6 يوليو، 2025، والساعة الآن 8:29 مساءً بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 10

الدين السكوني والدين الحركي عند هنري برغسون (Henri Bergson (1859-1941

إسماعيل الموساوي
باحث مغربي متخصص في الفلسفة. حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش

“قد نرى في الماضي، أو في الحاضر، مجتمعات إنسانية لا حظ لها من علم أو فن أو فلسفة، ولكن لا نعرف مجتمعا لا دين له” هنري برغسون Henri Bergson
تقديم إشكالي:
تطمح هذه الدراسة في معالجة قضية أساسية شغلت بال الكثير من المفكرين والفلاسفة على مر العصور، وهي قضية الدين[1]؛ هذه الأخيرة التي حاول أن يتصدى لها العقل الإنساني بكل ما أوتي من قوة، محاولاً الإجابة عن مجموعة من المشكلات التي كانت تعترضه من قبيل: مصير الإنسان بعد الموت، وغايته من وجوده في هذا الوجود، وغيرها كثير من قبيل هذه المشكلات… ويعزى اختيارنا للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون Henri Bergson في هذا السياق لكون أن الحديث حوله في الدراسات العربية التي أنجزت عادة ما ينظر إلى فلسفته، باعتبارها فلسفة طبيعية تطورية تأخذ من مبدأي التغير والصيرورة في الحياة ما تفسر به جميع الموضوعات المطروحة في الكون، وهذا الأمر لا نختلف فيه إذا توقفنا عند كتاباته الأولى[2]، وإنما نؤيده ونقر على صحته، أما إذا رجعنا إلى كتاباته الأخيرة، ولاسيما كتابه المعنون بـ “منبعا الأخلاق والدين” Les Deux Sources de la Morale et De la Religion 1992، فإنبرغسون يعيد فيه الاعتبار للقضايا الروحية والأخلاقية والدينية من خلال بسطه لرأيه في الدين والأخلاق، ودورهما في الحياة الإنسانية ومستقبلها. وكما يقول المفكر عبد الرحمان بدوي، إن هذا الكتاب “مزيج من التصوف والفلسفة الخلقية والتأملات السياسية ذات النزعة الحالمة”[3]. إذن، فكيف تصور برغسون قضية الدين؟ وما تفسيره لها؟ وما الفرق بين الدين السكوني والدين الحركي عند برغسون؟ وما علاقة الدين عند برغسون بالتجربة الصوفية الحقة، باعتبارها حلا لمشكلة الله عنده؟
نحتاج في نظرنا للإجابة عن هذه الإشكالات المطروحة على الأقل إلى المحاور التالية:
1. الدين عند برغسون
– الدين السكوني عند برغسون ووظيفته الأسطورية
– الدين الحركي عند برغسون غايته الاتصال بالله
2. التجربة الصوفية الحقة وحل مشكلة الله عند برغسون
1- الدين عند برغسون:
إن برغسون يَجمع بين الأخلاق والدين لكونه يرى أن للاثنين معا ينبوعين أساسيين؛ وهما: الانفتاح والانغلاق، ولهذا نجده يعتبر الأخلاق نوعين، وهي: أخلاق منغلقة Morale Close، وأخلاق مفتوحة Morale Ouverte؛ فالأولى هي “أخلاق الجماعات المغلقة، وهي تلك المجتمعات التي تشبه في بعض الوجوه خلايا النمل أو بيوت النحل”[4]. أما الثانية، فهي “أخلاق تتجاوز حدود الجماعة، وهي أخلاق مليئة بالحركة والخلق والإبداع، وعليها يتوقف مصير الإنسانية؛ لأنها هي التي تفتح أمام التطور البشري أفقا واسعا لا نهائيا”[5]. وعليه، يقر برغسون أن هناك تشابها حاصلا بين المجتمعات البشرية البدائية، وبين خلايا النحل أو بيوت النمل التي ذكرناها آنفا، وهذا الحكم لا يسري فقط على المجتمعات البدائية، وإنما إذا عمّقنا النظر في مجتمعاتنا المتحضرة، فإننا سنجدها لازالت منغلقة على نفسها؛ لأنها تضم البعض وتطرد غيرهم، وذلك لكونها حسب برغسون تقوم على الإلزام Obligation، “لأن الإلزام هو من الضرورة بمثابة العادة من الطبيعة”[6] والشعور بالضرورة، وإن كان مصحوباً بالشعور بالتملص منها، هو ما يسمى بالإلزام، فهذا الأخير تفرضه الجماعة بمثابة نظام من العادات يسعى إلى تحقيق ما يسمى بوحدة المجتمع من خلال تماسك أفراده وحمايته من العدو الخارجي.
واضح إذن، أن برغسون يدعونا إلى البحث عن الأخلاق المفتوحة، وهي التي يجسدها لنا في القول التالي: “الواقع أننا لو تعمقنا الأخلاق الجديدة التي يجيئ بها مثل هؤلاء “الأبطال”[7] لوجدنا أنها تعبر عن اتحادهم بالمصدر الأصلي للحياة، أو بالوثبة الحيوية نفسها؛ وهذا الاتحاد هو الأصل في شعورهم بالتحدي من ربقة الطبيعة وأسر المدينة”[8]؛ أي أن برغسون يفتح الأخلاق أمام إمكان جديد متحرر أكثر من قيود المادة ومرتبط أكثر باليقظة الفكرية والإلهام الروحي والحدس الصوفي.
فإذا كان برغسون يميز في الأخلاق بين نوعين كما رأينا، أخلاق مفتوحة وأخلاق منغلقة، فإننا نجد نفس التصنيف في الدين من خلال تمييزه بين الدين السكوني Religion Statique، والدين الحركي Religion Dynamique.
– الدين السكوني عند برغسون ووظيفته الأسطورية
ينطلق برغسون من فكرة قوامها أنه لا يمكن أن نجد في الماضي أو الحاضر أو المستقبل مجتمعات من دون دين، و”قد نرى في الماضي، أو في الحاضر، مجتمعات إنسانية لا حظ لها من علم أو فن أو فلسفة، ولكن لا نعرف مجتمعا لا دين له”[9]، وذلك راجع إلى إيمان الإنسان منذ القدم بأشياء خرافية وسحرية يلجأ إليها، لتفسير ما يعترضه من مشاكل دنيوية، فإذا كان الحيوان يجهل الخرافات جهلاً تاماً، فإن الإنسان على العكس من ذلك، هو الحيوان الوحيد الذي يعلق أماله الكبرى في صميم وجوده على أمور وهمية وغير معقولة، وظواهر غيبية غير مفهومة، وقوى سحرية غير ملموسة[10]. مما يبين أن الدين كان وثيق الصلة بالسحر والخرافات، والأساطير. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الدين كان وليد حاجة إنسانية..
وتجدر الإشارة كذلك، إلى أن هناك تمييزا يضعه برغسون في غاية الأهمية بين النباتات والحيوانات من جهة والإنسان من جهة ثانية، حيث إن الأولى تحيا غارقة في طمأنينة مطلقة لا يكاد يطلع عليها الإنسان، لكونها تحيا في “الآن L’instant “، كما لو أنها كانت تنعم بالأبدية ليس فيها موضع للقلق أو اللهفة أو السأم، لكونها تعيش في لحظتها ولا تعطي أية أهمية لتابعات هذه اللحظة. أما الإنسان، فهو “الحيوان الوحيد الذي لا يضمن فعله، فيتردد ويتخبط، ثم يبني مشاريعه، وهو مؤمل في النجاح، مشفق أن يخفق. هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه ميت لا محالة. أما غيره مما في الطبيعة، فيتفتح ويزدهر في هدوء تام، وطمأنينة كاملة”[11]، وليس من شك في أن يقظة العقل عند الإنسان قد تفضي إلى “قلق بشري Inquiétude Humaine” يكون هو الكفيل بالقضاء على نظام الطبيعة[12]، ومع ذلك فإن الإنسان يحب أن يعرف أكثر وأفضل في ما يقع في الوجود بالمقارنة مع الكائنات الأخرى التي تتوفر على مفاهيم خارجية وسطحية. أما الإنسان، فيحتوي على مفاهيم داخلية وعميقة[13]، بفضل هذه الأخيرة يسبر أغوار جميع الموضوعات الموجودة في الكون.
وعلى إثر هذا التمييز، نجد الحيوان حسب برغسون بأنه يحقق ما عليه انطلاقاً من الغريزة، التي بفضلها تتحقق الأفعال الضرورية للحياة الجمعية، التي توحدهم في شكل جماعة. أما الإنسان، فيحقق ذلك انطلاقاً من توفره على العقل، إلا أن توفره على هذا الأخير، قد يجعل من المرء يبحث عما يخدم مصلحته الخاصة، مما قد يحول دون تحقيق ما يسمى المصلحة العامة، ومعنى هذا بأن يقظة العقل التي تحدثنا عنها آنفا، قد تكون ضارة بالجماعة والفرد في نفس الآن. كما أن الطبيعة هي من وضعت الغريزة ووضعت العقل حسب برغسون، وهي وحدها من يحق لها إعادة خلق التوازن الذي تسبب العقل في زعزعة استقراره، فيكون الملجأ إذن انطلاقاً من هذا إلى الدين الساكن الذي تتخلله الخرافات والأساطير. وعليه، تهب الطبيعة الإنسان وظيفة أسطورية Fonction Fabulatrice التي “تنسب إلى العقل، وليست مع ذلك من العقل المحض، تحقق هذا الغرض، فقد أوجدت الدين الذي كان موضوع حديثنا وحتى والذي أسميناه سكونياً، وكان بودنا أن نسميه طبيعياً لو لم يكتسب هذا التعبير معنى آخر”[14]، وبمقتضى هذه الوظيفة الأسطورية يستطيع المرء أن يخترع شخصيات يخلع عليها صوراً متباينة، وأشكالاً متعددة، وينسب إليها صفات وأخلاقاً وتاريخاُ بأكمله، وهذه الشخصيات قد تكون “أرواحاً” بادئ الأمر، ثم تستحيل إلا “آلهة” أو “قوى إلهية” فيما بعد، ولكن المهم أن الوظيفة الأسطورية هي التي تحملنا على الظن بأن تلك القوى الإلهية تراقبنا، وأنها تطلب منا الخضوع والولاء لذلك “المجتمع” الذي قد تُحدثنا أنفسنا بالتمرد عليه بالخرافات Superstitieux فذلك لأن من شأن “الوظيفة الأسطورية أن تهبه شيئاً من الثقة أو طمأنينة، إذ هي التي تمده بفكرة “الخلود الشخصي” فلا تلبث النفس أن تطمئن إلى بقائها بعد الموت، على الرغم من إدراكها لواقعة الموت الأليمة التي لا مفر منها.
إن وظيفة الدين السكوني تكمن بالأساس في أنه “رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة ما في اشتغال العقل مما قد يشل قوى الفرد ويحل تماسك المجتمع”[15]، لأن العقل عائق يعكر الصفاء الذي نلمسه في كل ما عداه، وأنه لابد من التغلب على هذا العائق، وإعادة التوازن. ومن هنا يكون الدين السكوني حسب برغسون رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة ضد ما أدى إليه العقل من تفرقة الفرد عن الجماعة وتفرقة الجماعة عن الفرد، مما أدى إلى تفكيك بعضهما عن بعض، ففي الدين السكوني هنا تشبث بالحياة حتى وإن أدرك العقل بأن نهايته محتومة بالموت، وبالإضافة إلى إخلاص الفرد إلى الجماعة، وإن كان يأمره عقله بالتفرد، وذلك عن طريق الطقوس السحرية لأن “السحر هو جزء لا يتجزأ من الدين السكوني، أو ربما كان الأصح أن نقول إن الدين والسحر قد صدر عن أصل واحد، وهما في العادة يسيران دائما جنبا إلى جنب”[16] وهذا كله طبعا، عند المجتمعات البدائية.
– الدين الحركي عند برغسون غايته الاتصال بالله.
يربط برغسون الدين الحركي بالتجربة روحية التي تجد مصدرها في الحدس الصوفي لا في الغريزة. أما غايته، فتحدد أساسا في الاتصال بالله لا بالتشبث بالمجتمع كما هو الحال في الدين السكوني، عن طريق الانفصال عن الحياة ومثيراتها التي قد تحول دون تحقيق هذه الغاية السامية. إن الدين الحركي حسب برغسون يحقق للإنسان الطمأنينة والسكينة Sérénité مثل الدين السكوني إلا أنها في هذه المرة بشكل أسمى وأرقى من الدين السكوني، فأين نجد هذا النوع من الدين وتجلياته حسب برغسون؟
يخبرنا برغسون بأن هذا النوع من الدين يمكن العثور عليه عند المتصوفة المسيحيين الآتية أسماؤهم، والذين يعتبر برغسون تصوفهم تصوفاً كاملاً لا يشوبه النقصان، من أمثال “القديس بولس، والقديسة تريزا، والقديسة كاترين دوسيين، والقديس فرانسوا، وجان دارك، وكثير غيرهم”[17]، وقد يكون هؤلاء من وجهة نظر برغسون تختلف تجربتهم الصوفية من شخص للأخر إلا أنه هناك ما يوحدهم، وهو كونهم “جميعا يصدرون عن احتكاك مباشر أو اتصال فعال بالجهد الخالق الذي يكمن من وراء الحياة، وهذا الجهد من الله إن لم يكن هو نفسه”[18]. وعلى هذا الأساس، تكون غاية التصوف عند برغسون “اتصال بالجهد المبدع الخالق الذي ينجلي عن الحياة، ومن تم اِتحاد جزئي به، وهذا الجهد هو شيء من الله، إن لم يكن هو الله ذاته، والصوفي الكبير هو ذلك الإنسان الذي يتخطى الحدود التي رسمتها للنوع البشري، ويكمل بهذا فعل الله”[19].
إن التصوف الحقيقي عند برغسون أمر يصعب بلوغه، إلا أن هذا لا يعني بأن بذور الصوفية لم توجد في كل مكان وزمان، فالصوفي العظيم حسب برغسون هو تلك الشخصية التي استطاعت أن تتحرر من كل قيود المادة لكي تربط الاتصال بالفعل الإلهي نفسه، ويحدثنا برغسون بأن فلاسفة اليونان قد حاولوا أن يسمو بأنفسهم نحو تحقيق هذا المستوى إلا أن تجربتهم باءت بالفشل نظرا لنزعتهم العقلية المحضة التي منعتهم من الوصول إلى التصوف الحقيقي الذي يمتزج فيه النظر بالعمل، فيقدم لنا مثال الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي قدم العمل L’action كمجرد تضاؤل للنظر La contemplation، بينما التصوف الحقيقي هو في صميمه “فعل، وخلق، وحب”[20]، بمعنى أن أفلوطين قد حاول قدر الإمكان أن يسمو بنفسه إلى هذا المقام، إلا أنه لم يستطع أن يحول التأمل إلى عمل الذي تحدد بفضله إرادة الإنسان بإرادة الله[21]، وكذلك البوذية التي لم تجهل المحبة، إلا أن قولهم بالتشاؤم واستئصال إرادة الحياة قد منع معظم الفلسفات الهندية من أن ترقى إلى التصوف الكامل والحقيقي.
إن المتصوفة الحقيقيين حسب برغسون رجال “عمل لا تأمل أو نظر”، كما يحضر ذلك في تجارب رجال ونساء من قبيل القديس بولس، وجاك دارك، والقديسة تريزا، والمسيح الذي يعتبره برغسون أكبر شخصية صوفية عرفها التاريخ، حيث يمكننا القول إن كل المتصوفة إن هم إلا أتباع أصليون للمسيح الذي هو مثلهم الأعلى، وذلك من خلال أن الصوفي المسيحي ينتابه شعور بالحب، وهذا ليس حكراً على حب الإنسان لله، وإنما هو حب لجميع الناس، وكأن الصوفي يحب من خلال الله كل الإنسانية حبا إلهيا وليس هذا الحب سوى الأخوة التي يوصي بها الفلاسفة باسم العقل، وحجتهم في ذلك أن البشر يشتركون في جوهر عقلي واحد.
يتضح إذن من خلال ما سلف، أن برغسون يقرن بين الصوفية الحقة والمسيحية وذلك من خلال أن كل منهما شرط للأخرى من غير تحديد، وكأن برغسون يريد بأن يخبرنا بأنه كان في الأصل سوى مسيحية المسيح.
2- التجربة الصوفية الحقة وحل مشكلة الله عند برغسون
يرى برغسون أن التجربة الصوفية هي التي تقدم لنا الحل الوحيد لمشكلة الله كحل تجريبي، مع العلم أن هذه التجربة لا يمكن لها أن توصلنا إلى اليقين النهائي والحاسم، وبالرغم من ذلك، فبإمكانها أن تقدم لنا حلا احتماليا يمكن زيادته إلى الاحتمالات السالفة، فنكون بهذا قد وصلنا على الأقل إلى ما يقربنا إلى اليقين. فكلما انفتحت التجربة الصوفية على التأويل العقلي كلما كشفنا عن مضامين فلسفية عميقة لم يكن بودنا معرفتها، فالتجربة الصوفية (القائمة على الحدس الصوفي) هي السبيل الأوحد لتكملة تلك النظرات الميتافيزيقية الناقصة[22]، لأن الميتافيزيقا لا يمكن لها أن تكتمل إلا بفضل التجمع المطرد للنتائج المحصلة، بعدما كانت مذهباً منغلقاً على نفسه.
فما هي إذن أبرز هذه الاحتمالات التي تقدمها لنا التجربة الصوفية لحل مشكلة الله؟
يجيبنا برغسون بأن هذه الاحتمالات الجديدة التي تجيئ بها التجربة الصوفية؛ فهي أولاً أن الله محبة، وأنه موضوع محبة[23]، هذا بالإضافة إلى تفسير نظرية الخلق، باعتبار أن الله لم يخلقنا إلا لكي نحبه، يقول برغسون: “إن ثمة موجودات قد دعيت إلى الوجود، وكتب لها أن تُحَب وتُحِب: فإن الطاقة الخلاقة لا تعرف إلا بهذا الحب نفسه، ولما كانت تلك الموجودات متمايزة عن الله الذي هو تلك الطاقة نفسها، فلم يكن من الممكن لها أن تظهر إلا في عالم (أو كون). ولهذا فقد تحتم ظهور العالم، وفي هذا الجزء المعين من الكون الذي هو كوكبنا، بل ربما في كل نظامنا الكوكبي بأجمعه قد تحتم على تلك الموجودات من أجل الظهور أن تكون نوعاً، وهذا النوع بدوره قد استلزم مجموعة أخرى من الأنواع كانت منه بمثابة العوامل الممهدة، أو القوى المدعمة، أو الفضلات المتبقية”[24].
إن برغسون قد رفض جميع الأدلة التقليدية التي تثبت وجود الله، كدليل أرسطو بالمحرك الأول، ودليل الغائية، وكذلك الدليل الأنطولوجي، ليقر بصحة الدليل الصوفي الذي يوصلنا إلى حقيقة الحضرة الإلهية La présence Divine؛ لأن برغسون قد أدرك بأن الفلسفة عندما تحاول أن تتحدث عن الله، فإن الله الذي تقدمه بعيداً كل البعد عن تصور الله كما هو معبود عند عامة الناس. أما الله عند الصوفية، فهو أبعد ما يكون عند تصور الفلاسفة والعلماء له، لأنه الحياة والمحبة. وعلى هذا الأساس، فإن الصوفيين يحملون هم تحقيق الآمال الإنسانية عن طريق المحبة، والتعاطف، والغبطة الروحية، وإذا كان الكثيرون قد لا يجدون حلا لمشكلة الشر التي تؤرق عقولهم وقلوبهم، فإن الصوفية هم الكفيلون بإظهارها على أن ثمة غبطة روحية عميقة تعلو على اللذة والألم معاً، وتلك هي الحالة النفسية النهائية التي يصل إليها الصوفي في خاتمة المطاف[25]. وكأن برغسون أراد أن يقول لنا إن مجموع المشاكل الأخلاقية والإلهية المطروحة قد نجد حلاً لها عند المتصوف الحقيقي والكامل، انطلاقا من إقراره بعقيدة المحبة التي يأتلف الكون جميعه بفضلها.
على سبيل الختم:
لقد حاولنا قدر الإمكان في هذه الدراسة أن نلامس قضية الدين عند برغسون وما تطرحه من إشكالات فلسفية، من خلال كتابه منبع الأخلاق والدين، وعموماً يمكن القول إن برغسون في معالجته لهذه القضية قد تبنى نفس التمييز الذي تبناه كما أثبتا في الأخلاق بين أخلاق منغلقة وأخلاق مفتوحة، وذلك من خلال ينبوعين أساسيين، وهما: الانغلاق والانفتاح؛ فنفس الأمر وجدناه في معالجته لقضية الدين، إذ يميز في هذا الأخير بين نوعين، وهما: الدين السكوني والدين الحركي؛ فالأول ليس من نتاج العقل، بل ترجع نشأته لوظيفته الخرافية والأسطورية، ولما كان العقل يميل إلى فصل الفرد عن المجتمع، فإن الطبيعة تقوم ضد هذه القوة العقلية المفرقة للمجتمعات. إن هذا الدين السكوني هو احتياط ضد الخطر الذي يتعرض له المرء متى فكر في ذاته ولم يفكر إلا في ذاته، وهذا رد فعل يقوم به الدين السكوني من الطبيعة ضد العقل. أما الثاني، فهو دين يولد كما أثبتنا من اتصال بالذات الإلهية والمجهود الخالق للحياة. وعليه، يكون الدين الحركي يستمد مبادئه من التصوف الذي يطمئن النفس، ومصدر هذا الجهد الخلاق يأتي من الله. كما أنه ليس في التصوف الحقيقي والكامل” تأمل ولا نظر” كما كان عند المتصوفة القدماء، وإنما تسمو الذات الإنسانية إلى ما تصبو إليه بـ “العمل لا بالنظر أو التأمل”.

