19 سبتمبر، 2025، والساعة الآن 4:30 صباحًا بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 12

انعكاسات التّحول الدّيمقراطي في الجزائر

وليد دوزي

المقالات و البحوث الواردة تعبر عن رأي اصحابها و لا تعكس آراء و توجهات المركز

مقدمة:شكلت أحداث أكتوبر 1988 ، بالإضافة إلى وقف المسار الانتخابي في ينايــر 1992 على إثـر النجاح المذهل الذي حققته “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في الانتخابــات المحلية في جوان 1990 والتشريعية 1991، شكلتا بداية اللاّ إستقرار السياسي الذي عاشته الجزائر طيلة فترة التسعينات على المستويين الداخلي و الخارجي. وهـذا ما نسعى إيـضاحه من خلال طرح الإشكالية التالية: ما هي انعكاسات التحول الديمقراطي في الجزائر؟وكإجابة أولية على هذه الاشكالية، صيغت الفرضية على النحو الآتي:- خلف التحول الديمقراطي في الجزائر انعكاسات محلية سياسية واقتصادية، وأخرى دولية. I. الانعكاسات المحلية:عقب أحداث أكتوبر 1988، اعتمدت السلطة الحاكمة في الجزائر وبمشاركة المعارضة السياسية خطوات نحو التحول الديمقراطي، وهو ما يعرف بالتحول عن طريق الإصلاح، وقد أفرز هذا التحول عن دستور جديدا للبلاد هـو الثالث للجزائـــر منذ الاستقلال، عـرف بدستور 23 فبراير 1989. وقد أقر هذا الدستور جملة من الإصلاحات السياسية الاقتصادية والثقافيـــة.1- الانعكاسات السياسية: أنشأت الأحزاب السياسية في الجزائر بموجب دستور 1989، وبالتالي طوقت سلطــة جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم منذ الاستقلال ، ودخلت الجــزائر عهد التعدديــــة الحزبية فـــي غياب تقاليدها وعدم التشبع بقيمها و مبادئها المتمثلة في قبول الآخر والاعتراف به وهي مسألة لا غنـى عنها لتجسيد الديمقراطية . وبالتالي فغالبية الأحزاب السياسية وعلى رأسها قادتها، كانوا يعبرون عـن رفضهم ، للتعايش فيما بينهم، بحيث انتقد رئيس حزب التجديد الجزائري “نور الدين بو كروح “النظـام، واستعمل كلمة “مكافحة” لتعبيره عن النظام السياسي حيث قال:> .كما صرح الرجل الثانـي في ” الجبهة الإسلامية للإنقاذ” “علي بن حاج “:>. وفي السياق ذاته، ذهـب “سعيـد سعـدي” الأمين العام لحـزب “التجمـع مـن أجـل الثقافــة والديمقراطية” أنه سيمنع ” عباسي مدني” زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الوصول إلى السلطــة حتى وإن صـــوّت الشعب لصالحه . و بالتالي هذا العنــف اللفظي بين رؤساء الأحزاب كان من الأسبـاب التي أدت إلــى انفجار الأوضاع في الجزائر بعد إلغاء المسار الانتخابــــي عندما لجأت إليه السلطات، فتمّ حــل البرلمان وقدم الرئيس “الشاذلي بن جديد” استقالته الأمر الذي أدى إلى تعيين مجلس أعلى للدولة بقيادة ” محمد بوضياف” ، هذا المجلس أوكلت له مهمة توحيد الصف الوطني و الحيلولة دون استلام “جبهــة الإنقـــاذ” للسلطة، لكن قيامه لم يغير من الأمر شيئا، فالبلاد دخلت مرحلة الفوضى، والتجربة الديمقراطية وصلت إلى طريق مسدود .قام رئيس الدولة “محمد بوضياف” بحل حزب جبهة الإنقاذ معتبرا أن الإسلام دين الجميع ولا يحـــق لأي جهة أو جماعة احتكاره لنفسها. فتصاعدت حالة العنف بشكل كبير حتـــــى نالت من “بوضيـــاف” نفسه. وفي ظل هذه الأجواء المشحونة، لجأت “جبهة الإنقاذ” المنحلة إلى بلورة أساليب جديدة ذات طابع ثأري في التعامل مع السلطة السياسية من خلال اعتمادها على العمل السري وانتهاجها لمعارضة غيــر مباحة قانونا طغى عليها طابع العنف، في ظل تمسك النخبة الحاكمة بالسلطة ورفضها تقديم أي تنـازلات أو دمـج للإسلامييـن في المعادلـة السياسيـة، مـما فتـح البـاب أمـام استشــراء العنف، بلغ درجــة التصفيات الجسدية الفردية والجماعية من أبناء الوطن الواحد مما سمـــح بتدخـل المـؤسسة العسكرية في الحياة السياسية بقوة وجلاء. وقد سعى الإسلاميون إلى برهنة ثبات قوتهـــم من خلال دخولهم في مواجهات عفيفة مع قوى الأمن، وقد آلــت دوامة الإرهاب والقمـــع التي تلت هــــذه الأحداث إلى أزمة داخلية، فكان كل من” الحركة الإسلامية المسلحة”، و ” الجيش الإسلامي للإنقــــاذ”، و”الجماعة الإسلامية و المسلحة”، و” الجماعة السلفية للدعوة والقتال” في صلب الحركة التمرديــــة التي أطلقت حملة ضد الحكومة و الجيش و المدنيين والمفكريـن و الصحافييـن. وسط أجواء العنف تابعت المؤسسة العسكرية مفاوضاتـها مع الجماعــــات المسلحة، حتى في الفتـرة التي كانت تسعى فيها إلى إلغائها. وبعد تولي الرئيس ” اليمين زروال” الرئاسة فــي يناير 1994 توصـــل إلــى توقيع هدنة في 21 سبتمبر 1997 بيـــن السلطة والجيش الإسلامي للإنقاذ بقيادة “مدني مزراق” الذي أمر في بيان أتباعه بوقف الهجمات ابتـداء من أكتوبر1997 و حض فيه الجماعات الأخرى بالقيام بالمثـــــل ، غيــر أن عــددا كبيرا من المسلحين بمن فيهم المنشقين عن “مدني مزراق” رفضوا الإنصياع، فتوالت المذابح الجماعية بحق المدنيين مابيـــن ديسمبر 1997 و يناير 1998 (مجــــزرة بن طلحة…)، وكانت الخسائر هائلة حيث بلغ عدد القتلى نحو 150 ألف قتيـــل و بين 7 آلاف و10 ألاف مفقود ومليون متشرد، وإضرار طالت البنية التحتية والاقتصاد الوطني المنهـك طيلة فترة التسعينات. 2- الانعكاسات الاقتصادية: على الرغــم من أن أحــداث أكتوبر 1988م أفـضت إلى تغييــرات سياسية مهمة وفي مقدمتها حق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي ومنـح البرلمان صلاحيـــــات واسعة تجعل منه أكثر فاعلية، إلا أنها في الأصل كانت احتجاجا على الوضع الاقتصادي، بسبب تفاقم الفشل الاقتصادي منذ سنة 1986م عندما انهارت أسعار النفط دوليا، وأدى ذلك إلى تقلص محسوس في الموارد المالية، وارتفاع المديونية وتزايد نسبة البطالة في صفـــــوف المواطنين بالإضافة إلى تخفيض قيمة عملة الدينار الجزائري بــــــــ 50 بالمائة وتحرير الأسعار وتجمـيـد الرواتب …كل هذا أدى إلى انتفاض الشارع الجزائري. لكن بعد عملية التحول التي عرفتها الجزائر، وما رافقها من عدم استقرار سياسي لم يطل هذا الاستقرار المجال السياسي فحسب، بل تعداه إلى المجال الاقتصادي حيث تدهور النسيــج الاقتصــادي بسبب غياب الاستثمارات الضرورية لصيانة وتجديـــد المعدات والتجهيزات إضافة إلى تفاقم الديون الخارجية و بالخصوص الديون القصيرة الأجل والتـــي شكلت النسبة الأكبر منها، حيث بلغت ديون الجزائر الخارجية سنة 1995م 32 مليار دولار بعدمــــا سجلت في نهاية الثمانينات 24 مليار دولار أمريكي. وقد زاد العنـف المسلح من تعميق أزمات هذا القطاع من خلال تعـرض المنشات و المرافق العمومية التي كلفت الدولة الكثير II. الانعكاسات الدولية:توالت ردود الأفعال الإقليمية والدولية على ما يجري في الجزائر بعد تصاعد وتيرة العنــف. ففي تونس و المغرب، سارعــت السلطـات فـي هذين البلدين إلى اتخاذ إجراءات وتدابـيـــر لتجريد الحركـات الدينيــة من النفــوذ السياســي وتحجيــم أدوارها. أما النظــام السيــاسي الجزائري فقد تعرض لضغوط كبــيرة من الدول الغــربية خـــصوصا من فرنســا والولايات المتحدة الأمريكيــة بالرغم من تباين في موقف الدولتين حيال كيفية إنهاء الأزمة، فالولايات المتحدة أدانت تعليق العملية الانتخابيـة في ينايـر 1992، وبالرغـم مـن دعـمهـا لمؤسسـة الرئاسـة، إلا أنهـا ضغطت عليها لاتخاذ إجراءات لتوسيع قاعدتها السياسية من خلال الدخول في حوار مع عناصر تمتلــك صفــة تمثيليــة فـي المجتمع الجزائري ويقصد بذلك “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”. كما حملت الولايـات المتحــــدة المؤسسة العسكرية الجزائـرية مسؤولية ما يجري في البلاد و اعـتبرت أن العمل العسكــري غير مجدي لحل الأزمة الجزائـرية، واكتفت بإدانة ما يحدث في الجزائر من جرائم، وقد سمحت واشنطن لبعض زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ على غرار “أنور هدام” بالإقامة في الولايات المتحدة و بتنظيم لقاءات مع مسؤولين أمريكيين وغضت الطرف على تبني “الجماعة الإسلامية المسلحة” عـلنا لأعمال العنف في الجزائر .ورغم أن الموقف الأمريكي حكمته أيضا مصالح الولايات المتحـدة الحيــوية، الأمر الذي اصطدم بالتوجهات السياسية الفرنسية، فعلى خلاف الولايات المتحدة دعــمت فرنسا المؤسسة العسكرية الجزائرية إدراكا منها بأن الأخيرة هي القوة الشرعية التي تستطيع كبح جماح التيار الإسلامي و تعزيز النظام العلماني في الجزائــر. وقد أكد وزيـر الخارجية الفرنسي الأسبق “رولان دوما” في عام 1992 عندما اعتبر أن انتصار الإسلام في الجزائـر “فرضية خطيرة ليس على الجزائر فحسب، بل على فرنسا أيضا”. كما اعتبر أيضا وزير خارجية فرنسا الأسبق “ألان جوبيه” أن الوضع في الجزائر بالغ الخطورة مشيرا إلى ضرورة التدخل الفرنسي لدعـــم السلطـــة فــي الجزائر لبدء الحوار مع القوى المعتدلة، و عدم انتظار النتائج المترتبة على مواصلة العنف بين السلطـة والمعارضة. أما على صعيد المنظمات الدولية، فقد توجهت بعض الحقوقيـة منها بالإدانة إلى قوى الأمن الجزائرية وحمّـلـتها مسؤوليــة المجـــازر والمذابــح الجماعية بحق المدنيين. وهددت”منظمة العفو الدولية” المعنية بحقوق الإنسان مسؤولين عسكريين جزائريين بإحالتهم على محكمة جزاء دولية بتهمة ” خرق قوانين البلاد والمواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان”. كما تـزايد الـــدور المؤثر الذي تقوم به المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صنــدوق النقد الدولي والنوادي المالية الدولية كنادي باريس والتي فرضت على الجزائر شروطا مجحفة مقابل تلقي مساعدات مالية. وعن التحسن الواضح فــي علاقات الجــزائـــــر الخارجية مع القـوى الغربية الكبرى مع مطلع الألفية الجديدة، فيعزيه البعض إلى التقاء مصالح النخبة السياسية الحاكمة مع هذه القوى (مكافحة الإرهاب الدولي)، وتراجع أعمال العنف بشكل كبير، إضافة إلى بعض التنازلات التي قدمتها الجزائر للغرب، فهذه العوامل دفعت الدول الغربية إلى التعامل إيجابيا مع الجزائر. فعلى سبيل المثال أشاد الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” بالدور الذي لعبته الجزائر في إقناع ليبيا بضرورة التعامل مع قرارات هيئة الأمم المتحدة فيما يخص “قضية لوكربي”، وقدمت واشنطن دعم مالي قيمته 2,4 مليون دولار للجزائــــر لمساعدتها في تجاوز أثار زلزال 21 مايو 2003، كما قررت كل من فرنسا و بريطانيا رفع حظر بيع السلاح للجـزائر عــام 2003، و قد صــرح سفيــر بريطانيا بالجزائر: “أن بلاده غيرت نظرتها اتجاه الجـــزائــر”. الخاتمة:لقد تبنت الجزائر النهج الاشتراكي لما يقارب الثلاثين سنة. وبسبب اعتمادها نظام الحزب الواحد، فقد كان البرلمان المنتخب آنذاك ذا لون واحد وأعضاؤه كلهم ينتمون إلى جبهة التحرير الوطني، ولم تكن هناك معارضة بطبيعة الحال. لكن بعد وفاة هواري بومدين بدأت الجزائر تتبع أسلوبا مغايرا على عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، حيث انتقلت الجزائر خلال أواخر حكمه من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية سنة 1989 بناء على الدستور الجديد، كنتيجة لاضطرابات واحتجاجات أكتوبر1988 في نطاق ما اصطلح عليه بخريف الغضب. وهكذا ظهرت على الساحة السياسية الجزائرية ما يربو على خمسين تنظيما سياسيا من أبرزها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كما أجريت في الجزائر انتخابات تشريعية سنة1991 ، كان فيها النصر المطلق لحزب الفيس . نتائج الانتخابات هذه وما رافقها من سلوكيات أفرزت اختلالات خطيرة في المجتمع الجزائري، وفتحت الباب على مصراعيه للعنف الذي حصد الآلاف من الأرواح البريئة. وأدخل الجزائر في عزلة دولية لم تتعافى منها إلا مع بحر العقد الماضي (2000م- 2010).

