19 سبتمبر، 2025، والساعة الآن 2:59 صباحًا بتوقيت نواكشوط
الرئيسية بلوق الصفحة 13

أبعاد خطاب اترامب أمام القمة الإسلامية الأمريكية/ الحاج ولد أحمدو

ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطابا في القمة العربية الإسلامية الأمريكية التي استضافتها الرياض في   21 مايو الماضي بحضور العاهل السعودي ، الملك سلمان بن عبد العزيز وأكثر من 50 من قادة الدول الإسلامية ، شدد فيه على أهمية الاتحاد في وجه التصدي للإرهاب والتطرف.

ولقد دأبت السياسة الخارجية  للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة إبان حكم الجمهوريين على التركيز على البعد الديني للتعاطي مع مجمل القضايا في العالمين العربي والإسلامي.

وكانت المواقف الأمريكية في الغالب الأعم من الدول العربية والإسلامية تدور بين احتمالين إما أن تكون مواقف عدائية  خاصة إذا تعلق الأمر بالصراع العربي الإسرائيلي أو الحرب على الإرهاب أو تكتسي طابعا تحالفيا كما هو الشأن مع الدول الدائرة في فلك السياسة الأمريكية.

ولقد ظل البعد الاقتصادي عاملا مهما وحاضرا ومؤثرا في الاحتمالين سالفي الذكر سواء من خلال المقاطعة والحصار أو توقيع الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية وتقديم المساعدات لهذه الدولة أو لتلك تبعا لطبيعة العلاقة.

وانطلاقا مما سبق يمكن أن نفهم دون كبير عناء دواعي الزيارة الأولى خارجيا للرئيس الأمريكي ” دونالد اترامب ” إلى المملكة العربية السعودية لعقد قمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الإسلامية، ومن هنا يحق لنا أن نتساءل عن الحاضر الغائب في خطاب الرئيس الأمريكي في القمة الأمريكية الإسلامية وسنركز على خمسة محاور نرى أنها استأثرت بالخطاب دون غيرها أو غابت عنه وهي:

أولا: البعد الديني:

فقد كان الخطاب ألذي ألقاه الرئيس الأمريكي دونالد اترامب خطابا دينيا بامتياز من وجهة نظرنا  فقد استهله بدواعي اختيار المكان وأنه اختار قلب العالم الإسلامي الأمة التي تخدم أقدس موقعين في دين الإسلام ،ليوجه منها خطابه وانتهى بتحية الحضور بحماكم الله وبارك الله الولايات المتحدة الأمريكية وفي ثنايا الخطاب رأى أن مشروعه الذي سيشارك فيه العالم الإسلامي سيحقق لأطفال مستقبلا متفائلا يحترم الله وإن القضاء على الإرهاب ليس خوفا من محاسبة الشعوب أو التاريخ بل خوفا من محاسبة الله ، وأن الازدهار سيجعل كل مؤمن يمارس عبادته دون خوف مستنكرا إقدام الإرهابيين على قتل الأبرياء باستخدام اسم الله على نحو كاذب، معتبرا أن ذلك يمثل إهانة لكل شخص مؤمن فالإرهابيون لا يعبدون الله، إنهم يعبدون الموت حسب تعبيره.

ثانيا:البعد الجغرافي:

فقد حدد الرئيس الأمريكي من خلال الخطاب بشكل متعمد ربما الجغرافيا السياسية المستهدفة بمشروعه السياسي سواء بقناة السويس والبحر الأحمر ومضيق هرمز أو بذكر الخليج والمشرق العربيين  وتركيا وإيران والحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل تحت مسمى “الشرق الأوسط”.

وتجلى ذلك أكثر وفي سياقات متفرقة من الخطاب سواء بذكر دول المنطقة كالسعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين واليمن والعراق وسوريا والأردن ولبنان وتركيا وإيران وإسرائيل أو طوائفها وتنظيماتها وأسماء بعض قادتها كالسنة والشيعة والأكراد و الحوثيين واليهود وحماس وحزب الله والقاعدة و  محمود عباس والأسد ونيتنياهو .

ثالثا:الإرهاب:

كانت عبارات الإرهاب ومعاني التطرف حاضرة بقوة في خطاب “اترامب” لكن الجديد ربما يكون عدم ربط الإرهاب بالدين الإسلامي في خطاب “اترامب ” بل كان المستهدف الإرهاب السياسي إذ تنصل الرئيس الأمريكي ـ وهذا أمر جيد ـ من خطابه المتطرف اتجاه الإسلام والمسلمين أثناء حملته الانتخابية ليقسم العالم إلى قوى خير وقوى شر،  فلم يأتي مصطلح الإرهاب في الخطاب مقرونا بالإسلام إلا مرة واحدة فقط بعبارة  “أزمة التطرف الإسلامي والجماعات الإسلامية الإرهابية “.

وقد أكد الرئيس الأمريكي بكل  وضوح أن إيـران هي مصدر الإرهاب و وضع “حماس” في سلة الإرهاب جنبا إلى جنب مع حزب الله والقاعدة وداعش  .

وفي نفس السياق قال اترامب سنصنع التاريخ مرة أخرى بافتتاح مركز عالمي جديد بمسمى “مركز استهداف تمويل الإرهاب” الذي تشترك في رئاسته الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لمكافحة الأيديولوجية المتطرفة وسيكون المركز موجودا هنا، في هذا الجزء المحوري من العالم الإسلامي.

وهذا يعني مواجهة أزمة التطرف الإسلامي والجماعات الإسلامية الإرهابية وهذا يعني الوقوف معا ضد قتل الأبرياء المسلمين، وقمع النساء، واضطهاد اليهود، وذبح المسيحيين.