المراجع المعتمدة:
– بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلاسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، بيروت.
– زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي.
– هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971
– Henri Bergson, Creative Evolution(1944), tr: Arthur Mitchell, The modern library, New York,
________________________________________
[1] نعلم أن هذا المجال الذي نتحدث عنه يدخل في إطار مبحث “فلسفة الدين” وما تثيره من إشكالات حول الدين وقضاياه، وقد حظينا بشرف دراسة هذا المبحث القيم على يد الدكتور: محمد البوغالي، سنة: 2013-2014 ضمن المواد المبرمجة في إطار التكوين العام لماستر “الفلسفة تأويل وإبداع” الذي تشرف على تنسيقه الدكتورة: ثريا بركان.
[2] نقصد بالكتابات الأولى لبرغسون:
– “رسالة في معطيات الشعور المباشرةEssai sur Les données immédiates de la Conscience 1889 ”
– “المادة والذاكرة، رسالة في علاقة الجسد بالنفس” “1896Matière et Mémoire; essai sur la relation du corps et de l’esprit ”
[3] بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلاسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، بيروت، ص 325
[4] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 188
[5] نفس المرجع، نفس الصفحة
[6] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 19
[7] المقصود هنا حسب برغسون: (المتصوفة الذين أخذوا التصوف الحق بـ “العمل لا بالتأمل”) كما سنرى في ما يلي من هذه الدراسة.
[8] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، نوابع الفكر الغربي، ص 194
[9] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 113
[10] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، نوابع الفكر الغربي، ص ص 198-199
[11] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 218
[12] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 199
[13] Henri Bergson, Creative Evolution)1944), tr: Arthur Mitchell, The modern library, New York, p: 3
[14] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 219
[15] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[16] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 201
[17] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 244
[18] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 201
[19] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 236
[20] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 202
[21] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 237
[22] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 205
[23] نفسه، ص 206
[24] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[25] نفس المرجع، ص 207

 

مفهوما التعددية والاختلاف من منظور ما بعد الحداثة

بدر الدين مصطفى أحمد
باحث وأكاديمي مصري، أستاذ فلسفة الجمال والفلسفة المعاصرة بقسم الفلسفة، كليّة الآداب، جامعة القاهرة، مصر. درّس في أكاديمية الفنون وفي جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا

يولي فلاسفة ما بعد الحداثة مفهوما التعددية والاختلاف مكانة متميزة داخل فلسفاتهم؛ فهما من وجهة نظرهم يمثلان الأرضية المشتركة للتفاعل والحوار مع “الآخر” أو “العوالم الأخرى”. وقد وصف فلاسفة ما بعد الحداثة بـ”فلاسفة الاختلاف”، وذلك لأن الفلسفة تحولت على أيديهم من كونها أداة نسقية تبتغي الوحدة إلى أداة مهمتها تفتيت الأشياء وتفكيكها “إن الحاجة تدعو إلى تفتيت الأشياء وتهشيمها… تفتيت الكلمات والجمل والقضايا، تفتيت الكيفيات والأشياء والموضوعات” كما يقول جل دولوز. سيتلاشى مفهوم الجوهر، الذي ظل مهيمنا على التفكير الفلسفي طوال القرون السابقة على القرن العشرين، من الخطاب ما بعد الحداثي، ليحل محله مفهوم “التعددية”. التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى؛ فالفلسفة هي منطق للتكثر والتضاعف logique de la multiplicité، تضاعف المعنى للشيء وللظاهرة الواحدة. لا يوجد حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد، فأي شيء قد يكون هذا أو ذاك وأحيانًا يكون شيئًا أكثر تركيبًا بحسب القوى التي يحوزها. من هنا لا يوجد معنى حقيقي للشيء الواحد، هناك تعددية. وجهات للنظر. تجاوبات مع الأحداث والوقائع. فالظاهرة الواحدة لها أقنعة عديدة و”خلف كل قناع يكمن قناع آخر”. وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة، وأن تخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها، وإنما لكي تعطي لكل قناع معنى جديدًا “أن تكتشف ما يتقنع ولماذا، ومن أجل أي هدف نحتفظ بقناع مع تعديل شكله في كل مرة”. وربما يكون الانطلاقة الحقيقية لهذا الفهم، جاءت مع نيتشه في نقده لمفهومي العقل والحقيقة.

في كتابه الكلمات والأشياء يقدم ميشال فوكو مصطلح “اليوتوبيا غير المتجانسة” l’ utopie hétérogène، ليعبر عن الرؤية ما بعد الحداثية للآخر، وما يعنيه فوكو بهذا المصطلح، هو تساكن “عدد كبير من العوالم المتشظية الممكنة” في “فضاء افتراضي”، أو على نحو أبسط، تواجد فضاءات متجاورة ومفروض بعضها على الآخر. ولا تتوقف الشخصيات في هذه الفضاءات طويلاً عند كيفية حل أو البحث عن إجابة للأسئلة المركزية؟ إلا أنها ملزمة في المقابل بالتساؤل عن “أي عالم هو الذي نحياه؟ ما العمل حياله؟ وأي “أنا” ستقوم بذلك؟… إلخ.

كان من ضمن المآخذ الرئيسة التي أخذها فكر الاختلاف على الفلسفة الكلاسيكية (فلسفة ديكارت وكانط وهيجل) إقصاء الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيا وإبستمولوجيا وسياسيًا. ففي الوقت الذي كانت تقر فيه تلك الفلسفات بأن العالم متعدد ومتنوع، فإنها تحاول دوما إلغاء تعدده وتنوعه في وحدة معنى تَفترض أنها ثابتة. وإذا عُرض عليها أن تفكر في المتعدد الاجتماعي، فإنها ستؤكد أنه غير منسجم أو غير مستوى في وحدة واحدة، لكنها ستحاول أيضا أن توحده وتضمه في وحدة الدولة. منطق الفلسفة الكلاسيكية إذن هو “منطق التطابق” logique de l’identité، سواء تعلق الأمر بتطابق الوعي أو الكوچيتو أو الذات أو الدولة. كل هذه المقولات مطلقة وبواسطتها تحولت الفلسفة إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة نحو إلغاء التعارضات. غير أن الحلم يشكك في وضوح الوعي (دريدا)، والفن يدحض التمثيل (دولوز)، والمنبوذ يخترق الوحدة السعيدة للدولة (فوكو).

كان الفيلسوف الألماني فريدريش هيجل (1770 – 1831) نموذج الفيلسوف الذي اجتمعت في فكره كل المقولات التي جاءت ما بعد الحداثة لتتبنى عكسها. إنه مثال للمفكر السلطوي الذي أراد أن يحكم مستقبل الفلسفة، وهو يرقد في قبره. يقول ألكسندر كوجيف Alexandre Kojive – الذي انتقلت على يديه الهيجلية إلى فرنسا – “إن خطاب هيجل يستنفد كل إمكانات الفكر، فلا يمكننا أن نعارضه بأي خطاب دون أن ينتهي هذا الخطاب إلى أن يشكل جزءًا منه، أو أن يعيد صياغة فقرة من النسق باعتباره عنصرًا مؤسسًا “للحظة” من المجموع”. وأفضل دليل على هذا الغرور الهيجلي، ما ردده إريك فيل من أن هيجل كان ينوي أن يضع للفلسفة نقطة النهاية”. والحق أن هذه الرؤية سواء أكانت منطلقة من هيجل، أم من تلامذته وشراحه، لا يمكن أخذها على محمل الجد، إذ هي ليست إلا نوعا من الغرور البشري الساذج، ولا يمكن أن تفهم إلا في هذا السياق. بالإضافة إلى أن أية نقطة نهاية، سرعان ما ستتحول إلى بداية جديدة.

تمثلت البداية الجديدة التي وجدها فلاسفة ما بعد الحداثة داخل الهيجلية في مفهوم التناقض، الطرف الثانى في معادلة الجدل الهيجلية. فقد احتل التناقض مكانة بارزة في النسق الهيجلي، بصورة ربما لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفلسفة. لكن المشكلة أن لحظة الاختلاف في هذا النسق سرعان ما تتحول إلى لحظة تطابق وهوية لتدخل في مركب واحد يتلاشى بداخله أي أثر للاختلاف والتناقض. إنها لحظة التطابق بين الشيء ونقيضه، لحظة انتصار الهوية على الاختلاف، والوحدة على التعدد. إن التناقض عند هيجل يشكل جوهر الاختلاف وليس مجرد نمط من أنماطه، وهذا التناقض سرعان ما يرتد نحو التطابق “إن هذا الاختلاف يٌقحم عنوة داخل تطابق مسبق، فيقاد نحو منحدر التطابق الذي يحمله بالضرورة حيث يشاء، ويجعله ينعكس حيث يريد التطابق”. يتعلق الأمر إذن بتحرير السلب من هيمنة الكل، إطلاق سراحه من داخل النسق، وعدم توقيف عمله بفعل أي تركيب، أو سجنه داخل منطق التعارض. الاعتراف به كآخر لا كنقيض. هذا الآخر قد يكون كتابة (دريدا) أو رغبة (دولوز) أو حمقى (فوكو). إنه “الانسياب اللانهائى للخارج” (بلانشو).

في كتابه “حوارات” يرى دولوز أن إحدى مهام الفلسفة الآن هي الإعلاء من قيمة السلب في الفكر، الجذور أو العشب ضد الأشجار، آلة الحرب ضد آلة الدولة، التعددية ضد الشمولية، قوة النسيان ضد الذاكرة، الجغرافيا ضد التاريخ، الخط ضد النقطة. ويرى دولوز أنه لحل إشكالية الثنائية لابد أن نحدث ثورة في مجال اللغة، أن نناضل ضدها، وأن نبتكر طرقًا مختلفة للتعبير. فموطن الثنائيات هو اللغة “إن اللغة مؤسسة في عمقها على التقسيمات الثنائية: مذكر – مؤنث، مفرد – جمع، تركيب اسمي – تركيب فعلي” وهكذا فنظرتنا للشيء ونقيضه تنطلق من داخل اللغة، إذن ينبغى تحرير اللغة من منطق التعارضات الثنائية “يمكننا دائمًا إضافة “ثالث” إلى “اثنين” ورابع إلى “ثلاث” إلخ “وحتى في حالة وجود حدين فقط؛ فهناك بين الحدين عناصر لا يمكن ضمها إلى أي منهما “المذكر والمؤنث والمخنث”. ينبغي في نظر دولوز إحلال حرف العطف “واو” محل العلاقة “أو”.

مع فكر الاختلاف ستتطور الفلسفة عبر هوامشها، عبر “تفتيت الخط الذي يفصل بين نص وهامشه” (دريدا)، أو “جعل تاريخ الفلسفة مشابهًا لعملية رسم البورتريه في فن الرسم” (دولوز)، أو “أن نتحدث في لغة الذات عن قيمة الآخر” (فوكو). كان “فكر الاختلاف” في أوانه يبدو غريبًا فلم يُنتبه إليه لكنه ما لبث أن أصبح شعارا لجيل وعصر بأكمله.