قائمة المراجع:* أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية بجامعة بشار (الجزائر)، متحصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية (تخصص دراسات أورومتوسطية)، من جامعة تلمسان (الجزائر)، الهاتف: 08 43 25 71 7 213 00، البريد الالكتروني: [email protected]صامويل هنتنغتون، الموجة الثالثة، التحول الديمقراطي في أواخـر القـرن العشريـن، ترجمـة: عبـد الوهاب علوب، الكويت: دار الصباح، 1993، ص:261.2 سليمان الرياشي و آخرون، الأزمة الجزائرية: الخلفيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ط2، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999، ص:79.3 نفس المرجع، ص:141.4 عبد العالي رزاقي، الأحزاب السياسية في الجزائر خلفيات و حقائق، ج1، الجزائر: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ، 1990، ص : 61.5 غاني بودبوز، إشكالية الديمقراطية في الجزائر ، (رسالة ماجستير)، جامعة الجزائر (يوسف بن خدة): كلية علم الاجتماع، 2005.ص: 183.6 عـلـي زغـدود، الأحــزاب السياسيـة فـي الــدول العـربيــة، الجـزائـر: متيجـة للمطبـوعــات،2007، ص: 29. 7سليمان الرياشي و آخرون، نفس المرجع سابق الذكر، ص:81.8 محمد بلخيرة ، التحولات السياسية في الإتحاد السوفيتي وأثرها على الدول العربية الوطنية ، (رسالة ماجستير)، جامعة الجزائر3: كلية العلوم السياسية والإعلام، 2003-2004، ص:265.9 رشيد تلمساني، “الجزائر في عهد بوتفليقة: الفتنة الأهلية و المصالحة الوطنية “، أوراق كارينغي، بيروت: مركز كارينغي للشرق الأوسط، العدد07، الصادرة بتاريخ يناير2008، ص:8-10.10 محمد العربي ولد خليفة، الجزائر و العالم، الجزائر: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية،2001، ص:228.11خميس حزام والي، إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية، مع الإشارة إلى تجربة الجزائر، ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003، ص:183.12 رشيد تلمساني، نفس المرجع سابق الذكر، ص:8.13بوكراع لياس، الجزائر الرعب المقدس، ط1، ترجمة: خليل أحمد خليل، بيروت: دار الفارابي، 2002، ص:110.14 حيدر إبراهيم علي، التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية، ط2، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، ص:79.15 عنصر العياشي، سوسيولوجيا الديمقراطية والتمرد بالجزائر، ط1، القاهرة: دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع، 1999، ص:42-43.16نفس المرجع، ص:43. 17 أحمد مهابة، “الجزائر تحت المجهر الأمريكي – الفرنسي”، مجلة السياسة الدولية، القاهرة: مركز الدراسات الإستراتيجية، العدد 118، الصادرة بتاريخ نوفمبر 1994، ص: 112.18بوكراع لياس، نفس المرجع سابق الذكر، ص:110.19 نفس المرجع، ص:110.20 أحمد مهابة، نفس المرجع سابق الذكر، ص:177.21 محمد قواص، غزوة الإنقاذ: معركة الإسلام السياسي في الجزائر: بيروت: دار الجديد للدراسات والأبحاث، 1998، ص: 207.22 عمرو عبد الكريم سعداوي، “تقاطع الاستراتيجيات الأمريكية و الفرنسية حول الجزائر” ، مقال منشور على الموقع الالكتروني: http://www.almoslim.com/node/85717، تاريخ دخول الموقع: الأربعاء 25/12/2013.23 رشيد تلمساني، نفس المرجع سابق الذكر، ص:11.24 الهواري عدي، “الجزائر: الحرب المستمرة”، مقال منشور على الموقع الالكتروني : http://www.mondiploor.com/rubrique.282.html ، تاريخ تصفح الموقع: 19/12/2011.25 سليمان الرياشي و آخرون، نفس المرجع سابق الذكر، ص:86.26 رشيد تلمساني، نفس المرجع سابق الذكر، ص:10-11.27 بلخيرة محمد، نفس المرجع سابق الذكر، ص:277.أمحمد الداسر، التحول الديمقراطي في دول المغرب العربي ، مقال منشور على الموقع الالكتروني: http://www.shebacss.com/docs/poadt009-09.pdf تاريخ تصفح الموقع 26.12.2013، ص:3-4.

ندوة الحركة التدوينة و دورها في صناعة الرأي

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية مبدأ ندوة علمية بالتعاون مع منتدى الشرق (ديوان نواكشوط ) ، الندوة المنظمة مساء الخميس 13 -07-2017 بفندق موريسانتر تخللتها العديد من المحاضرات و المداخلات التي تمحورت حول موضوع الندوة الموسومة ب ” الحركة التدوينية و دورها في صناعة الرأي “.

الندوة افتتحا الأستاذ يحيى أبوبكر منسق ديوان نواكشوط في منتدى الشرق و قد قدم ولد يحيى حول الأدوار التي يسعى منتدى الشرق القيام بها من خلال التواصل مع الشباب و فتح حوارات بناءة و نقاشات تسهم في الرفع من واقع البلاد ، فيما قال ان اختيار الحركة التدوينية لم يات من فراغ  و نما هو نابع من الواقع الحالي و ما تشهده الساحة من تطور و قوة لفعل التدوين الذي بات اكبر صانع للرأي خاصة في ما بعد الربيع العربي ,

رئيس المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية مبدأ ، اكد ان المركز يعد حاضنة لمختلف المبادرات الشبابية الساعية الى اثراء الساحة و تطوير المنتج الثقافي الموريتاني ، فيما قال ان التدوين كوسيلة بات البوابة الحقيقية التي تدخل من خلالها الدول الى القرية الكونية خاصة باعتبارها خطابا مغايرا للخطاب الرسمي و حتى الخطاب السياسي ، مدللا على ذلك بالبروز الكبير لدور صحافة المواطن و الانتشار الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي .

الأستاذة نبيلة الشيخ قدمت ورقة تاطيرية للندوة  ومن خلال الأرضية التي قدمتها طرحت بنت الشيخ العديد من الاسئلة المحورية في النقاش الدائر حول التدوين و خاصة في جوانب الفعل وردة الفعل و مدى قدرة التدوين على خلق ردة الفعل المتوخاة ، و متسائلة عن مدى تأثير السياق الاجتماعي بشكل عام في ايصال الرسالة المتوخاة من العملية التدوينة .

وقد قدم كل من د. الحسين مدو و د. الشيخ سيدي سيدي عبد الله و د. محمد محفوظ اضافة الى الاستاذ عبيد ولد اميجن ، محضاضرات اثرائية للموضوع و تطرق المحاضرون للعديد من المجالات و النقاشات الجديدة و القديمة في مجال الحركة التدوينية في الفضاء الموريتاني بشكل خاص و العربي و العالمي بشكل عام .

الندوة شهدت مشاركة ابرز المدونين الموريتانيين ، تقدمهم الدكتور عباس ابراهام و  الاستاذ حبيب الله احمد ، و المدونة فاطمة عيلال اضافة الى مجموعة كبيرة من المدونين الشباب و ذوي الخبرة في مجالات التواصل و المهتمين .

فيما تدخل العديد من الحضور مأكدين على ضرورة عقلنة الفضاء التدويني في موريتانيا و السعي الى الاستفادة من التجارب المجاورة خاصة في الخليج العربي ، فما تزايدت دعوات ان يواكب المدونون الموريتانيون الحركة الجديدة المتمثلة في ظهور مصنات تعتمد تقنية الفيديو في التدوين باعتبارها اكثر تاثيرا و تطورا

مبدأ و منتدى الشرق ينظمان ندوة حول الحركة التدوينية و دورها في صناعة الرأي الخميس المقبل

ينظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ) و بالتعاون مع منتدى الشرق (ديوان نواكشوط ) ندوة علمية تحت عنوان ” الحركة التدوينة و دورها في صناعة الرأي “.

و تنظم الندوة مساء الخميس 13-07-2017 بفندق موريسانتر على تام الساعة الخامسة عصرا “17:66” .

و الدعوة عامة إلى جميع المهتمين من مدونين و صناع رأي و مفكرين و نخبة سياسية و اجتماعية و ثقافية .

ندوة بالتعاون بين “مبدأ: و منتدى ” الأواصر”

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية “مبدأ” بالتعاون مع منتدى الاواصر ندوة علمية تحت عنوان سيادة القانون ودورها في السلم الاهلي .

 

 

 

وقال رئيس مركز مبدأ د محمد سيد أحمد فال الوداني إن المشكلة التي تواجهها موريتانيا ذات ابعاد عدة  منها السياسي و التربوي و العمراني ،

 

حيث تعيش المدينة المركزية نواكشوط عدة قرون مختلفة بسبب الظروف الاقتصادية و التمدد الافقي للمدينة ، كما ان وضعية التعليم تحتاج الى  مراجعة حقيقية من اجل خلق السلم الاهلي حقيقي و ثابت .

 

فيما قال رئيس منتدى الاواصر عبيد ولد اميجن ان مهمة هذا المنتدى هو الحفاظ على الوحدة الموريتانية و وضع مختلف القضايا العالقة للنقاش و التي من بينها قضايا لحراطين او العبيد و العبيد السابقين ، وقال عبيد أن الشراكة مع مركز مبدأ تتيح لمنتدى الاواصر تقديم العديد من الانشطة خاصة بسبب الفرص التي يوفرها مركز مبدأ بسبب خبرته الكبيرة في هذه المجالات .

 

يذكر أن الندوة حضرها العشرات من السياسين و المثقفين و المهتمين بالمجال بشكل عام ، و من بين الحاضرين :

 

صالح حننة ، ولد بوحبين ،المعلومة بنت الميداح ، السنية سيدي هيبة ، و يرهم من الناشطين في مختلف المجالات .

جوانب من ندوة الحركة الحقوقية في موريتانيا (مبدأ)

رئيس المركز محمد سيد أحمد فال الوداني (بوياتي)
المحاضر د محمد بدي أبنو رئيس الجلسة بلال ورزك المحاضر ابراهيم بلال على اليسار
الاعلامي و الناشط أحمد ولد الوديعة
المحاضر الشيخ سعد بوه كامرا و المحاضرة سعداني خيطور
دكتور الحسن اعمر بلول و الوزير ابوبكر أحمد و الوزير ولد ارزيزيم و السفيفرة منينة

هل التكنولوجيا المالية عالم جديد للقطاع المالي؟

كريستين لاجارد “مديرة البنك الدولي ”

من الهواتف الذكية إلى الحوسبة السحابية، تواصل التكنولوجيا إحداث تغييرات سريعة في كل جوانب المجتمع تقريبا، بما فيها الاتصالات والأعمال والحكومة. ولا يُستثنى العالم المالي من هذا التغيير.

ومن ثم فالعالم المالي يقف في منعطف حرج. صحيح أن انتشار العمل بالتكنولوجيات الجديدة مثل النظم القائمة على “سلاسل مجموعات البيانات” blockchain ينطوي على كثير من المزايا المحتملة، ولكنه ينشئ مخاطر جديدة في نفس الوقت، ومنها ما يهدد الاستقرار المالي. ويفرض هذا بدوره تحديات أمام أجهزة التنظيم المالي، وهو الموضوع الذي تناولته في القمة العالمية للحكومات لعام 2017 في دبي.

فعلى سبيل المثال، نحتاج إلى تحديد الوضع القانوني للعملة الافتراضية، أو الرمز الرقمي. ونحتاج إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بتحديد أفضل السبل لاستيفاء مبدأ “اعرف عميلك” في تحويلات العملة الافتراضية. وللتكنولوجيا المالية انعكاسات أيضا على الاقتصاد الكلي وينبغي أن نحسن فهمنا لها ونحن بصدد وضع السياسات التي تساعد أعضاء الصندوق على خوض غمار هذه البيئة سريعة التغير.

 

تزايد الاستثمارات

التكنولوجيا المالية، أو fintech كما تختصَر بالإنجليزية – مصطلح يشمل منتجات النظم المالية البديلة ومطوريها ومشغليها – تفرض تحديات أمام نماذج العمل التقليدية وتواصل نموها السريع. فطبقا لأحد التقديرات الأخيرة، زادت استثمارات التكنولوجيا المالية بمقدار أربعة أضعاف من 2010 إلى 2015 حتى أصبحت 19 مليار دولار سنويا.

وقد جاء ابتكار التكنولوجيا المالية في صور وأشكال متعددة من إقراض النظراء إلى التداول عالي التواتر إلى البيانات الضخمة وعلم الإنسان الآلي -الروبوت-، وقصص النجاح عديدة في هذا السياق. فهناك الصيرفة باستخدام الهاتف النقال في كينيا والصين التي أدخلت الملايين ممن كانوا دون حسابات مصرفية تحت مظلة النظام المالي الرئيس. وهناك تحويل العملات الافتراضية الذي أتاح للناس في البلدان النامية تحويل الأموال عبر الحدود بسرعة كبيرة وتكلفة منخفضة.

كل ذلك يدعو إلى التفكير بصورة أكثر ابتكارا. فكيف بالضبط ستؤدي هذه التكنولوجيات إلى تغيير العالم المالي؟ وهل ستحدث تحولا كاملا فيه؟ وهل ستختفي المصارف لتحل محلها النظم القائمة على سلاسل مجموعات البيانات التي تسهل المعاملات بين النظراء؟ وهل سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تقليل الحاجة إلى المهنيين المدربين؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تستطيع الآلات الذكية تقديم مشورة مالية أفضل للمستثمرين؟

الحقيقة هي أننا لا نعلم الإجابة حتى الآن. فهناك استثمارات كبيرة توجه إلى التكنولوجيا المالية، ولكن معظم تطبيقاتها في العالم الواقعي لا تزال في طور الاختبار.

 

التحديات التنظيمية

قد بدأ بالفعل ظهور تحديات تنظيمية. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام العملات المشفرة مثل عملة “بيتكوين” bitcoin الرقمية في إجراء تحويلات مجهولة المصدر عبر الحدود ما يزيد من مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وهناك خطر آخر – على المدى المتوسط – وهو الأثر المحتمل على الاستقرار المالي من جراء دخول أنواع جديدة من مقدمي الخدمات المالية إلى السوق.

والأسئلة كثيرة. فهل ينبغي أن نطبق نوعا من التنظيم على اللوغاريتمات التي تقوم عليها التكنولوجيات الجديدة؟ أم ينبغي لنا – على الأقل في الوقت الراهن – أن نضغط على زر الوقف المؤقت للعمل التنظيمي لكي نعطي التكنولوجيات الجديدة بعض الوقت حتى تتطور ونسمح لقوى الابتكار أن تسهم في تخفيض المخاطر وتعظيم المنافع؟

إن بعض البلدان يعتمد منهجا ابتكاريا بعيد النظر في المجال التنظيمي – عن طريق إنشاء “مختبرات التكنولوجيا المالية” fintech sandboxes، على غرار “المختبر التنظيمي” Regulatory Laboratory في أبو ظبي و”مختبر رقابة التكنولوجيا المالية”Fintech Supervisory Sandbox في هونج كونج.

وتهدف هذه المبادرات إلى تشجيع الابتكار عن طريق السماح بتطوير التكنولوجيات الجديدة واختبارها في بيئة خاضعة للرقابة الدقيقة. وهنا في الصندوق، نتابع من كثب تطورات التكنولوجيا المالية. وفي العام الماضي، نشرنا دراسة عن العملات الافتراضية، مع التركيز على انعكاساتها التنظيمية والمالية والنقدية. وقمنا منذ ذلك الحين بتوسيع نطاق تركيزنا ليشمل تطبيقات “سلاسل مجموعات البيانات” blockchain بشكل أعم. كذلك أنشأنا أخيرا المجموعة الاستشارية رفيعة المستوى لرواد التكنولوجيا المالية لمساعدتنا على فهم التطورات الجارية في هذا المجال.

كل هذا، في رأيي، ينشئ “عالما جديدا شجاعا” للقطاع المالي. ولعل هذا العالم يرسم في نظر البعض صورة مخيفة للمستقبل كما وصفه ألدوس هكسلي في روايته الشهيرة.

ولكن بوسعنا أن نتذكر أيضا كيف استحضر شكسبير صورة هذا العالم الجديد الشجاع في مسرحيته العاصفة، حين قال على لسان إحدى شخصياته: ” يا للروعة، كم من الصالحين في هذا العالم! ما أروع البشرية! ويا له من عالم جديد شجاع”.

د. علي الوردي .. طبيعة المدنية

 

كان المفكرون الطوبائيون، ولا يزالون، يمدحون التعاون والتآخي واتفاق الكلمة. وامتلأت مواعظهم بذلك امتلاءا عجيباً. وهم قد اجمعوا على هذا الرأي بحيث لم يشذ فيه منهم أحد إلا في النادر.

ونحن لا ننكر صحة هذا الرأي الذي يقولون به. فاتفاق الكلمة قوة للجماعة بلا ريب. ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ما للاتفاق من اضرار بالمجتمع البشري في الوقت ذاته.

ان المجتمع البشري لا يستطيع ان يعيش بالاتفاق وحده. فلا بد ان يكون فيه شيء من التنازع أيضاً لكي يتحرك الى الامام.

والقدماء حين ركزوا انتباههم على الاتفاق وحده، انما نظروا الى الحقيقة من وجهة واحدة وأهملوا الوجه الآخر. فهم بعبارة أخرى: قد أدركوا نصف الحقيقة. اما النصف الاخر منها فبقى مكتوما لا يجرأ أحد على بحثه.

ان الاتفاق يبعث التماسك في المجتمع، ولكنه يبعث فيه الجمود أيضاً. فاتحاد الافراد يخلق منهم قوة لا يستهان بها تجاه الجماعات الاخرى. وهو في عين الوقت يجعلهم عاجزين عن التطور أو التكيف للظروف المستجدة.

وقد أثبتت الابحاث الاجتماعية ان المجتمعات البدائية التي تؤمن بتقاليد الآباء والاجداد ايمانا قاطعا فلا تتحول عنها تبقى في ركود وهدوء ولا تستطيع ان تخطو الى الامام إلا قليلاً.

وقد نجد في هذه المجتمعات الراكدة تنازعا عنيفا، هذا ولكن تنازعها قائم على اساس شخصي لا يمس التقاليد بشيء. كلهم مجمعون على التمسك بها لا يخرجون عنها قيد أنملة. وكثرا ما يكون تنازعهم ناشئا عن تنافسهم في القيام بتلك التقاليد ومحاولة كل منهم ان يتفوق على أقرانه فيها.

ان التنازع الذي يؤدي الى الحركة والتطور يجب ان يقوم على أساس مبدأي لا شخصي. فالمجتمع المتحرك هو الذي يحتوي في داخله على جبهتين متضادتين على الاقل، حيث تدعو كل جبهة الى نوع من المبادىء مخالف لما تدعو اليه الجبهة الاخرى. وبهذا تنكسر”كعكة التقاليد” على حد تعبير بيجهوت. ويأخذ المجتمع اذ ذاك بالتحرك الى الامام.

اذا رأيت تنازعا بين جبهتين متضادتين في مجتمع، فاعلم ان هاتين الجبهتين له بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما.

ومن الجدير بالذكر ان الحركة الاجتماعية لا تخلو من مساوىء رغم محاسنها الظاهرة. فليس هنالك في الكون شيء خير كله أو شر كله. فالحركة الاجتماعية تساعد الانسان على التكيف من غير شك. ولكنها في عين الوقت تكلف المجتمع ثمنا باهضا. اذ هي مجازفة وتقدم نحو المجهول. انها تؤدي الى القلق والتدافع والاسراف في أمور كثيرة. والانسان الذي يعيش في مجتمع متحرك لا يستطيع ان يحصل على الطمأنينة وراحة البال التي يحصل عليها الانسان في المجتمع الراكد. انه يجابه في كل يوم مشكلة. ولا يكاد ينتهي منها حتى تبغته مشكلة أخرى. وهو في دأب متواصل لا يستريح إلا عند الموت. ولا يدري ماذا يجابه بعد الموت من عذاب الجحيم!

إن النفس البشرية تحترق لكي تنير باحتراقها سبيل التطور الصاحب.

ابتلى الانسان بهذه المشكلة ذات الحدين. فامامه طريقان متعاكسان، وهو لابد أن يسير في أحدهما: طريق الطمأنينة والركود، أو طريق القلق والتطور.

ومن المستحيل عليه ان يسير في الطريقين في آن واحد.

يخيل الى بعض المغفلين من المفكرين ان المجتمع البشري قادر على ان يكون مطمئنا مؤمنا متمسكا بالتقاليد القديمة من جهة وان يكون متطورا يسير في سبيل الحضارة النامية من الجهة الاخرى. وهذا خيال غريب لا ينبعث إلا في أذهان اصحاب البرج العاجي الذين يغفلون عن حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه.

يقول توينبي، المؤرخ المعروف، ان الصفة الرئيسة التي تميز المدنية عن الحياة البدائية هي الابداع. فالحياة يسودها التقليد بينما الابداع يسود حياة المدنية.

من الممكن القول بأن المدنية والقلق صنوان لا يفترقان. فالبشر كانوا قبل ظهور المدنية في نعيم مقيم. لا يقلقون ولا يسألون: “لماذا؟”. كل شيء جاهز بين أيديهم قد أعده لهم الآباء والاجداد، فهم يسيرون عليه ولسان حالهم يقول: “انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مهتدون”.

ان الاساس الذي تقوم عليه المدنية _كما يقول توينبي _ هو الكدح والشقاء والمعاناة. فالمناطق التي يسهل فيها اكتساب القوت، أو يلتقط فيه التقاطا، لا تستطيع ان تنتج مدنية، اذ هي تعود الانسان على الكسل والتسليم بالقدرة والتلذذ بالاحلام.

ويأتينا توينبي بفلسفة ساخرة في هذا الصدد حيث يقول: ان الحكاية التي تذكرها التوراة حول اغراء الشيطان لآدم واخراجه من الجنة، هي في الواقع اقصوصة رمزية تشير الى ظهور المدنية وخروج الانسان من طور الحياة البدائية الى طور المدنية.

يعتقد الشهرستاني ان الانسان يجب عليه ان يخضع للاوامر الربانية التي يأتي بها الانبياء والاولياء خضوعا تاما، فلا يسأل عن العلة فيها ولا يشك في حكمتها، فالجنة التي سكنها آدم من قبل، ولا تزال تسكنها الملائكة اليوم، هي موئل الطمأنينة واليقين، حيث يعيش أهلوها فيها “طاهرين سامعين مطيعين”.

وابليس يسأل ربه قائلا: “أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟. والغريب ان الملائكة سألوا ربهم مثل هذا السؤال فأجابهم الله قائلا: (إني أعلم ما لا تعلمون) فسكتوا.

وجاء في الاحاديث القدسية ان الله قال: “انا الله لا آله إلا انا خلقت الشر وقدرته فويل لمن خلقت له الشر وأجريت الشر على يديه”.

يبدو من هذا ان الله “جل شأنه” قد تعمد خلق الشر وأجراه على أيدي الناس لسبب يعلمه هو. ولعله لم يشأ ان يعلم الملائكة اياه لئلا يفسدهم به.

خلق الله آدم ثم سلط عليه ابليس قصدا وعمدا. فجعل الخير والشر متصارعين الى يوم يبعثون. فما هو السر في هذه المفارقة المقلقة؟.

حاول بعض متصوفة الاسلام ان يجيبوا على هذا السؤال فقالوا ما معناه: ان الشيء لا يمكن معرفته إلا بواسطة نقيضه، فالنور لا يدرك إلا بالظلام، والصحة لا تعرف إلا بالمرض، والوجود لا يعرف إلا بالعدم، وان امتزاج هذه النقائض هو الذي انتج في رأي المتصوفة هذا الكون… وعلى هذا فان الانسان لا يستطيع ان يدرك الله الذي هو الحق إلا اذا عورض بالباطل.

ومشكلة الشر تفسر عند المتصوفة على هذا الاساس. فالشر في نظرهم ضروري لوجود الخير. والانسان لا يدرك الخير إلا اذا كان الشر مقابلا له، كما انه لا يفهم النور إلا اذا كان وراءه ظلام.

وقد ذهب ابن خلدون الى ما يقارب هذا الرأي الصوفي في مسألة الشر. فهو يقول: “قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك على ما ينطوي عليه من الشر اليسير وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم… “.

والواقع ان هذا الرأي “الصوفي _ الخلدوني” يشبه الى حد بعيد نظرية هيگل المعروفة. ولعلنا لا نغالي اذا قلنا ان المتصوفة في الاسلام سبقوا هيگل في هذا بعدة قرون.

ومن المؤسف ان نرى المفكرين الطوبائيين لم يعنوا بهذا الرأي ولم يلتفتوا اليه. فهم قد حاروا في مشكلة الشر في العالم وتجادلوا حولها طويلا ولكنهم لم يصلوا فيها الى نتيجة مرضية. ومعظم حلولهم التي جاءوا بها لا تخلوا من تعسف أو رقاعة.

وعلة عجزهم في تفهم هذه المشكلة أو في حلها، هي انهم يجرون في تفكيرهم حسب منطق ارسطو طاليس القديم. وهذا المنطق يؤمن بقانون “عدم التناقض”. فالشيء عندهم هو هو. أي انه قائم بذاته ومنفصل عن غيره.

وبواسطة هذا التناقض والتفاعل بين الاشياء يتطور الكون وينمو، ويظهر منه كل يوم شيء جديد.

عيب الطوبائيين انهم لا يؤمنون بالحركة والتطور. فالحركة في نظرهم أمر طارىء، والسكون هو الاصل في الكون. ولهذا فهم لا يستطيعون أن يفهموا سر الكون أو سر الحياة أو سر المدنية. ويظلون يتجادلون بلا جدوى!

يعتقد السذج من المفكرين بان من الممكن تجزئة المدنية. أي انهم يظنون بانهم قادرون على تنقية المدنية من شقائها وقلقها مع الاحتفاظ بابداعها وتجديدها. وهذا رأي لا يستسيغه المنطق الحديث. فالمدنية كل لا يتجزأ. فان هي جاءت الى مجتمع جلبت معها محاسنها ومساوئها معا. ان من المستحيل الفصل بين حسنات المدنية وسيئاتها. والانسان مضطر حين يدخل باب المدنية ان يترك وراءه تلك الطمأنينة النفسية التي كانت تكتنفه في أيام مضت.

والفكر البشري حين يتحرر ويخرج على التقاليد لا يستطيع ان يحتفظ بطابع اليقين على أية صورة. انه حين يشك في أمر واحد من أمور حياته لا يستطيع ان يقف في شكه عند هذا الحد. فالشك كالمرض المعدي لا يكاد يبدأ في ناحية حتى يعم جميع النواحي. والانسان اذ يكسر تقليد واحدا لابد أن يأتيه يوم يكسر فيه جميع التقاليد. وهو بذلك قد استفاد من جهة وتضرر من جهات أخرى.

ومن هنا جاء قول القائل: “من تمنطق فقد تزندق”.

تتعرض التوراة الى شرح السبب الذي أدى الى طرد أبينا آدم من الجنة فتقول: ان آدم عاش في الجنة، هو وزوجته الحسناء، منعما سعيدا، لا يقلق باله غم ولا يعتوره شقاء، حتى جاء اللعين ابليس الى زوجته يغريها بأكل الشجرة المحرمة. وتصف التوراة هذه الشجرة بأنها “شجرة معرفة الخير والشر”.

حار رجال الدين في تعيين نوع هذه الشجرة المنحوسة التي طرح آدم بسببها من الجنة. فمنهم من قال: انها شجرة التفاح. ومنهم من قال: انها القمح. ومنهم من قال غير ذلك. والذي نلاحظه انها لم تكن تفاحا ولا قمحا، ولا بطيخا! انها بالاحرى شجرة رمزية تدعو آكلها الى الشك والتساؤل وتحرضه على البحث في مسالة الخير والشر والتمييز بينهما. وبعبارة أخرى: انها تشير الى مفهوم العصيان والتحلل والجرأة على الحرام. فلقد أمر الله آدم ان لا يقرب من الشجرة، كما يقول القرآن، ولكن آدم عصى أمر ربه فأكل منها. والمشكلة اذن تنحصر في عصيان الامر الرباني لا غير.

لقد جاءت المدنية للانسان بخير عظيم ولكنها جاءت له أيضا بشر أعظم منه، فهي قد أطلقت الفكر من حبسه فأخذ يجوب الفضاء ويستفهم عن كل شيء وهي مع ذلك قد سارت بالفكر في طريق القلق والالتياث والعصيان. انها قد أطعمت البشر من شجرة معرفة الخير والشر، على حد تعبير التوراة. وهي بذلك قد أذاقتهم من ويلات الخير والشر قسطا كبيرا.

لقد كان البشر قبل المدنية لا يفكرون وكانوا أيضا لا يقلقون، وقد يصح ان نقول: أن التفكير والقلق صنوان لا يفترقان.

قال ابو الطيب المتنبي في احدى قصائده الخالدة:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة بالشقـاوة ينعم

ان “البلاهة” العامة تجلب للناس الطمأنينة والسعادة _كما قلنا. وقالوا قديما: “السعيد هو الذي لا يملك لنفسه قميصا” وهم يقصدون بذلك: ان السعيد هو الذي لا يملك قميصا ولا يريد ان يكون له قميصا.

اما ذلك الذي يريد القميص ولا يملكه فهو بؤرة الشقاء بلا شك، ومن هنا جاءت مشكلة المدنية الكبرى. فالمدنية معناها التكالب والتزاحم واستغلال الناس بعضهم لبعض. فظهر من بين الناس اذن طبقة مترفة تملك عدة قمصان: بينما يبقى كثير من الناس لا قمصان لهم. والناس قلقون عند ذاك اذا جاعوا واذا شبعوا. قيل: ان المتمدن اذا جاع سرق واذا شبع فسق. وهو في كلتا الحالتين شقي لا يقف شقاؤه عند حد. انه يركض وراء هدف، فاذا وصل اليه نسيه وابتكر له هدفا آخر يركض وراءه. فهو يركض ويركض الى غير نهاية _كمن يركض وراء سراب. انه يجدد ويبدع في كل يوم ولكن الجديد يصبح عنده قديما في اليوم التالي.

اما البدائيون الذين يعيشون على الفطرة فهم اذا شبعوا حمدوا ربهم واذا جاعوا حمدوا ربهم كذلك. ومزيتهم انهم يشبعون جميعا ويجوعون جميعا. فليس بينهم متخوم ومحروم فالتنافس ممنوع عندهم إلا فيما يجلب منفعة للجميع. اما التكالب الفردي فهم يعدونه عيبا لا يجوز لانسان ان يتصف به.

الهويات الصلبة والهويات المتنقلة

د. السييد اباه

في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «الطريق إلى مكان محدد»، يُبين المفكر البريطاني «دفيد غودهارت» أن الموجة الشعبوية العارمة التي تعرفها حالياً المجتمعات الغربية (من أبرز مؤشراتها البريكسيت ونتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية) هي تعبير عن تحول سياسي نوعي تشهده الديمقراطيات الغربية التي انتقلت من قسمة اليمين واليسار إلى قسمة جديدة تتصل بالهوية.

 

القسمة الجديدة هي بين «من لا ينتمون إلى أي مكان» anywhere ومن «ينتمون إلى مكان ما» somewhere. الفئة الأولى تتشكل من الأفراد الذين استفادوا من حركيّة العولمة الاقتصادية ومن الثورة التقنية الجديدة، فلم يعودوا يتشبثون بانتماءات عضوية جذرية، هوياتهم متحركة وأوطانهم متنقلة يشعرون بأن العالم كله وطنهم، أما الفئة الثانية فتتكون من أفراد متجذرين في أرضيات ثابتة وانتماءات موروثة يَرَوْن في العولمة وما يرتبط بها من الهجرات الجديدة تهديداً لأصالتهم وهويتهم وليس ظواهر طبيعية تاريخية.

 

 

 

 

وبالنسبة لغودهارد، يتعلق الأمر باستقطاب ثقافي في جوهره في ما وراء تلوناته السياسية: أولئك الذين لا انتماء لهم يتبنون قيم التميز الفردي والتعبير عن الذات والتفوق والنجاح، في حين يتبنى المنتمون القيم الأمنية والعائلية واحترام المعايير الجماعية والمشتركة.

المجموعة الأولى لم تعد تؤمن بالدولة القومية بل ترى فيها عائقاً أمام التطور والنمو ولذا يتطلع أفرادها إلى شراكات متعددة الجنسيات وإلى بناءات إقليمية أوسع من هذه الدولة (مثل الاتحاد الأوروبي)، أما المجموعة الثانية فلا تزال ترى في الدولة القومية التعبير الضروري عن الهوية الوطنية والحاضن الأوحد لمعايير ووشائج التضامن الاجتماعي والديمقراطية التشاركية.

 

وإذا كان من الجلي أن أحزاب اليمين المتطرف قد استفادت من هذا الصراع في السنوات الأخيرة، إلا أن الظاهرة في حقيقتها تتجاوز هذا الاصطفاف الأيديولوجي، فثمة شعبوية يسارية لا تختلف من حيث القاعدة الانتخابية عن تنظيمات أقصى اليمين، كما هو واضح من ديناميكية «حركة بوديموس» في إسبانيا و«حركة فرنسا الأبية» في فرنسا و«سيرزيا» في اليونان.

 

وإذا كانت هذه التنظيمات والأحزاب لم تتحول بعد إلى قوى سياسية راسخة، فإنها أصبحت من محددات المشهد السياسي وقد قلبت جذرياً ثوابته التقليدية من خلال «الانتفاضات الانتخابية» (حسب عبارة وزير خارجية فرنسا السابق هوبرت فيدرين) التي عرفتها عدد من كبريات الديمقراطيات الغربية في الفترة الأخيرة.

 

وعلى الرغم من الاختلاف الواسع بين السياق الغربي وسياقنا العربي الإسلامي من حيث رصيد التجربة السياسية وطبيعتها، فإن ثنائية غودهارت قابلة لأن تفسر جانباً أساسياً من جوانب التحول السياسي التي عرفتها المنطقة في السنوات الأخيرة، مع إضافة تحويرات جزئية على هذه الأطروحة.

 

ما نلاحظه في السياق العربي هو الانفصام بين النخب المتعلمة المندمجة التي استفادت من مسار التنمية الانتقائي المحدود الذي عرفته البلدان ذات الثقل الديمغرافي عن طريق سياسات الانفتاح الاقتصادي والشراكة الدولية والخصخصة الواسعة، والقطاعات العريضة التي لم تتمكن من الاستفادة من هذه الحركية بل دفعت قاسياً ثمن عجز السلطات العمومية وإخفاقها في تحمل الوظائف الرعوية والإدماجية التي قامت عليها شرعية الدولة الحديثة التي سعت إلى قيادة عملية التنمية والتحديث وحاولت إعادة قولبة المجتمع والهيمنة عليه.

 

الفئة الأولى تنزع إلى استقرار الدولة وقوتها وتتبنى قيم الانفتاح والشراكة الخارجية، والفئة الثانية هي التي انساق جناح عريض منها للتنظيمات الراديكالية الدينية والقبلية والإثنية، بحثاً عن دوائر انتماء بديلة عن الدولة، وهنا الفرق الجوهري بين المجموعات المنتمية في الغرب المتشبثة بالدولة الوطنية والجماعات «المنتمية» في منطقتنا التي تعادي هذه الدولة وتحاربها.

 

الدولة في السياق العربي هي مقوم الاستقرار والتنمية وأداة الانفتاح على العالم، وإن كانت ضعيفة الهوية وهشة الانتماء نتيجة لاصطدامها الضروري بالهويات المجتمعية الصلبة، في حين أن الهويات العضوية التي تستقطبها التيارات الراديكالية، وإن كانت مثمرة انتخابياً إلا أنها عقيمة ومهددة للكيان السياسي الجماعي.

 

لقب قال لي مرة المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري: لقد أخطأ اليسار المغربي والعربي إجمالا في سنوات الاستقلال الأولى عندما توهم أن الصراع الاجتماعي المطروح هو مواجهة الدولة بصفتها الوعاء المؤسسي للهيمنة الطبقية، بينما تبين أن الدولة هي الحليف الموضوعي للقوى التقدمية، وليس المطلوب سوى إصلاحها وتحويلها إلى دولة وطنية حقيقية.

لا تحتاج الصحراء إلى عذابات إضافية

د. محمد بدي ابنو

“نجلس على كثيب رملي ما. لا نرى شيئا. ولا نسمع شيئا. ولكن رغم ذلك هنالك شيء ما يسطع في صمت.” أنتوان دسينتأكسبيري

ـ1ـ

يتندر الأجانب المتابعون للشأن الموريتاني عادة وهم يبالغون قليلا بأنه محكوم بأفقين: أفق الانقلاب الماضي وأفق الانقلاب القادم. وأكثر ما يهم الناس عادة في أي حاكم جديد هو أنه استطاع أن يزيح الانقلابي السابق قبل أن يزيحه الانقلابي اللاحق.

في إحدى النكت الافريقية التقليدية نصف المفبركة أنه أُعـلـِن عن نجاح انقلاب في بلد ما. فتجمهر مواطنوه بحماس انتظارا لظهور الانقلابي الجديد. الأخير كان يتدرّب على الخطاب الذي حُضّر له : برنامجه السياسي والاقتصادي إلخ. أراد أن يفاجئ مواطنيه ببرنامج من النوع الثقيل يسمح له بسجنهم ساعات أمام المنصة. عندما صعد على الأخيرة بدأ كلامه بالتعبير عن “شعوره” : أنا سعيد. فتركوه وهم يهتفون ويصفقون دون انتظار كلمة أخرى : يحيى سعيد، يحيى سعيد… وبقي السعيد يتهجى خطابه لوحده أو مع حراسه. المهم في سعيد الوقت هو اسمه لأنه يسمح بالتصفيق له كبطل أبدي ثمّ كمخلوع أزلي.

ـ2ـ

أما مواطنو موريتانيا (الاسم الروماني الذي نجح المغامرُ الكورسيكي ‘كزافيي كوبولاني’ أن يغطّـي به على أسماء كثيرة “متغيرة” عُرفتْ بها صحراء السيبة) فيضيفون إلى “أحاديث” الانقلابات تندّرهم على التعديلات الوزارية. يقال بسخرية إن الأوساط الإدارية و”السياسية” بشكل خاص لا تملّ من الحديث عن تعديل وزاري جديد. “مخيب” قد أُعلن عنه للتو أو “حاسم” سيعلن عنه بعد أيام. في السنوات الأخيرة انضافت الحوارات السياسية إلى التعديلات والانقلابات. أصبح في كل فترة هنالك حوار “كأسلوب حضاري” سينهي “الأزمة السياسية”. هكذا دفعة واحدة. وطبعا هنالك قبله وبعده حوارات أخرى – حضارية طبعا – لحل الأزمات التي تعترضه أو تلك التي تنشأ عنه. ثمّ حوارات حضارية إضافية حول هذه الأخيرة إلخ.

لاحظ مرة أحدُ الكتاب أن نواكشوط، فضلا عن اسمها ومشتقاته، تعاني من العواصف الرملية ومن عواصف أشدّ من الوزراء والوزيرات (ولعلّه يضيف لهم اليوم المحاورين والمحاورات)، من الجدد أو من “المجدّد لهم”. وإن هذه العواصف الوزارية لها تأثيرات هائلة ملموسة كالتفكّك العائلي والاختناق المروري والبطالة وتغول الجفاف وهجرة الشباب وتعبئة الانتماءات التقليدية. وتضمّ أشياء أخرى كالتطرف الديني والتطرف اللاديني وتقلّب أسعار العملات الأجنبية وزحف الرمال والاحتباس الحراري… والقائمة طويلة.

ـ3ـ

سواء وصلتْ صخرة سيزيف إلى أعلى الجبل أم لم تصل وأيا يكن “الحوار الحضاري” الجديد فليس من مصلحة أحد، أيا يكن تموقعه في السلطة أو في المعارضة أو خارجهما أن يتمّ المساس بالموادّ المحصنة في الدستور. حتى لو اتّفقت كل مكونات “الطبقة السياسية” على تعديل هذه الموادّ فإنّ ذلك لن يزيد المخاطر إلا حدّة. فخريطة ردود فعل الأغلبية الصامتة قد تغيرّتْ معالمها كثيرا. مبدئيا ومصلحيا يَلزم أن تبقى تلك الموادّ كلّيا خارج “البلابر”. ذلك ما تقتضيه المسؤولية حتى في حدّها الأدنى. ما حدث في عدد من الدول القريبة التي كانت تتمتع بسلم إجتماعي أقوى يكفي لإدراك مستوى الجنون الذي سيعنيه أي تعديل مباشر أو غير مباشر للمواد الدستورية المحصّنة.

ـ4ـ

في القافلة التي يرسم بجدارة أحمد ولدعبد القادر في بداية روايته الشهيرة “الأسماء المتغيرة” (دار الباحث، 1981) تتحدّد أشياء كثيرة لا أملّ من استحضارها. فيها يتوقف شريط أحلام “سلاك” الطفل الذي حمَلَ اسمه الثاني للتو كأول جرعة من عذابات تجارة الرقيق في أواخر القرن التاسع عشر. من اسم إلى آخر ومن عبودية إلى أخرى سيعرف بطل “الأسماء المتغيرة” كل أنواع مصاصي الدماء في الصحراء، من أبناء البلد ومن الأجانب. سيعرف قسوة الإنسان على الإنسان في محتواها المحض، قسوة ” الحجابين والجنود الفرنسيين”. تتابعَ التحول حتى أصبح اسمُه (في آخر الرواية) بابا الحكيم. وزفر وهو على فراش الموت بعد أن بلغ التسعين “يا إلهي لشدّ ما تعذّب أبناء الأرض. نعم تعذبتُ فوق طاقة تحملي”. في عقده الأخير، في أواخر الستينات وبداية السبعينات، حين انخرط بابا الحكيم في الحركة النضالية، ليمنح عطفه لقادة الحركات الشبابية، فضّل طبيعيا أن يناقش معهم الفرْق بين الحرية الفردية والحرية الاجتماعية.

اليوم تبدو الأسماء وكأنها ما تزال مولعة بالتغير. ويبدو بابا الحكيم وقد اضطر للخروج من قبره الثالث مرات، عكسا لما اعتقد، ليتساءل مرة أخرى “يا إلهي هل سينجح أبنائي في القضاء على العذاب؟”. تحتاج الصحراء إلى تغير يتجاوز الأسماء ولكنها لا تحتاج إلى عذابات إضافية.

بريطانيا وأوروبا: تاريخ الجغرافيا وجغرافيا التاريخ (1)

د. محمد بدي ابنو

 

ربّما يكون شكسبير قدْ اختصرَ تعقيدَ العلاقات الانجليزية الأوربية ـ أو بعبارة أدقّ الانجليزية الفرنسية ـ في مشهدٍ مقتضبٍ ساخرٍ من مسرحتيه “هانري الخامس″. يُقدّم المشهدُ الأميرةَ كاثرين فرنسا ابنةَ الملك الفرنسي شارل السادس ـ وزوجة هانري الخامس ملك أنجلترا ـ وهي تحاول بعد زواجها من الأخير أن تتعلّم من “وصيفة شرفها” عدّة كلمات من الانجليزية. ثم تشعرُ فجأة بالصدمة وهي تسمع بعضَها : “أصوات سيئة، فاسدة، فظّة ووقحة، ولا يليق أن تستخدمها وصيفات الشرف. لا يمكن أن أنطقَ هذه الكلمات أمام سادة فرنسا”.

ـ2ـ

 

لنتذكّر أن مسرحية شكسبير تتخذُ خلفيتَها التاريخية الحدَثِية من حياة الملك هانري الخامس، وبشكل خاصّ من معركة أزينكور التي انتصرتْ فيها بريطانيا على فرنسا. وأزينكور كما هو معروف هي إحدى مدن الشمال الفرنسي التي شهدتْ سنة 1415 واحدةً من تلك السلسلة الطويلة من المعارك التي يُطلِـقُ عليها المؤرخون اسمَ حرب المائة عام والتي يعتبرونها البؤرة المركزية التي انطلقتْ منها الأسطورتان المؤستتان لفرنسا وانجلترا في الفترة الحديثة. لنتذكّر ثانيا أن الأميرة كاثرين تُجسّد على أكثر من صَعيد الارتباطَ والصراعَ الشديدين الذين ميزا تزامنيا العلاقات المُركبة التي ربطتْ العائلتين المالكتين. فزواجها مثلا من ملك انجلترا هانري الخامس تمَّ بعد هزيمة الفرنسيين في هذه المعركة ووفْق معاهدة “تروا” الاستسلامية”. وستنجب منْه ابناً يصبح بدوره هانري السادس ملك  انجلترا وفرنسا. ورغم اضطرارِ انجلترا للانسحاب من فرنسا في نهاية حرب المائة عام فإنَّ ملوكَها سيحتفظون بتسمية ملك فرنسا خلال أربعة قرون، ولم تختف التسمية  إلا سنة 1802 مع معاهدة “آميان” في أوج المدّ النابليوني.

 

 

 

ـ3ـ

 

ما الذي حصلَ خِلال هذه القرون الأربعة التي ظلَّ خلالها حاملُ التاج البريطاني يَحملُ أيضاً لقبَ ملك فرنسا؟ تُذكِّرُ دراسةٌ نشرها سنةَ 2010 معهدُ الدبلوماسية الثقافية في برلين، عن العلاقات الصعبة بين أوربا وبريطانيا، بأنَّ الأخيرة كونتْ نظرتها الذاتية باعتبارها حصلتْ، بالمقارنة مع الإمبراطوريات الأوربية المنافسة، على أكبر “مساحة” من العالم. وبأنها أصبحتْ تَنظرُ إلى نفسِها باعتبارها أكبرَ إمبراطوريةٍ في التاريخ. لنتسْتحضر هنا أنَّ تلك القرون الأربعة عرفتْ إنشاء بريطانيا لمستعمراتٍ شاسعة في أجزاء واسعة من قارات العالم القديم ومحيطاته كما عرفتْ هيمنة التاج البريطاني على أغلب بقاع العالم الجديد. فطردَتْ بريطانيا على سبيل المثال فرنسا من معظم ما سمي بفرنسا الجديدة (معاهدة باريس  لسنة 1763التي أنهت حرب السنوات السبع لصالح بريطانيا وإسبانيا)، أي أغلب ما سيعرف بكندا والولايات المتحدة الخ.

ـ4ـ

 

ككلّ الامبراطوريات الأوربية الأخرى، فقد مثّلتْ خسارةُ بريطانيا في القرن العشرين لأغلب مستعمراتها في العالم جرحَها النرجسي النازف بعنف. وككلّ الإمبراطوريات الأوربية الأخرى فقد حاولتْ بريطانيا بعْدَ مآسيها في الحربين العالميتين أنْ ترى مؤقتاً في الفضاء الأوربي ما قدْ يسمح لها بالحدّ من خسائرها. وهو ما عبّرَ عنْه مثلا ونستون تشرتشل في خطابٍ ألقاه سنة 1946 في جامعة زوريق. تحدّثَ حرْفياً عن ضرورة تأسيس “نوعٍ من الولايات المتحدة الأوروبية”. واستخدمَ عباراتٍ شبيهة بتلك التي استخدمها الكاتبُ الفرنسي فيكتور هغو قَـرْناً قبلَ ذلك في خطابٍ غنائي مشهورٍ. بالنسبىة لمؤلف “البؤساء” فكما تجاوزتْ الدولُ القومية الصراعاتِ الجهوية داخلَها فستسمحُ الولايات المتحدة الأوربية ـ إنْ شُيدتْ ـ بتجاوز الحروب الوطنية القومية. بنبرةٍ حماسيةٍ مماثلة تحدَّثَ خطابُ جامعة زوريق أيضاً عن أوربا من منظور سياسي. ولكنَّ تشرتشل الذي سيصبحُ أوّلَ مواطنٍ شرفي للولايات المتحدة الأمريكية (سنة 1963) عارض ـ باسم المحافظين، ولحزب العمال حينها أيضا نفس الموقف ـ انضمامَ بريطانيا إلى منظمة الحديد والصلب (1951) التي ستشكلُ نواة المجموعة الاقتصادية الأوربية (معاهدة روما لسنة 1957)، أي نواة ما سيعرفُ عقوداً بعد ذلك بالاتحاد الأوربي. من الناحية السياسية ظلّتْ بريطانيا بعد الحرب الثانية تنظرُ بحذر إلى أوربا القارية. فهي تَعتبِرُ نفسَها الدولة الوحيدة في أوربا الغربية التي استطاعتْ مقاومة هتلير. وتبيِّنُ دراساتٌ عديدة أن تحالف الدول المؤسِّسة لما سيصبحُ الاتحادَ الأوربي لم يكنْ يعْني في نظر جزءٍ من النخب البريطانية النافذة إلا تحالفاً للمهزومين.

 

ـ5ـ

 

كيف تحمستْ إذاً بريطانيا في أو اخر الستينات للدخول في المجموعة الاقتصادية الأوربية؟ وكيف أصبحتْ عضواً  فيها سنة 1973؟ أي كيف قبلتْ ، وفقَ تفسيرات معينة، بدخول الرأسمالية الجزيرية في صدامٍ  مع الرأسمالية القارية (مثلا دراسة رشارد هيمان، بريطانيا والنموذج الاجتماعي الأوربي: الرأسمالية في مواجهة الرأسمالية، معهد دراسات الشغل، بريتن، 2008)؟ لنعد إلى ذلك في حديث قادم.

 

لنلاحظ قبلُ وبشكل أعمّ أنه على الصعيد التاريخي تمثلُ ظاهرة هيمنة أوربا الغربية على العالم بعد اكتشاف الأمريكيتيْن ظاهرة لا فتة وربما غير مسبوقة في التاريخ، على الأقلّ في مستوياتٍ معينة. ولكن تمدّدها غيرَ موحدةٍ وإنّما مفكّكةً في شكلِ إمبراطوريات متنافسة ومتصارعة مثَّلَ ربّما عنصرَ “قوتها” الأكثر حساسية. فقدْ تكونُ المنافسات البينية قدْ جسّدتْ جزْئياً البابَ الذي دخلتْ منه أوربا الغربية مَا يُمكنُ أن نسميه بتاريخ الجغرافيا خلال توسّع امبراطورياتها خارج أوربا. ولكنَّ تلكَ الصراعات البينية، مثلاً مع الحرْبين الكونيتين وما بعدها، قدْ جسّدتْ، ولعلّها ما تزال تجـسّدُ، النافذةَ التي يمكن أن تخرجَ  عبرَها أوربا ممّا يجوز أن نُطلقَ عليه جغرافيا التاريخ.

 

*  مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل