19 سبتمبر، 2025، والساعة الآن 5:43 صباحًا بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 10

في الهويات الأمازيغية: من الجبال إلى ما بعد السهول

أبو العباس ابرهام

لعلّ مصطلح “الربيع العربي” الذي أذاعه، وإن لم يكن ابتكره صحفي “نيويورك تايمز”، توماس فريدمان (ذلك أن مجلة “فورين بوليسي” سبقته إليه)، [1] يعمد إلى حجب وتغميض العناصر غير العربيّة في موجة الحراك العربي الكبير بدءًا من أواخر 2010 التي عمّت معظم أجزاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتجاوزتها إلى نواحي غيرها.[2] ففيما تُنسيِ صفة “فورين بوليسي” وفريدمان هذه أنماط الحراك الكردي والتركماني والدرزي والأشوري في هذه الأحداث في المشرق العربي فإنّ ضحيّتَها الأهم في “المغرب العربي” كانت الحراك الأمازيغي.
تهدف هذه الورقة إلى الكشف عن جوانب من هذه الطفرة الأمازيغية من خلال البت في خصوبة تجربتها التاريخية وتعدُّدِّها مع النظر إلى بعضِ جوانبها المتعلِّقة باللغة والهوية. سأحاجِجُ فيما يأتي أنّ الرّبيع العربي تصاحب مع حِراك أمازيغي كبير في أرجاء من المغرب العربي. وسأتقصّى الجذور التاريخية لهذا الحِراك قبل أن أعرج على بعضِ محدِّدات وتناقضات هذا الرّبيع وعلى بعض إشكالياتِه بصفة عامّة.

1- الرّبيع الأمازيغي

وفي الحقيقة فإن صفة “الرّبيع”، الذي هو مصطلح ليبرالي طُرِحَ منذ “ربيع براغ” 1968 للترحيب بالتحركات الشعبية ذات المطالب الليبرالية،[3] قد أُطلِقت أوّل ما أُطلِقت في “المغرب العربي” على التحركات الشعبية الأمازيغية. ولعلّ حراك الأمازيغ في 1980 “منطقة القبائل” شمال شرق الجزائر، وخصوصاً احتجاجات الشباب ونشطاء المجتمع المدني في “تيزي وزو”، شمال الجزائر، ضّد حظر مظاهرٍ من الثقافة الأمازيغية وللمطالبة بالاعتراف بالخصوصية الأمازيغية كان أول “ربيع” في المنطقة العربية، وسيعرف منذئذٍ عالمياًّ بـ”ربيع البربر” أو “الربيع الأمازيغي”. ويعودُ لنا مصطلح “الربيع الأمازيغي” مرة أخرى، وإن كانَ قد وُصِفَ بـ”الرّبيع الأسود” هذه المرة، ليصِفَ الحراك الأمازيغي في 2001 في منطقة القبائل مرّةً أخرى، حيث سقطَ عشرات الضحايا احتجاجاً على عنف رجال الدرك والشرطة ضدّ المحتجين الأمازيغ.

ولا تختفي عناصر “الرّبيع الأمازيغي” حتّى مما أصبحَ يُطلَقُ عليه اختزالاً “الرّبيع العربي”. ففي هذا الربيع في المغرب حقّقت الحركة الأمازيغية في 2011 أهمّ انتصارٍ لمجموعة غير عربية في البلدان العربية بعد أكراد العراق، غداة الاعتراف بالأمازيغية لغةً رسمية في دستور 2011، وهو اعتراف جاء عشية دخول أمازيغي كبير في حركة الاحتجاج الشعبي في فبراير 2011. وفي ليبيا، ذاتِ الأقليّة الأمازيغية، استطاع أمازيغ “جبل نفوسة”، شمال غرب ليبيا، بعد التحاقٍ بالثورة على نظام القذافي، الذي طالما أنكرَ الحقوق الثقافية والسياسية الأمازيغية، أن يمارسوا سيادةً محلية سمحَت لهم بإدخال اللغة الأمازيغية في التمدرس المحلي إضافة إلى إطلاق نشرات إذاعية بالأمازيغية. ولا شكّ أن هذا يعود إلى توطٌّدِ الأمازيغ الليبيين قوةً عسكرية مستقلة عن الجيش الليبي تتمتّعُ بنفوذها ورهاناتها وتحالفاتها العسكرية والسياسية. وإذا كان الإعلان الدستوري في أغسطس 2011 لم يجعل من الأمازيغية لغة رسمية كما أمِلَ أمازيغ ليبيا إلاّ أنه وعد بالحقوق اللغوية والثقافية للجميع، وجعلِ من الأمازيغية لغة “وطنية”.[4] وفي تونس أظهر أمازيغ “جربة” في “مطماطة” و”عرقوب السعادنية” البالغين أقلّ من 2٪ من السكان، أنفسهم للعالم، مُكسِّرين أسطورة التجانس العرقي واللسانية المؤسِّسة للقومية التونسية، وذلك عشية هروب بن علي، مؤسِّسين “الجمعية التونسية للثقافة الأمازيغية”، التي، مع ترخيصها، بدأت ما وُصف بأنه نهضة ثقافية وفنيّة تونسية.[5] ورغم أنّ الهوية الأمازيغية قد اختفَت من السياسة الموريتانية منذ مطلع العصر الحديث، إلاّ أنّ الربيع العربي أيقظ اهتماماً إعلامياً غير مسبوق بالماضي الأمازيغي الموريتاني.[6]

وللمفارقة فإن ضعف “الربيع العربي” في الجزائر انعكس على ضعف إمكانات “الربيع الأمازيغي” فيها، مع أن الحركة الثقافية الأمازيغية بالجزائر هي جدلاً أقوى الحركات الثقافية الأمازيغية المغاربية وأكثرها مكاسب وثقة واعتداداً وتسييساً. ولعلّ هذا “التقاعس” الجزائري عائدٌ إلى كون مطالب تأهيل “التمازيغت” إلى لغة وطنية، وإن ليست “رسمية”، إضافة إلى مساحات التعبير الأمازيغي هو “مكسب” حقّقه “الربيع الأسود” الجزائري في 2001 عندما أذعنت حكومة بوتفليقة للاحتجاجات القبائلية وأطلقت بوتقة إصلاحات وتراخيص ثقافيّة.[7]وفي منطقة الصحراء الكبرى، وبفعل توسُّع تداعيات الحرب الليبية 2011، ثارت قوى الطوارق وأطلقت ثورتها الثالثة ضدّ النظام الحاكِم في جمهورية مالي وأسفرت لوقت وجيز عن توطيد كيان طارقي مستقل، قبل أن تؤدِّي قوى الإسلاميين المسلحين إلى تجاوز البعد القومي لثورة الطوارق واستبداله بمشروع قاعدي أو متفرِّع من “القاعدة”.[8]

2- في تقدم الهوية الأمازيغية

إذاً لم يحل “الربيع العربي” إلاّ وكانت الحركة الأمازيغية قد صارت بارزة وواضحة حتى للأباعد، مستدعية بذلك ثقة هوياتية وطفرة في الدراسات الأكاديمية وباعثةً به وحدة ثقافيّة، إن لم تكن أمميّة أمازيغية، على مستوى المغرب العربي ومنطقة الصحراء الكبرى. ويمكن المحاججة أن هذا النجاح السياسي النسبي للحركة الأمازيغية يُعبِّر عن نجاح في أممية ثقافية للأمازيغ[9]. وبدوره يعود هذا إلى تراكم تاريخي مُطّرد. وفي الحقيقة، فإن ظهور مصطلح “الأمازيغ” وصفاً لمختلف هويات “البربر” في أرجاء منطقة المغرب والصّحراء هو نجاح لمستوى أولي من القومية: وهو تخيل هوية موحدة متجانسة الوجدان واللسان والهموم. وهو بالأخصِّ نجاح الطبقة الوسطى في تخيّل نفسها طليعة و/أو امتداداً لمجتمع متكامل من خلال وسائط الرأسمالية الثقافية والطِّباعيّة، بالمعنى الذي أذاعه بنديكت أندرسون،[10] أو “ابتكار التقاليد”، بالمعنى الذي أذاعه أريك هوبزباوم: إنتاج تقاليد تُسْبَغُ عليها صفة القدامة وتُسقَطُ على التاريخ وتؤسِّسُه وتُصبحُ مرجعاً لتأسيس الأمة أو المجتمع.[11] سأستخدِمُ، وإن بإضمار ودون تجريد، هذين الإطاريْن لفهم ديناميكية الهوية الأمازيغية في عصر الحراك الجماهيري.

وإذا كان ما نشهده اليوم على مستوى تطوُّر الحركة الأمازيغية هو خلق وحدوية أمازيغية قادرة على التشكل والانتظام الثقافي، وربما السياسي، فإن جزءً أساسياً من هذه العملية هو تعميم وتوسيع المجال الشعبي الأمازيغي وإلحاق كيانات ومجتمعات البربر المتفرقة في المغرب العربي بهوية الطبقة الوسطى القبائلية والشلحية-الريفية التي، من خلال مثقفيها ومجتمعاتها المُهاجرة والمقيمة في المدن، أصبحت تتصدّر الثقافة وتعيد تعريف وإنتاجَ الأمازيغ وتوسيعَهم لشملِ كلِّ مجال “البربر” التاريخي. وفيما يُواصل أمازيغ ليبيا مثلاً مدّ أيديهم إلى “التبو” القاطنين بالجنوب الليبي والشمال التشادي والنيجري، والمنسوبين غالباً للبربر، ولكن المتمايزين لغوياً وسياسياً وثقافياً عنهم، فإن أمازيغ “القبايل” في الجزائر يواصلون أممية أمازيغية شبيهة بانتهاج قضية بربر الجنوب في منطقة “المزاب” وإجمالِها في قضيتهم. وتلوحُ أممية كهذه بين بربر “الريف” وبربر “الأطلس” في المغرب، رغم تبايناتِهم التاريخية والثقافية واللسانيّة. وتوجد حالة وجدانية بين أمازيغ الجنوب الجزائري والطوارق في مالي والنيجر، هي جدلاً ما يُعطي للدولة الجزائرية نوعاً من السلطة الناعمة في القضية الطارقية. ولا يندرُ حتى في الخطاب الأمازيغي المغاربي إسباغ الهوية الأمازيغية على بربر موريتانيا، رغمَ الاختلافات البيِّنة في مفهوم “البربر” واشتغالاته في المجال الموريتاني.

وإذا كانت الأممية الأمازيغيّة تقوم، مثلُها مثل أي حركة قومية، بتخيُّل الأمة من خلال هوية مشتركة وأصل واحد، فإن هذا-للمفارقة- ينعكس حتّى على ممارسات الدولة “العربية” المغاربية التي تقوم بمشروع توحيد لغة الأمازيغ، ضاربة عرض الحائط بالتواريخ والتشعبات اللسانية لهذه اللغات. ففي المغرب تريد الحكومة تقعيد التاشلحيت والتيريفيت والتمازيغت في إطار واحد هو لغة التامازيغت الممحوَرة نحوياً لتشمل كلّ المكوِّنات اللسانيّة المتضاربة. ولا شكّ أن هذه النزعة التعميمية والتقعيدية لهوية ولسان البربر تستمدُّ أثرها من رومانسيات قومية معينة. ولكنها، وكما يُظهرُ بعض دارسي الأيديولوجيات اللغوية في منطقة المغرب، وفي الثقافة الأمازيغية بالخصوص أمثال كاثرين هوفمان وبول سيلفرستين وسالم شاكر، أيضاً نتاج تلاقح معرفي-سلطوي (وهو شبيه بالنموذج الفوكوي) عملت فيه أنظمة المعرفة الغربية على إنتاج خطاب أثنوغرافي مَاهَى بين اللغات، عربية كانت أم بريرية، مع أنماط “ثقافة” معينة؛ ورتّبَ على هذا استنتاجات وممارسات وهويّاتٍ ثقافية معينة. ولا نقصد بهذا المفهوم الذائع، بل والمُبتذل، أن الأستعمار فرّقَ ليسود أو أنه أنتج هويات غير عربية ما كانت قائمة قبله. فالحقيقة أنه، وكما أظهر بعض الدارسين، فإن نطق الاستعماريين الفرنسيين وتمرُّسِهِم في اللغة العربية، وهو تمرُّس واكب عملية تحديث العربية في فترة ما يُسمّى بـ”النهضة”، رفعَ من مقام العربية وأذاعَها في الشعوب الأمازيغية وجعل قيمتها الاجتماعية تتجاوز استخداماتها الدينية إلى أخرى دنيوية وطبقية وصُعودية.

3- بين السهول والجبال: في التطور التاريخي للهوية البربر

ولكيلا يفهم القارئ هنا أن نموذج “المجتمع المتخيّل” الذي دافعنا عنه هنا يُقصي حقيقة و”موضوعية” الوجود التاريخي لـ”البربر” فإنه لا بدّ لنا هنا من التوّقُّفِ قليلاً للنّظر إلى هويات أمازيغية فيما قبل الحداثة. وطبعاً ليس هذا التوّقف من أجل القول إن الهوية/ـات كانت ثابتة قبل الحداثة ثمّ صارت مُحدّثة ومُنتَجَة ومُقعّدة فيما بعدها. بيدَ أنه من الصّعب إغفال تاريخ الثقافة الأمازيغية وكيف تكمكمت عبر مختلف الأنظمة السلطوية التاريخية، وكيف أنتجت تلك الأنظمة تصنيفات هوياتية بناءً على تصورات معرفية معينة سرعان ما أصبحت لها تجليات سياسية معيّنة أو صارَت هي تجلياتٌ لممارسات معيّنة. وقد نجح الرومان، عكس ما تُقدِّمُه الصورة القومية الأمازيغية والعربية، فيما قبل الإسلام في صهر نواة من البربر المتمدِّنين، وإن بقت ضئيلة، في الثقافة اللاتينية والمسيحية (لنفكِّرْ الآن في القديس أوغسطس ولوكيوس أبوليوس، وهما أمازيغيان أهديا أهمّ اللاهوت و”الرواية” الأدبية للحضارة الرومانية المسيحية). وبنفس الطريقة التحمَت نواة من البربر المتمدِّنين في دولة الفتح العربي. فيذكُرُ لنا المؤرِّخون العرب الوسيطون حضور الطاقم الخدمي من البربر في أمّهات وحشم وكتبة الخلفاء والأمراء وفي طبقات الفقهاء والجند. على أنّه برغم المبالغات بخصوص تمفصل البربر عن الإطار العربي في المنطقة المغاربية (وصلَ التداخل إلى درجة أن بعض اللغات الأمازيغية كانت تحوي نسبة 60% من اللغة العربية)، وكأنهما برزخان لم ينفذا إلى بعضِهِما، إلاّ أن هذه التصنيفات تبدو غالباً جليّة، وإن كانت متداخلة، في تاريخ المغرب (مثلاً خلقت الفتوحات الإسلامية نواة قتالية في البربر كانت أساسية في فتح الأندلس وصقلية ثم في تنازع السلطة مع العرب فيما بعد ذلك؛ واختلقت السلالات البربرية في المغرب والأندلس كالمرابطين والموحدين لنفسها أصولاً عربية أو تعرّبت في البيروقراطية والبلاط والزيجات الأندلسية).

ولا شكّ أنه كان هنالك أساس جغرافي لهذه الهويات الأمازيغية التاريخية المنفصلة، ولكنّه أيضاً لا يُفصل عن تواريخ الربيع الأمازيغي في القرون الوسطى. بل ويمكن القول إن هذا الأساس كان بمعنىً ما، وخصوصاً في تجلياتهِ الأخيرة، مُنتجَ الانتصار العربي على البربر في أواخر القرن الثامن الميلادي والثاني الهجري. فرغم نجاح العرب في أسلمة البربر (مع أن المؤرِّخ الجاد تاديكي لفيسكي يوضِحُ أن هذه الأسلمة استغرقت قروناً، وليس مجرد سنوات كما في الأيديولوجيا الإسلامية التاريخية) إلاّ أن تعريبهم تأخّرَ كثيراً عن أسلمتهم. بل وإن هويات سياسيّة للبربر سرعان ما بدأت تظهر في سياق النظام الإسلامي المتوطِّدْ، ذلك أن بربر المغرب قد راهنوا منذ القرن السابع على أنماط غير معيارية من الإسلام للدفاع عن خصوصيتِهم ضدّ العرب. وسرعان ما اعتنق بربر المغرب الإباضية والصفرية في العهد الأموي وأشعل ميسرة السقاء (ت 122 هـ)، الذي بايعه البربر أميراً، وعكاشة الخارجي ثورة خوارجية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الثامن الميلادي امتدت من المغرب حتى تونس.[12] وسرعان ما أفضت هذه الثورات إلى خلق أوّل الدّول الإسلاميّ’ المستقلّة عن العبّاسيين: الدولة المِدرارية الصفريّة والدولة الإباضية في غرب ليبيا وشرق تونس، في عام 144هـ. والأخيرة سرعان ما هاجرت بعد هزيمة العبّاسيين لها إلى غرب شمال الجزائر، وتحديداً في تاهرت، تيارت الحاليّة، وستعرَف بالدولة الرستميّة.[13] ولعلّ تداعيات هذا خلقت الأساس المجغرف لثنائية البربر والعرب، وخصوصاً عندما نجح المشروع العباسي في إنفاذ موجة جديدة من الجنود العرب من خراسان (إيران) هم الأغالبة الذين استطاعوا إخماد موجات الثورات البربرية التي اشتعلت من المغرب حتى إفريقية (تونس) مروراً بـ”مْزاب” (وسط الجزائر).[14]

ولاشكّ أن انكفاء البربر اللاحق في الممالك الخارجية الهامشية كالرستميين في “المغرب الأوسط” ثم في “مْزاب”، والذين بايعهم بربر “جبل نفوسة” إضافة إلى غلبة الممالك العربيّة أو المتعربة في الأصقاع المدنية فتحّ المجال للحركة الدينية الاجتماعية المتأسِّسة في الرباطات والزوايا، والتي سرعان ما تطوّرت إلى سلالة السعديين في القرن السادس عشر في المغرب فأعطوا دفعاً للتعريب وإبعاد البربر. وعموماً توطّدت هوية البربر في المغرب في المناطق الوعرة والقصيّة على “الفتح العربي” و”العثماني”. وسيكون لهذا مترتبات على مستوى ربط العروبة بالمجال العام والأمازيغية بالمجال الريفي أو المُخصخص. غير أن هويات البربر هذه بقيّت مشتّتة في جزائر متنائية، وأحياناً متجافيّة، ما بعّد التلاقيات اللسانيّة بينها وقسّمها إلى جُزُر ثقافيّة ولسانية لا تتفاهم فيما بينها.

على أن عزل البربر أيضاً حافظ على خصوصياتِهم الثقافية واللسانية، مهما بقيّت مشتّتة، وبالتالي انعكس على ثقتهم النضالية الحديثة. وما تقولُه هذه الورقة هو أنّ الوعي الحداثي الذي يطبع الربيع الأمازيغي هو وعي يحاول إعادة الجسر بين هذه التفرّقات التاريخية ويتخيّلها على أنّها ذات أصلٍ واحِد. إلاّ أنّ لهذه التواريخ دوراً معلوماً. وربما يعودُ نبوغ الهوية الأمازيغية في الجزائر أكثر من المغرب (مع أن أمازيغ المغرب أكثر من أمازيغ الجزائر) إلى تاريخ العزل الجغرافي والسياسي للأمازيغ في منطقة “القبائل الكبرى والصغرى” و”تل الأطلس” عموماً. فالتيمارات العثمانية لم تقم بشكل واسع في الجزائر، وقد فشلت في ربط المزارع الأمازيغي بالإقطاعي العربي أو التركي. وقد ظلّ بربر “القبائل”، المتحصنين في منطقة “القبائل الكبرى”، وهي المنطقة الجبلية ما بين الجزائر العاصمة و”بجاية”، ومنطقة “القبائل الصغرى”، ما بين “بجاية” و”عنابة”، وفي “جبال الأوراس”، جنوب “قسنطينة” في صراع وثورات دائمة على النظام الإقطاعي العثماني، ما أدّى إلى تقلُّصِ المساحة الأمازيغية وتحصُّنُ البربر في المناطق الجبلية، واكتفائهم بالمساحات والسهول والأودية في تلك الجبال ليقتاتوا على الزراعة.

وفي المغرب قامت ثنائية شبيهة بثنائية السهول والجبال هذه عَرفها الحس الشعبي بثنائية “بلاد المخزن” و”بلاد السيبة”. ورغم رفض المؤرخين اللاحقين لهذه الثنائيات لما تستغفله من أنماط التعاون والتداخل بين “المخزن” و”الريف” (وفي الحقيقة فإن سلاطين المغرب العلويين اعتمدوا في بقائهم على عناصر مُجنّدة من “البلاد السائبة”، وقد فُسِّرّت ثورة الرِّيف في 1920 في إطار ردِّ فعل مجال “السيبة” على نزعِ غطائه “المخزني” ورغبتِه في هذا الغطاء: لنفكر مثلاً في تجارب موحا الزياني وموحا أوسعيد) إلاّ أن هذه الثنائية، غير المؤشكلة في الوعي الشعبي، كانت خطاباً ينتج ممارسات سلطوية معينة. ولا شكّ أنها تُخاطب انكفاء القبائل الأمازيغيّة بعيداً عن المجال المخزني. وقد صارت هذه الأسطورة أساسية للاستعمار الفرنسي لفصل سياسة المجال العربي عن مجال البربر، وهو ما سيعرفُ في التقاليد الاستعماريّة بـ”سياسة البربر” (La politique berbere) وسيتطوّر بشكل درامي إلى “الظهير البربري” في 1930. ورغم أن هذا التمايز لم يقم ابتداءً في الجزائر (بل في المقابل بدأ الاستعمار الفرنسي بسياسة تعريب في “الشاوية” ودافع الحاكم العام في الجزائر عن “قرأنة البربر” (coraniser les berber) إلاّ أنّه كان لهذا الانكفاء بعده الأمني الجغرافي، إذ حُصِرت الهوية البربرية المتحصنة في نفس امتداد الجبال الأطلس التي تحصّن في شعابها بربر الجزائر. وهكذا بقي “الأطلس الكبير” والصغير والمتوسط إطاراً حامياً لهويات البربر.

وربما لغياب هذا العامل الجبلي الوعر لم تُفلِح الهوية، وخصوصاً اللغة الصنهاجية، في الانكفاء بعيداً عن “الفتح العربي” في موريتانيا. وفي الحقيقة فإن الرحالة والتاجر البرتغالي فرناندس، الذي زار المجال الموريتاني في مطلع القرن السابع عشر، يُخبِرُنا عنما يبدو مرحلة أخيرة من صراع “العرب” و”البربر” يبدو فيها أن البربر الآزناكَة أو صنهاجة (الذين لم يشأ فرناندس، وما كان له، أن يُميِّزَ بينهما) تحصّنوا بهضاب آدرار، وما يعرفُ منها الآن بـ”كدية الجل” وربما قروسطياً بـ “جبل البافور”. وهكذا سمح غياب جبال رفيعة ووعرة على المُهاجِم والصائل كجبال الأطلس بما اعتبره المؤرخ آي أيتش نوريس، وإن بدرامية ومبالغة، سحقاً من العرب للبربر.[15] وفي الحقيقة فإنّه بعكس ما في شمال المغرب العربي فإن صنهاجة الصحراء الموريتانية تعرّبوا وصاروا، بحكمّ تحوُّلِهم إلى طبقة علمية، أقدر على استلهام العروبة حتى من مُعرِّبيهم وقاهريهم بني حسّان. وعندما تلوحُ ثنائية “حسان” و”الزوايا” الصّنهاجيين اليوم في موريتانيا فإنّها تخلو من الإحالات اللسانية والعرقية. بل وإذا كان من ثنائيّة في هذا الإطار فهي ثنائية “صنهاجة” و”آزناكَة”، الأمازيغيتان بالأصل. وبعكس المماهاة التي يقوم بها المؤرِّخون الغربيون بين هذين، وهي قطعاً مستقيمة من ناحية الأصل اللساني والعرقي، إلاّ أن “الآزناكَية” صارت ترجمة لفشل بعض الصنهاجيين في تسلًّقِ مقامات التعريب، والبقاء خارج المجال العلمي الصنهاجي مما شرّعَ إلحاقهم وتغريمهم من قبل بني حسّان وبيعِ حقوقهم أحياناً حتى لبني عمومتِهم الصنهاجيين.[16]

4- الوضع الطبقي والإنتاجي

القول النافِل هو أن الاستعمار دخلَ في حالة استقطابية كهذه، إلاّ أنّها صورة يمكن تفكيكها ببساطة. بيد أنّ ما يهمنا هنا هو كيف انفتحَ بهذا المقدم البابُ للتحولات المعيارية في هوية البربر من أقوامية جبالية زراعية إلى عُمالية وبرجوازية. ولا يتعلّقُ هذا فقط بالحدث السياسي المتمثِّلِ في الاستعمار في حدِّ ذاتِه، بل بإعادة ترتيب اقتصاد البحر الأبيض المتوسط في علاقات جديدة منذ القرن التاسع عشر. وخلافاً للصورة النمطية التي تسردها القومية العربية التقليديّة فإن ظهور قضية البربر لا يأتي بصفتِه إدخالَ الاستعمار لجماعات مضطهدة في التاريخ، بل بصناعة تاريخ موحّدٍ للرقعة الجغرافية الواحدة من خلال أواصر السوق المشترك والعلاقات الانتاجية وترابطاتِها الثقافية العابرة، وغالباً المُتحدِيّة، للقبيلة والعرق. وبطبيعة الحال فإن جزءاً من هذه التحولات هو مقاومة التحوُّلات نفسها. فواضح أن الأقليات المغاربية، عكس بعضِ، وليسَ كلًّ، الأقليات في الهند مثلاً، حاربت الاستعمار كثيراً بفعل الإمكانات التي أتاحاها الاستعمار في فتح علاقات نفوذ جديدة للأقليات مع الامبراطورية. ولعلّ ثورة الأمازيغ في 1871 في الجزائر كانت مبتدأ هذه الثورات. وفي المغرب ستظهر مقاومة الاستعمار في الريف البربري في ثورة الريف الأولى في 1909 ثم في كفاح عبد الكريم الخطابي وثورته في 1920 (وإنْ كان الأسلم عدم قراءة هذه الحراكات أنّها حِراكات قومية أمازيغية، مع أن مشكِّليها كان أمازيغاً غالباً).

وغالباً ما يتجاهلُ التأريخ السائد ثورة 1871 في منطقة القبائل الكبرى مع أنّه كان لمترتباتها انعكاس كبير على تغيير مصائر “البربر”، ذلك أنّ انتصار التفوق العسكري الفرنسي على انتفاضة منطقة “القبايل” نجمَ عن إجراءات عقابية تمثلّت، من بين أشياء أخرى، في مصادرة الأراضي الزراعية في منطقة القبايل. وهكذا تدمّرَ الأساس الإنتاجي والزراعي للمجتمعات القبايلية الأمازيغية، فانكسر الانعزال الأمازيغي في الجبال وتحوّلَ مزارعو “تيزي وزو” و”عنابة” إلى يدٍ عاملة في السهول العربية/الفرنسية. وكان لكارثة مجاعة الكروم الزراعية في فرنسا في ثمانينيات القرن التاسع عشر (حيث أدّى وباء الكروم الفرنسية المنتشر بفعل حشرة المن إلى إتلاف نصف محاصيل العنب الفرنسية ما أدّى إلى انخفاض مداخيل الزراعة وهبوط أجور المزارعين وشجّع استقبال المزارعين منخفضي الأجور في عبر المتوسط) انعكاسات هائلة على مزارعي “القبايل” الذين امتصتهم الحاجية الفرنسية للشغيلة الزراعية ووجدوا لأنفسهم مصادر دخل عُمالية من خارج الجزائر. وهكذا تكوّنت أولى النخب العابرة للبحر الأبيض المتوسط في الجزائر. ولدى عودة هذه المجموعات إلى “القبايل الكبرى” سرعان ما تحوّلت إلى طبقة وسطى مُلحقة بالبرجوازية الأوروبية وخلقت فضاءها العام والوطني المكوّن من المدارس الحديثة والصالونات الثقافية والصحف وارتفعت نسب تمدرسها بما زاد على أي منطقة جزائرية أخرى وتصدّرت البيروقراطية الاستعمارية (وإن كانت ستواجه منافسة شديدة من قِبل المستوطِنين الفرنسيين).[17]

وهكذا بدأت القضية الأمازيغية قضيّة وطنية قبل أن تكون قضية أمازيغية، وذلك من منظورين: الأول هو تحول النخب الأمازيغية إلى طبقة وسطى تجارية وإدارية وعُمالية متفرقة في الجزائر، وليست منكمشة جغرافياً أو ثقافياً. أما الثاني فهو تصارع هذه الطبقة مع منع المستعمر لها من تحقيق كلِّ إمكانيتها. وهكذا، للمفارقة، فإن النشطاء الأمازيغيين الأوائل استخدموا خطاب التعريب، وليس القومية الأمازيغية، شعاراً لحربهم ضدّ المستعمر الفرنسي. وكانت حركة التعريب قويّة في أوساطِ أمازيغ وإباضيي “مْزاب” حيثَ بزغّ شاعّر الجزائر، مفدي زكرياء. وكان قادة المقاومة الجزائرية الأمازيغيين قادة تعريبيين في لغاتِهم وتكوينهم أمثال مصطفى بن بلعيد وديدوش مراد ومحيي الدين بكوش وأحمد نواورة تكريم بلقاسم عريبيين. وفي الحقيقة فقد كان من مطالب “البيان الأمازيغي” في مطلع مارس 2000 الاعتراف بالهوية الأمازيغية للأبطال التاريخيين الذين “يسرقهم الخطاب العروبي” أمثال الجزولي وابن مطيع وأجروم والحسن اليوسي.

ويعودُ السبب في هذا إلى كون العربية الفُصحى، التي دّيّنها وعزَلها العصر العثماني، بدأت تتعلمن في هذه الفترة بشمل أكثر وضوحاً، ولم تعد مجرد لغة دينية جامِعة لغير العرب، بل صارت لغة أممية، تقودُها نواة برجوازية قوميّة، تنقل مشاعر الملايين وتربطهم وتُطوِّر قاموسها الحكامي والإداري الحداثي. وهكذا نُلاحِظُ تصاعد المد الثوري في أوساط أمازيغ عنابة وتيزي وزو، وفي جبال الأوراس عموماً، معقل مصطفى بن بلعيد، الشاوي، وأحد القادة الستة بجبهة التحرير الذي حارب الاستعمار في باتنة وعموم الأوراس. وفي المغرب لم تكن القصة بعيدة عن هذا، ذلك أن النخب الثورية في جبال الريف بدأت صعودها الاجتماعي “الحداثي” في إطار استخدامات اللغة العربية والإسبانية. وقد بدأ عبد الكريم الخطابي نفسه صحفياً ومترجماً وفقيهاً وقاضياً تخرجَ من التعليم العربي من جامعة “القرويين”، وكان له تعاطف مع حركات التحرر العربية والشيوعية الأمميّة.[18]
5- الأبعاد الجديدة للقضية الأمازيغية: توسيع ومجانسة الهوية/اللغة

وبالعودة إلى الهوية الأمازيغية الحداثية فلا يبدو أن الحركة الأمازيغية تخرجُ من “المجال الوطني” الذي دخل فيه الجميع غداة الاحتكاك بالاستعمار. غير أن حسم الاستقلال الوطني وتحرير الأمازيغ من ربق الجبال، إضافة إلى صعود المطالب الهوياتية المترافقة مع العولمة قد فتحَ المجال لمرحلة جديدة من الحِراك الأمازيغي، وهي تعريفهُ أمازيغياً وثقافياً، وتكميل الاستقلال العام بالخصوصية داخل هذا الاستقلال. وكما أسلفنا فإن هذه العملية تزداد بتخيل مجتمع أمازيغي تُوحِدُّه اللغة الأمازيغية وتُصبِحُ معيارَه. وربما ليس هذا استثناءً من أي ثقافة قومية تريد مجانسة أفرادِها وتطليس الفوارق اللسانية بين مكوناتِها.

بيدَ أن من صعوبات هذه المجانسة أن شعوب البربر في المنطقة غير قادرة على التواصل بينها بلغة موحدة، ذلك أن التمازيغت المحكية في الأطلس تختلف جذرياً عن التاشلحيت المحكية في جبال الريف. وتختلف الشاوية المحكية في جبال الأوراس جذرياً عن التريفيت التي، وإن كانت تتداخل في نقاط الاحتكاك مع التاشلحيت إلاّ أنها تختلف عنها، ولا يقدرُ أهلها أن يفهموا اللغات الأمازيغية في جبل نفوسة أو منطقة القبائل، دع عنك المزابية أو التماشق المحكية في منطقة “كِلْ آدرار” (جبال الإيفوغاس) شمال مالي أو الغدامسية المحكية في ليبيا. وقد دأبَ دارسوا اللغات الأمازيغية على التمييز فيما بينها بين عائلتين عريضتين غير قادرتين على التواصل بينهما هما الزناتية التي تجمع اللغات المحمية في “جبال الريف” و”الأطلس المتوسط” و”الأوراس” و”جربة” و”جبل نفوسة” في مقابل العائلة الصنهاجية المصمودية المحكية في منطقة القبائل والأطلس الكبير والصحراء الكبرى.[19] بيد أن عدم القابلية للتفاهم هذا يتواصل حتى داخل “العائلة” اللسانية الواحدة فالتاشلحيت تختلف جذرياً عن الزناكَية المحكية بقلّة قليلة في موريتانيا ويختلف هؤلاء عن التماشق، رغم أن كلّ هذه لغات صنهاجية.

ومن الأجدى النظر إلى التقاطعات اللغوية على ضوء انقطاع وتلاحم التقاليد والتواصل؛ ففي المغرب توجد مشتركات لغوية على أسس جغرافية، بَيدَ أنها سرعان ما تفقد الترابط اللغوي بسبب التنافر الجغرافي. فمثلاً يتفاهم سكان جنوب المنطقة الريفية مع سكان شمال المنطقة الأطلسية، أي أن بعض ناطقي التريفية قادرون على التواصل مع بعض ناطقي التامازيغت في منطقة الاحتكاك بينهما. ولكن ناطقي التريفيت غير قادرين على التفاهم مع ناطقي التشلحيت في مناطق التنافر وعدم الاحتكاك. وحتّى هنا لا بدّ من تلطيف هذا الحكم إذ أنّ التصانهاجيت المحكية في الريف المغربي تختلف جذرياً عن بقية الأمازيغية الريفية، رغم تقاربهما الجغرافي والعائلي.[20] وعموماً لا تَقدِرُ الفصائل الاجتماعية الأمازيغية أن تتواصل بينها كلياً بدون استدعاء لغة ثالثة هي العربية أو الفرنسية.

تقومُ الحركة الأمازيغية، باعتبارها حركة طبقة وسطى، على تغميض هذه الفروقات لأن هذا التّغميض يُولِّدُ مجالاً لسانياً مُتخيّلاً يُدمِجُ كافة مكونات الطبقة الوسطية الأمازيغية المغاربية في تاريخ ووقتانية ووجدان واحد. وفي الحقيقة فإن عملية التوحيد اللساني للأمازيغ ليست مجرد رومانسية قومية بل هي عملية سياسية حيوية (المفهوم الفوكوي) استثمرت فيها الدولة في المغرب، رغم شكوى المناضلين الثقافيين الأمازيغ من فقر برامج دعم الثقافة الأمازيغية، إذ يقوم “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” المؤسس منذ 2001 بمشروع توحيد لغة “فصحى” جامعة لكل الناطقين الأمازيغ وجعلها لغة مشتركة لكل دارسي الثقافة الأمازيغية، وحتى المستعمين لها عبر الراديو، جاعلاً بذلك من المدارس والإذاعات الأمازيغية مكاناً لصهر الاختلافات اللسانية بين مكونات “الشعب” الأمازيغي، بل وإدراكه أنّه شعب واحد. ولا يندُرُ أحيانا أن يُعارِضَ مناضلون أمازيغ هذا التقعيد لما فيه من طمسٍ للثراء الثقافي الأمازيغي وتحكم من “الدولة العربية” في الهوية الأمازيغية. ويبزُغُ من معارضي هذا التوجه الأكاديميان الأمازيغيان الجزائري سالم شاكر[21] والمغربي شريف أدركاك.[22]

إن هذا التصور المتجانس لشعوب البربر أنّها أمّة واحدة، وهو للمفارقة نفس إدراك الأخرنة العربية التاريخية للبربر، هو ما يسمحُ للحركة الثقافية الأمازيغية بتمديد مجال هوية الأمازيغ وتوحيدها. ففي الجزائر مثلاً تنافِحُ الحركة القبايلية عن المجموعات الأمازيغية في الجنوب في “مْزاب” وجنوب “وهران” حيثُ تحكي الأقليات الأمازيغية لهجات “التمزابيت” والتنزانيت المختلفتيْن عن التمازيغت. وفي ليبيا يُدخِلُ أمازيغ جبل “نفوسة” الآن في مطالبهم دعوات الخصوصية الثقافية لقبائل التبو جنوب البلاد، رغم أنّ هؤلاء غير قادرين على التواصل معهم إلاّ بالدارجة العربية الليبية، ورغم تفردِّهم السياسي عنهم. ويحدثُ نفس الشيء عندما يقومُ أمازيغ الشمال بالإحالات الخطابية إلى وضعية الأمازيغ في موريتانيا، رغم أنّه لم يعد يوجد في موريتانيا غير2001 ناطق باللغة الصنهاجية[23] ولم ينتظموا بعدُ في حركة تُسيِّسُ هويتهم اللسانية وتُوسِّعُها إلى مطالب ثقافيّة وسياسية. وباستثناء الإحالات، القدحية أحياناً، إلى “الأقلية العربية البربرية” التي هي من القاموس السياسي اليومي لحركة “إيرا” الانعتاقية،[24] إضافة إلى محاولات شبه منسية من حركة “ضمير ومقاومة” الراديكالية في التسعينيات إعادة الهوية “الصنهاجية” إلى الخطاب السياسي من منظور تفكيك المركزية البيضانية، فإن الوعي السياسي الموريتاني المعاصِر لا يَعقِلُ حركة أمازيغية، ويبدو له المصطلح إشكالياً، إن لم يكن غامضاً.

6- البعد الثقافي

وبقدر ما يجانس الخطاب الأمازيغي المركزي اليوم الهويات الجغرافية والتاريخية المتنافرة للبربر فبقدر ما تقوم “صناعة الثقافة” الأمازيغية بصناعة تقاليد يتمُّ تصورها أساساً وجوهراً لروح الشعب الأمازيغي، وخصوصاً في المغرب. وهنا يتم التركيز على الروزمانة الأمازيغية وتوسيعها إلى أساس للتاريخ وللوقتانية الأمازيغيّة. ولذا صارَ في السنوات الأخير رأس السنة البربرية، يناير، فرصة احتفائية وخصامية بخصوص الهوية الأمازيغية.[25] وبنفس الطريقة يتم التخصيص على خط التيفيناغ كرمز للحقوق السياسية الأمازيغية. ورغم أن التاشلحيت ظلّت تُكتبُ بالأحرف العربية إلى عهد قريب وأن الأمازيغية المغاربية، بعكس الطارقية، انقطعت عن التعبير بالتيفيناغ منذ قرون إلاّ المنعرج الهوياتي الاستقلالي، سواء على مستوى بعضِ الحقوقيين الأمازيغ أو المؤسسات المغربيّة، ينزع إلى تفريد اللغات “الأمازيغية” بالتيفيناغ التي ازدهرت في المجال الطارقي جنوب الصحراء الكبرى أكثر من ازدهارِها في المغرب؛ وصارت أساسَ مشروع الدولة المغربية لتقعيد الكتابة باللغات الأمازيغية وفكِّ الارتباطِ بينها وبين العربية. وفي مرحلة معينة حرّمت الحكومات المغاربية رفع الشعارات الأمازيغية سياسياً قبل أن تتراجع عن هذا في “الربيع الأمازيغي”. وبرغم معارضة مثقفين أمازيغ كسالم شاكر لهذا التقعيد، لأنّه يقطع التواصل بين أمازيغ الجزائر الذين يكتبون لغتهم بالخط اللاتيني وبين أمازيغ المغرب الذين يكتبون بالتيفيناغ، إلاّ أن الحكومة المغربية تحقِّقُ نجاحاتٍ في مثاقفة التيفيناغ وتعميمه في المرافق الإدارية (وإن ليس في بقية المرافق العمومية).

ويظهر في الإحيائية الثقافية الامازيغية تعميم عادات “يوم نفقة اللحم” و”توزيع الرمان” والبحث عن أسماء “أمازيغية” متمايزة عن الأسماء العربية. وكانت الملكية المغربية، التي تمتلك تاريخاً في تقنين الأسماء (مثلاً ليس من حقِّ عائلة غير علوية التسمي أو التكني بالأسماء العلوية) قد حرّمت “الأسماء الأمازيغية” إلى أن شرّعتها مؤخراً. ويترجم هذا القرار انتصاراً للهوية الأمازيغية. ولا شكّ أن الفنانين الأمازيغ الجزائريين، الذين يشكِّلون حالة من التواصل الثقافي مع المغرب، قد سيّسوا التسميات الأمازيغية عن طريق إذاعة الكلمات والأسماء الأمازيغية كما هو شأن الفنانين الجزائريين تاكفاريناس وعميروش إغونام ومركوندة وماسينيسيا علي شيبان، الذين غالباً ما يعيدون أسماء الأبطال التاريخيين للأمازيغ إلى الاستخدامات والمسميات اليومية. ومن الطريف أن جزءً من الاحتدام بين الأمازيغ في “تيزي وزو” وبين الحكومة الجزائرية في 2001 كان يتعلّقُ بتنازعٍ على تسمية ناشطٍ أمازيغي قال المناضلون الأمازيغ أن اسمه ماسينيسا قرماح، وهو اسم يُحيل إلى الملك ماسينيسا البربري، وقالت الحكومة أن اسمه كريم، وهو اسم يُخفي الهوية الأمازيغية.

7- قضية علمانية؟

يرى الباحث بول سلفرستين أن من الأساطير المؤسِّسة للحراك الأمازيغي هي فكرة الإسلام المعلمن لدى الأمازيغ في مقابل الإسلام السلفي الحرفي لدى العرب،[26] مُشيراً إلى مصادرات تقوم بها عناصر في الثقافة الأمازيغية المعاصرة للاحتفاء بعناصر ثقافة البربر مما قبل الإسلام وإلى خصوبتها الوثنية والمسيحية واليهودية، وإلى مصادرة صناعة الثقافة الأمازيغية الحديثة للإسلام في نقلها لصورة البربر المعاصرين.[27] وكان لظهور صناعة الثقافة الأمازيغية وموضعتها انعكاسات على النقاش الحاضر الغائب أبداً في الطيفية الحداثية المغاربية بخصوص العلمانيّة والدين، وخصوصاً مع صعود خطاب إسلاموي أراد بدوره ترسيم العادات والثقافات لتنضوي تحت إطار الأرثودوكسية. وفيما يُهاجِمُ هذا الخطاب الأرثودوكسي المغاربي الممارسات الدينية غير السائدة فإنه يصطدم مع الخيارات الدينية التاريخية للبربر. وهكذا يجد الخوارج الإباضيون في منطقة مزاب في الجزائر نفسهم في مواجهة خطابٍ تخويني وتجريمي يصل أحياناً إلى عداء شعبي. ولعلّ أحداث “الغرداية” التي تواجه فيها الإباضيون الأمازيغ مع المالكيين العرب جنوب الجزائر في 2004 و2014 فاقمت هذا الاحتدام.[28] وبالنسبة للحركة الأمازيغية فإن هذه معاداة للأمازيغ تستدعي التضامن القومي. ولا يغيب عن الحركات العلمانية في العالم العربي هذا البعد الاحتدامي بين الإسلاموية والأمازيغية حيث في تونس وجدت الأحزاب العلمانية في دعم الحراك الثقافي الأمازيغي في تونس فرصة سياسية ضدّ الإسلام السياسي الذي تمثلُّه حركة النهضة.[29] وقد وجدَ الكثيرون في الاحتدام الثقافي الذي يُميِّزُ أقطاب التفكير في المغرب (مثلاً محمد أركون على حدة في مقابل طه عبد الرحمن والجابري وعبد السلام ياسين وغيرهم على حدة أخرى) استقطاباً بين مُحَابين ومُعَادين للأمازيغية.[30] ولاشكّ أن أسطورة لا إسلامية البربر وطّدت الخلافات بين الحركة الأمازيغية المغربية وحركات الإسلام السياسي، بحيثُ أن الناشطين الأمازيغ في حركة 20 فبراير 2011 التي تصدّرت حركة الحجاج الشعبي في المغرب غداة الربيع العربي قد انسحبت من الاحتجاجات بسبب التحاق الإسلاميين بها. [31]

بطبيعة الحال ليست الحالة استقطابيّة دوماً بين الأمازيغ والإسلاميين. ففي المغرب ساهمَ حزب “الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية” الذي قاده عبد الكريم الخطيب، والذي انحدر من كفاح الريف المغربي وساهم نشاطه في بلورة حركة سياسية سرعان ما صارَ لها بعدٌ أمازيغي هي “الحركة الشعبية” في إدخال “حركة التجديد” التي سيتفرع منها حزب “العدالة والتنمية الإسلامي” في السياسة. وفي ليبيا شهد عام 2013 تحولاً مفرقياً عندما تخلت الحركة السياسية الأمازيغية في “جبل نفوسة” عن حلفها مع ثوار الزّنتان غداة انضمامهم للواء حفتر، وتحالفوا مع الإسلاميين الذين استقلّوا بطرابلس.[32] بيدَ أن استقطاباً يحدث على المستوى الخطابي، فمثلاً يتعادى الخطاب الدعوي الإسلامي، الذي يرفض الوشم، مع عادات توشيم الوجه التي هي جزءٌ من التقاليد الأمازيغية في المغرب. ويحدثُ توترٌ كهذا على مستوى العادات الزفافية المُتعيّة، ذات الأصول البربرية، والتي بُعثَت من جديد في إطار صناعة الثقافة المغربية وفي إطار ما رآه بعض الباحثين مشروعَ “نزع السياسية” من قبل الملكية المغربية أيام الحسن الثاني. وليس بعيداً من هذا تصور وإدراك الممارسات الرقصية، المزدهرة في منطقة الأطلس المتوسط التي، في نفس الوقت الذي تكتسب فيه شرعية باعتبارها تقاليد أمازيغية، فإنّها تواجه تنخيساً وتقريعاً في الخطاب الدعوي الإسلامي.[33]

الهوامش:

[1] بخصوص توصفة “الربيع العربي” وأن مُطلِقَها هو صحفيُ “فورين بوليسي” مارك لينتش انظرالرابط.
[2] لم يكن غريباً في عزِّ “الرّبيع العربي” أن رأى الكثيرون علاقة بينه وبين حركات المدّ الشعبي اللاحق حتى في الغرب وفي أميركا كحركة “احتلوا وول ستريت” الاحتجاجية في أميركا. انظر مثلاً مقال مايكل سابا (حركة الربيع العربي ألهمت محتجي وول ستريت) على “سي أن أن” بتاريخ سبتمبر، 2011: انظر الرابط.
[3] في التأريخ النقدي لمصطلح “الربيع” وارتباطه بعواطف ليبرالية امبريالية معينة انظر مقال جوزيف مسعد: انظر الرابط.
[4] عن الوضع في ليبيا وانبثاق الهويات لدى الأمازيغ والتيبو والطوارق، انظر: إينس كول
“الأقليّات الرئيسيّة” في ليبيا: البربر والطوارق والتيبو: سرديات متعدِّدة للمواطنة واللغة وضبط الحدود:
Ines Kohl, 2014, “Libya’s ‘Major Minorities’. Berber, Tuareg and Tebu: Multiple Narratives of Citizenship, Language and Border Control,” Middle East Critique, 23: 4, 423-438.
[5] موقع الجزيرة. جمعية للثقافة الأمازيغية بتونس. بتاريخ 31، 7، 2011. انظر الرابط.
[6] انظر مثلاً:
أحمد جدو، كيف اختفى أمازيغ موريتانيا؟، موقِع رصيف، 18، 08، 2015. انظر الرابط.
محرز مرابط، هل تخلّى أمازيغ موريتانيا عن جذورهم: القصة الكامِلة، أصوات مغاربية، 31-07-2017 انظر الرابط.
[7] بروس مادي وايتزمان، (هل هو منعطف؟ الربيع العربي والحركة الأمازيغية)
Bruce Maddy-Weitzman, “A Turning Point? The Arab Spring and the Amazigh Movement,” Ethnic and Racial Studies, April, 2015, pp. 2499-2515.
[8] كنتُ قد حلّلتُ تقلقل الأوضاع في مالي في 2013 في مقال منشور بتاريخ 10 فبراير 2013. أبو العباس ابرهام. رجال ودول ومشاريع. موقع تقدمي. رابط موازي: انظرالرابط.
[9] سأستخدمُ طوال هذا المقال تبادلاً بين مفهومي “البربر” و”الأمازيغ” ليس رفضاً للباقة السياسية أو إنكاراً لرفض النشطاء الأمازيغ لمفهوم “البربر”، بل رغبة في إحقاق ثنائية بين وضعية كانت فيها الهوية الأمازيغية مفهومة غيرياً وأخرى مفهومة ذاتياً. فالبربر هنا هي الوضعية التاريخية لشعوب تحت نظرة الآخر، الفاتح، القاهر. هي هنا هوية لاكانية تخلُقُها صورة المرآة. أما “الأمازيغ” “الرجال الأحرار” فهي مرحلة االقومية الأمازيغية وصنع ذاتِها بذاتها. إنّني إذاً أميّز بين البربر كشعب ما قبل حداثي وبين الأمازيغ كشعب حداثي.
[10] بنديكت أندرسون، المجتمعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها. تحقيق ثائر ديب. دار قدمس للتوزيع والنشر،2009.
[11] Eric Hobsbawm and Terence Ranger, The Invention of Tradition. Cambridge: Cambridge University Press, 1983.
[12] انظر خبر ثورة البربر على العرب عام 117 هـ برواية ابن الأثير:
أبو الحسن علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتب العلمية، لبنان: بيروت، ج4، ص 416-418.
[13] عن هذه الدول انظر الأعمال الأساسية، كما هي موجودة مثلاً في أعمال البكري وابن حوقل والإدريسي والمؤلِّف المراكشي المجهول لكتاب الاستبصار وعبد الوهاب التميمي المراكشي وابن عِذارى وابن تومرت وابن أبي زرع، الخ. ولعلّ أفضل الأعمال التحريرية الجامِعة لهؤلاء هو مثلاً كتاب: نخب تأريخيّة جامعة لأخبار المغرب، نشر ليفي بروفنسال، باريس: مطبوعات لاروز، 1948.
محمود إسماعيل عبد الرازِق، الخوارِج في بلاد المغرب حتّى منتصف القرن الرابع الهِجري، الدار البيضاء: دار الثقافة، 1985. وانظر:
Paul M. Love, Jr « The Sufris of Sijilmasa : toward a history of the Midrarids,” The Journal of North African Studies, (2010) 15: 2, 173-188.
[14] ابن وردان، مستند تاريخ الأغالبة. تحقيق محمد زينهم محمد عزب. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1988.
[15]انظر نقدي لهذه السردية في كتابي عن تاريخ موريتانيا، أبو العباس ابرهام، آلاف السنين في الصّحراء: تاريخ موريتانيا من البواكير إلى اليوم. بيروت، لبنان: دار نماء، 2017.
[16] نفسه.
[17] لمقال في المتناول في هذا الإطار انظر:
Yves Lacoste & Camille Lacoste-Dujardi, “La revendication culturelle des Berbères de Grande-Kabylie”, Le Monde Diplomatique, Décembre, 1980, pp. 34-35.
[18] انظر مثلاً:
علي الإدريسي، عبد الكريم الخطابي: التاريخ المحاصر منشورات تفرزان ريف دار النجاح الجديدة، 2007.
[19] انظر مثلاً المقال الكلاسيكي المنشور في 1953 لوالتر كلين:
Walter Cline, “Berber Dialects and Berber Scripts,” Southwestern Journal of Anthropology, 9, 3, pp. 268-276.
[20] شريف أدرداك، “تصنهاجيت” أمازيغية مغايرة لتيريفيت لكنها مفهومة”. جريدة تيدغين، 27 ديسمبر 2013. انظر الرابط.
[21] انظر مثلاً تصور سالم شاكر:
“Salem Chaker à propos du statut de Tamazight. Tamazha.fr. 23 mai 2013. Link.
[22] جريدة الريف، المغرب، 12 سبتمبر 2013. انظر الرابط.
[23] بحسب موقع “أثنوبلوغ” المتخصِّص في اللغات عبر العالم.
[24] “بيرام ولد اعبيدي في جنيف: موريتانيا تحكمها أقلية عربيّة بربرية منذ الاستقلال”. أقلام حرة. 20، 03، 2010 انظر الرابط
[25] كامل الشيرازي، “عيد يناير مناسبة لإحياء التراث الأمازيغي”. يومية إيلاف الإلكترونية. بتاريخ 13 يناير 2009. انظر الرابط.
[26] Paul Silverstein, “The Cultivation of “Culture” in the Moroccan Amazigh Movement,” Review of the Middle East Studies, 43, 2, (winter 2009), pp. 168-177.
[27] نفسه، ص، 173-174.
[28] شبكة الإعلام العربية. “أحداث الغرداية بالجزائر: نزاع طائفي تعود جذوره لأكثر من أربعةِ قرون”. 19 مارس 2014. انظر الرابط.
[29] Bruce Maddy-Weitzman, “A Turning Point? The Arab Spring and the Amazigh Movement,” Ethnic and Racial Studies, April, 2015, p. 2506-2507.
[30] انظر مثلاً
إبراهيم أزروال، “أركون والأمازيغية: في نقد المركزية اللسانية العربية الإسلامية” 2/5. موقع الأوان. بتاريخ 4 نفمبر 2010. انظر الرابط.
[31] Bruce Maddy-Weitzman, pp. 2502-05..
[32] نفسه، 2506.
[33] Bernhard Venema and Jogien Bakker, “A Permissive Zone for Prostitution in the Middle Atlas of Morocco,” Ethnology, Vol. 43, No. 1 (Winter, 2004), pp. 51-64.

رئيس مركز مبدأ يشارك بمؤتمر دولي في الإمارات العربية المتحدة

شارك رئيس المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ)  الدكتور محمد سيد أحمد فال (بوياتي ) في المؤتمر الرابع لمنتدى السلم،المنعقد بتاريخ ١١-١٢-١٣ دجمبر 2017 بمدينة أبو ظبي بالإمارات العربية المتحدة .

رئيس المركز مع العالامة عبد الله بن بيه

و تأتي مشاركة رئيس المركز في إطار متابعة المشروع الذي افتتح المركز مؤخرا حو الفكر التجديد للشيخ العلامة عبد الله بن بيه و الذي شهد إلى الآن إقامة ثلاث ندوات حول كتب العلامة بن بيه و حلقات نقاش أيضا .

رئيس المركز مع وزير الشؤون الاسلامية الموريتاني

و يعد هذا المؤتمر من بين المؤتمرات الأكثر جذبا باعتبارها و جهة للكثير من النقاشات الجادة حول أهم مشاكل لعصر من قبيل التطرف و التعايش و الحوار بين الأديان وقد ناقش المؤتمر  هذا العام مجمل القضايا المهمة التي يعاني منها العالم الإسلامي ،ومن ضمنها قضية الإسلاموفوبيا . وإشكالات التطرّف والإرهاب. والنص والتأويل والجهاد والاجتهاد ….الخ الخ حضرته نخب من مختلف الجهات والمرجعيات وكانت النقاشات ثرية ومفيدة.

رئيس المركز مع أحد أبرز علماء موريتانيا حاليا

الدين السكوني والدين الحركي عند هنري برغسون (Henri Bergson (1859-1941

إسماعيل الموساوي
باحث مغربي متخصص في الفلسفة. حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش

“قد نرى في الماضي، أو في الحاضر، مجتمعات إنسانية لا حظ لها من علم أو فن أو فلسفة، ولكن لا نعرف مجتمعا لا دين له” هنري برغسون Henri Bergson
تقديم إشكالي:
تطمح هذه الدراسة في معالجة قضية أساسية شغلت بال الكثير من المفكرين والفلاسفة على مر العصور، وهي قضية الدين[1]؛ هذه الأخيرة التي حاول أن يتصدى لها العقل الإنساني بكل ما أوتي من قوة، محاولاً الإجابة عن مجموعة من المشكلات التي كانت تعترضه من قبيل: مصير الإنسان بعد الموت، وغايته من وجوده في هذا الوجود، وغيرها كثير من قبيل هذه المشكلات… ويعزى اختيارنا للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون Henri Bergson في هذا السياق لكون أن الحديث حوله في الدراسات العربية التي أنجزت عادة ما ينظر إلى فلسفته، باعتبارها فلسفة طبيعية تطورية تأخذ من مبدأي التغير والصيرورة في الحياة ما تفسر به جميع الموضوعات المطروحة في الكون، وهذا الأمر لا نختلف فيه إذا توقفنا عند كتاباته الأولى[2]، وإنما نؤيده ونقر على صحته، أما إذا رجعنا إلى كتاباته الأخيرة، ولاسيما كتابه المعنون بـ “منبعا الأخلاق والدين” Les Deux Sources de la Morale et De la Religion 1992، فإنبرغسون يعيد فيه الاعتبار للقضايا الروحية والأخلاقية والدينية من خلال بسطه لرأيه في الدين والأخلاق، ودورهما في الحياة الإنسانية ومستقبلها. وكما يقول المفكر عبد الرحمان بدوي، إن هذا الكتاب “مزيج من التصوف والفلسفة الخلقية والتأملات السياسية ذات النزعة الحالمة”[3]. إذن، فكيف تصور برغسون قضية الدين؟ وما تفسيره لها؟ وما الفرق بين الدين السكوني والدين الحركي عند برغسون؟ وما علاقة الدين عند برغسون بالتجربة الصوفية الحقة، باعتبارها حلا لمشكلة الله عنده؟
نحتاج في نظرنا للإجابة عن هذه الإشكالات المطروحة على الأقل إلى المحاور التالية:
1. الدين عند برغسون
– الدين السكوني عند برغسون ووظيفته الأسطورية
– الدين الحركي عند برغسون غايته الاتصال بالله
2. التجربة الصوفية الحقة وحل مشكلة الله عند برغسون
1- الدين عند برغسون:
إن برغسون يَجمع بين الأخلاق والدين لكونه يرى أن للاثنين معا ينبوعين أساسيين؛ وهما: الانفتاح والانغلاق، ولهذا نجده يعتبر الأخلاق نوعين، وهي: أخلاق منغلقة Morale Close، وأخلاق مفتوحة Morale Ouverte؛ فالأولى هي “أخلاق الجماعات المغلقة، وهي تلك المجتمعات التي تشبه في بعض الوجوه خلايا النمل أو بيوت النحل”[4]. أما الثانية، فهي “أخلاق تتجاوز حدود الجماعة، وهي أخلاق مليئة بالحركة والخلق والإبداع، وعليها يتوقف مصير الإنسانية؛ لأنها هي التي تفتح أمام التطور البشري أفقا واسعا لا نهائيا”[5]. وعليه، يقر برغسون أن هناك تشابها حاصلا بين المجتمعات البشرية البدائية، وبين خلايا النحل أو بيوت النمل التي ذكرناها آنفا، وهذا الحكم لا يسري فقط على المجتمعات البدائية، وإنما إذا عمّقنا النظر في مجتمعاتنا المتحضرة، فإننا سنجدها لازالت منغلقة على نفسها؛ لأنها تضم البعض وتطرد غيرهم، وذلك لكونها حسب برغسون تقوم على الإلزام Obligation، “لأن الإلزام هو من الضرورة بمثابة العادة من الطبيعة”[6] والشعور بالضرورة، وإن كان مصحوباً بالشعور بالتملص منها، هو ما يسمى بالإلزام، فهذا الأخير تفرضه الجماعة بمثابة نظام من العادات يسعى إلى تحقيق ما يسمى بوحدة المجتمع من خلال تماسك أفراده وحمايته من العدو الخارجي.
واضح إذن، أن برغسون يدعونا إلى البحث عن الأخلاق المفتوحة، وهي التي يجسدها لنا في القول التالي: “الواقع أننا لو تعمقنا الأخلاق الجديدة التي يجيئ بها مثل هؤلاء “الأبطال”[7] لوجدنا أنها تعبر عن اتحادهم بالمصدر الأصلي للحياة، أو بالوثبة الحيوية نفسها؛ وهذا الاتحاد هو الأصل في شعورهم بالتحدي من ربقة الطبيعة وأسر المدينة”[8]؛ أي أن برغسون يفتح الأخلاق أمام إمكان جديد متحرر أكثر من قيود المادة ومرتبط أكثر باليقظة الفكرية والإلهام الروحي والحدس الصوفي.
فإذا كان برغسون يميز في الأخلاق بين نوعين كما رأينا، أخلاق مفتوحة وأخلاق منغلقة، فإننا نجد نفس التصنيف في الدين من خلال تمييزه بين الدين السكوني Religion Statique، والدين الحركي Religion Dynamique.
– الدين السكوني عند برغسون ووظيفته الأسطورية
ينطلق برغسون من فكرة قوامها أنه لا يمكن أن نجد في الماضي أو الحاضر أو المستقبل مجتمعات من دون دين، و”قد نرى في الماضي، أو في الحاضر، مجتمعات إنسانية لا حظ لها من علم أو فن أو فلسفة، ولكن لا نعرف مجتمعا لا دين له”[9]، وذلك راجع إلى إيمان الإنسان منذ القدم بأشياء خرافية وسحرية يلجأ إليها، لتفسير ما يعترضه من مشاكل دنيوية، فإذا كان الحيوان يجهل الخرافات جهلاً تاماً، فإن الإنسان على العكس من ذلك، هو الحيوان الوحيد الذي يعلق أماله الكبرى في صميم وجوده على أمور وهمية وغير معقولة، وظواهر غيبية غير مفهومة، وقوى سحرية غير ملموسة[10]. مما يبين أن الدين كان وثيق الصلة بالسحر والخرافات، والأساطير. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الدين كان وليد حاجة إنسانية..
وتجدر الإشارة كذلك، إلى أن هناك تمييزا يضعه برغسون في غاية الأهمية بين النباتات والحيوانات من جهة والإنسان من جهة ثانية، حيث إن الأولى تحيا غارقة في طمأنينة مطلقة لا يكاد يطلع عليها الإنسان، لكونها تحيا في “الآن L’instant “، كما لو أنها كانت تنعم بالأبدية ليس فيها موضع للقلق أو اللهفة أو السأم، لكونها تعيش في لحظتها ولا تعطي أية أهمية لتابعات هذه اللحظة. أما الإنسان، فهو “الحيوان الوحيد الذي لا يضمن فعله، فيتردد ويتخبط، ثم يبني مشاريعه، وهو مؤمل في النجاح، مشفق أن يخفق. هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه ميت لا محالة. أما غيره مما في الطبيعة، فيتفتح ويزدهر في هدوء تام، وطمأنينة كاملة”[11]، وليس من شك في أن يقظة العقل عند الإنسان قد تفضي إلى “قلق بشري Inquiétude Humaine” يكون هو الكفيل بالقضاء على نظام الطبيعة[12]، ومع ذلك فإن الإنسان يحب أن يعرف أكثر وأفضل في ما يقع في الوجود بالمقارنة مع الكائنات الأخرى التي تتوفر على مفاهيم خارجية وسطحية. أما الإنسان، فيحتوي على مفاهيم داخلية وعميقة[13]، بفضل هذه الأخيرة يسبر أغوار جميع الموضوعات الموجودة في الكون.
وعلى إثر هذا التمييز، نجد الحيوان حسب برغسون بأنه يحقق ما عليه انطلاقاً من الغريزة، التي بفضلها تتحقق الأفعال الضرورية للحياة الجمعية، التي توحدهم في شكل جماعة. أما الإنسان، فيحقق ذلك انطلاقاً من توفره على العقل، إلا أن توفره على هذا الأخير، قد يجعل من المرء يبحث عما يخدم مصلحته الخاصة، مما قد يحول دون تحقيق ما يسمى المصلحة العامة، ومعنى هذا بأن يقظة العقل التي تحدثنا عنها آنفا، قد تكون ضارة بالجماعة والفرد في نفس الآن. كما أن الطبيعة هي من وضعت الغريزة ووضعت العقل حسب برغسون، وهي وحدها من يحق لها إعادة خلق التوازن الذي تسبب العقل في زعزعة استقراره، فيكون الملجأ إذن انطلاقاً من هذا إلى الدين الساكن الذي تتخلله الخرافات والأساطير. وعليه، تهب الطبيعة الإنسان وظيفة أسطورية Fonction Fabulatrice التي “تنسب إلى العقل، وليست مع ذلك من العقل المحض، تحقق هذا الغرض، فقد أوجدت الدين الذي كان موضوع حديثنا وحتى والذي أسميناه سكونياً، وكان بودنا أن نسميه طبيعياً لو لم يكتسب هذا التعبير معنى آخر”[14]، وبمقتضى هذه الوظيفة الأسطورية يستطيع المرء أن يخترع شخصيات يخلع عليها صوراً متباينة، وأشكالاً متعددة، وينسب إليها صفات وأخلاقاً وتاريخاُ بأكمله، وهذه الشخصيات قد تكون “أرواحاً” بادئ الأمر، ثم تستحيل إلا “آلهة” أو “قوى إلهية” فيما بعد، ولكن المهم أن الوظيفة الأسطورية هي التي تحملنا على الظن بأن تلك القوى الإلهية تراقبنا، وأنها تطلب منا الخضوع والولاء لذلك “المجتمع” الذي قد تُحدثنا أنفسنا بالتمرد عليه بالخرافات Superstitieux فذلك لأن من شأن “الوظيفة الأسطورية أن تهبه شيئاً من الثقة أو طمأنينة، إذ هي التي تمده بفكرة “الخلود الشخصي” فلا تلبث النفس أن تطمئن إلى بقائها بعد الموت، على الرغم من إدراكها لواقعة الموت الأليمة التي لا مفر منها.
إن وظيفة الدين السكوني تكمن بالأساس في أنه “رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة ما في اشتغال العقل مما قد يشل قوى الفرد ويحل تماسك المجتمع”[15]، لأن العقل عائق يعكر الصفاء الذي نلمسه في كل ما عداه، وأنه لابد من التغلب على هذا العائق، وإعادة التوازن. ومن هنا يكون الدين السكوني حسب برغسون رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة ضد ما أدى إليه العقل من تفرقة الفرد عن الجماعة وتفرقة الجماعة عن الفرد، مما أدى إلى تفكيك بعضهما عن بعض، ففي الدين السكوني هنا تشبث بالحياة حتى وإن أدرك العقل بأن نهايته محتومة بالموت، وبالإضافة إلى إخلاص الفرد إلى الجماعة، وإن كان يأمره عقله بالتفرد، وذلك عن طريق الطقوس السحرية لأن “السحر هو جزء لا يتجزأ من الدين السكوني، أو ربما كان الأصح أن نقول إن الدين والسحر قد صدر عن أصل واحد، وهما في العادة يسيران دائما جنبا إلى جنب”[16] وهذا كله طبعا، عند المجتمعات البدائية.
– الدين الحركي عند برغسون غايته الاتصال بالله.
يربط برغسون الدين الحركي بالتجربة روحية التي تجد مصدرها في الحدس الصوفي لا في الغريزة. أما غايته، فتحدد أساسا في الاتصال بالله لا بالتشبث بالمجتمع كما هو الحال في الدين السكوني، عن طريق الانفصال عن الحياة ومثيراتها التي قد تحول دون تحقيق هذه الغاية السامية. إن الدين الحركي حسب برغسون يحقق للإنسان الطمأنينة والسكينة Sérénité مثل الدين السكوني إلا أنها في هذه المرة بشكل أسمى وأرقى من الدين السكوني، فأين نجد هذا النوع من الدين وتجلياته حسب برغسون؟
يخبرنا برغسون بأن هذا النوع من الدين يمكن العثور عليه عند المتصوفة المسيحيين الآتية أسماؤهم، والذين يعتبر برغسون تصوفهم تصوفاً كاملاً لا يشوبه النقصان، من أمثال “القديس بولس، والقديسة تريزا، والقديسة كاترين دوسيين، والقديس فرانسوا، وجان دارك، وكثير غيرهم”[17]، وقد يكون هؤلاء من وجهة نظر برغسون تختلف تجربتهم الصوفية من شخص للأخر إلا أنه هناك ما يوحدهم، وهو كونهم “جميعا يصدرون عن احتكاك مباشر أو اتصال فعال بالجهد الخالق الذي يكمن من وراء الحياة، وهذا الجهد من الله إن لم يكن هو نفسه”[18]. وعلى هذا الأساس، تكون غاية التصوف عند برغسون “اتصال بالجهد المبدع الخالق الذي ينجلي عن الحياة، ومن تم اِتحاد جزئي به، وهذا الجهد هو شيء من الله، إن لم يكن هو الله ذاته، والصوفي الكبير هو ذلك الإنسان الذي يتخطى الحدود التي رسمتها للنوع البشري، ويكمل بهذا فعل الله”[19].
إن التصوف الحقيقي عند برغسون أمر يصعب بلوغه، إلا أن هذا لا يعني بأن بذور الصوفية لم توجد في كل مكان وزمان، فالصوفي العظيم حسب برغسون هو تلك الشخصية التي استطاعت أن تتحرر من كل قيود المادة لكي تربط الاتصال بالفعل الإلهي نفسه، ويحدثنا برغسون بأن فلاسفة اليونان قد حاولوا أن يسمو بأنفسهم نحو تحقيق هذا المستوى إلا أن تجربتهم باءت بالفشل نظرا لنزعتهم العقلية المحضة التي منعتهم من الوصول إلى التصوف الحقيقي الذي يمتزج فيه النظر بالعمل، فيقدم لنا مثال الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي قدم العمل L’action كمجرد تضاؤل للنظر La contemplation، بينما التصوف الحقيقي هو في صميمه “فعل، وخلق، وحب”[20]، بمعنى أن أفلوطين قد حاول قدر الإمكان أن يسمو بنفسه إلى هذا المقام، إلا أنه لم يستطع أن يحول التأمل إلى عمل الذي تحدد بفضله إرادة الإنسان بإرادة الله[21]، وكذلك البوذية التي لم تجهل المحبة، إلا أن قولهم بالتشاؤم واستئصال إرادة الحياة قد منع معظم الفلسفات الهندية من أن ترقى إلى التصوف الكامل والحقيقي.
إن المتصوفة الحقيقيين حسب برغسون رجال “عمل لا تأمل أو نظر”، كما يحضر ذلك في تجارب رجال ونساء من قبيل القديس بولس، وجاك دارك، والقديسة تريزا، والمسيح الذي يعتبره برغسون أكبر شخصية صوفية عرفها التاريخ، حيث يمكننا القول إن كل المتصوفة إن هم إلا أتباع أصليون للمسيح الذي هو مثلهم الأعلى، وذلك من خلال أن الصوفي المسيحي ينتابه شعور بالحب، وهذا ليس حكراً على حب الإنسان لله، وإنما هو حب لجميع الناس، وكأن الصوفي يحب من خلال الله كل الإنسانية حبا إلهيا وليس هذا الحب سوى الأخوة التي يوصي بها الفلاسفة باسم العقل، وحجتهم في ذلك أن البشر يشتركون في جوهر عقلي واحد.
يتضح إذن من خلال ما سلف، أن برغسون يقرن بين الصوفية الحقة والمسيحية وذلك من خلال أن كل منهما شرط للأخرى من غير تحديد، وكأن برغسون يريد بأن يخبرنا بأنه كان في الأصل سوى مسيحية المسيح.
2- التجربة الصوفية الحقة وحل مشكلة الله عند برغسون
يرى برغسون أن التجربة الصوفية هي التي تقدم لنا الحل الوحيد لمشكلة الله كحل تجريبي، مع العلم أن هذه التجربة لا يمكن لها أن توصلنا إلى اليقين النهائي والحاسم، وبالرغم من ذلك، فبإمكانها أن تقدم لنا حلا احتماليا يمكن زيادته إلى الاحتمالات السالفة، فنكون بهذا قد وصلنا على الأقل إلى ما يقربنا إلى اليقين. فكلما انفتحت التجربة الصوفية على التأويل العقلي كلما كشفنا عن مضامين فلسفية عميقة لم يكن بودنا معرفتها، فالتجربة الصوفية (القائمة على الحدس الصوفي) هي السبيل الأوحد لتكملة تلك النظرات الميتافيزيقية الناقصة[22]، لأن الميتافيزيقا لا يمكن لها أن تكتمل إلا بفضل التجمع المطرد للنتائج المحصلة، بعدما كانت مذهباً منغلقاً على نفسه.
فما هي إذن أبرز هذه الاحتمالات التي تقدمها لنا التجربة الصوفية لحل مشكلة الله؟
يجيبنا برغسون بأن هذه الاحتمالات الجديدة التي تجيئ بها التجربة الصوفية؛ فهي أولاً أن الله محبة، وأنه موضوع محبة[23]، هذا بالإضافة إلى تفسير نظرية الخلق، باعتبار أن الله لم يخلقنا إلا لكي نحبه، يقول برغسون: “إن ثمة موجودات قد دعيت إلى الوجود، وكتب لها أن تُحَب وتُحِب: فإن الطاقة الخلاقة لا تعرف إلا بهذا الحب نفسه، ولما كانت تلك الموجودات متمايزة عن الله الذي هو تلك الطاقة نفسها، فلم يكن من الممكن لها أن تظهر إلا في عالم (أو كون). ولهذا فقد تحتم ظهور العالم، وفي هذا الجزء المعين من الكون الذي هو كوكبنا، بل ربما في كل نظامنا الكوكبي بأجمعه قد تحتم على تلك الموجودات من أجل الظهور أن تكون نوعاً، وهذا النوع بدوره قد استلزم مجموعة أخرى من الأنواع كانت منه بمثابة العوامل الممهدة، أو القوى المدعمة، أو الفضلات المتبقية”[24].
إن برغسون قد رفض جميع الأدلة التقليدية التي تثبت وجود الله، كدليل أرسطو بالمحرك الأول، ودليل الغائية، وكذلك الدليل الأنطولوجي، ليقر بصحة الدليل الصوفي الذي يوصلنا إلى حقيقة الحضرة الإلهية La présence Divine؛ لأن برغسون قد أدرك بأن الفلسفة عندما تحاول أن تتحدث عن الله، فإن الله الذي تقدمه بعيداً كل البعد عن تصور الله كما هو معبود عند عامة الناس. أما الله عند الصوفية، فهو أبعد ما يكون عند تصور الفلاسفة والعلماء له، لأنه الحياة والمحبة. وعلى هذا الأساس، فإن الصوفيين يحملون هم تحقيق الآمال الإنسانية عن طريق المحبة، والتعاطف، والغبطة الروحية، وإذا كان الكثيرون قد لا يجدون حلا لمشكلة الشر التي تؤرق عقولهم وقلوبهم، فإن الصوفية هم الكفيلون بإظهارها على أن ثمة غبطة روحية عميقة تعلو على اللذة والألم معاً، وتلك هي الحالة النفسية النهائية التي يصل إليها الصوفي في خاتمة المطاف[25]. وكأن برغسون أراد أن يقول لنا إن مجموع المشاكل الأخلاقية والإلهية المطروحة قد نجد حلاً لها عند المتصوف الحقيقي والكامل، انطلاقا من إقراره بعقيدة المحبة التي يأتلف الكون جميعه بفضلها.
على سبيل الختم:
لقد حاولنا قدر الإمكان في هذه الدراسة أن نلامس قضية الدين عند برغسون وما تطرحه من إشكالات فلسفية، من خلال كتابه منبع الأخلاق والدين، وعموماً يمكن القول إن برغسون في معالجته لهذه القضية قد تبنى نفس التمييز الذي تبناه كما أثبتا في الأخلاق بين أخلاق منغلقة وأخلاق مفتوحة، وذلك من خلال ينبوعين أساسيين، وهما: الانغلاق والانفتاح؛ فنفس الأمر وجدناه في معالجته لقضية الدين، إذ يميز في هذا الأخير بين نوعين، وهما: الدين السكوني والدين الحركي؛ فالأول ليس من نتاج العقل، بل ترجع نشأته لوظيفته الخرافية والأسطورية، ولما كان العقل يميل إلى فصل الفرد عن المجتمع، فإن الطبيعة تقوم ضد هذه القوة العقلية المفرقة للمجتمعات. إن هذا الدين السكوني هو احتياط ضد الخطر الذي يتعرض له المرء متى فكر في ذاته ولم يفكر إلا في ذاته، وهذا رد فعل يقوم به الدين السكوني من الطبيعة ضد العقل. أما الثاني، فهو دين يولد كما أثبتنا من اتصال بالذات الإلهية والمجهود الخالق للحياة. وعليه، يكون الدين الحركي يستمد مبادئه من التصوف الذي يطمئن النفس، ومصدر هذا الجهد الخلاق يأتي من الله. كما أنه ليس في التصوف الحقيقي والكامل” تأمل ولا نظر” كما كان عند المتصوفة القدماء، وإنما تسمو الذات الإنسانية إلى ما تصبو إليه بـ “العمل لا بالنظر أو التأمل”.

المراجع المعتمدة:
– بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلاسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، بيروت.
– زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي.
– هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971
– Henri Bergson, Creative Evolution(1944), tr: Arthur Mitchell, The modern library, New York,
________________________________________
[1] نعلم أن هذا المجال الذي نتحدث عنه يدخل في إطار مبحث “فلسفة الدين” وما تثيره من إشكالات حول الدين وقضاياه، وقد حظينا بشرف دراسة هذا المبحث القيم على يد الدكتور: محمد البوغالي، سنة: 2013-2014 ضمن المواد المبرمجة في إطار التكوين العام لماستر “الفلسفة تأويل وإبداع” الذي تشرف على تنسيقه الدكتورة: ثريا بركان.
[2] نقصد بالكتابات الأولى لبرغسون:
– “رسالة في معطيات الشعور المباشرةEssai sur Les données immédiates de la Conscience 1889 ”
– “المادة والذاكرة، رسالة في علاقة الجسد بالنفس” “1896Matière et Mémoire; essai sur la relation du corps et de l’esprit ”
[3] بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلاسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، بيروت، ص 325
[4] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 188
[5] نفس المرجع، نفس الصفحة
[6] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 19
[7] المقصود هنا حسب برغسون: (المتصوفة الذين أخذوا التصوف الحق بـ “العمل لا بالتأمل”) كما سنرى في ما يلي من هذه الدراسة.
[8] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، نوابع الفكر الغربي، ص 194
[9] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 113
[10] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، نوابع الفكر الغربي، ص ص 198-199
[11] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 218
[12] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 199
[13] Henri Bergson, Creative Evolution)1944), tr: Arthur Mitchell, The modern library, New York, p: 3
[14] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 219
[15] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[16] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 201
[17] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 244
[18] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 201
[19] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 236
[20] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 202
[21] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 237
[22] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 205
[23] نفسه، ص 206
[24] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[25] نفس المرجع، ص 207

 

مفهوما التعددية والاختلاف من منظور ما بعد الحداثة

بدر الدين مصطفى أحمد
باحث وأكاديمي مصري، أستاذ فلسفة الجمال والفلسفة المعاصرة بقسم الفلسفة، كليّة الآداب، جامعة القاهرة، مصر. درّس في أكاديمية الفنون وفي جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا

يولي فلاسفة ما بعد الحداثة مفهوما التعددية والاختلاف مكانة متميزة داخل فلسفاتهم؛ فهما من وجهة نظرهم يمثلان الأرضية المشتركة للتفاعل والحوار مع “الآخر” أو “العوالم الأخرى”. وقد وصف فلاسفة ما بعد الحداثة بـ”فلاسفة الاختلاف”، وذلك لأن الفلسفة تحولت على أيديهم من كونها أداة نسقية تبتغي الوحدة إلى أداة مهمتها تفتيت الأشياء وتفكيكها “إن الحاجة تدعو إلى تفتيت الأشياء وتهشيمها… تفتيت الكلمات والجمل والقضايا، تفتيت الكيفيات والأشياء والموضوعات” كما يقول جل دولوز. سيتلاشى مفهوم الجوهر، الذي ظل مهيمنا على التفكير الفلسفي طوال القرون السابقة على القرن العشرين، من الخطاب ما بعد الحداثي، ليحل محله مفهوم “التعددية”. التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى؛ فالفلسفة هي منطق للتكثر والتضاعف logique de la multiplicité، تضاعف المعنى للشيء وللظاهرة الواحدة. لا يوجد حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد، فأي شيء قد يكون هذا أو ذاك وأحيانًا يكون شيئًا أكثر تركيبًا بحسب القوى التي يحوزها. من هنا لا يوجد معنى حقيقي للشيء الواحد، هناك تعددية. وجهات للنظر. تجاوبات مع الأحداث والوقائع. فالظاهرة الواحدة لها أقنعة عديدة و”خلف كل قناع يكمن قناع آخر”. وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة، وأن تخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها، وإنما لكي تعطي لكل قناع معنى جديدًا “أن تكتشف ما يتقنع ولماذا، ومن أجل أي هدف نحتفظ بقناع مع تعديل شكله في كل مرة”. وربما يكون الانطلاقة الحقيقية لهذا الفهم، جاءت مع نيتشه في نقده لمفهومي العقل والحقيقة.

في كتابه الكلمات والأشياء يقدم ميشال فوكو مصطلح “اليوتوبيا غير المتجانسة” l’ utopie hétérogène، ليعبر عن الرؤية ما بعد الحداثية للآخر، وما يعنيه فوكو بهذا المصطلح، هو تساكن “عدد كبير من العوالم المتشظية الممكنة” في “فضاء افتراضي”، أو على نحو أبسط، تواجد فضاءات متجاورة ومفروض بعضها على الآخر. ولا تتوقف الشخصيات في هذه الفضاءات طويلاً عند كيفية حل أو البحث عن إجابة للأسئلة المركزية؟ إلا أنها ملزمة في المقابل بالتساؤل عن “أي عالم هو الذي نحياه؟ ما العمل حياله؟ وأي “أنا” ستقوم بذلك؟… إلخ.

كان من ضمن المآخذ الرئيسة التي أخذها فكر الاختلاف على الفلسفة الكلاسيكية (فلسفة ديكارت وكانط وهيجل) إقصاء الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيا وإبستمولوجيا وسياسيًا. ففي الوقت الذي كانت تقر فيه تلك الفلسفات بأن العالم متعدد ومتنوع، فإنها تحاول دوما إلغاء تعدده وتنوعه في وحدة معنى تَفترض أنها ثابتة. وإذا عُرض عليها أن تفكر في المتعدد الاجتماعي، فإنها ستؤكد أنه غير منسجم أو غير مستوى في وحدة واحدة، لكنها ستحاول أيضا أن توحده وتضمه في وحدة الدولة. منطق الفلسفة الكلاسيكية إذن هو “منطق التطابق” logique de l’identité، سواء تعلق الأمر بتطابق الوعي أو الكوچيتو أو الذات أو الدولة. كل هذه المقولات مطلقة وبواسطتها تحولت الفلسفة إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة نحو إلغاء التعارضات. غير أن الحلم يشكك في وضوح الوعي (دريدا)، والفن يدحض التمثيل (دولوز)، والمنبوذ يخترق الوحدة السعيدة للدولة (فوكو).

كان الفيلسوف الألماني فريدريش هيجل (1770 – 1831) نموذج الفيلسوف الذي اجتمعت في فكره كل المقولات التي جاءت ما بعد الحداثة لتتبنى عكسها. إنه مثال للمفكر السلطوي الذي أراد أن يحكم مستقبل الفلسفة، وهو يرقد في قبره. يقول ألكسندر كوجيف Alexandre Kojive – الذي انتقلت على يديه الهيجلية إلى فرنسا – “إن خطاب هيجل يستنفد كل إمكانات الفكر، فلا يمكننا أن نعارضه بأي خطاب دون أن ينتهي هذا الخطاب إلى أن يشكل جزءًا منه، أو أن يعيد صياغة فقرة من النسق باعتباره عنصرًا مؤسسًا “للحظة” من المجموع”. وأفضل دليل على هذا الغرور الهيجلي، ما ردده إريك فيل من أن هيجل كان ينوي أن يضع للفلسفة نقطة النهاية”. والحق أن هذه الرؤية سواء أكانت منطلقة من هيجل، أم من تلامذته وشراحه، لا يمكن أخذها على محمل الجد، إذ هي ليست إلا نوعا من الغرور البشري الساذج، ولا يمكن أن تفهم إلا في هذا السياق. بالإضافة إلى أن أية نقطة نهاية، سرعان ما ستتحول إلى بداية جديدة.

تمثلت البداية الجديدة التي وجدها فلاسفة ما بعد الحداثة داخل الهيجلية في مفهوم التناقض، الطرف الثانى في معادلة الجدل الهيجلية. فقد احتل التناقض مكانة بارزة في النسق الهيجلي، بصورة ربما لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفلسفة. لكن المشكلة أن لحظة الاختلاف في هذا النسق سرعان ما تتحول إلى لحظة تطابق وهوية لتدخل في مركب واحد يتلاشى بداخله أي أثر للاختلاف والتناقض. إنها لحظة التطابق بين الشيء ونقيضه، لحظة انتصار الهوية على الاختلاف، والوحدة على التعدد. إن التناقض عند هيجل يشكل جوهر الاختلاف وليس مجرد نمط من أنماطه، وهذا التناقض سرعان ما يرتد نحو التطابق “إن هذا الاختلاف يٌقحم عنوة داخل تطابق مسبق، فيقاد نحو منحدر التطابق الذي يحمله بالضرورة حيث يشاء، ويجعله ينعكس حيث يريد التطابق”. يتعلق الأمر إذن بتحرير السلب من هيمنة الكل، إطلاق سراحه من داخل النسق، وعدم توقيف عمله بفعل أي تركيب، أو سجنه داخل منطق التعارض. الاعتراف به كآخر لا كنقيض. هذا الآخر قد يكون كتابة (دريدا) أو رغبة (دولوز) أو حمقى (فوكو). إنه “الانسياب اللانهائى للخارج” (بلانشو).

في كتابه “حوارات” يرى دولوز أن إحدى مهام الفلسفة الآن هي الإعلاء من قيمة السلب في الفكر، الجذور أو العشب ضد الأشجار، آلة الحرب ضد آلة الدولة، التعددية ضد الشمولية، قوة النسيان ضد الذاكرة، الجغرافيا ضد التاريخ، الخط ضد النقطة. ويرى دولوز أنه لحل إشكالية الثنائية لابد أن نحدث ثورة في مجال اللغة، أن نناضل ضدها، وأن نبتكر طرقًا مختلفة للتعبير. فموطن الثنائيات هو اللغة “إن اللغة مؤسسة في عمقها على التقسيمات الثنائية: مذكر – مؤنث، مفرد – جمع، تركيب اسمي – تركيب فعلي” وهكذا فنظرتنا للشيء ونقيضه تنطلق من داخل اللغة، إذن ينبغى تحرير اللغة من منطق التعارضات الثنائية “يمكننا دائمًا إضافة “ثالث” إلى “اثنين” ورابع إلى “ثلاث” إلخ “وحتى في حالة وجود حدين فقط؛ فهناك بين الحدين عناصر لا يمكن ضمها إلى أي منهما “المذكر والمؤنث والمخنث”. ينبغي في نظر دولوز إحلال حرف العطف “واو” محل العلاقة “أو”.

مع فكر الاختلاف ستتطور الفلسفة عبر هوامشها، عبر “تفتيت الخط الذي يفصل بين نص وهامشه” (دريدا)، أو “جعل تاريخ الفلسفة مشابهًا لعملية رسم البورتريه في فن الرسم” (دولوز)، أو “أن نتحدث في لغة الذات عن قيمة الآخر” (فوكو). كان “فكر الاختلاف” في أوانه يبدو غريبًا فلم يُنتبه إليه لكنه ما لبث أن أصبح شعارا لجيل وعصر بأكمله.

الضرائب النفسية للتجربة الإسلامية الحركية

منتصر حمادة باحث مغربي، شارك في ندوات علمية داخل وخارج المغرب، وصدرت له العديد من الدراسات والمؤلفات الفكرية
منتصر حمادة
باحث مغربي، شارك في ندوات علمية داخل وخارج المغرب، وصدرت له العديد من الدراسات والمؤلفات الفكرية

نؤسّس هذه المقالة على فرضية مفادها أن مرور إنسان المنطقة [العربية نموذجاً]، على التجربة الإسلامية الحركية، سواء كانت سلفية أو إخوانية أو غيرها، يُخلف آثاراً نفسية عليه في مرحلة ما بعد أخذ مسافة نظرية وتنظيمية من المشروع.
قلما قرأنا مقالة أو دراسة، بلْه لائحة أبحاث أو كتب حول هذه الجزئية الدقيقة التي تساعد المتلقي في مجالنا التداولي على قراءة تفاعل الإنسان / الإسلامي سابقاً، وتساعد المتتبع على توقع تفاعل نفس المتدّين الحركي سابقاً مع عديد مواقف وأحداث.
تعمدنا الإشارة إلى أن المقصود هنا الإنسان، ومعلوم أن الإنسان كائن مُرَكب الهوية، وفي الحالة الإسلامية [نسبة إلى الإسلام وليس الإسلاموية]، سوف نفترض أن هويته مرتبطة بالانتماء للمجال التداولي الإسلامي، لغة (عربية، فارسية، تركية، مالاوية.. إلخ)، وعقيدة (أشعرية، حنبلية، شافعية… إلخ) ومعرفة.
هذا الإنسان المُركب، تتغير أحواله النفسية عند المرور من تجربة العمل الإسلامي الحركي، بمقتضى التأثير النوعي الذي يُكرسه نهله من أدبيات المشروع، من قبيل الأدبيات الإسلامية الحركية التي تحدثه وتجعله مؤمناً إيماناً جازماً بمقتضى مفاهيم “الحاكمية” و”المفاصلة الشعورية” و”الولاء والبراء” و”الطائفة المنصورة” و”التقية” و”التمكين” والبيعة” و”الجماعة قبل الوطن”، ولائحة عريضة من الأدبيات.
بل إن كل مفهوم من هذه المفاهيم يُغذي جهازاً مفاهيمياً يقتضي من صاحبه التأقلم مع المحيط القريب والبعيد بعقلية مغايرة مع مرحلة ما قبل الانتماء، ولو توقفنا مثلاً عند بعض مفاهيم من تلك اللائحة، فإن تفعيل الإيمان الجازم بهذا الاجتهاد البشري وبالتالي النسبي، يقتضي أن يتفاعل معه المتديّن الحركي على أساس أنه يعيش في زمن “جاهلية معاصرة”، وهذا يفرض تفعيل ثنائية “الولاء والبراء”، لأنه ينتمي إلى “الطائفة المنصورة”، التي تشتغل على حقبة “التمكين”، وهكذا دواليك مع سلسلة متشابكة ومُعقدة من المفاهيم التي لا تبقى في مقام التلقي الذهني / المعرفي، وإنما تطال مقام التفعيل على أرض الواقع، كما عاينا ذلك في عدة تجارب في المنطقة، وصل بعضها إلى مقام إراقة الدماء، مع المشروع الإسلامي “الجهادي”.
وواضح أن هذا التفعيل، يساعدنا على تفسير عديد ممارسات صدرت وتصدر عن الفاعل الإسلامي الحركي، الدعوي والسياسي والقتالي، أو قل “الجهادي”.
هذه سلسلة مفاهيم تصب في التأسيس لنموذج “المسلم الأعلى” أو “المسلم الفائق” [Surmusulman]، إذا استعرنا مصطلحاً دقيقاً أورده عالم النفس التونسي فتحي بنسلامة[1] على هامش تفاعله البحثي مع الظاهرة الإسلامية الحركية في التداول الفرنسي، انطلاقاً من أدبيات علم النفس، وواضح أن مفهوم “المسلم الأعلى” أو “المسلم الفائق” يُحيل على أطروحة “الإنسان الفائق” [Superman] لنيتشه: إنها نفس عقلية الاستعلاء، بين التداول الفلسفي الألماني، والذي أفرز لاحقاً النزعة النازية، والتداول الإسلامي الحركي، والذي أفرز لائحة من التجارب الدموية في المنطقة، لا زال بعضها قائماً باسم “العمل الإسلامي الجهادي”.
إذا صحت الفرضية التي تأسّس عليها هذا المقال، فإنها تساعدنا على قراءة ردود أفعال العديد من الإسلاميين السابقين، في سياق “الانتقام” من المرحلة السابقة، والتي قد تذهب في التطرف إلى مقام الإلحاد[2]، أو من الذين يُؤاخذ عليهم الخطاب الإسلامي الحركي، الانتصار والانتماء للمشروع العلماني[3]، وغيرها من التحولات المفاهيمية التي تطال الإسلامي السابق.
بل إن بعض هذه الأقلام قد تذهب بعيداً في نقد الظاهرة الإسلامية الحركية، إلى درجة نقد النصوص الفقهية المؤسسة للعمل الإسلامي الحركي، القديمة، ولا نتحدث عن نصوص حسن البنا وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وسعيد حوى ويوسف القرضاوي ولائحة من الأسماء، وإنما يطال النقد حتى القدامى[4]، من قبيل أبي الحسن الأشعري صاحب “الرسالة” وابن تيمية صاحب “مجموع الفتاوى” وأحمد بن حنبل؛ فيعتقد الفاعل الإسلامي الحركي أنها تنتقد الإسلام، وهذا أمر متوقع لاعتبارات عدة، أهمها أن العقل الإسلامي الحركي، يؤمن في جهازه المفاهيمي أن تديّنه هو الدين[5]، وبالتالي يصعب عليه الفصل بين الأصل والفرع، مادام يؤمن أن هذا الفرع هو أفضل ممثل للأصل.
نتحدث هنا عن الفاعل الإسلامي الحركي الذي مرّ من تجربة إسلامية حركية، وتشرّب على هذه الأدبيات، ولكن حتى في حقبة ما بعد القطيعة المعرفية مع الخطاب الإسلامي الحركي، ومعها الطلاق التنظيمي، يبقى هذا الفاعل الإسلامي تحت تأثير مرحلة النهل من ذلك الجهاز المفاهيمي الذي كرّس “عقلاً طائفياً” داخل منظومة مجتمعية مفتوحة ومتعددة الثقافات والهويات والأعراف، ولا يتخلص هذا الفاعل الحركي [سابقاً] من آثار تلك الأدبيات إلا مع مرور الزمن، شرط أن يبذل جهداً نظرياً، يختلط فيه المُحدّد النفسي بالمُحدّد الروحي، على أمل العودة إلى مرحلة ما قبل الانتماء، أو قل “اعتناق الإسلام من جديد” كما نقرأ بشكل صريح ودال في أعمال تطرقت للتجربة الإسلامية، سواء عبر أسلوب الرواية[6]، أو عبر أسلوب البحث[7]، حيث نقرأ في العملين معاً، عبارة “انفصلت عن الإسلاموية لأعتنق الإسلام من جديد”.
هذا المفتاح النظري، وغيره، يُفيد إذاً لقراءة تفاعل العديد الأقلام البحثية والإعلامية اليوم، أو الفاعل الذي يعيش في مرحلة وسط بين الانتماء للمشروع الإسلامي الحركي، وأخذ مسافة منه: نحن إزاء إنهاء معاناة نفسية حقيقية، وفي الحالتين، نعاين المعاناة النفسية:
ــ إذا أخذ مسافة من هذه الأدبيات، فيلزمه الوقت الكثير أو القليل، حتى يتخلص من آثارها النفسية؛
ــ إذا لم يأخذ مسافة من هذه الأدبيات، فإنه مضطر إلى العمل بمبدإ التقية، حتى يتجنب تبعات الإفصاح عما يؤمن به.
الفرضية سالفة الذكر، تهم أي فاعل إسلامي حركي، أياً كانت تجربته الإسلامية الحركية، سلفية، إخوان، تكفيرية.. إلخ، ابتعد بشكل نهائي أو في طور أخذ مسافة، ولسان حال هؤلاء: كلما كانت تجربة “الإسلاموية” أطول، كلما كانت الضرائب أكثر.
يختلف الأمر مع الفاعل الإسلامي الذي لا زال منتمياً للمشروع، وإن كان هذا الانتماء حق مشروع في نهاية المطاف، من باب احترام الحق في الاعتقاد الديني، بلْه الاعتقاد المرتبط بالتديّن، إلا أن هذا الانتماء يجعل معاناته أكبر بكثير مع الفاعلين سالفي الذكر، خاصة إن كان لا زال يؤمن إيماناً جازماً بمقتضى الأدبيات الإسلامي الحركية، ويعيش في مجتمعات مسلمة لا تؤمن بـ”دولة الخلافة” أو “الحاكمية” أو “المفاصلة الشعورية”، بقدر ما تؤمن بأهمية صيانة الدولة الوطنية التي تصون الكرامة والعدل والحرية وحقوق الإنسان.
________________________________________
[1] Fethi Benslama, Un furieux désir de sacrifice: Le surmusulman, Le Seuil, Paris, 2016, 160 pages.
[2] كما نُعاين في الحالة المغربية، على قلة النماذج، وإن كنا نعتقد أن الأمر يتعلق بإلحاد معرفي أكثر منه إلحاد ديني، أو قل كفرا بالخطاب الديني السائد في الساحة، وليس بالضرورة كفر بالدين.
[3] دونما أي تدقيق في طبيعة العلمانية المعنية في هذا المقام، وهذا مقصود ومتداول وشائع في الخطاب الإسلامي الحركي، وخاصة الخطاب السلفي الوهابي والخطاب الإخواني.
[4] في كتابه حديث الإصدار، وعنوانه: “نداء من أجل إسلام لا سياسي”، يرى الباحث المغربي محمد لويزي، أن بداية الإسلام السياسي لا تعود إلى منعطف تأسيس جماعة “الإخوان المسلمين” على عهد حسن البنا، أي أربع سنوات بعد أفول دولة “الخلافة العثمانية”، وإنما بالتحديد، مباشرة بعد البعثة النبوية، في منعطف السقيفة الشهير. انظر:
Mohamed Louizi, Plaidoyer pour un islam apolitique, Editions Michalon, septembre 2017, 250 pages.
[5] ثمة عدة أعمال مرجعية اشتغلت على ثنائية الدين والتديّن، نذكر منها العمل المرجعي للقاضي عبد جواد ياسين. انظر: عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، بيروت، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2012، وصدرت الطبعة الثانية للعمل عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، نشر وتوزيع المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، 2014
[6] نموذج رواية “كنت إسلامياً” للكاتب والإعلامي المغربي عمر العمري، وصدر العمل بالعربية.
[7] نموذج كتاب “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟” للباحث المغربي محمد لويزي، وصدر العمل بالفرنسية.

 

الديمقراطيّة في فكر دعاة الإسلام السياسيّ: من سجلّات الرفض والقطيعة

عمار بنحمودة  باحث تونسي، حاصل على الماجستير في اللغة والآداب والحضارة الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، صفاقس، تونس. يعد رسالة دكتوراه بنفس الجامعة.
عمار بنحمودة
باحث تونسي، حاصل على الماجستير في اللغة والآداب والحضارة الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، صفاقس، تونس. يعد رسالة دكتوراه بنفس الجامعة.

1- تجلّيات العداء
لا يخفى أنّ تيّار الإسلام السياسيّ قد تأسّس في بداية مساراته التأويليّة على فكرة عداء الديمقراطيّة، انطلاقا من إيمان دعاته الراسخ بمفاهيم عدّت الركيزة الإيديولوجيّة لتلك الحركات، مثل مفاهيم الحاكميّة وتطبيق الشريعة، وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، أو الانطلاق من مسلّمات إيديولوجيّة يحتكر بها أصحابها شرعيّة تأويل النصّ القرآنيّ وتفصل بين مسارات الصّحوة الإسلاميّة ومسالك التغريب. وتتعدّد في سرديّات الإسلام السياسيّ الشواهد التي تعبّر بشكل صريح عن عدائهم للديمقراطيّة ورفضهم اعتمادها منهجا في الحكم، بل لعلّ شرعيّة المواقف الإيديولوجيّة التي دعا إليها روّاد هذا التيّار تستند إلى نقض الدّيمقراطيّة والعلمانيّة، باعتبارهما مقولتين نشأتا في غير الثقافة العربيّة الإسلاميّة، بل إنّ من وجوه الإدانة التي وظّفها دعاة الإسلام السياسيّ لخصومهم الإيديولوجيين الذين دعوا إلى التحديث، وآمنوا باختيارات أخرى مستمدّة من الغرب القول بأنّ حلولهم مستوردة[1]. مثل ذلك موقف “حسن البنّا” المرشد العام للإخوان المسلمين الذي أرسل سنة ستّ وثلاثين وتسعمائة وألف خطابا موجزا إلى ملوك الدّول الإسلاميّة وأمرائه ورجال الحكومات الإسلاميّة وأعضاء الهيئات التشريعيّة والجماعات الإسلاميّة وأهل الرأي، قدّم فيه مطالب مختلفة على رأسها “القضاء على الحزبيّة وتوجيه قوى الأمّة الإسلاميّة في وجهة واحدة وصفّ واحد وإصلاح القانون، حتّى يتّفق مع التشريع الإسلاميّ وخاصّة في الجنايات والحدود.”[2] وقد رفض “البنّا” كلّ النماذج السّياسيّة التي سادت في عصره، ولم يستثن منها الأنموذج الديقراطيّ، لأنّه كان يؤمن بمفهوم “دولة الدعوة”، ويرفض تقليد أيّة تجربة سياسيّة غربيّة.[3] وقد قابل سيّد قطب بين المنهج الربّاني الذي يقوم على أسس الشريعة الإسلاميّة والمنهج الإنساني الذي وسمه بالجاهليّة، بل إنّه حَسِبَ أيّ اعتماد على منهج غريب من مناهج التفكير الجاهليّة الغالبة إبطالا لوظيفة الدّين التي جاء ليؤدّيها. “فالمنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ولا انفصام بينهما. وكلّ منهج غريب لا يمكن أن يحقّق الإسلام في النّهاية. والمناهج الغربيّة يمكن أن تحقّق أنظمتها البشريّة، ولكنّها لا يمكن أن تحقّق منهجا؛ فالتزام المنهج ضروريّ كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كلّ حركة إسلاميّة.”[4]وكانت اعتراضات سيّد قطب على سائر الأنظمة التي قامت في التاريخ أو في عصره، تتمثّل في كونها لم تقم على أساس العقيدة، وأنّ بعضها كان تجمّعا عنصريّا على أساس سيادة جنس بعينه وبعضها الآخر قوميّ استغلاليّ. واستند رفضه الشيوعيّة إلى كونها أقامت أسسها على الحقد الأسود على سائر الطّبقات الأخرى، وبأنّ مطالبها الأساسيّة لم تتجاوز الجوانب المادّية مثل الطعام والمسكن والجنس.[5]
2- أسباب العداء:
لا ريب أن المتخيّل الإسلامويّ الذي تأسّس على أرضيّة المركزيّة الدينيّة وميراث الغلبة ودوغمائيّة التصوّر الفقهي، كان لا يرى في أطروحاته غير دين نقيّ تسوده العقيدة ويحترم اختلاف الأجناس مقابل غرب يدعو إلى نظم إنسانيّة قاصرة شاع فيها الفساد الأخلاقيّ، وانفلت إعلامها وكفرت مجتمعاتها، وهو ما جعل دعاة هذا التيّار يشيحون بوجوههم عن الغرب بكلّ تيّاراته الفكريّة والسياسيّة، ويبحثون في متخيّلهم التراثيّ عن صورة مثاليّة كانت عماد أدلوجة حاولوا أن يقنعوا جمهورهم بحقيقتها التاريخيّة وبإمكانيّة تحقّقها في المستقبل طوبى ترسم أفقا للسّياسة الإسلاميّة يخالف ما انتهجه الغرب من مسالك، ويبلغ ما عجز الآخر عن تحقيقه[6]. ومن الطبيعيّ أن نتفهّم تفاعل الجمهور مع مثل هذه الدّعوات، إذ كانت تستند إلى نقاط قوّة تتعدّد روافدها. فتوظيف المقدّس الدّيني بكلّ أسانيده اللّاعقلانيّة ومتخيّله الطوباويّ استطاع أن يؤثّر في الحالمين بمنافسة الغرب/ المستعمر الذي كان من الصّعب تمثّله بغير صفة العدوّ الغريب الذي يخشى من تطبيق تعاليم الإسلام وتأسيس دولة المسلمين. وليس أيسر على هذه التيّارات من اتّخاذ السّبل السّهلة التي تهيّج مشاعر الجماهير، وتثير حماستهم بدل الخطاب العقلانيّ الذي كان بإمكانه وضع الإنسان العربيّ المسلم في رواق التنافس الطبيعيّ مع الآخر من أجل المشاركة في الخلق والإبداع. فقد حضر متخيّل العداء والاعتداد وغاب متخيّل العقلانيّة والبناء. وأدّت هذه المسارات إلى انغلاق لاهوتيّ وعبّرت عن جمود في الاجتهاد وتواكل في الأنساق المعرفيّة من خلال التعويل على المخزون الثقافي والديني الذي سنّه القدامى، فكانت الجرأة بمعناها الكانطي غائبة، وترسّخت الأسيجة الدغمائيّة تؤخرّ مسارات الإدراك العقلانيّ ومسالك النهضة والإصلاح. فمقابل الرفض الذي واجهت به تلك التيارات مفاهيم الديمقراطيّة كانت تفتقد إلى بدائل حقيقيّة قابلة لكسب الشرعيّة وضمان التسويق العالمي لمقولاتها.
ليس رفض الديمقراطيّة بهذا المعنى سوى تعبير عن ضيق الأفق الذي عانت منه هذه التيارات، وسوء تقدير لما للحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان من أهمّية في إطلاق العنان للذات البشريّة، كي تبدع وتشارك في بناء المجتمع وتحقّق كلّ مشاريع التنمية والتقدّم. وكان من نتائج رفضها لتلك القيم القيام بعمليّة تلوين وتزييف، حتّى تبدو وكأنّها قيم راسخة في التراث. فأسهمت في بناء مسارات الحياد عن العقلانيّة والغرق في تقديس الأسلاف والتباهي بإنجازاتهم، وكأنّها شفيع لإخفاق الواقع ووهن المجدّدين في تغييره. واختار دعاة الإسلاميّ الاستكانة إلى أسهل الحلول وأيسرها، وهي استحضار أنموذج تراثيّ جاهز توهّموا إمكانيّة استعادته في ظلّ تحوّلات كبرى شهدها العالم علما ومعرفة وسياسة. ولم يكلّفوا أنفسهم جهدا لتفهّم ما استجدّ من تصوّرات فكريّة ونظريّات سياسيّة. فكانوا، على عكس ما قام في تاريخ المسلمين من انفتاح على تجارب الآخرين في الفكر والسياسة، منغلقين رافضين لتجارب الآخر من منطلق أحكام مسبقة تأثّروا فيها بواقع العداء السياسيّ، وقطعوا فيها خيوط التواصل الفكريّ.
إنّ تلك الأزمات التي عاشتها الأمّة، لا يمكن أن تكون مبرّر مسارات انغلاق لاهوتيّ وغرق في متخيّل طوباويّ يرسم آفاق مدن فاضلة مستمدّة من صورة مثاليّة للماضي، ولا يكترث بما بلغته الإنسانيّة من تقدّم علميّ ومن ثورات في الفكر. ولعلّ أغرب التبريرات التي قدّمها أحد دعاة الإسلام السياسيّ، وهو يفسّر النزعة العدوانيّة التي كانت تسم مواقف شيوخه المؤسسين من الديمقراطيّة هي إلقاؤه التهمة على الأنظمة الاستبداديّة علّة للمحاكاة و”سببا في تطوير فكر ثوريّ رافض للديمقراطيّة داعيا مع سيّد قطب لإنشاء قاعدة صلبة تتولّى إعادة الأمّة الضالّة للإسلام وتقيم شرع الله مفاصلة للمجتمع الإسلاميّ.”[7] وهذا الخطاب القائم على المغالطة يجعل العنف الثوريّ وغياب الطرح الديمقراطيّ من تصورات الإسلام السياسيّ محاكاةً لعنف السلطة المستبدّة. والحال أنّ رفض الديمقراطيّة ومعاداتها ناتج عن رفض هيكليّ سببه اعتبارها منتمية إلى معسكر التغريب والكفر. ولذلك قامت خطابات الدّعاة المؤسّسين على المقابلة بين تيّار تغريبيّ اعتُبِرَ مارقا عن الدّين والشريعة وتيّار إسلاميّ اعتَبَرَهُ أصحاب هذا الخطاب الحلّ الأمثل لكلّ مشاكل التخلفّ وسبيل الشعوب العربيّة الإسلاميّة لتحقيق نهضتها المنشودة.
قد يكون غياب الديمقراطيّة من الممارسة السياسيّة العربيّة أمرا، لا يمكن إنكاره من سجلّها. ولكن هل كانت أطروحات المعارضة جميعها تنساق وراء الدّعوة إلى تيّار سياسيّ يحاول أن يداوي داء الاستبداد باستبداد بديل؟ أليس الاستبداد مرتبطا بتأويل محدّد للخطاب الدّيني يرى أصحابه أنّ الحقائق السياسيّة التي يقدّمها مقدسّة لا تقبل النقض وما عداها مدنسّ لا يستند إلى شرع إلهيّ؟
3- نتائج العداء:
تلك المسارات التأويليّة التي قدّمت نفسها على أنّها الحلّ السحريّ لمشاكل الشعوب العربيّة المسلمة أبّدت شعورا مزدوجا بالاغتراب. أوّله اغتراب عن الواقع أسّسه من صنعوا متخيّلا إسلاميّا صوّر أمجاد الماضي نقيّة من كلّ الشوائب ورسم أفقا أخلاقيّا مستحيل التحقّق وحوّل وجهة الفكر من مواجهة الواقع إلى الهروب منه نحو ماض ساحر، أو نحو عهود النبوّة وأيّام الخلافة الراشدة والعدل المثاليّ والمساواة بين جميع الأجناس. فينتحل دعاة هذا التيّار لأنفسهم دورا مهدويّا مخلّصا من كل المحن.[8] وثانيه اغتراب عن إنسانيّة الإنسان. فقد أسهمت سرديّات الإسلام السياسيّ في ترسيخ فصل بين الإسلام والآخر، وتعميم عداء الاستعمار ليصير عداء للفكر الإنسانيّ المختلف. والحال أن مسارات العلم والمعرفة غير خيارات السّاسة التي انتهجوها. وليس عداء الغرب المستعمر مدعاة لعدم الاستفادة من تجارب علمائه ومسارات فكره. فتلك الخطابات صيّرت المؤمنين بهذا الخطاب جماعة معزولة عن حركة التّاريخ تعيش متخيّل النبوّة بصورة أشبه بأهل الكهف. فتضحي حركة العلم وسيرورة التّحديث متعطّلة بدعوى رفض كلّ ما هو غربيّ ينتمي إلى معسكر الكفر.
لم يرسم متخيّل دعاة الإسلام السّياسيّ غير وجه مدنّس للآخر، مقابل متخيّل تصوّر الّتراث خاليا من كلّ شائبة وطاهرا من كلّ دنس. “فالحياة الاجتماعية الحاضرة تقوم على مبادئ الزّيغ والضلال. والنظريّات الخاطئة والأفكار الهدّامة هي التي تسود أنحاء العالم. وأنظمة التّعليم ووسائل التوجيه والإعلام تنضح بالشرّ، وتثير الغرائز، وتهتك الفضيلة، وتقتل الأخلاق، وتدعو إلى الإباحية والتحلّل، حيث سيطرت على العقول الآداب الماجنة، والصحافة الفاجرة، والإذاعات اللاهية، والأفلام الخليعة. والنظام الاقتصادي الذي يتحكم في معيشة الناس نظام منحرف فاسد، لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين الحلال والحرام.”[9]
تلك الصورة المتخيّلة عن الغرب ترسم في كثير من الأحيان أحكاما لا تعكس حقيقة تؤسّسها الأنساق الفكريّة من تنوّع واختلاف. فمفاهيم الحريّة والعدالة والمواطنة كانت من أهم مقوّمات التّنوير. وقد مثّلت الصحافة فضاء للنقد والبناء السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، واستطاع الفنّ أن يحرّر الإنسان ويهبه القدرة على فهم ذاته والتعبير عن طاقاتها مثلما كانت بعض التيّارات الفنّية وسيلة ثوريّة لتغيير الواقع. وأمّا الجوانب الأخلاقيّة التي يراها دعاة الإسلام السياسيّ بعينهم الشهوانيّة، فهي لا تعبّر في الحقيقة عن واقع الدّول الغربيّة بقدر ما تستبطن شهوانيّة الواصف إزاء أجساد تحرّرت وشعوب تجاوزت عقدة الجنس والعورة. فالجسد الملعون في ثقافة الدّاعية رمز للحريّة الشخصيّة وسدّ منيع في وجه من يريدون استثماره بكلّ الطّرق بصورة القيان أو بتعدّد الزوجات أو بحجبه كسلعة يُخشى تلفها أو بتقييد حريّتها وفرض سلطة ذكوريّة عليها. فعين الدّاعية التي جالت في الغرب لم تَر، من منطلقات عقلانيّة، ما غنمته المرأة من حريّة وما تولّد عن عتقها من إبداع ومشاركة في جميع مجالات الحياة، وإنّما رأت بعين شهوانيّة حريّة المرأة عريا وفجورا. إنّها العين التي تعوّدت أن تحجب المرأة في بيتها لتكون مسخّرة لخدمة الرجل. فإن خرجت أُسدل عليها ستار الخوف على الجسد من الجسد ورافقها حارسها المذكّر غير واثق من “عقلها الناقص”.
تلك المواقف لا محالة هي التي أسّست عداء للديمقراطيّة والحداثة ورفضا لكلّ ما هو غربيّ. فقد ظلّ الخوف كامنا في خطاب دعاة الإسلام السياسيّ من الديمقراطيّة، لأنّها ترفع الحجب والغشاوة عن المقدّس الذي كان يحول دون نقد الداعية والحاكم على حدّ سواء، وهو يعاديها لأنّها تهب الإنسان الحقّ في الاختيار وتقرير مصيره وتنهي وصاية الآخر وطاعة أولي الأمر وتؤسّس لمساواة لا يجد فيها “الخليفة” أو رجل الدين سلطته المطلقة في التأويل والتوجيه وتجعل موقف “الفرقة الناجية” مجرّد رأي قابل للنقد والتعديل والدّحض.
تنهي الديمقراطيّة سيادة الحاكم الفرد الذي يحكم باسم الله وتضعف من سلطة رجل الدين على الحقيقة الدينيّة حين تفتح أبواب العلم بلا حدود على كلّ المعارف الإنسانيّة والنظريّات الفكريّة بعيدا عن ضيق الهويّة وأوهام الأصوليّة. وتنهي آخر فصول الهيمنة الذكوريّة حين تفتح باب النقاش حول حقوق المرأة وشرعيّة الحريّة النسويّة.
لقد كانت الديمقراطيّة بكلّ أسانيدها النظريّة تتعارض مع التصوّرات الإسلامويّة، ولذلك فقد احتاج دعاة الإسلام السياسيّ إلى تعديل مقولاتهم ومراجعة مسلّماتهم لتتحوّل مواقفهم تدريجيّا نحو قبول الديمقراطيّة ونقاش مفاهيم العلمانيّة، حين بدأت مسارات الرفض والانغلاق تتحوّل تدريجيّا نحو مسارات الفهم والاعتراف. فكيف كانت معابر السالكين من دعاة الإسلام السياسيّ نحو قبول الديمقراطيّة؟ وكيف أزاحت من قاموسهم السياسيّ كثيرا من المفاهيم كالحاكميّة؟ (للحديث بقيّة)
________________________________________
[1] انظر مثلا: يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، ط5، مصر، مكتبة وهبة، 1993
[2] حسن البنّا، مذكرات الدعوة والداعية، ط1، الكويت، مكتبة آفاق، 2012، ص ص 280، 281
[3] يقول إبراهيم البيومي غانم: “يرفض البنّا نموذج الدولة الأوروبيّة في تطبيقاتها الحديثة، وبالأولى يرفض أن تقوم دولة تقلدها في المجتمع الإسلاميّ، وهذا ما يؤكّده قوله: “في العالم دولة اسمها الاتحاد السوفييتيّ لها مبدأ معروف ولون معروف ومذهب معروف نحن لا نأخذ به ولا ندعو إليه (…) وقد أرادت إنجلترا وأمريكا تقليدها فادّعتا أنهما تصطبغان بالدعوة إلى شيء اسمه الديمقراطيّة، وإن اختلف مدلوله بمختلف المصالح والمطاع والظروف والحوادث” ويخلص البنا إلى رفض تلك النماذج -كما سبقت الإشارة- ويدعو إلى ضرورة التمسّك بمفهوم دولة الدعوة.” الفكر السياسيّ للإمام حسن البنّا، ط1، مصر، مدارات للأبحاث والنشر، 2013، ص 257
[4] سيّد قطب، معالم في الطريق، ط6، مصر، دار الشروق، 1979، ص ص 43- 45
[5] المرجع نفسه، ص 54
[6] يميّز عبد الله العروي في سياق حديثه عن الصراع بين الاشتراكيين والليبراليين بين الأدلوجة والطوبى، ويعتبر أنهما يشتركان في معنى واحد، وهو الابتعاد عن الواقع والعجز عن إدراكه. إلاّ أن عجز الأدلوجة يرجع إلى أنّها متعلّقة بوضع تجاوزه التطوّر أمّا الطوبى، فيرجع عجزها إلى أنها متعلّقة بمستقبل مستبعد التحقّق. انظر: عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، ط5، المغرب/ لبنان، المركز الثقافي العربيّ، 1993، ص 47
[7] راشد الغنّوشي، الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في الإسلام، ط2، لبنان/ قطر، الدار العربيّة لعلوم ناشرون/ مركز الجزيرة للدراسات، 2012، ص ص 130، 131
[8] يقول عبد الإله بلقزيز: “ينتحل الإسلام الحزبيّ لنفسه دورا مهدويّا في المجتمع من طريق توسّله الدين أداة في الدعوة والتعبئة. ويساعد هذا الزعم المهدويّ على الفشوّ في النّاس والرسوخ في الأذهان، أنّ استثمار الرأسمال الديني في العمل السياسيّ يصطحب معه وهما بأنّ من يسلكون طريق الدين، في الحياة العامّة، لا يبغون إلاّ الصلاح، وتطبيق العدل والنّصفة، ولا يسعهم إلاّ أن يتحلّوا بمناقبيّة وخلقيّة عالية، فتكون سرائرهم صافية وأيديهم نظيفة وغايتهم رفيعة، ولا يطلبون الدنيا ولا يسعون في توسّل منافعها.” الدولة والدّين في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ، ط1، بيروت، منتدى المعارف، 2015، ص ص 168، 169
[9] أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنيّة الحديثة، ص 2
انظر: النسخة الإلكترونيّة على الرابط:
Maktaba22.blogpot.com pdf_477

 

جنون عظمة إسلامي؟

حسن أحجيج : مترجم وأكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه في علم اجتماع المقاولات والتنظيمات، جامعة محمد الخامس بالرباط

للإرهاب أسباب بنيوية متنوعة تعرضت لها دراسات عديدة، من أهمها سيرورة التحديث التي عاشتها البلدان الإسلامية كتجربة ناقصة وصادمة، واستياء المسلمين من الغرب الذي يدعم إسرائيل في نزاعها مع العرب، وتدنيس النصارى للأرض المقدسة (مكة) بمناسبة حرب الخليج الأولى، وظواهر الفقر والاستبداد التي تعيشها الدول العربية-الإسلامية؛ لكن هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن هذه العوامل الموضوعية ولا يتعارض معها، وهو البنية النفسية للعرب-المسلمين كما تشكلت تاريخياً في تفاعلها مع العوامل الداخلية والخارجية. وأهم تمظهر لهذا العامل النفسي هي البارانويا (هذاء العظمة).

دعني أسألك إن سبق لك أن جالت بذهنك الأفكار التالية: “إنهم ينظرون لي نظرة غريبة، إنهم بالتأكيد يكرهونني”؛ “هذا الشخص يقصد تدميري، أنا أعرف ذلك”؛ “لا أظن أنني أستحق هذا المنصب التافه في العمل؛ الجميع يحاربونني هنا للحفاظ على مناصبهم، فهم يعرفون أنني أكثر منهم خبرة وكفاءة”. إذا كانت تنتابك هذه الأفكار ومثيلاتها باستمرار، فلابد أن تلقيت تعليقاً يصفك بأنك مصاب بالبارانويا (جنون العظمة).

تتميز هذه الظاهرة السيكولوجية بتعقيد كبير وتنوع يتساوق مع مختلف مناحي النشاط البشري. وتبسيطاً للفهم، يمكن أن نلخص خصائص البارانويا في اثنتين: أولا، يعتقد المصاب بهذا الداء النفسي بأنه متفوق على مجموع البشر الآخرين؛ وثانياً، أن مؤامرات تحاك ضده من أجل إفشال جميع مشاريعه المسلم بأنها كانت ستنجح لولا المؤامرات. وباختصار، إن البارانويا نوع من العصاب الذي يتميز بحضور أفكار هذيانية دائمة، تتمركز أساساً حول الاضطهاد. إنها سلوك أو موقف خاصين بشخص (أو جماعة) يميل على الدوام إلى توهم نفسه عرضةً للاضطهاد والاعتداء. ويلازم هذا الشعور بالاضطهاد اعتقادا وهميا بالتفوق على الآخرين.

لكن ما علاقة هذه الأوصاف بالعالم الإسلامي؟

دعوني أذكر ببعض الوقائع: عندما سقط برجا التجارة العالميين في نيويورك سنة 2001، اعتقد العديد من المسلمين أنه من عمل الموساد أو وكالة المخابرات الأمريكية، وأن اليهود الذين يشتغلون في البرجين غابوا عن أعمالهم ذلك اليوم. وقال رئيس وزراء ماليزيا، الدكتور مهاتير محمد لشعبه، إن اليهود هم من يقف وراء الأزمة المالية التي عاشتها آسيا. ورفضت الأمهات النيجيريات المسلمات تلقيح أطفالهن، لأنهن اعتقدن أن الأمريكيين يريدون إيذاء الشعب المسلم بلقاحات ملوثة. ويروج في أوساط المسلمين في كل بقاع العالم الإسلامي أن الرسوم المتحركة “طوم وجيري” من اختراع اليهود نظراً لأن العالم يساوي اليهود بالفئران، وبالتالي فإنهم يريدون تحسين صورة هذه الأخيرة. مثلما كان الكثير من سكان بعض البلدان المسلمة التي كانت تتلقى مساعدات غذائية أمريكية يؤمنون إيماناً قاطعاً أن تلك المواد كانت تحتوي على مواد كيماوية تؤدي إلى العقم، وذلك حتى تحد من تزايد عدد سكان المسلمين في العالم. إن كل هذه “المؤامرات” أفكار مجنونة، لكن مئات الملايين من المسلمين يؤمنون بها. فلماذا ذلك؟

إن وعي المسلم وعي مزدوج: فهو يقوم على شعور بالضآلة أمام الذات المركزية التي تتحكم في مصيره (الله)، لكنه يشعر بالعظمة أمام غير المسلمين بسبب اعتقاده أنه ينتمي إلى “أفضل الأديان”. فإذا كان الوعي الإسلامي وعي بالذنب، فإنه في نفس الوقت وعي بالنصر نتيجة هذه السعادة الصوفية التي يشعر بها المسلم ونتيجة هذه الغبطة التي يضعه فيها شعوره بأن النجاح يصاحب كل مشاريعه، كما تشهد على ذلك صيحات الغيظ التي يسمعها من أعدائه المصابين إصابة بالغة (البلدان الغربية واليهود والدول العربية الكافرة)، وأيضا نتيجة صلابة الوعي الجيد الذي بسط العالم وجعله شفافاً. وهذا هو ما يشهد به لوي ألتوسير عندما كتب مستحضراً ماضيه الخاص: “يبقى هذا الزمن في ذاكرتنا الفلسفية زمن المثقفين المسلحين الملاحقين للخطأ على كل المستويات، وزمن الفلاسفة بدون مؤلفات، والقاطعين للعالم بشفرة واحدة إلى فنون وآداب وفلسفات وعلوم؛ أي بشفرة الفصل القاسي بين الطبقات، إنه هذا الزمن الذي ما زالت تلخص عيوبه كلمة واحدة تخفق كعلم يرفرف في الفضاء: “علم برجوازي، علم بروليتاري”. هذه الوضعية السوسيونفسية التي كان يعيشها المناضل الستاليني، والتي وصفها العديد من الفلاسفة أمثال لوي ألتوسير وإدغار موران في “نقدههم الذاتي” لتجربتهم في الحزب الشيوعي الفرنسي، تطابق التجربة التي يعيشها معظم المسلمين الذين يقسمون العالم بشفرة الإيمان الدوغمائي إلى “دار السلم” و”دار الحرب”، إلى الفرقة الناجية والفرقة الخاسرة، “خير أمة أخرجت للناس” وأهل النار، إلخ. فنحن نعلم جميعاً أن جميع المسلمين تربوا منذ طفولتهم على صورة ذاتية متضخمة تدعمها آيات قرآنية وأحاديث نبوية قابلة للتأويل. فالإسلام هو الدين المثالي، وبالتالي فإن المسلمين هم الأجدر بقيادة العالم. لنلق نظرة على الآية التالية: “كنتم خيرَ أمة أُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” (القرآن الكريم: سورة آل عمران، الآية 110).

 

عندما يكون على المسلم أن يؤكد أن المسلمين هم أفضل الشعوب، فإنه لا يبحث عن تفسير لخيبات المسلمين في تحليل المجتمعات المسلمة من أجل تعيين العوائق الموضوعية التي تكرس تخلفها، ولا في عدم التطابق بين قوله وبين الواقع، بل إنه يضطر إلى اختيار فكرة العدوان من طرف الأعداء وفكرة المؤامرة كتفسير لتلك الخيبات. إن إرادةً مضادةً وماكرةً هي التفسير المقدم لكل شيء. ليس المسلمون متخلفين بسبب قصور في ذواتهم، وإنما بسبب المؤامرات الصهيونية والماسونية والعلمانية والليبيرالية… أي هذا الخليط من الأعداء الذين يتربصون بالإسلام. وهذه عملية مماثلة للاستدلال الذي يقوم به المصاب بهذاء العظمة (البارانويا) الذي يرى دوما أن علة الصراع الداخلي الخفي توجد في الخارج، ويقيم جدلية لا متناهية من الاضطهاد يعتبر فيها فعل الآخر، كيفما كان، علامة على تآمره. إن الشغل الشاغل للمسلم المصاب بهذاء العظمة هو الصراع ضد عدو خارجي وتحويل التمزق الداخلي إلى عداء خارجي والمحافظة بذلك على وحدة الخطاب المتماسك والخالص.

ومع أن البارانويا الإسلامية واقع تشهد عليه العديد من القرائن المادية التي لا يتسع المجال للاستفاضة فيها، فإنها لعبت مع ذلك دوراً أساسياً في اتساع رقعة العنف الموجه ضد الغرب والبلدان العربية التي تحالفه. إننا نلاحظ مثلا أن التطرف يأتي في طليعة المناقشات السياسية في الوقت الذي تواصل “الدولة الإسلامية” تجنيد المقاتلين من الديمقراطيات الغربية. وقد أبرزت مؤتمرات القمة الأخيرة في واشنطن وسيدني بشأن مكافحة التطرف العنيف أهمية تقويض الروايات المتطرفة، وتعبئة المسلمين المعتدلين الذين يعارضون تنظيم داعش، والعمل على معالجة الدوافع الكامنة وراء التطرف؛ إلا أن المسلمين، سواء في الدول الغربية أو في العالم الإسلامي، استقبلوا هذا التصور الغربي بشكوك كبيرة، حيث يمكن للمرء أن يستمع في كل مكان يوجد فيه المسلمون إلى شكواهم من أن الغرب يجعل منهم الخطر الوحيد الذي يهدد العالم ويشوه سمعتهم، الأمر الذي يزيد فقط من مستوى التشويه التي يعاني منها المسلمون.

يتمثل أحد الشروط الإيديولوجية الضمنية التي تحول دون انخراط المجتمعات الإسلامية في المشروع الغربي لمكافحة التطرف في “رواية البارانويا الإسلامية” التي تتردد بشكل متواتر في الخطاب الغربي المضاد للتطرف. وتشير هذه العبارة إلى الاعتقاد بأن ما يدفع إلى استياء المسلمين من المجتمعات الغربية هو رؤية بارانوية إلى العالم التي تزدهر في الجماعات المغتربة والمحرومة من السلطة. ويستغل الإرهابيون المكلفون بتجنيد “المجاهدين” منظورات “محرَّفة” لإذكاء الشعور بالظلم من خلال استغلال محنة المسلمين في الدول الغربية والدول المسلمة الموالية للغرب. ويظهر هذا الربط بين التطرف وجنون العظمة مراراً وتكراراً في البيانات الرسمية ووثائق السياسات الغربية، بما فيها تلك المرتبطة بالاستراتيجيات المتواصلة لمكافحة التطرف. وتعتبر وثائق “فريق التوعية الرقمية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية” أفضل مثال واضح على خطاب البارانويا الإسلامية.

أعتقد أن الخطاب الغربي حول البارانويا الإسلامية يقوي عملية الإنتاج الإيديولوجي التي تؤجج مشاعر المسلمين العدائية تجاه الغرب، ويعيق عملية انخراط المجتمعات الإسلامية في برامج مكافحة العنف والإرهاب. والحال أن المبدأ الذي يوجه ذلك الخطاب يتساوق مع التصورات الليبيرالية والاستشراقية التي ترى أن الثقافات الإسلامية تمثل خللا وظيفياً ومنهاجاً مضاداً للحداثة، وترجع استياء المسلمين من السياسة الخارجية للبلدان الغربية إلى أنماط تفكير مَرَضيّة. فكما أن الأرتوذوكسية الليبيرالية لما بعد الحرب أمنت نفسها بالتعارض مع الشعبوية المصابة بهذاء العظمة (الشيوعية الستالينية)، أمنت الحداثة الليبيرالية المعاصرة نفسها بالتعارض مع الإسلام المصاب بهذاء العظمة. وأعتقد أنه بدون وعي بالظروف الإيديولوجية التي تم تحديدها هنا ومحاولة تجاوزها، فمن المرجح أنه سيكون من الصعب إشراك المسلمين في بناء مجتمع عالمي بدون عنف.

مركز مبدأ : يواصل متابعة مشروع العلامة بن بيه من خلال كتاب جديد

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ ) طاولة مستديرة حول كتاب العلامة الشيخ عبد الله بن بيه (الإرهاب التشخيص و الحلول ) ، الكتاب قدمه الدكتور مولاي أحمد جعفر .
وقد قدم الباحث الكتاب باعتباره احد أهم الإنتاجات الفكرية في الموضوع معتبرا انه ثري ليس فقط من حيث المراجع التي تشمل المراجع الدينية و الأدبية و الغربية و غيرها و إنما أيضا من حيث المحتوى و التحليل الذي قدمه الشيخ العلامة عبد الله بن بيه ، كما أكد أن الكتاب يعد دراسة مهمة من فقيه و عالم محظري بالدرجة الأولى و شخص له الخبرة في العديد من المجالات ذات الطابع الديني و المجتمعي و هو ما جعل صاحبه يصنف مرجعا منا سبا لهذا النوع من المواضع .
و قد حضر هذه الطاولة التي ترأسها الإعلامي الولي سيدس هيبة العديد من الباحثين و المهتمين بالشأن الثقافي إضافة إلى عدد من الأساتذة الجامعيين من بينهم د . الحسين بديدي .
و يأتي هذا الكتاب كنشاط ثالث ضمن متابعة مركز مبدأ للمشروع الفكري و التجديدي للشيخ العلامة عبد الله بن بيه و الذي سبق أن نظم فيه المركز ندوتين كبيرتين .

مركز مبدأ : يفتتح موسمه الثقافي بندوة كبرى حول مشروع الشيخ بن بيه بمحاضرة للعلامة ولد امباله

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية مبدأ ندوة علمية كبرى حول المشروع الفكري و التجديدي للشيخ العلامة عبد الله بن بيه .

فيما يلي صور الندوة