الضرائب النفسية للتجربة الإسلامية الحركية

منتصر حمادة باحث مغربي، شارك في ندوات علمية داخل وخارج المغرب، وصدرت له العديد من الدراسات والمؤلفات الفكرية
منتصر حمادة
باحث مغربي، شارك في ندوات علمية داخل وخارج المغرب، وصدرت له العديد من الدراسات والمؤلفات الفكرية

نؤسّس هذه المقالة على فرضية مفادها أن مرور إنسان المنطقة [العربية نموذجاً]، على التجربة الإسلامية الحركية، سواء كانت سلفية أو إخوانية أو غيرها، يُخلف آثاراً نفسية عليه في مرحلة ما بعد أخذ مسافة نظرية وتنظيمية من المشروع.
قلما قرأنا مقالة أو دراسة، بلْه لائحة أبحاث أو كتب حول هذه الجزئية الدقيقة التي تساعد المتلقي في مجالنا التداولي على قراءة تفاعل الإنسان / الإسلامي سابقاً، وتساعد المتتبع على توقع تفاعل نفس المتدّين الحركي سابقاً مع عديد مواقف وأحداث.
تعمدنا الإشارة إلى أن المقصود هنا الإنسان، ومعلوم أن الإنسان كائن مُرَكب الهوية، وفي الحالة الإسلامية [نسبة إلى الإسلام وليس الإسلاموية]، سوف نفترض أن هويته مرتبطة بالانتماء للمجال التداولي الإسلامي، لغة (عربية، فارسية، تركية، مالاوية.. إلخ)، وعقيدة (أشعرية، حنبلية، شافعية… إلخ) ومعرفة.
هذا الإنسان المُركب، تتغير أحواله النفسية عند المرور من تجربة العمل الإسلامي الحركي، بمقتضى التأثير النوعي الذي يُكرسه نهله من أدبيات المشروع، من قبيل الأدبيات الإسلامية الحركية التي تحدثه وتجعله مؤمناً إيماناً جازماً بمقتضى مفاهيم “الحاكمية” و”المفاصلة الشعورية” و”الولاء والبراء” و”الطائفة المنصورة” و”التقية” و”التمكين” والبيعة” و”الجماعة قبل الوطن”، ولائحة عريضة من الأدبيات.
بل إن كل مفهوم من هذه المفاهيم يُغذي جهازاً مفاهيمياً يقتضي من صاحبه التأقلم مع المحيط القريب والبعيد بعقلية مغايرة مع مرحلة ما قبل الانتماء، ولو توقفنا مثلاً عند بعض مفاهيم من تلك اللائحة، فإن تفعيل الإيمان الجازم بهذا الاجتهاد البشري وبالتالي النسبي، يقتضي أن يتفاعل معه المتديّن الحركي على أساس أنه يعيش في زمن “جاهلية معاصرة”، وهذا يفرض تفعيل ثنائية “الولاء والبراء”، لأنه ينتمي إلى “الطائفة المنصورة”، التي تشتغل على حقبة “التمكين”، وهكذا دواليك مع سلسلة متشابكة ومُعقدة من المفاهيم التي لا تبقى في مقام التلقي الذهني / المعرفي، وإنما تطال مقام التفعيل على أرض الواقع، كما عاينا ذلك في عدة تجارب في المنطقة، وصل بعضها إلى مقام إراقة الدماء، مع المشروع الإسلامي “الجهادي”.
وواضح أن هذا التفعيل، يساعدنا على تفسير عديد ممارسات صدرت وتصدر عن الفاعل الإسلامي الحركي، الدعوي والسياسي والقتالي، أو قل “الجهادي”.
هذه سلسلة مفاهيم تصب في التأسيس لنموذج “المسلم الأعلى” أو “المسلم الفائق” [Surmusulman]، إذا استعرنا مصطلحاً دقيقاً أورده عالم النفس التونسي فتحي بنسلامة[1] على هامش تفاعله البحثي مع الظاهرة الإسلامية الحركية في التداول الفرنسي، انطلاقاً من أدبيات علم النفس، وواضح أن مفهوم “المسلم الأعلى” أو “المسلم الفائق” يُحيل على أطروحة “الإنسان الفائق” [Superman] لنيتشه: إنها نفس عقلية الاستعلاء، بين التداول الفلسفي الألماني، والذي أفرز لاحقاً النزعة النازية، والتداول الإسلامي الحركي، والذي أفرز لائحة من التجارب الدموية في المنطقة، لا زال بعضها قائماً باسم “العمل الإسلامي الجهادي”.
إذا صحت الفرضية التي تأسّس عليها هذا المقال، فإنها تساعدنا على قراءة ردود أفعال العديد من الإسلاميين السابقين، في سياق “الانتقام” من المرحلة السابقة، والتي قد تذهب في التطرف إلى مقام الإلحاد[2]، أو من الذين يُؤاخذ عليهم الخطاب الإسلامي الحركي، الانتصار والانتماء للمشروع العلماني[3]، وغيرها من التحولات المفاهيمية التي تطال الإسلامي السابق.
بل إن بعض هذه الأقلام قد تذهب بعيداً في نقد الظاهرة الإسلامية الحركية، إلى درجة نقد النصوص الفقهية المؤسسة للعمل الإسلامي الحركي، القديمة، ولا نتحدث عن نصوص حسن البنا وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وسعيد حوى ويوسف القرضاوي ولائحة من الأسماء، وإنما يطال النقد حتى القدامى[4]، من قبيل أبي الحسن الأشعري صاحب “الرسالة” وابن تيمية صاحب “مجموع الفتاوى” وأحمد بن حنبل؛ فيعتقد الفاعل الإسلامي الحركي أنها تنتقد الإسلام، وهذا أمر متوقع لاعتبارات عدة، أهمها أن العقل الإسلامي الحركي، يؤمن في جهازه المفاهيمي أن تديّنه هو الدين[5]، وبالتالي يصعب عليه الفصل بين الأصل والفرع، مادام يؤمن أن هذا الفرع هو أفضل ممثل للأصل.
نتحدث هنا عن الفاعل الإسلامي الحركي الذي مرّ من تجربة إسلامية حركية، وتشرّب على هذه الأدبيات، ولكن حتى في حقبة ما بعد القطيعة المعرفية مع الخطاب الإسلامي الحركي، ومعها الطلاق التنظيمي، يبقى هذا الفاعل الإسلامي تحت تأثير مرحلة النهل من ذلك الجهاز المفاهيمي الذي كرّس “عقلاً طائفياً” داخل منظومة مجتمعية مفتوحة ومتعددة الثقافات والهويات والأعراف، ولا يتخلص هذا الفاعل الحركي [سابقاً] من آثار تلك الأدبيات إلا مع مرور الزمن، شرط أن يبذل جهداً نظرياً، يختلط فيه المُحدّد النفسي بالمُحدّد الروحي، على أمل العودة إلى مرحلة ما قبل الانتماء، أو قل “اعتناق الإسلام من جديد” كما نقرأ بشكل صريح ودال في أعمال تطرقت للتجربة الإسلامية، سواء عبر أسلوب الرواية[6]، أو عبر أسلوب البحث[7]، حيث نقرأ في العملين معاً، عبارة “انفصلت عن الإسلاموية لأعتنق الإسلام من جديد”.
هذا المفتاح النظري، وغيره، يُفيد إذاً لقراءة تفاعل العديد الأقلام البحثية والإعلامية اليوم، أو الفاعل الذي يعيش في مرحلة وسط بين الانتماء للمشروع الإسلامي الحركي، وأخذ مسافة منه: نحن إزاء إنهاء معاناة نفسية حقيقية، وفي الحالتين، نعاين المعاناة النفسية:
ــ إذا أخذ مسافة من هذه الأدبيات، فيلزمه الوقت الكثير أو القليل، حتى يتخلص من آثارها النفسية؛
ــ إذا لم يأخذ مسافة من هذه الأدبيات، فإنه مضطر إلى العمل بمبدإ التقية، حتى يتجنب تبعات الإفصاح عما يؤمن به.
الفرضية سالفة الذكر، تهم أي فاعل إسلامي حركي، أياً كانت تجربته الإسلامية الحركية، سلفية، إخوان، تكفيرية.. إلخ، ابتعد بشكل نهائي أو في طور أخذ مسافة، ولسان حال هؤلاء: كلما كانت تجربة “الإسلاموية” أطول، كلما كانت الضرائب أكثر.
يختلف الأمر مع الفاعل الإسلامي الذي لا زال منتمياً للمشروع، وإن كان هذا الانتماء حق مشروع في نهاية المطاف، من باب احترام الحق في الاعتقاد الديني، بلْه الاعتقاد المرتبط بالتديّن، إلا أن هذا الانتماء يجعل معاناته أكبر بكثير مع الفاعلين سالفي الذكر، خاصة إن كان لا زال يؤمن إيماناً جازماً بمقتضى الأدبيات الإسلامي الحركية، ويعيش في مجتمعات مسلمة لا تؤمن بـ”دولة الخلافة” أو “الحاكمية” أو “المفاصلة الشعورية”، بقدر ما تؤمن بأهمية صيانة الدولة الوطنية التي تصون الكرامة والعدل والحرية وحقوق الإنسان.
________________________________________
[1] Fethi Benslama, Un furieux désir de sacrifice: Le surmusulman, Le Seuil, Paris, 2016, 160 pages.
[2] كما نُعاين في الحالة المغربية، على قلة النماذج، وإن كنا نعتقد أن الأمر يتعلق بإلحاد معرفي أكثر منه إلحاد ديني، أو قل كفرا بالخطاب الديني السائد في الساحة، وليس بالضرورة كفر بالدين.
[3] دونما أي تدقيق في طبيعة العلمانية المعنية في هذا المقام، وهذا مقصود ومتداول وشائع في الخطاب الإسلامي الحركي، وخاصة الخطاب السلفي الوهابي والخطاب الإخواني.
[4] في كتابه حديث الإصدار، وعنوانه: “نداء من أجل إسلام لا سياسي”، يرى الباحث المغربي محمد لويزي، أن بداية الإسلام السياسي لا تعود إلى منعطف تأسيس جماعة “الإخوان المسلمين” على عهد حسن البنا، أي أربع سنوات بعد أفول دولة “الخلافة العثمانية”، وإنما بالتحديد، مباشرة بعد البعثة النبوية، في منعطف السقيفة الشهير. انظر:
Mohamed Louizi, Plaidoyer pour un islam apolitique, Editions Michalon, septembre 2017, 250 pages.
[5] ثمة عدة أعمال مرجعية اشتغلت على ثنائية الدين والتديّن، نذكر منها العمل المرجعي للقاضي عبد جواد ياسين. انظر: عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، بيروت، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2012، وصدرت الطبعة الثانية للعمل عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، نشر وتوزيع المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، 2014
[6] نموذج رواية “كنت إسلامياً” للكاتب والإعلامي المغربي عمر العمري، وصدر العمل بالعربية.
[7] نموذج كتاب “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟” للباحث المغربي محمد لويزي، وصدر العمل بالفرنسية.

 

الديمقراطيّة في فكر دعاة الإسلام السياسيّ: من سجلّات الرفض والقطيعة

عمار بنحمودة  باحث تونسي، حاصل على الماجستير في اللغة والآداب والحضارة الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، صفاقس، تونس. يعد رسالة دكتوراه بنفس الجامعة.
عمار بنحمودة
باحث تونسي، حاصل على الماجستير في اللغة والآداب والحضارة الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، صفاقس، تونس. يعد رسالة دكتوراه بنفس الجامعة.

1- تجلّيات العداء
لا يخفى أنّ تيّار الإسلام السياسيّ قد تأسّس في بداية مساراته التأويليّة على فكرة عداء الديمقراطيّة، انطلاقا من إيمان دعاته الراسخ بمفاهيم عدّت الركيزة الإيديولوجيّة لتلك الحركات، مثل مفاهيم الحاكميّة وتطبيق الشريعة، وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، أو الانطلاق من مسلّمات إيديولوجيّة يحتكر بها أصحابها شرعيّة تأويل النصّ القرآنيّ وتفصل بين مسارات الصّحوة الإسلاميّة ومسالك التغريب. وتتعدّد في سرديّات الإسلام السياسيّ الشواهد التي تعبّر بشكل صريح عن عدائهم للديمقراطيّة ورفضهم اعتمادها منهجا في الحكم، بل لعلّ شرعيّة المواقف الإيديولوجيّة التي دعا إليها روّاد هذا التيّار تستند إلى نقض الدّيمقراطيّة والعلمانيّة، باعتبارهما مقولتين نشأتا في غير الثقافة العربيّة الإسلاميّة، بل إنّ من وجوه الإدانة التي وظّفها دعاة الإسلام السياسيّ لخصومهم الإيديولوجيين الذين دعوا إلى التحديث، وآمنوا باختيارات أخرى مستمدّة من الغرب القول بأنّ حلولهم مستوردة[1]. مثل ذلك موقف “حسن البنّا” المرشد العام للإخوان المسلمين الذي أرسل سنة ستّ وثلاثين وتسعمائة وألف خطابا موجزا إلى ملوك الدّول الإسلاميّة وأمرائه ورجال الحكومات الإسلاميّة وأعضاء الهيئات التشريعيّة والجماعات الإسلاميّة وأهل الرأي، قدّم فيه مطالب مختلفة على رأسها “القضاء على الحزبيّة وتوجيه قوى الأمّة الإسلاميّة في وجهة واحدة وصفّ واحد وإصلاح القانون، حتّى يتّفق مع التشريع الإسلاميّ وخاصّة في الجنايات والحدود.”[2] وقد رفض “البنّا” كلّ النماذج السّياسيّة التي سادت في عصره، ولم يستثن منها الأنموذج الديقراطيّ، لأنّه كان يؤمن بمفهوم “دولة الدعوة”، ويرفض تقليد أيّة تجربة سياسيّة غربيّة.[3] وقد قابل سيّد قطب بين المنهج الربّاني الذي يقوم على أسس الشريعة الإسلاميّة والمنهج الإنساني الذي وسمه بالجاهليّة، بل إنّه حَسِبَ أيّ اعتماد على منهج غريب من مناهج التفكير الجاهليّة الغالبة إبطالا لوظيفة الدّين التي جاء ليؤدّيها. “فالمنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ولا انفصام بينهما. وكلّ منهج غريب لا يمكن أن يحقّق الإسلام في النّهاية. والمناهج الغربيّة يمكن أن تحقّق أنظمتها البشريّة، ولكنّها لا يمكن أن تحقّق منهجا؛ فالتزام المنهج ضروريّ كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كلّ حركة إسلاميّة.”[4]وكانت اعتراضات سيّد قطب على سائر الأنظمة التي قامت في التاريخ أو في عصره، تتمثّل في كونها لم تقم على أساس العقيدة، وأنّ بعضها كان تجمّعا عنصريّا على أساس سيادة جنس بعينه وبعضها الآخر قوميّ استغلاليّ. واستند رفضه الشيوعيّة إلى كونها أقامت أسسها على الحقد الأسود على سائر الطّبقات الأخرى، وبأنّ مطالبها الأساسيّة لم تتجاوز الجوانب المادّية مثل الطعام والمسكن والجنس.[5]
2- أسباب العداء:
لا ريب أن المتخيّل الإسلامويّ الذي تأسّس على أرضيّة المركزيّة الدينيّة وميراث الغلبة ودوغمائيّة التصوّر الفقهي، كان لا يرى في أطروحاته غير دين نقيّ تسوده العقيدة ويحترم اختلاف الأجناس مقابل غرب يدعو إلى نظم إنسانيّة قاصرة شاع فيها الفساد الأخلاقيّ، وانفلت إعلامها وكفرت مجتمعاتها، وهو ما جعل دعاة هذا التيّار يشيحون بوجوههم عن الغرب بكلّ تيّاراته الفكريّة والسياسيّة، ويبحثون في متخيّلهم التراثيّ عن صورة مثاليّة كانت عماد أدلوجة حاولوا أن يقنعوا جمهورهم بحقيقتها التاريخيّة وبإمكانيّة تحقّقها في المستقبل طوبى ترسم أفقا للسّياسة الإسلاميّة يخالف ما انتهجه الغرب من مسالك، ويبلغ ما عجز الآخر عن تحقيقه[6]. ومن الطبيعيّ أن نتفهّم تفاعل الجمهور مع مثل هذه الدّعوات، إذ كانت تستند إلى نقاط قوّة تتعدّد روافدها. فتوظيف المقدّس الدّيني بكلّ أسانيده اللّاعقلانيّة ومتخيّله الطوباويّ استطاع أن يؤثّر في الحالمين بمنافسة الغرب/ المستعمر الذي كان من الصّعب تمثّله بغير صفة العدوّ الغريب الذي يخشى من تطبيق تعاليم الإسلام وتأسيس دولة المسلمين. وليس أيسر على هذه التيّارات من اتّخاذ السّبل السّهلة التي تهيّج مشاعر الجماهير، وتثير حماستهم بدل الخطاب العقلانيّ الذي كان بإمكانه وضع الإنسان العربيّ المسلم في رواق التنافس الطبيعيّ مع الآخر من أجل المشاركة في الخلق والإبداع. فقد حضر متخيّل العداء والاعتداد وغاب متخيّل العقلانيّة والبناء. وأدّت هذه المسارات إلى انغلاق لاهوتيّ وعبّرت عن جمود في الاجتهاد وتواكل في الأنساق المعرفيّة من خلال التعويل على المخزون الثقافي والديني الذي سنّه القدامى، فكانت الجرأة بمعناها الكانطي غائبة، وترسّخت الأسيجة الدغمائيّة تؤخرّ مسارات الإدراك العقلانيّ ومسالك النهضة والإصلاح. فمقابل الرفض الذي واجهت به تلك التيارات مفاهيم الديمقراطيّة كانت تفتقد إلى بدائل حقيقيّة قابلة لكسب الشرعيّة وضمان التسويق العالمي لمقولاتها.
ليس رفض الديمقراطيّة بهذا المعنى سوى تعبير عن ضيق الأفق الذي عانت منه هذه التيارات، وسوء تقدير لما للحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان من أهمّية في إطلاق العنان للذات البشريّة، كي تبدع وتشارك في بناء المجتمع وتحقّق كلّ مشاريع التنمية والتقدّم. وكان من نتائج رفضها لتلك القيم القيام بعمليّة تلوين وتزييف، حتّى تبدو وكأنّها قيم راسخة في التراث. فأسهمت في بناء مسارات الحياد عن العقلانيّة والغرق في تقديس الأسلاف والتباهي بإنجازاتهم، وكأنّها شفيع لإخفاق الواقع ووهن المجدّدين في تغييره. واختار دعاة الإسلاميّ الاستكانة إلى أسهل الحلول وأيسرها، وهي استحضار أنموذج تراثيّ جاهز توهّموا إمكانيّة استعادته في ظلّ تحوّلات كبرى شهدها العالم علما ومعرفة وسياسة. ولم يكلّفوا أنفسهم جهدا لتفهّم ما استجدّ من تصوّرات فكريّة ونظريّات سياسيّة. فكانوا، على عكس ما قام في تاريخ المسلمين من انفتاح على تجارب الآخرين في الفكر والسياسة، منغلقين رافضين لتجارب الآخر من منطلق أحكام مسبقة تأثّروا فيها بواقع العداء السياسيّ، وقطعوا فيها خيوط التواصل الفكريّ.
إنّ تلك الأزمات التي عاشتها الأمّة، لا يمكن أن تكون مبرّر مسارات انغلاق لاهوتيّ وغرق في متخيّل طوباويّ يرسم آفاق مدن فاضلة مستمدّة من صورة مثاليّة للماضي، ولا يكترث بما بلغته الإنسانيّة من تقدّم علميّ ومن ثورات في الفكر. ولعلّ أغرب التبريرات التي قدّمها أحد دعاة الإسلام السياسيّ، وهو يفسّر النزعة العدوانيّة التي كانت تسم مواقف شيوخه المؤسسين من الديمقراطيّة هي إلقاؤه التهمة على الأنظمة الاستبداديّة علّة للمحاكاة و”سببا في تطوير فكر ثوريّ رافض للديمقراطيّة داعيا مع سيّد قطب لإنشاء قاعدة صلبة تتولّى إعادة الأمّة الضالّة للإسلام وتقيم شرع الله مفاصلة للمجتمع الإسلاميّ.”[7] وهذا الخطاب القائم على المغالطة يجعل العنف الثوريّ وغياب الطرح الديمقراطيّ من تصورات الإسلام السياسيّ محاكاةً لعنف السلطة المستبدّة. والحال أنّ رفض الديمقراطيّة ومعاداتها ناتج عن رفض هيكليّ سببه اعتبارها منتمية إلى معسكر التغريب والكفر. ولذلك قامت خطابات الدّعاة المؤسّسين على المقابلة بين تيّار تغريبيّ اعتُبِرَ مارقا عن الدّين والشريعة وتيّار إسلاميّ اعتَبَرَهُ أصحاب هذا الخطاب الحلّ الأمثل لكلّ مشاكل التخلفّ وسبيل الشعوب العربيّة الإسلاميّة لتحقيق نهضتها المنشودة.
قد يكون غياب الديمقراطيّة من الممارسة السياسيّة العربيّة أمرا، لا يمكن إنكاره من سجلّها. ولكن هل كانت أطروحات المعارضة جميعها تنساق وراء الدّعوة إلى تيّار سياسيّ يحاول أن يداوي داء الاستبداد باستبداد بديل؟ أليس الاستبداد مرتبطا بتأويل محدّد للخطاب الدّيني يرى أصحابه أنّ الحقائق السياسيّة التي يقدّمها مقدسّة لا تقبل النقض وما عداها مدنسّ لا يستند إلى شرع إلهيّ؟
3- نتائج العداء:
تلك المسارات التأويليّة التي قدّمت نفسها على أنّها الحلّ السحريّ لمشاكل الشعوب العربيّة المسلمة أبّدت شعورا مزدوجا بالاغتراب. أوّله اغتراب عن الواقع أسّسه من صنعوا متخيّلا إسلاميّا صوّر أمجاد الماضي نقيّة من كلّ الشوائب ورسم أفقا أخلاقيّا مستحيل التحقّق وحوّل وجهة الفكر من مواجهة الواقع إلى الهروب منه نحو ماض ساحر، أو نحو عهود النبوّة وأيّام الخلافة الراشدة والعدل المثاليّ والمساواة بين جميع الأجناس. فينتحل دعاة هذا التيّار لأنفسهم دورا مهدويّا مخلّصا من كل المحن.[8] وثانيه اغتراب عن إنسانيّة الإنسان. فقد أسهمت سرديّات الإسلام السياسيّ في ترسيخ فصل بين الإسلام والآخر، وتعميم عداء الاستعمار ليصير عداء للفكر الإنسانيّ المختلف. والحال أن مسارات العلم والمعرفة غير خيارات السّاسة التي انتهجوها. وليس عداء الغرب المستعمر مدعاة لعدم الاستفادة من تجارب علمائه ومسارات فكره. فتلك الخطابات صيّرت المؤمنين بهذا الخطاب جماعة معزولة عن حركة التّاريخ تعيش متخيّل النبوّة بصورة أشبه بأهل الكهف. فتضحي حركة العلم وسيرورة التّحديث متعطّلة بدعوى رفض كلّ ما هو غربيّ ينتمي إلى معسكر الكفر.
لم يرسم متخيّل دعاة الإسلام السّياسيّ غير وجه مدنّس للآخر، مقابل متخيّل تصوّر الّتراث خاليا من كلّ شائبة وطاهرا من كلّ دنس. “فالحياة الاجتماعية الحاضرة تقوم على مبادئ الزّيغ والضلال. والنظريّات الخاطئة والأفكار الهدّامة هي التي تسود أنحاء العالم. وأنظمة التّعليم ووسائل التوجيه والإعلام تنضح بالشرّ، وتثير الغرائز، وتهتك الفضيلة، وتقتل الأخلاق، وتدعو إلى الإباحية والتحلّل، حيث سيطرت على العقول الآداب الماجنة، والصحافة الفاجرة، والإذاعات اللاهية، والأفلام الخليعة. والنظام الاقتصادي الذي يتحكم في معيشة الناس نظام منحرف فاسد، لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين الحلال والحرام.”[9]
تلك الصورة المتخيّلة عن الغرب ترسم في كثير من الأحيان أحكاما لا تعكس حقيقة تؤسّسها الأنساق الفكريّة من تنوّع واختلاف. فمفاهيم الحريّة والعدالة والمواطنة كانت من أهم مقوّمات التّنوير. وقد مثّلت الصحافة فضاء للنقد والبناء السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، واستطاع الفنّ أن يحرّر الإنسان ويهبه القدرة على فهم ذاته والتعبير عن طاقاتها مثلما كانت بعض التيّارات الفنّية وسيلة ثوريّة لتغيير الواقع. وأمّا الجوانب الأخلاقيّة التي يراها دعاة الإسلام السياسيّ بعينهم الشهوانيّة، فهي لا تعبّر في الحقيقة عن واقع الدّول الغربيّة بقدر ما تستبطن شهوانيّة الواصف إزاء أجساد تحرّرت وشعوب تجاوزت عقدة الجنس والعورة. فالجسد الملعون في ثقافة الدّاعية رمز للحريّة الشخصيّة وسدّ منيع في وجه من يريدون استثماره بكلّ الطّرق بصورة القيان أو بتعدّد الزوجات أو بحجبه كسلعة يُخشى تلفها أو بتقييد حريّتها وفرض سلطة ذكوريّة عليها. فعين الدّاعية التي جالت في الغرب لم تَر، من منطلقات عقلانيّة، ما غنمته المرأة من حريّة وما تولّد عن عتقها من إبداع ومشاركة في جميع مجالات الحياة، وإنّما رأت بعين شهوانيّة حريّة المرأة عريا وفجورا. إنّها العين التي تعوّدت أن تحجب المرأة في بيتها لتكون مسخّرة لخدمة الرجل. فإن خرجت أُسدل عليها ستار الخوف على الجسد من الجسد ورافقها حارسها المذكّر غير واثق من “عقلها الناقص”.
تلك المواقف لا محالة هي التي أسّست عداء للديمقراطيّة والحداثة ورفضا لكلّ ما هو غربيّ. فقد ظلّ الخوف كامنا في خطاب دعاة الإسلام السياسيّ من الديمقراطيّة، لأنّها ترفع الحجب والغشاوة عن المقدّس الذي كان يحول دون نقد الداعية والحاكم على حدّ سواء، وهو يعاديها لأنّها تهب الإنسان الحقّ في الاختيار وتقرير مصيره وتنهي وصاية الآخر وطاعة أولي الأمر وتؤسّس لمساواة لا يجد فيها “الخليفة” أو رجل الدين سلطته المطلقة في التأويل والتوجيه وتجعل موقف “الفرقة الناجية” مجرّد رأي قابل للنقد والتعديل والدّحض.
تنهي الديمقراطيّة سيادة الحاكم الفرد الذي يحكم باسم الله وتضعف من سلطة رجل الدين على الحقيقة الدينيّة حين تفتح أبواب العلم بلا حدود على كلّ المعارف الإنسانيّة والنظريّات الفكريّة بعيدا عن ضيق الهويّة وأوهام الأصوليّة. وتنهي آخر فصول الهيمنة الذكوريّة حين تفتح باب النقاش حول حقوق المرأة وشرعيّة الحريّة النسويّة.
لقد كانت الديمقراطيّة بكلّ أسانيدها النظريّة تتعارض مع التصوّرات الإسلامويّة، ولذلك فقد احتاج دعاة الإسلام السياسيّ إلى تعديل مقولاتهم ومراجعة مسلّماتهم لتتحوّل مواقفهم تدريجيّا نحو قبول الديمقراطيّة ونقاش مفاهيم العلمانيّة، حين بدأت مسارات الرفض والانغلاق تتحوّل تدريجيّا نحو مسارات الفهم والاعتراف. فكيف كانت معابر السالكين من دعاة الإسلام السياسيّ نحو قبول الديمقراطيّة؟ وكيف أزاحت من قاموسهم السياسيّ كثيرا من المفاهيم كالحاكميّة؟ (للحديث بقيّة)
________________________________________
[1] انظر مثلا: يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، ط5، مصر، مكتبة وهبة، 1993
[2] حسن البنّا، مذكرات الدعوة والداعية، ط1، الكويت، مكتبة آفاق، 2012، ص ص 280، 281
[3] يقول إبراهيم البيومي غانم: “يرفض البنّا نموذج الدولة الأوروبيّة في تطبيقاتها الحديثة، وبالأولى يرفض أن تقوم دولة تقلدها في المجتمع الإسلاميّ، وهذا ما يؤكّده قوله: “في العالم دولة اسمها الاتحاد السوفييتيّ لها مبدأ معروف ولون معروف ومذهب معروف نحن لا نأخذ به ولا ندعو إليه (…) وقد أرادت إنجلترا وأمريكا تقليدها فادّعتا أنهما تصطبغان بالدعوة إلى شيء اسمه الديمقراطيّة، وإن اختلف مدلوله بمختلف المصالح والمطاع والظروف والحوادث” ويخلص البنا إلى رفض تلك النماذج -كما سبقت الإشارة- ويدعو إلى ضرورة التمسّك بمفهوم دولة الدعوة.” الفكر السياسيّ للإمام حسن البنّا، ط1، مصر، مدارات للأبحاث والنشر، 2013، ص 257
[4] سيّد قطب، معالم في الطريق، ط6، مصر، دار الشروق، 1979، ص ص 43- 45
[5] المرجع نفسه، ص 54
[6] يميّز عبد الله العروي في سياق حديثه عن الصراع بين الاشتراكيين والليبراليين بين الأدلوجة والطوبى، ويعتبر أنهما يشتركان في معنى واحد، وهو الابتعاد عن الواقع والعجز عن إدراكه. إلاّ أن عجز الأدلوجة يرجع إلى أنّها متعلّقة بوضع تجاوزه التطوّر أمّا الطوبى، فيرجع عجزها إلى أنها متعلّقة بمستقبل مستبعد التحقّق. انظر: عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، ط5، المغرب/ لبنان، المركز الثقافي العربيّ، 1993، ص 47
[7] راشد الغنّوشي، الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في الإسلام، ط2، لبنان/ قطر، الدار العربيّة لعلوم ناشرون/ مركز الجزيرة للدراسات، 2012، ص ص 130، 131
[8] يقول عبد الإله بلقزيز: “ينتحل الإسلام الحزبيّ لنفسه دورا مهدويّا في المجتمع من طريق توسّله الدين أداة في الدعوة والتعبئة. ويساعد هذا الزعم المهدويّ على الفشوّ في النّاس والرسوخ في الأذهان، أنّ استثمار الرأسمال الديني في العمل السياسيّ يصطحب معه وهما بأنّ من يسلكون طريق الدين، في الحياة العامّة، لا يبغون إلاّ الصلاح، وتطبيق العدل والنّصفة، ولا يسعهم إلاّ أن يتحلّوا بمناقبيّة وخلقيّة عالية، فتكون سرائرهم صافية وأيديهم نظيفة وغايتهم رفيعة، ولا يطلبون الدنيا ولا يسعون في توسّل منافعها.” الدولة والدّين في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ، ط1، بيروت، منتدى المعارف، 2015، ص ص 168، 169
[9] أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنيّة الحديثة، ص 2
انظر: النسخة الإلكترونيّة على الرابط:
Maktaba22.blogpot.com pdf_477

 

جنون عظمة إسلامي؟

حسن أحجيج : مترجم وأكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه في علم اجتماع المقاولات والتنظيمات، جامعة محمد الخامس بالرباط

للإرهاب أسباب بنيوية متنوعة تعرضت لها دراسات عديدة، من أهمها سيرورة التحديث التي عاشتها البلدان الإسلامية كتجربة ناقصة وصادمة، واستياء المسلمين من الغرب الذي يدعم إسرائيل في نزاعها مع العرب، وتدنيس النصارى للأرض المقدسة (مكة) بمناسبة حرب الخليج الأولى، وظواهر الفقر والاستبداد التي تعيشها الدول العربية-الإسلامية؛ لكن هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن هذه العوامل الموضوعية ولا يتعارض معها، وهو البنية النفسية للعرب-المسلمين كما تشكلت تاريخياً في تفاعلها مع العوامل الداخلية والخارجية. وأهم تمظهر لهذا العامل النفسي هي البارانويا (هذاء العظمة).

دعني أسألك إن سبق لك أن جالت بذهنك الأفكار التالية: “إنهم ينظرون لي نظرة غريبة، إنهم بالتأكيد يكرهونني”؛ “هذا الشخص يقصد تدميري، أنا أعرف ذلك”؛ “لا أظن أنني أستحق هذا المنصب التافه في العمل؛ الجميع يحاربونني هنا للحفاظ على مناصبهم، فهم يعرفون أنني أكثر منهم خبرة وكفاءة”. إذا كانت تنتابك هذه الأفكار ومثيلاتها باستمرار، فلابد أن تلقيت تعليقاً يصفك بأنك مصاب بالبارانويا (جنون العظمة).

تتميز هذه الظاهرة السيكولوجية بتعقيد كبير وتنوع يتساوق مع مختلف مناحي النشاط البشري. وتبسيطاً للفهم، يمكن أن نلخص خصائص البارانويا في اثنتين: أولا، يعتقد المصاب بهذا الداء النفسي بأنه متفوق على مجموع البشر الآخرين؛ وثانياً، أن مؤامرات تحاك ضده من أجل إفشال جميع مشاريعه المسلم بأنها كانت ستنجح لولا المؤامرات. وباختصار، إن البارانويا نوع من العصاب الذي يتميز بحضور أفكار هذيانية دائمة، تتمركز أساساً حول الاضطهاد. إنها سلوك أو موقف خاصين بشخص (أو جماعة) يميل على الدوام إلى توهم نفسه عرضةً للاضطهاد والاعتداء. ويلازم هذا الشعور بالاضطهاد اعتقادا وهميا بالتفوق على الآخرين.

لكن ما علاقة هذه الأوصاف بالعالم الإسلامي؟

دعوني أذكر ببعض الوقائع: عندما سقط برجا التجارة العالميين في نيويورك سنة 2001، اعتقد العديد من المسلمين أنه من عمل الموساد أو وكالة المخابرات الأمريكية، وأن اليهود الذين يشتغلون في البرجين غابوا عن أعمالهم ذلك اليوم. وقال رئيس وزراء ماليزيا، الدكتور مهاتير محمد لشعبه، إن اليهود هم من يقف وراء الأزمة المالية التي عاشتها آسيا. ورفضت الأمهات النيجيريات المسلمات تلقيح أطفالهن، لأنهن اعتقدن أن الأمريكيين يريدون إيذاء الشعب المسلم بلقاحات ملوثة. ويروج في أوساط المسلمين في كل بقاع العالم الإسلامي أن الرسوم المتحركة “طوم وجيري” من اختراع اليهود نظراً لأن العالم يساوي اليهود بالفئران، وبالتالي فإنهم يريدون تحسين صورة هذه الأخيرة. مثلما كان الكثير من سكان بعض البلدان المسلمة التي كانت تتلقى مساعدات غذائية أمريكية يؤمنون إيماناً قاطعاً أن تلك المواد كانت تحتوي على مواد كيماوية تؤدي إلى العقم، وذلك حتى تحد من تزايد عدد سكان المسلمين في العالم. إن كل هذه “المؤامرات” أفكار مجنونة، لكن مئات الملايين من المسلمين يؤمنون بها. فلماذا ذلك؟

إن وعي المسلم وعي مزدوج: فهو يقوم على شعور بالضآلة أمام الذات المركزية التي تتحكم في مصيره (الله)، لكنه يشعر بالعظمة أمام غير المسلمين بسبب اعتقاده أنه ينتمي إلى “أفضل الأديان”. فإذا كان الوعي الإسلامي وعي بالذنب، فإنه في نفس الوقت وعي بالنصر نتيجة هذه السعادة الصوفية التي يشعر بها المسلم ونتيجة هذه الغبطة التي يضعه فيها شعوره بأن النجاح يصاحب كل مشاريعه، كما تشهد على ذلك صيحات الغيظ التي يسمعها من أعدائه المصابين إصابة بالغة (البلدان الغربية واليهود والدول العربية الكافرة)، وأيضا نتيجة صلابة الوعي الجيد الذي بسط العالم وجعله شفافاً. وهذا هو ما يشهد به لوي ألتوسير عندما كتب مستحضراً ماضيه الخاص: “يبقى هذا الزمن في ذاكرتنا الفلسفية زمن المثقفين المسلحين الملاحقين للخطأ على كل المستويات، وزمن الفلاسفة بدون مؤلفات، والقاطعين للعالم بشفرة واحدة إلى فنون وآداب وفلسفات وعلوم؛ أي بشفرة الفصل القاسي بين الطبقات، إنه هذا الزمن الذي ما زالت تلخص عيوبه كلمة واحدة تخفق كعلم يرفرف في الفضاء: “علم برجوازي، علم بروليتاري”. هذه الوضعية السوسيونفسية التي كان يعيشها المناضل الستاليني، والتي وصفها العديد من الفلاسفة أمثال لوي ألتوسير وإدغار موران في “نقدههم الذاتي” لتجربتهم في الحزب الشيوعي الفرنسي، تطابق التجربة التي يعيشها معظم المسلمين الذين يقسمون العالم بشفرة الإيمان الدوغمائي إلى “دار السلم” و”دار الحرب”، إلى الفرقة الناجية والفرقة الخاسرة، “خير أمة أخرجت للناس” وأهل النار، إلخ. فنحن نعلم جميعاً أن جميع المسلمين تربوا منذ طفولتهم على صورة ذاتية متضخمة تدعمها آيات قرآنية وأحاديث نبوية قابلة للتأويل. فالإسلام هو الدين المثالي، وبالتالي فإن المسلمين هم الأجدر بقيادة العالم. لنلق نظرة على الآية التالية: “كنتم خيرَ أمة أُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” (القرآن الكريم: سورة آل عمران، الآية 110).

 

عندما يكون على المسلم أن يؤكد أن المسلمين هم أفضل الشعوب، فإنه لا يبحث عن تفسير لخيبات المسلمين في تحليل المجتمعات المسلمة من أجل تعيين العوائق الموضوعية التي تكرس تخلفها، ولا في عدم التطابق بين قوله وبين الواقع، بل إنه يضطر إلى اختيار فكرة العدوان من طرف الأعداء وفكرة المؤامرة كتفسير لتلك الخيبات. إن إرادةً مضادةً وماكرةً هي التفسير المقدم لكل شيء. ليس المسلمون متخلفين بسبب قصور في ذواتهم، وإنما بسبب المؤامرات الصهيونية والماسونية والعلمانية والليبيرالية… أي هذا الخليط من الأعداء الذين يتربصون بالإسلام. وهذه عملية مماثلة للاستدلال الذي يقوم به المصاب بهذاء العظمة (البارانويا) الذي يرى دوما أن علة الصراع الداخلي الخفي توجد في الخارج، ويقيم جدلية لا متناهية من الاضطهاد يعتبر فيها فعل الآخر، كيفما كان، علامة على تآمره. إن الشغل الشاغل للمسلم المصاب بهذاء العظمة هو الصراع ضد عدو خارجي وتحويل التمزق الداخلي إلى عداء خارجي والمحافظة بذلك على وحدة الخطاب المتماسك والخالص.

ومع أن البارانويا الإسلامية واقع تشهد عليه العديد من القرائن المادية التي لا يتسع المجال للاستفاضة فيها، فإنها لعبت مع ذلك دوراً أساسياً في اتساع رقعة العنف الموجه ضد الغرب والبلدان العربية التي تحالفه. إننا نلاحظ مثلا أن التطرف يأتي في طليعة المناقشات السياسية في الوقت الذي تواصل “الدولة الإسلامية” تجنيد المقاتلين من الديمقراطيات الغربية. وقد أبرزت مؤتمرات القمة الأخيرة في واشنطن وسيدني بشأن مكافحة التطرف العنيف أهمية تقويض الروايات المتطرفة، وتعبئة المسلمين المعتدلين الذين يعارضون تنظيم داعش، والعمل على معالجة الدوافع الكامنة وراء التطرف؛ إلا أن المسلمين، سواء في الدول الغربية أو في العالم الإسلامي، استقبلوا هذا التصور الغربي بشكوك كبيرة، حيث يمكن للمرء أن يستمع في كل مكان يوجد فيه المسلمون إلى شكواهم من أن الغرب يجعل منهم الخطر الوحيد الذي يهدد العالم ويشوه سمعتهم، الأمر الذي يزيد فقط من مستوى التشويه التي يعاني منها المسلمون.

يتمثل أحد الشروط الإيديولوجية الضمنية التي تحول دون انخراط المجتمعات الإسلامية في المشروع الغربي لمكافحة التطرف في “رواية البارانويا الإسلامية” التي تتردد بشكل متواتر في الخطاب الغربي المضاد للتطرف. وتشير هذه العبارة إلى الاعتقاد بأن ما يدفع إلى استياء المسلمين من المجتمعات الغربية هو رؤية بارانوية إلى العالم التي تزدهر في الجماعات المغتربة والمحرومة من السلطة. ويستغل الإرهابيون المكلفون بتجنيد “المجاهدين” منظورات “محرَّفة” لإذكاء الشعور بالظلم من خلال استغلال محنة المسلمين في الدول الغربية والدول المسلمة الموالية للغرب. ويظهر هذا الربط بين التطرف وجنون العظمة مراراً وتكراراً في البيانات الرسمية ووثائق السياسات الغربية، بما فيها تلك المرتبطة بالاستراتيجيات المتواصلة لمكافحة التطرف. وتعتبر وثائق “فريق التوعية الرقمية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية” أفضل مثال واضح على خطاب البارانويا الإسلامية.

أعتقد أن الخطاب الغربي حول البارانويا الإسلامية يقوي عملية الإنتاج الإيديولوجي التي تؤجج مشاعر المسلمين العدائية تجاه الغرب، ويعيق عملية انخراط المجتمعات الإسلامية في برامج مكافحة العنف والإرهاب. والحال أن المبدأ الذي يوجه ذلك الخطاب يتساوق مع التصورات الليبيرالية والاستشراقية التي ترى أن الثقافات الإسلامية تمثل خللا وظيفياً ومنهاجاً مضاداً للحداثة، وترجع استياء المسلمين من السياسة الخارجية للبلدان الغربية إلى أنماط تفكير مَرَضيّة. فكما أن الأرتوذوكسية الليبيرالية لما بعد الحرب أمنت نفسها بالتعارض مع الشعبوية المصابة بهذاء العظمة (الشيوعية الستالينية)، أمنت الحداثة الليبيرالية المعاصرة نفسها بالتعارض مع الإسلام المصاب بهذاء العظمة. وأعتقد أنه بدون وعي بالظروف الإيديولوجية التي تم تحديدها هنا ومحاولة تجاوزها، فمن المرجح أنه سيكون من الصعب إشراك المسلمين في بناء مجتمع عالمي بدون عنف.

مركز مبدأ : يواصل متابعة مشروع العلامة بن بيه من خلال كتاب جديد

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ ) طاولة مستديرة حول كتاب العلامة الشيخ عبد الله بن بيه (الإرهاب التشخيص و الحلول ) ، الكتاب قدمه الدكتور مولاي أحمد جعفر .
وقد قدم الباحث الكتاب باعتباره احد أهم الإنتاجات الفكرية في الموضوع معتبرا انه ثري ليس فقط من حيث المراجع التي تشمل المراجع الدينية و الأدبية و الغربية و غيرها و إنما أيضا من حيث المحتوى و التحليل الذي قدمه الشيخ العلامة عبد الله بن بيه ، كما أكد أن الكتاب يعد دراسة مهمة من فقيه و عالم محظري بالدرجة الأولى و شخص له الخبرة في العديد من المجالات ذات الطابع الديني و المجتمعي و هو ما جعل صاحبه يصنف مرجعا منا سبا لهذا النوع من المواضع .
و قد حضر هذه الطاولة التي ترأسها الإعلامي الولي سيدس هيبة العديد من الباحثين و المهتمين بالشأن الثقافي إضافة إلى عدد من الأساتذة الجامعيين من بينهم د . الحسين بديدي .
و يأتي هذا الكتاب كنشاط ثالث ضمن متابعة مركز مبدأ للمشروع الفكري و التجديدي للشيخ العلامة عبد الله بن بيه و الذي سبق أن نظم فيه المركز ندوتين كبيرتين .

مركز مبدأ : يفتتح موسمه الثقافي بندوة كبرى حول مشروع الشيخ بن بيه بمحاضرة للعلامة ولد امباله

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية مبدأ ندوة علمية كبرى حول المشروع الفكري و التجديدي للشيخ العلامة عبد الله بن بيه .

فيما يلي صور الندوة

التقرير الكامل للندوة الثانية من المشروع الفكري للعلامة الشيخ بن بيه

رئيس المركز ، رئيس الجلسة ، المحاضر ، المقرر ، الترتيب من اليمين

المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية (مبدأ) .

الندوة الثانية : المشروع الفكري والتجديدي للعلامة عبد الله بن بيه  من خلال كتاب : مشاهد من المقاصد

نظم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية (مبدأ)ندوة فكرية تحت عنوان :المشروع الفكري والتجديدي للعلامة عبد الله بن بيه من خلال كتابه الموسوم بـ ” مشاهد من المقاصد”.

واستهلت الندوة بكلمة لرئيس المركز الدكتور محمد سيد أحمد فال الوداني (بوياتي) استعرض فيها السياق العام الذي تتنزل فيه الندوة الذي يتخذ من المشروع الفكري والتجديدي للعلامة بن بيه موضوعا باعتبارها امتدادا لسلسة من الندوات خصصها ويخصصها المركز لهذا المشروع.

وأعلن رئيس المركز عن امتداد هذا المشروع ليشمل آفاقا مغاربية وإقليمية وعربية.

بدوره رئيس الجلسة الدكتور ددود ولد عبدالله عرج في بداية افتتاح الجلسة على التعريف بالعلامة المؤلف والسمات العامة التي ميزت فكره ليقدم بعد ذلك المحاضر العلامة محمد المختار ولد امباله من خلال ورقة تعريفية مختصرة ركزت على جوانب مهمة في مسيرته العلمية والوظيفية بعد ذلك أحال رئيس الجلسة الكلام إلى المحاضر .

واستهل ولد امباله محاضرته بمقدمة ركزت على مجموعة من المقومات الفكرية جعلت من العلامة ولد بيه العالم المجتهد والصوفي النقي واللغوي المتمكن الذي يحسن قراءة النصوص ويستطيع معالجة قضايا العصر شاطبي العصر دون منازع وداعية للسلام في عالمنا المعاصر من خلال رؤيته الوسطية التي تعلى قيم التسامح وتسعى للتمكين للدين الإسلامي في الأرض.

بعد ذلك تتبع ولد امباله المشاهد كما وردت في فصول الكتاب ففي المشهد الأول عرج المحاضر كما المؤلف على تعريف المقاصد مستعرضا تعريف المقاصد عند الأصوليين ليخلص إلى تعريف مختار قدمه بن بيه في كتابه للمقاصد. وفي المشهد الثاني تناول المحاضر مسيرة العمل والتعامل مع المقاصد من خلال فهم السلف لدعوة القرآن و كشف مقاصد الشريعة واستشفاف حكمها وتجلَي ذلك في فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مستعرضا نماذج للصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

وفي المشهد الثالث تطرق المحاضر للمصلحة بين العقل والنقل من خلال التساؤل هل المصلحة التي تبنى عليها الأحكام عقلية أم شرعية متحدثا عن دوران الشريعة بين معقولية المعنى والتعبد والتجاذب بين الكلي والجزئي لينتقل إلى أصناف المقاصد في المشهد الرابع وفيه بين ولد امباله المقاصد العامة التي ترجع إليها الشريعة والمقاصد الخاصة والمقاصد الجزئية والمقاصد الكبرى وذكر معيار الانتماء إلى المقصد الضروري وتذبذب الانتماء في بعض الأحيان لبعض القضايا بين الضروري و الحاجي.

وفي المشهد الخامس تناول ولد امباله استنباط المقاصد واستخراجها ومعناه الكيفية التي يتوصل بها إلى الحكم بأن مقصد الشارع من أمر أو نهي أو أي خطاب فيه أو فعل المعصوم أو تقريره متوقفا مع مسألة “بدعة الترك” .

وفي المشهد السادس تناول ولد امباله الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها والضوابط الخمسة المراعاة في التعامل مع المقاصد ومجالات الاستنجاد بالمقاصد.

وتوقف ولد امباله مع بعض القضايا الفكرية المعاصرة التي تطرح في عالمنا اليوم كإشكالية الديمقراطية والشورى التي عالجها العلامة بن بيه بحكمة مقدما رأيه الذي يحفظ للدين هيبته دون أن يتسبب في إثارة غير المسلمين في عالم الغرب. وتجلى ذلك عندما قدم رأيه الناقد للديمقراطية من خلال آراء الغربيين أنفسهم.

وتميزت الندوة بمداخلتين قيمتين للأستاذ أبو بكر ولد أحمد و الإمام شغالي ولد المصطفى. حيث وصف ولد أحمد المشروع الفكري للعلامة بن بيه بأنه ينطلق من الداخل ويستثمر المفاهيم الإسلامية مطالبا بضرورة الاضطلاع على هذا المشروع ونشره في المنابر الاجتماعية بغية الاستفادة منه.

أما الإمام شغالي ولد المصطفى فقد وصف سعة اضطلاع العلامة ولد بيه على علوم المتقدمين وآراء الغربيين بأنه ” خرق للعادة “مطالبا بضرورة طبع المحاضرة باعتبارها كنزا إضافيا ينضاف إلى الكتاب.

وفي الختام شكر رئيس الجلسة المحاضر والحضور من علماء ومفكرين وباحثين معلنا اختتام الندوة.

اردوغان “المرشد” و”بن كيران” السياسي: الإخوان من السلفية الحركية إلى ضرورات التجديد

الشيخ الحسن البمباري

يبدو أن سنوات الطرد والجلد التي يمر بها الإخوان المسلمون من المحيط إلى الخليج و صلت أخيرا إلى تركيا التي مثل فيها رجب طيب  أردغان – مالئ الدنيا وشاغل الناس بالديمقراطية التي  صنعها والتحول الاجتماعي والاقتصادي الذي أوجده بعد زمن من العَلمنة الأتاتوركية – رجل كل العصور ، بديمقراطية أشاد بها الغرب ومولها ماديا ومعنويا وباتت أنموذجا على الإسلام السياسي ، مجنبا بذلك تركيا أزمة اجتماعية وسياسية كبيرة ، إلا أن الربيع العربي وما أعقبه من تحولات سياسية و اجتماعية في المنطقة اثر بشكل مباشر على سياسات أردغان مما جعله يتجه إلى اتخاذ مواقف من اتجاهات الربيع العربي ، خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة و الضغط الكبير الذي بات يشكله تواجد قيادات الإخوان في تركيا  التي تعقد مجموعة من التحالفات المعقدة تمتد بين روسيا و أمريكا و صولا إلى إيران و الخليج – الذي يتخبط حاليا في أزمة مقاطعة غيرت موازين للعبة في الشرق الوسط و حولت مسار التحالفات – ، خاصة بعد إعلان شبه توافق بين إسرائيل و العرب المقاطعون ضد اليد الضاربة للإخوان و قطر قناة الجزيرة ، بل حتى العمل المشترك للقضاء على آخر شرعية للإخوان على الإطلاق و هي حركة المقاومة الإسلامية (حماس ) ، و التي لو لم تعين إسماعيل هنية في رئاسة مكتبها السياسي خلفا لخالد مشعل لكانت سابقة على خروج النهضة التونسية  الكامل من ما سمي مدرسة قطب الإسلامية (الإسلام الحركي “السلفية الحركية “).

من أبرز ما يمكن الوقوف عليه في خيارات الإخوان  الإسلاميين الأتراك جنسية و ملجأ ، (خاصة بعد توجه المهادنة و التجديد الذي تبناه الإخوان المغرب العربي ) فإما أن تستمر موجة تغيير الجلد على شاكلة النهضة و حماس ، أو إعادة مرحلة التجديد من خلال نظرية ” دعاة لا قضاة ” الصادرة عن المرشد الثاني للإخوان حسن إسماعيل الهضيبي في وقت اسودت فيه الخطوب بالحركة الإسلامية الأكثر توسعا منذ ستينيات القرن الماضي ، فيما يبد خيار الشتات و الذي يفرض النأي بالنفس عن المنهج القطبي (نسبة إلى سيد قطب ) السلفية الحركية التي لا ترى مانعا من استخدام القوة للوصول إلى السلطة هو الأكثر تفضيلا بين قيادات و أتباع الحركة الأوسع انتشارا و التي لها قبول لا باس به في بعض الدول الأوروبية المركزية في صناعة القرار العالمي ، و يحظى هذا التوجه بقبول من بعض الدول التي رفضت قطع علاقاتها مع الجماعة بالرغم محاولات العديد من الأنظمة التأثير و السعي إلى استئصالها نهائيا .

قد يكون من العدل القول أن سمعة أردغان -كنسخة محدثة من الحركة الإخوانية- الآن باتت تتخطى ما حققه حسن البنا و سيد قطب ، بل حتى باتت تركيا قريبة جدا من وضع “معسكرات الشيوخ ” بالنسبة للإخوان و الفضل يعود في ذلك إلى تجربة أردغان و قدرته كسياسي إسلاموي لا يمارس الفتوى كما يقول هو بنفسه.

و إن كانت محاولة الانقلاب التي واجهها و ما جسدته من قوة يملكها الإخوان الأتراك في الشارع ، خاصة مع تجاوزه كل التحديات السياسية التي دخل فيها ( الانتخابات البرلمانية ، و تحويل نظام الحكم باتجاه الرئاسي ، إضافة إلى موقفه من الأزمة الخليجية  ،

النزاع مع جماعة فتح الله غولون  الناشطة من قلب الغرب (ودلالة ذالك واضحة)) مع ذلك على أردغان رجل الإسلام السياسي القوي أن يدرك أن الشعب الذي أوقف الدبابات على جسر البوسفور لن يقبل تحول الرئيس إلى مرشد و مركزية لجامعته “الإخوان المسلمون” وهو يعني  أن أردغان السياسي المحنك و مهندس للنجاح الكامل للتجربة الإسلامية في تركيا أن يتجنب ما يسميه فوكوياما “الأنظمة الوقفية”  أي التخلي عن  خلق وسائل الاستمرار للمشروع الإخواني الذي يظهر نفسه الآن كابر حارس له إلى جانب قطر مقارنة مع سياسة النأي بالنفس المتبعة من بن كيران و الغنوشي و حتى مشعل.

قد يكون من عدم الحكمة لفهم حركة عربية المنشأ ،لاتحليلها من خارج سياقها خاصة مع وجود تجربة قوية في المغرب يقودها الداهية السياسي بن كيران الذي أحاط مشروعه  بمجموعة من الرجال يتحركون في تناسق تام ، تجسد من خلال خلافة العثماني لبن كيران في رئاسة الوزراء دون أي خلخلة في الحزب الذي تسيد المشهد السياسي  مغربيا ، و لكن الواقع الآن يقول إن الأنموذج التركي أصبح هو مركز  التجربة السياسية للإخوان المسلمين، ليس لنجاحه فقط بل إن أردغان أصبح واجهة إسلامية عالمية و تركيا مركزا لجميع المشردين من الإخوان ، ثقافيا و سياسيا و حتى اقتصاديا .

 من العدل القول إن الإخوان المسلمين من بين الجماعات الإسلامية الأكثر نشاطا آنيا و تنظيما على مختلف المستويات ، من حيث الانتشار و القدرة على الحشد في أقدم معاقلها (مصر)بالرغم من التضييق الأمني و السياسي و اعتقال أي شخص يظهر ميولا إسلامية أو مؤيدة للإسلام السياسي بشكل عام ، هذا مع استمرار الإخوان في فضاء المغرب العربي في نهجهم العقلاني سواء بصعودهم البارز في موريتانيا أو استمرارهم في الحكم بالمغرب ، مع أن شكل النهضة قبل 2014 تغير كثيرا مع أنها ظلت في فلك الإخوان المسلين و هو ما يجعل تيار الإخوان قادرا على هيكلة نفسه على عدة مستويات و إعادة ترتيب ياقته سواء بإخراج قياداته من السجون بتقديم الكثير من التنازلات السياسية ، و إن كان موقف الإمارات و السعودية المعادي لكل ما هو إسلام سياسي قد يؤجل هذا الحل، فان الصمود لبعض الوقت  مطلوب من الإخوان كي يستطيعوا إعادة ترتيب صفوفهم و نقل أنفسهم إما بالتجديد على طريقة النهضة و حماس أو مراجعة المشروع و العودة إلى نظرية الدعاة ، في إعلان عن التخلي عن المشروع السياسي إلى حين و إن الإخوان في تركيا و المغرب و ماليزيا استثناء من الخيار الأخير.

باحث في المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ)