864). كلاهما تمّ تدشينهما في البداية تحتَ إشراف الجنرال فيديرب خلال العشرية التي حكم فيها السنغال. فقدْ عادَ إلى فرنسا للعب أدوارٍ أخرى قابلة هي أيضاً للنقاش سنة 1865 في نفس السنة التي سيتمّ فيها تدشين الجسر الرئيس باسمه (يربط الجزيرةَ شرْقا بحي تندوغين، أحد أحياء جزيرة سور).

أين جسر الأمير محمد الحبيب ؟ الجسران الغربيان يحملان الآن رسمياً اسميْ عمدتين سابقين للمدينة. وليس في قائمة ألقابهما القديمة اسمٌ للأمير. فقط تتمُّ الإشارة ،عند الحديث عن تأسيس جسر “ليبر” (1855) الذي يربط شرْقاً جزيرةَ “سور” بالقارة، عن تعرّضه سنة تأسيسه لهجوم قادَهُ الأمير محمد الحبيب. كيف اختفى الاسم ؟ لمْ أجد بعْدُ منْ يفسِّر لي هذا اللغز.

-5-

ينتصبُ الشريط الرملي الرقيق، في ظاهرة نادرة وغريبة، كالجدار العازل بين المحيطِ والنهر. يفصلهما ليظلاّ في توازٍ مدْهشٍ على امتدادِ مسافةٍ تزيدُ على العشرين كيلومتراً جنوبَ ّغتّ اندرّ”.

هنالك فقط يُودّعُ وينطفئ في المائين هذا الشريطُ الرملي الذي يسمّيه الأوربيون حرْفياً بـ”لسان البربرية”.

إنّه الوداعُ الذي يَندمجُ من خلاله أخيراً الساحلُ والضفة ويَتعانق الموجُ تحت أناشيد أنواع الطيور: أبناء الماء (مالك الحزين)، البجع البحري، طائر الغاق، البلشون الأبيض، إلخ.

-6-

قدْ يكون في ذلك ما يُفسّر بعضاً من خلاف المؤرخين على مكان رباط المرابطين : هلْ هو مثلاً جزيرةُ تدرة قبالة حوض آرغين أم هو جزيرة سان لوي المجاورة شرقاً لـ”غت اندر” أي للسان البربرية. يتحدث ابن خلدون عن جزيرة الرباط : “يحيطُ بها النيل، ضَحْضَاحًا في الصيف، يُخاض بالأقدام، وغمرًا في الشتاء يُعْبَر بالزوارق” (تاريخ العبر). وكما هو معروفٌ فالنيل في التعبير الخلدوني وفي تعبيرِ كثيرٍ من المؤرخين المسلمين القدماء يَعْني في مثْلِ هذا السياق نهْرَ السنغال.

ولعلّ من الطريف هنا أنْ نشيرَ إلى ما كتَبَه فيديرب (الحاكم الفرنسي الأشهر لـسان لوي) في عمله عمّا سمّاه بـصنهاجية القبائل الصنهاجية في ضفة السنغال (مع عنوانِ فرعي : “مساهمة في دراسة اللغة البربرية”) الذي أصدرَه في آخر حياته (1877) : “في القرن الخامس الهجري (والحادي عشر في تقويمنا) فإنّ صنهاجة، في ضفاف السنغال (النهر الذي سمّيناه باسمهم والذي اختلطَ على الكتّاب العرب مع نهر النيجر، تحت اسم نيل السودان) لعبوا دوْرًا كبيراً في العالم”.

-7-

واستطراداً، فالتعريف الجغرافي الموسّع للسان البربرية، في بعض النصوص على الأقلّ، لا يقفُ عند هذا الشريط السانلويزي بلْ يضمّ كلَّ “الزبارة” : يَستمرُّ شمالاً في معانقة ساحلِ الأطلسي ليمرّ بحوضَ آرقين ويواصل حثيثاً حتى يلفّ شاطئ شبه جزيرة نواذيبو في أقصى الشمال الغربي الموريتاني.

هذا المَقامُ المائيُ الاستثنائي جعلَ هواةَ الألقاب يُطلقون على مدينة سان لوي لقبَ بندقية إفريقيا. قد تكون مقارنةُ مُدن الثراء الفاحش بمُدن الفقر المدْقع غيرَ واردة أو وغيرَ وَجيهة. ولكنَّ الشاعر بيراغو ديوب يزيد التساؤل في قصيدته “سان لوي” (1925):

“قربَ المحيط الذي يمنعك من أن تعيشي

موجة الصحراء تدور في الأفق”

“من نومك العميق ليسَ لشدوٍ أيًّا يكن أنْ يخلّصكَ”.

“تريد أن تسمعَ صوتَك الذي سكتَ

وتمتمةَ لياليك التي انقضتْ

حيث تهيج أفكارٌتجاه القادم”

(بيراغو ديوب، ديوان “إغراءات وومضات”)

فوزي غليد ينعش دورة تدريبية لصالح مركز مبدأ

 

احتضنت مباني المركز على مدى اليومين السابقين دورة تكوينية منظمة بالتعاون مع معهد الفضاء المدني و الذي يرأسه الدكتور فوزي غليد .

الدورة و التي استفادت منها حوالي 20 منظمة من المجتمع المدني تأتي في إطار التعاون بين المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية (مبدأ) و معهد الفضاء المدني بالولايات المتحدة الامريكية .

و استمرت الدورة التي نظم حول فن إدارة هياكل المجتمع المدني لمدة يومين و شملت العديد من الأنشطة الجماعية و التطبيقية التي قام بها المشاركون حو آليات إدارة هيئات الجتمع المدني و مدى القدرة على الاستفادة من هذه المؤسسات كواجهة خيرية و استثمارية .

المدرب في اطار عرضه عرج على الجوانب المتعلقة بالمشروع خاصة في بعد القانون الموريتاني و مطابقته مع القوانين الأخرى في العالم .

اختتام دورة التنمية البشرية التي نظمها مركز مبدأ

اختتم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ) دورة تكوينية في التنمية البشرية حول برنامج خطوات النجاح .

الدورة أنعشها المدرب محمد الأمين و لد الفاضل و قد استمرت ليومين ، قام خلالهما المشاركون بعديد الأنشطة التدريبية و الاختبارات التي أطرها الأستاذ ولد الفاضل .
و تعد هذه الدورة ضمن سلسلة من الدورات التدريبية ينظمها المركز حيث نظم في الشهر الحالي ستة دورات في مجالات مختلفة شملت الاحصاء و التنمية البشرية و غيرها من المجالات المتعلقة بالبحث و بناء القدرات للشباب الموريتاني و خريجي الجامعات بالبلاد .
و ينظم المركز ابتداء من بداية الشهر الخامس سلسلة من الدورات ستكونها أولاها في الثاني من الشهر من إنعاش الأستاذ فوزي غليد من الولايات المتحدة الأمريكية ثم دورات أخرى في مجالات الإرشاد الاجتماعي و الحكامة السياسية في نفس الشهر .