وأضاف ” لقرون عديدة كان الشرق الأوسط موطناً للمسيحيين والمسلمين واليهود الذين يعيشون معا ويجب أن نمارس التسامح والاحترام المتبادل مرة أخرى، وأن نجعل هذه المنطقة مكانا يمكن فيه لكل رجل وامرأة، بصرف النظر عن إيمانهم أو عرقهم، أن يتمتعوا بحياة كريمة يملأها الأمل”.

” وبهذه الروح سأسافر إلى القدس وبيت لحم، ثم إلى الفاتيكان، حيث سأزور العديد من أقدس الأماكن في الأديان الإبراهيمية الثلاثة. وإذا أمكن لهذه الديانات الثلاث أن تتعاون معا، فإن السلام في هذا العالم سيكون ممكنا بما في ذلك السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين”.

“وإذا لم نتصرف ضد هذا الإرهاب المنظم، فإننا نعرف ما سيحدث. وسيستمر انتشار تدمير الإرهاب للحياة. إذا لم نقف في إدانة موّحدة لهذا القتل، فلن تحاسبنا شعوبنا فحسب، ولن يحاسبنا التاريخ فحسب، وإنما سيحاسبنا الله.

هذه ليست معركة بين مختلف الديانات أو الطوائف المختلفة أو الحضارات المختلفة. هذه معركة بين المجرمين الهمجيين الذين يسعون إلى طمس حياة الإنسان، والناس الكرماء من جميع الأديان الذين يسعون إلى حمايته.هذه معركة بين الخير والشر على أمم الشرق الأوسط أن تقرر نوع المستقبل الذي تريده لنفسها، وبصراحة، لعائلاتها وأطفالها إنه خيار بين مستقبلين”.

رابعا:المغرب العربي:

فرغم أن المغرب العربي اتحاد يضم خمس دول تمثل في مجملها الجزء الغربي من العالم العربي وهي موريتانيا الجزائر المغرب تونس ليبيا ورغم أنها منطقة تفوق مساحتها مساحة الاتحاد الأوربي ويزيد عدد سكانها عن مائة ألف نسمة ، رغم كل ذلك لم يرد أي ذكر أو إشارة لدولة من دول هذا الاتحاد لا من حيث المتغيرات السياسية الجارية في المنطقة ولا لما تحتويه من أهمية جغرافية أو موارد وثروات طبيعية،ولعل التفسير الأبرز لهذا الغياب هو تقديم الأولويات في السياسة الأمريكية وقد يكون الأمر بداية لسياسة جديدة تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية تحترم مناطق النفوذ التقليدية وخاصة للحلفاء الأوربيين.

خامسا:القضية الفلسطينية:

لم يسجل حضور فلسطين كدولة حتى بحدود 67 في الخطاب ولم يحضر إلا اسم محمود عباس وإشارة إلى الفلسطينيين في سياق التعايش السلمي للديانات وتأكيده على شراكة الديانات الإبراهيمية في القضاء على الإرهاب وإحلال السلام.

سادسا:الديمقراطية:

ولعلها من أبرز القضايا الغائبة في خطاب “اترامب” فلم تذكر هذه الكلمة لا باللفظ ولا بالمعنى  بل ولا حتى إحدى قيمها كالحرية  أو حرية التعبير عن الرأي أو المشاركة السياسية أو التداول السلمي على السلطة وهو تجاوز قد يكون مقصودا وخاصة أن الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج تكافح وتناضل من أجل التحول الديمقراطي .

وختاما يمكن القول أن هذا الخطاب رغم طابعه الديني وتركيزه عل قضية الإرهاب وعدم تقديمه لأي تصور ملموس لمواجهة الإرهاب ولمعالجة أزمات المنطقة فإنه قد يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من التأزم والاصطفاف بين الأطراف داخل المنطقة المتأزمة أصلا.

ولله الأمر من قبل ومن بعد

حماس بين الوثيقة والميثاق .. قراءة في المضمون/ الحاج ولد أحمدو

أصدرت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وثيقتها الجديدة في أيار مايو الماضي التي جاءت كبديل أو تحديث لميثاقها الصادر سنة 1988من القرن الماضي.

 

وقد نصت الوثيقة الجديدة على أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” حركة فلسطينية وطنية مقاومة ذات مرجعية إسلامية تهدف إلى مواجهة المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين أرض الشعب الفلسطيني الأرض العربية الإسلامية التي حددت الحركة حدودها الشرقية بنهر الأردن والغربية بالبحر المتوسط  ومن رأس الناقورة شمالا إلى أم الرشراش جنوبا وهي وحدة إقليمية لا تتجزّأ كما في الوثيقة.

 

وقد ركزت الحركة على العديد من النقاط الجوهرية التي تبرهن على فهم عميق لمجريات الأحداث على الساحة الفلسطينية والظروف المحيطة بها إقليميا ودوليا والتطورات المتلاحقة التي يمر بها العالم العربي بعد ما عرف بأحداث الربيع العربي .

 

و سنقف بشيء من التجاوز ودون ترتيب مع بعض النقاط التي وردت في الوثيقة:

 

ـ التمسك بالقدس عاصمة لدولة الفلسطينية.

 

ـ التأكيد على حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ورفض كل محاولات الرامية إلى تصفية قضيتهم.

 

ـ التأكيد على عدوانية المشروع الصهيوني وأداته المتمثلة في الكيان الاسرائلي وخطره عل الأمة العربية والإسلامية وعلى السلم والأمن الدوليين.

 

ـ التأكيد على جوهرية الصراع مع المشروع الصهيوني المحتل وليس مع اليهود بسبب ديانتهم.

 

ـ التأكيد على حق تقرير المصير .

 

ـ عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني وعدم التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين.

 

ـ القبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس على حدود الرابع حزيران يونيو1967 مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم.

 

ـ رفض جميع الاتفاقات والمبادرات ومشروعات التسوية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية.

 

ـ التمسك بخيار المقاومة كحق مشروع تكفله جميع الأعراف والشرائع السماوية والقوانين الدولية.

 

ـ التمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني جامع للشعب الفلسطيني.

 

ـ التأكيد على استقلالية القرار الفلسطيني وعدم ارتهانه لأي جهة خارجية .

 

ـ التأكيد على دور المرأة الفلسطينية.

 

ـ تبني سياسة الانفتاح على مختلف دول العالم.

 

ـ الاستعداد للتعاون مع جميع الدول الداعمة للشعب الفلسطيني.

 

ـ رفض محاولات الهيمنة على الأمة العربية والإسلامية وعلى سائر الأمم والشعوب.

 

ـ إدانة جميع أشكال الاستعمار والاحتلال والتمييز والظلم والعدوان في العالم.

 

لكن ما لجديد في الوثيقة؟

 

سنحاول تتبع بعض المسائل الشكلية والجوهرية التي أعطت للوثيقة بعض التميز عن الميثاق ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

 

1ـ خلو الوثيقة من الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية

 

ومن الاستشهاد بآراء حسن البنا.

 

2ـ فك الارتباط بالإخوان المسلمين:

 

وقد نصت المادة 2 من الميثاق على أن حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين وحركة الإخوان المسلمين تنظيم عالمي وهي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث…

 

وهي “حلقة من حلقات الجهاد في مواجهة الغزوة الصهيونية ـ كما في المادة7 من الميثاق ـ تتصل وترتبط بانطلاقة الشهيد عز الدين القسام وإخوانه المجاهدين من الإخوان المسلمين عام 1936وتمضي لتتصل وترتبط بجهاد الفلسطينيين وجهود وجهاد الإخوان المسلمين في حرب1948 ومابعده”.

 

3ـ حذف الشعار:

 

“الله غايتها الرسول قدوتها القرآن دستورها الجهاد في سبيل الله طريقها والموت في سبيل الله أسمى أمانيها” الذي نصت عليه المادة8 من الميثاق.

 

4ـ القبول بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4حزيران:

 

وذلك كصيغة توافقية وطنية تقضي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على خطوط الرابع حزيران يونيو 1967 مع عودة اللاجئين.

 

وقد نصت المادة 13 من الميثاق على تعارض المبادرات وما يسمى الحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الإسلامية فالتفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين فوطنية حركة المقاومة الإسلامية جزء من دينها على ذلك تربي أفرادها ولرفع راية الله فوق وطنهم يجاهدون.

 

5ـ مسألة الجهاد:

 

فقد ورد ذكر الجهاد في الوثيقة مرة واحدة مقارنة بسبع مرات في الميثاق وجاء في المادة 15 من الميثاق “يوم يَغتصب الأعداء بعض أرض المسلمين، فالجهاد فرض عين على كل مسلم. وفي مواجهة اغتصاب اليهود لفلسطين لا بد من رفع راية الجهاد، وذلك يتطلب نشر الوعي الإسلامي في أوساط الجماهير محليًا وعربيًا وإسلاميًا، ولا بد من بث روح الجهاد في الأمة ومنازلة الأعداء والالتحاق بصفوف المجاهدين“.

 

وفي المادة 28 من الميثاق “والدول العربية والمحيطة بإسرائيل مطالبة بفتح حدودها أمام المجاهدين من أبناء الشعوب العربية والإسلامية، ليأخذوا دورهم ويضموا جهودهم إلى جهود إخوانهم من الإخوان المسلمين بفلسطين.

 

أمَّا الدول العربية والإسلامية الأخرى، فمطالبة بتسهيل تحركات المجاهدين منها وإليها، وهذا أقل القليل”.

 

وكبديل فيما يبدو عن لفظ الجهاد حفلت الوثيقة بذكر كلمتي المقاومة والتحرير.

 

6ـ العلاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية:

 

فقد نصت المادة 27 من ميثاق الحركة على أن “منظمة التحرير الفلسطينية من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية وهكذا نحسبها. والفكرة العلمانية مناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة، وعلى الأفكار تُبنى المواقف والتصرفات، وتتخذ القرارات.

 

ومن هنا مع تقديرنا لمنظمة التحرير الفلسطينية – وما يمكن أن تتطور إليه- وعدم التقليل من دورها في الصراع العربي الإسرائيلي، لا يمكننا أن نستبدل إسلامية فلسطين الحالية والمستقبلية لنتبنى الفكرة العلمانية، فإسلامية فلسطين جزء من ديننا، ومن فرّط في دينه فقد خسر”.

 

أما الوثيقة فقد اعتبرت “منظمة التحرير الفلسطينية إطارا وطنيا للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه مع ضرورة العمل على تطويره وإعادة بنائه على أسس ديمقراطية تضمن مشاركة جميع مكونات وقوى الشعب الفلسطيني”.

 

وإذا كانت حماس قد قالت عن الوثيقة “بهذه الوثيقة تتعمق تجربتُنا، وتشترك أفهامُنا، وتتأسّس نظرتُنا، وتتحرك مسيرتنا على أرضيات ومنطلقات وأعمدة متينة وثوابت راسخة، تحفظ الصورة العامة، وتُبرز معالمَ الطريق، وتعزِّز أصولَ الوحدة الوطنية، والفهمَ المشترك للقضية، وترسم مبادئ العمل وحدود المرونة” فإننا ودون التجني على حماس نرى أنها حملت رسالتين أساسيتين:

 

إذ كانت الرسالة الأولى موجهة إلى الداخل الفلسطيني ومفادها التلاقي إلى كلمة سواء يتفق حولها أغلب الفلسطينيين كالتمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني جامع للشعب الفلسطيني والتأكيد على استقلالية القرار الفلسطيني وعدم ارتهانه لأي جهة خارجية والتمسك بخيار المقاومة كحق مشروع تكفله جميع الأعراف والشرائع السماوية والقوانين الدولية.

 

والقبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس على حدود الرابع حزيران يونيو1967 مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم.

 

وجاءت الرسالة الثانية إلى الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي متضمنة فك الارتباط بحركة الإخوان المسلمين والتأكيد على عدوانية المشروع الصهيوني وعدم الاعتراف بشرعيته ورفض محاولات الهيمنة على الأمة العربية والإسلامية وعلى سائر الأمم والشعوب وإدانة جميع أشكال الاستعمار والاحتلال والتمييز والظلم والعدوان في العالم و تبني سياسة الانفتاح على مختلف دول العالم والاستعداد للتعاون مع جميع الدول الداعمة للشعب الفلسطيني.

 

ولله الأمر من قبل ومن بعد

نص المحاضرة الافتتاحية للدكتور عزمي بشارة في مؤتمر “خمسون عامًا على حرب حزيران/ يونيو 196”

 

خمسون عامًا مرّت على حرب حزيران 1967 التي احتلت فيها إسرائيل في ستة أيامٍ (منذ أن بدأ القتال حتى وقف إطلاق النار)، أراضيَ تبلغ ثلاثةَ أضعافِ مساحتِها، بما في ذلك ما تبقّى من أرض فلسطين التاريخيّة، أي الضفة الغربية وقطاع غزّة اللتان وقعتَا تحت الحكم الأردني – المصري بعد اتفاقيات الهدنة عام 1949. إثْر تلك الحرب، اتخذ تاريخ المشرق العربي والمنطقة وفلسطين والنظام الصهيوني مسارًا مختلفًا أطلقته نتائجها. ولهذا يمكن الحديث، بالتأكيد، عمّا قبل حرب 1967 وما بعدها.

 

سبق أن عبّرتُ يومًا عن فكرة مُفادها أنّ حزيران/ يونيو 1967، وليس أيار/ مايو 1948، هو تاريخ نشوء إسرائيل الحقيقي (أو تثبيته على الأقل). فحتى انتصارها في تلك الحرب، كانت إسرائيل – التي أُرِّخت النكبةُ الفلسطينية بيومِ إعلانِ استقلالها – مشروعًا غير مستقرٍّ في نظر الحركة الصهيونيّة وما سُمّي “يهود الشتات” الذين أقنعتهم حرب 1967 أنّ إسرائيل أكثر من مغامرة، وأنها مشروعٌ مضمون؛ فتكثّفت الهجرة إليها بعدها، وتدفقت الاستثمارات أضعافًا مضاعفةً، وانتقلت إسرائيل من اقتصاد القطاع العامّ الاستيطاني التعبوي إلى اللبرلة الاقتصادية. كما أنّ الولايات المتحدة الأميركية أبرمت التحالف الإستراتيجي معها، واقتنعت بفائدته العملية والرّهان عليها بعد هذه الحرب. فكما هو معلوم، انتصر جيش الاحتلال في هذه الحرب بسلاحٍ فرنسي وليس بسلاح أميركي، وتدفقت أموال المعونات الأميركية والاستثمارات، وجرى تسليح الجيش الإسرائيلي بطائرات الفانتوم بدلًا من الميراج الفرنسية، أمّا بقية “قصّة” العلاقات الأميركية – الإسرائيلية إثْر تلك الحرب، فهي معروفة للجميع.

 

لن يكون بوسعنا اليوم التطرّق إلى الأبعاد، الدوليّة والعربيّة والفلسطينيّة، كلِّها، ولكنّنا سوف نُلقي ضوءًا مختلفًا عليها، أو نقاربها مقاربةً مخالفةً لما هو مألوف.

 

خرجتْ إسرائيل من حرب 1948 بخسائر كبيرة تتجاوز ما خسرته في جميع الحروب الأخرى، مقارنةً بعدد السكان في ذلك الوقت؛ على الرغم من وهن الدول العربيّة وتبعيّتها للدول الاستعمارية وارتباكها وضعف جيوشها وهشاشة المقاومة الفلسطينيّة بعد ثورةٍ منهِكة استنزفت الاقتصاد والمجتمع بين عامي 1936 و1939، وعلى الرغم من التحالف البريطاني – الصهيوني أيضًا. ولم يتلخص الفرق في التفوق الصهيوني بالمعدات والتقنيات فحسب، بل كانت ثمة فجوةٌ عددية مسكوت عنها غالبًا. فقد حشدت “الهجانا” أعدادًا تفوق عديدَ مقاتلي الجيوش العربيّة مجتمعةً. وحتى من هذه الناحية، فإنّ حرب الكثرة ضد القلة أسطورةٌ من الأساطير الصهيونية في الصراع.

 

لم يعترف العرب بتحوّل الكيان الصهيوني الاستيطاني إلى دولة بتشريد الشعب الفلسطيني عام 1948، وأصبح العداء لهذا الكيان موضوعَ تنافسٍ بين التيارات السياسية العربية كافّةً. ويُعَدُّ تأثير النكبة والتأثُّر بها من أهم دوافع الانقلابات العسكرية ضد النخب التقليدية والليبرالية التي حكمت الدول العربية بعد الاستقلال وفشلت في هذه الحرب، مثلما فشلت في حلّ المسألة الزراعية وغيرها. وكنت قد أوضحت سابقًا أن النكبة لم تقتصر على الشعب الفلسطيني الذي تحمل وزرها الأكبر، بل امتدت إلى الشعوب العربية وأصبحت عاملًا مفصليًا في مجمل التطورات الداخلية للبلدان العربية، وتأسس الاستخدام الأداتي للقضية الفلسطينية سواء في الصراعات الداخلية في البلدان العربية أو العلاقات البينية. وثمّة نمط متكرر لضباط شاركوا في حرب 1948 وقاموا بانقلابات عسكرية في مصر وسورية والعراق. ولكنّ هؤلاء الضباط الذين قادوا الانقلابات المبررة بفجيعة خسارة الجيوش العربية لحرب عام 1948، تعرضوا لهزيمة أكثر فداحةً عام 1967.

 

كان رأي بن غوريون أنّ حرب عام 1948، التي سُمِّيت حرب الاستقلال، لم تَحسم المسألة، وأنّه لكي تتقبل الدول العربية وجود إسرائيل في المنطقة لا بدّ من إرغامها على ذلك، بإلحاق هزيمة أخرى بها في حربٍ أخرى تُقنعها بقبول الأمر الواقع. ولهذا، فمن حيث المزاج العامّ، وبغضّ النظر عن تفاصيل بدء الحرب مع مصر أو سورية، كانت المؤسسة الصهيونية مستعدةً وجاهزةً لخوض حرب ثانية أو ثالثة، بل معنيّةً بذلك.

 

وبعد حرب الأيام الستة، وفي العام نفسه، طرحت الحكومة الإسرائيلية في مراسلات مع الإدارة الأميركية إمكانية مقايضة الأراضي التي احتلتها (ما عدا القدس) باتفاقيات سلامٍ مع الدول العربيّة. أمّا اليوم، فلا يمكننا التأكد من جدية هذه الخطوة، وتلخص الموقف الرسمي العربي بـ “لاءات الخرطوم” المعروفة الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات. فقد كان المطلوب – إسرائيليًا – تجاوز قضيّة فلسطين، بل نسيانها، وحلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين عربيًا، وتحقيق سلام مع الدول العربيّة يقوم على ما سُمي حينئذٍ “تسوية أراضٍ إقليميّة” Territorial compromise على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242.

 

الحقيقة أنّه لم يكن بوسع الأنظمة العربية قبول ذلك، فهو لا يعني إلا الاستسلام بعد هزيمةٍ مذلّةٍ تعرضت لها الأنظمة والجيوش العربية؛ ولكنه أصبح أمرًا واردًا إثْر استعادة بعض الثقة بالنّفس في حرب 1973، أي إنّ أهداف حرب 1967 الإسرائيلية – في ما يتعلّق بقبول إسرائيل في المنطقة وعقد اتفاقيات سلام مع الدول العربية من دون حلّ قضية فلسطين – تحققت بعد حرب 1973 على الجبهة المصرية.

 

وبعد صعود منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المسلحة المبهر إثْر تلك الحرب، وإن كانت تأسست قبل الحرب، وأفولها بعد حربين أخريين (حرب لبنان 1982، وحرب الخليج 1991، وبينهما الانتفاضة الفلسطينية)، طُبِّق ذلك على الجبهة الأردنية عبر التسوية مع منظمة التحرير الفلسطينيّة. لقد أصبح مبدأ “أرض مقابل الاعتراف”، الذي رفعته إسرائيل في ما بعد شعارًا عربيًا بعد أن عُدِّل، “الأرض مقابل السلام”، والمعنى واحد في الحقيقة. جرى هذا بعد أن توطّد في إسرائيل معسكرٌ كبير يدعو إلى “السلام مقابل السلام” ويعترض على إعادة الأرض، أو يقبل بإعادة جزء من الأرض مع أكبر عدد من الفلسطينيين، وذلك بتحويل التسوية الإقليميّة إلى تسوية ديموغرافيّة. وهذه مواضيع أخرى لن تشغلنا كثيرًا في هذا المؤتمر.

 

لم تتجلَّ الضربةُ التي تلقّتها الحركة القومية العربية في أزمة الأنظمة التي تبنت القومية العربية أيديولوجية رسمية بعد هزيمتها في حرب 1967 فحسب، بل أيضًا في تفكيك الطرف العربي في الصراع العربي – الإسرائيلي، وذلك عبر ظاهرة اتفاقيات الصلح المنفرد المصري والأردني والفلسطيني مع إسرائيل، وعمليات التفاوض المنفصلة.

 

وتكمن المفارقة التاريخية الكبرى في أنه حينما هزمت الأنظمة العربية التي تبنت القومية العربية أيديولوجيةً رسميةً في الحرب مع إسرائيل، انحسرت معها هذه الأيديولوجية تحديدًا، وهي التي تعتبر الصراع مع إسرائيل قضية العرب جميعًا، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. واستفادت من ذلك تلك الأنظمة التي لم تتبن هذه العقيدة واعتبرتها مغامِرةً، والقوى التي صعدت من داخل الأنظمة واتجهت نحو السلام المنفرد مع إسرائيل، وغطت رغبتها هذه بضع سنوات بحجج؛ مثل عدم التدخل في الشأن الفلسطيني، والحرص على ترك قضية فلسطين للفلسطينيين يقررون بشأنها ما يرونه. أما الأنظمة التي ظلت تتمسك بهذه الأفكار فلم تتنازل عن قضية فلسطين ولكن ليس في الصراع مع إسرائيل، بل في صراعها على البقاء وتخوين المطالبين بالحرية والعدالة، وكذلك في المساومة بشأن موقعها الدولي والإقليمي. وهذه الميزة (أو الورقة كما يحلو للبعض أن يقول) انتزعتها منها منظمة التحرير في المعركة على استقلالية القرار الفلسطيني.

 

 

ملاحظات حول ردّة الفعل العربية على الحرب

 

لن أتوقف طويلًا عند محاولة الأنظمة العربيّة تمويه الهزيمة، غير أنّني أشير إلى أمرَين بشأنه: كان ذلك، أولًا، بتلطيف اللفظ نفسه، أيْ تحويله إلى “نكسة”، فكأنّ الأمر يتعلّق بزلّةٍ محزنةٍ لأنظمة تسير عمومًا على طريق صحيح. وبحسب هذا الأسلوب التصويري، تكون لكلّ مسيرةٍ عظيمةٍ نكسةٌ أو نكسات، مثلما يكون “لكل حصانٍ كبوة”. وكان التمويه، ثانيًا، بتجاوز ذلك في محاولة قلب الهزيمة انتصارًا لأنّ إسرائيل لم تنجح في إطاحة ما سُمي “الأنظمة التقدمية”، وأنّ كلّ ما استطاعت فعله هو احتلال الأرض فقط (!!). فهذه فضيحة تستحق كُتبًا وأبحاثًا في تحليل البلاغة السياسية العربية والديماغوغيا التي تستبيح سائر المعايير العقلية والذهنية التي تقبع خلفهما. أما عند الاعتراف بالفشل العسكري، فيقترن ذلك بالتهويل من قدرات إسرائيل وإمكاناتها إلى حدود أسطورية، بما في ذلك “المؤامرة اليهودية العالمية” وسيطرتها على أميركا؛ وهو ما استخدم لاحقًا في عملية تصفية القضية الفلسطينية وتبرير عمليات السلام المنفردة. فإذا كانت إسرائيل تمتلك هذه القوى الخارقة يصبح أي فتات تقدمه على مائدة المفاوضات إنجازًا مهمًا.

 

أمّا ردّة الفعل المعارض للأنظمة العربيّة، فكانت أكثر استعدادًا للاعتراف بالهزيمة بطبيعة الحال، فهي هزيمة الأنظمة، ولكنّها عمومًا لم يُتوقَّف عندها مليًّا، وذلك لسببين:

 

أولًا، لأنّ التدقيق في ما جرى أثناء الحرب، والبحث في الإخفاقات العسكريّة والتخبط في صنع القرار السياسي، كانت أمورًا تُعَدُّ من المحظورات. والنقد العيني الذي لا يكتفي بالعموميات، في حالة القيام به، لا بدّ أن يمسَّ ممارساتِ أنظمةٍ ظلّت قائمةً بعد الحرب، والنّبشُ في دفاترها ومستنداتها (إن وُجِدت) ممنوعٌ، فضلًا عن التعرّض لقياداتها. وقد قامت الأنظمة نفسها بالتضحية ببعض الضباط، ونشرت شائعات تقبّلها الجمهور العربي برحابة صدر، منها المؤامرة والتواطؤ والخيانة، وذلك من دون تقديمِ أدلةٍ كما هي العادة. لكنْ طوال نصف قرن، لم يَجرِ التطرّق – على نحوٍ علمي – إلى أكبر إخفاق عسكري عرفه العرب في تاريخهم الحديث. وأقصد التطرق إليه من منظور العلوم السياسيّة والعلوم العسكرية، وبأدواتها؛ هذا في وقتٍ صدرت فيها مئات الدراسات في إسرائيل والغرب في تحليل الحرب وأسبابها ونتائجها وتوثيقها، وفي تحليل كل معركة من معاركها، فضلًا عن كُتب السير الكثيرة التي كتبها القادة، ووزارة الخارجية، ووزراء الدفاع، وحتى الضباط. لهذا، إذا أردتَ أن تدرس مسارَ حرب 1967 ذاتَه، فسوف تجد نفسك أمام مكتبة كاملة صهيونية أو بريطانية أو أميركية، ولكنك ستجد ندرةً في الأدبيات البحثية العربية، وستكون ممتنًّا – في حال الحصول على معلوماتٍ متفرقةٍ – إزاء ما “تكرّم” به بعض الضباط والسياسيين العرب في مذكراتهم.

 

ثانيًا، انشغل المثقفون العرب بعد الحرب بمسائل مثل الصدمة الحضاريّة أو صدمة الحداثة المجددة التي أحدثتها الحرب، وقارن بعضهم أثَرَها بغزو نابليون لمصر، كما انشغلوا بصدمة اكتشاف قوّة المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة التي غالبًا ما استخفوا بها، وعدُّوها كيانًا هشًا مؤقتًا وعصابةً صهيونيةً حاكمةً وأشتاتًا تتجمع على أرض فلسطين لا تشكِّل شعبًا وأمّةً، خلافًا للعرب في زمن انتشار الأيديولوجية القومية.

 

وأدى نقد الصدمة الحضارية هذا لاحقًا دورًا في ميلاد تيار أُعجِب بإسرائيل وسياسييها ومؤسساتها وضباطها، باعتبارها دولة حديثة.

 

لقد فتحت الهزيمة بابًا لنقد التخلف والبحث عن أسبابه في الجهل وانتشار الأمية، أو في التبعية الاقتصادية، أو في الدولة السلطانية، وفي الدين والتدين، وصولًا إلى سيكولوجيا الإنسان العربي وعقليته (وربما “جيناته” البيولوجية أو الثقافية) وغيرها. كما فتحت المجال واسعًا أمام الوعظ بالحداثة والعقلانية والتقدم، وهو جهد لم يخل من جوانب مفيدة لمسها بعضنا في أجواء سبعينيات القرن الماضي، ولكن من منظور موضوعنا اليوم، قام هذا النقد غالبًا بالقفز عن الموضوع أو تجاوزه من فرط حماسةِ الاندفاع نحوَه.

 

وبعد أدبيات الصدمة الحضاريّة، انتشرت أدبيات يسارية، وأخرى أيديولوجية علمانيّة أو دينيّة يحاسب كلٌ منها الأنظمةَ من منطلقه، فتدّعي مثلًا أنّه لو كان النظام يتّبع الاشتراكيّة العلميّة لما هُزم في الحرب، ولو كان إسلاميًّا لما اندحرت جيوشه؛ فالهزيمة عقوبةٌ إلهيّةٌ على التخلي عن تعاليم الإسلام ونظام حكمه، وكأنّ إسرائيل انتصرت لأنها كانت متمسكةً فعلًا بالدين، أو هي كافرةٌ ضالة ولكنْ “سخَّرها الله لمعاقبة الحكام العرب العلمانيين”، بل انتشرت بعض الأدبيات الإسلامية التي تؤكد تمسُّكَ إسرائيل بالدين اليهودي في تلك الفترة، مع أنها كانت أكثر علمانيةً ممّا هي عليه اليوم، فقد ازداد منسوب التدين فيها وتورّط الدين في السياسة، بعد تلك الحرب في لقاء ما يُسمى “أرض إسرائيل التوراتية” مع كيان الدولة التي كان يحكمها حزبٌ عمالي اشتراكي النزعات يؤمن بالتأميم والقطاع العامّ. فإثْر الحرب، تكثفت التبريرات التوراتيّة لضمّ القدس الشرقية والضفة الغربية التي سُميت “يهودا والسامرة”، في مقابل التبريرات الأمنية للانسحاب أو الضمّ.

 

أمّا دعاة الديمقراطيّة، فلم يترددوا في الجزم أنّه لو كانت الأنظمة العربيّة ديمقراطيّةً، ولو كان الشعب يشارك في صنع القرار، لما وقعت الكارثة. وبغضّ النّظر عن موقفنا من الأيديولوجيات المختلفة (والمتحدّث هنا عربي يُعرِّفُ نفسه، إذا اضطر إلى ذلك، بوصفه يساريًّا اجتماعيًّا، وديمقراطيًّا ليبراليًّا من الناحية السياسيّة، هذا إذا اتفق مع المخاطَب على تعريفات هذه المصطلحات)، فإنّ سببَ الهزيمة ليس غيابَ الديمقراطية. فقد هَزمت ألمانيا النازية دولًا ديمقراطيّةً كثيرةً خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تصمد فرنسا الديمقراطية أمام ألمانيا النازية، في حين صمدت بريطانيا الديمقراطيّة وروسيا الشيوعيّة، كما لم تنتصر فيتنام في مقاومتها العدوان الأميركي بفضل الديمقراطية، ولم يتحرّر جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي لأنّ أيديولوجيّة المقاومة اللبنانية كانت ديمقراطيّةً أو اشتراكيّةً علميّةً أو دينيةً مذهبيةً.

 

نحن لا نؤيّد العدالة الاجتماعية والديمقراطية الليبراليّة لناحية المشاركة السياسيّة والحريات والحقوق المدنيّة بحجة أنها تقدم أداءً أفضل في الحروب، بل من أجل العدالة والحرية ذاتهما، لأنّنا نؤمن أنهما أفضل من الظلم والعبودية. وعلميًّا، لا يمكن إثبات فرضيةٍ مفادها أنّ أداءَ نظامِ حكمٍ يسترشد بهاتين القيمتين يكون أفضلَ في الحروب أو أسوأ. للحرب الحديثة في عصرنا مقوماتٌ قائمة بذاتها: مثل التخطيط، والنجاعة، والتدريب، والانضباط، والتجهيز، والتسلح، والواقعية العسكرية، وتحديد العدوّ والأهداف بدقّة، والجهد الاستخباري، وتكامل القرار السياسي والعسكري أثناء الحرب … إلخ. وهذه المقومات يمكن أن تتوافر لدى اليساريين واليمينين، والمتدينين وغير المتدينين، والديمقراطيين وغير الديمقراطيين.

 

ولو تحرّرنا من النّقاش الذي يُسخّر هزيمة 1967 في خدمة الجهد لإثبات تفوّقِ أيديولوجيةٍ على أخرى، فيفقد محاسن هذه الأيديولوجيا، كما يفقد أدواتِ فهم ما جرى عام 1967 في الوقت ذاته… لو تحرّرنا من هذا كلِّه، ونظرنا بدقّة وصرامةٍ علميتين إلى مجريات تلك الحرب، لأدركنا ما يُفترض أن ندركه تحديدًا، وهو أنّ هذه الهزيمة لم تكن حتميّةً، لا بسبب طبيعة حضارتنا و”تخلفنا”، ولا بسبب غياب العدالة الاجتماعيّة والديمقراطية.

 

كان بالإمكان، في وضع الأنظمة العربيّة الذي كانت عليه، وفي وضع حضارتنا كما كانت، ألَّا يسقط الجولان هذا السقوط المدوِّي، وألَّا يُعلَن سقوطُه قبل أن يسقط، وألَّا تسقط الضفة الغربية للأردن بهذه الطريقة، وأن يصمد المقاتلون في سيناء مدّةً أطول، وألَّا ينسحبوا مثل ذلك الانسحاب المعيب بعد أوامر من قيادةٍ مرعوبة. لقد انتقلت هذه القيادة من التظاهر بالقوة للتغطية على نتائج حرب الاستنزاف في اليمن، وإلى المزايدة وإغلاق مضايِقَ تيران والطلب إلى القوات الدولية أن تُخلِيَ سيناء كأنها سوف تشنّ الحرب، وذلك من دون أن تريد الحرب فعلًا… انتقلت من المزايدة والتظاهر بأنها تدعو إلى حربٍ لا تريدها في الحقيقة إلى حالة الفزع والذهول والشلل بعد القصف الإسرائيلي، فاتخذت قرارات الانسحاب السريع وغير المنظّم من سيناء.

 

كان ممكنًا أن يكون الأداء أفضل. وهذا، تحديدًا، ما يجب أن يُدرس. ما هي الأخطاء التي وقعت في هذه الحرب في العلاقة بين المستوى السياسي والعسكري في كلٍّ من سورية ومصر، وفي العلاقة بين القدرات العسكريّة وعمليّة صنع القرار السياسي؟ وكيف كان وضع الجيوش العربية وتدريبها وتسليحها، ووسائل اتصالها؟ ولماذا تضع خططًا لا تُنفَّذ؟ ثمة بالطّبع حاجةٌ إلى فهْم طبيعة النظام عند مقاربه هذه الإشكاليات، ولكنّ طبيعة النظام، على أهميتها ومصيريتها، لا تفي بإجابة عينيّة عن كلّ إشكالية.

 

يكتفي بعضُ من يقاربون موضوع الحرب عسكريًّا، وليس أيديولوجيًّا، بالقول إنّ إسرائيل حسمت المعركة من الجوّ حين أبادت سلاحَ الطيران المصري وهو رابضٌ في المطارات، ولكنْ حتى جيوش الأنظمة غير الديمقراطيّة والمتخلفة والقمعية يمكنها الصمود على نحوٍ أفضل بعد تدمير سلاح الطيران. والمقاومة في أنحاء العالم كلِّه، ومنها مقاومات عربيّة في غزة وفي لبنان، تُثبت أنّه بالإمكان الصمود من دون سلاح طيران. وربما لا يمكن تحقيق انتصار، ولكنْ يمكن بالتأكيد ردْعُ العدوان، والصمود. وهذه كلُّها أمور متعلقة بفهمِ النسبة بين قدرات العدو والقدرات الذاتيّة، وتكييف وسائل القتال ومناهجها بموجب ذلك. ثمّة أمورٌ كثيرة يجب أن تُدرس ويستفاد منها على هذا المستوى.

 

بعد الحرب قِيل الكثير حول حُسن الدعاية الصهيونيّة، وعجْز الدعاية العربيّة عن التفسير “للعالم” أنّ حرب 1967 كانت عدوانًا إسرائيليًا وليست دفاعَ القلّة عن نفسها في وجه الكثرة، ولا حربَ داوود أمام جوليات (جالوت). ولا شكّ في أنّ الخطاب السياسي العربي قبل الحرب، والذي ينسى أصحابه المنجرفون في حمأة المزايدات بين الأنظمة العربية المتنافسة أنّه ثمة من يرصد، وأنه سوف يُترجم إلى لغات أجنبية، قد ساهم في إظهار هذه الصورة. كما استفادت إسرائيل من تأدية دور الضحية وربطه بالتاريخ اليهودي في أوروبا تحديدًا. وأشير هنا إلى أن استخدام الهولوكوست بكثافة في الدعاية الإسرائيلية الرسمية وفي الثقافة الإسرائيلية نفسها وصناعة الهولوكوست كمكوِّن أساسي في السياسة والثقافة انطلقت بعد عام 1967 (وسبق أن تطرق إلى ذلك بتوسع عدد من المؤرخين). فقد كان الانشغال بها محرجًا للثقافة الصهيونية الاستيطانية قبل ذلك لأنها تذكّر بضعف يهود الشتات، وهو ما يريد “اليشوف” (الساكنة الصهيونية) في فلسطين أن ينساه. ولكن منذ محاكمة آيخمان، وبشكل مكثف بعد حرب 1967، بدأ الاستخدام المكثف لها في السياسة وفي تشكيل صورة إسرائيل كوريثٍ لضحايا المحرقة وممثلٍ لهم ولقضيتهم، وبذلك يصبح تحصيل حاصل أنّ من يشن الحرب عليها هو وريث مرتكبي تلك الإبادة الجماعية.

 

لقد أدت الضحية دور الفاعل بإتقانٍ بالغٍ، أما المجرم فتقمص دور الضحية. وهناك الكثير ممّا يمكن تحسينه في شرح ما جرى في تلك الحرب لناحية العدوان الإسرائيلي المُبيّت، وتواطؤ الولايات المتحدة معه في مرحلة الحرب الباردة وفي ظل تعثرها في فيتنام، لتلقين الأنظمة غير الودودة للمصالح الأميركية في المنطقة درسًا. ولكن لا حاجة إلى عبقرية خاصة لندرك أنّ ما يُعبَّر عنه بألفاظ مثل “العالم” أو “المجتمع الدولي” (وغيرها من المصطلحات الضبابية) ربما يتعاطف مع الضحية؛ تحديدًا مع ضحية تُقاوم، لكنه لا ينتصر لها. والشعب الفلسطيني، بالتأكيد، ضحيّةٌ لمشروع استيطاني كولونيالي. وقد أصبح ممكنًا تحقيق التعاطف الدولي معه بعد أن انتزع زمام المبادرة وناضل ضد الاحتلال. لكنْ من الصعب على “العالم” أن يفهم أنّ الدول العربيّة كلَّها، بأنظمتها وثرواتها، عبارةٌ عن ضحيّة. المنتصِر في هذه الحالة أكثر إقناعًا من المهزوم الذي يدّعي أنّه الضحية؛ أما المنتصر عسكريًا، أو الذي يحقّق تفوقًا في مجالات أخرى فيجد من يتفهمه، ومن ثم، يتعاطف معه ويعجب به، حتى إن تعرض للشيطنة في مرحلة سابقة؛ وذلك لأنه حقق شيئًا يمكنه الدفاع عنه، فإنجازات ألمانيا واليابان الاقتصادية ساهمت في نشوء صورة إيجابية لهما بعد مرور عقدين من الحرب العالمية الثانية، وينطبق الأمر على الصين، بل إنّ صورة فيتنام في الولايات المتحدة لم تتحول إلى سلبية.

 

ولذلك سيكون تخلي المهزوم عن تأدية دور الضحيّة أكثرَ واقعيةً وعقلانيةً في هذه الحالة، وكذلك البحث عن عناصر القوة التي تمكّنه من التفوق والانتصار أو الصمود على الأقل. ومن هنا تنبع أهمية فحص مكامن الضعف العينيّة التي أدّت إلى الهزيمة، هذا إذا توافرت الإرادة؛ ما يعني أنّني لا أتحدث عن الأنظمة العربية الحاليّة التي فقدتها حتى أصبح بعضها يَعُدُّ دولةَ الاحتلال حليفًا (تارة بحجة الصراع مع إيران، وطورًا بهدف الفوز في التنافس العربي من أجل حظوة أوفر لدى واشنطن)، بل أخاطب من يحاول أن يطرح بدائلَ.

 

ومُفاد رسالتي إليه أنّ طرحَ بدائلَ للأنظمة القائمة بمعايير أيديولوجية، وحتى قيمية، ليس كافيًا، بل سيكون على من يسعى للسلطة أن يُتقِن (وأقصد أن يعرف كيف يعمل مع مؤسسات تُتْقن) فنونًا متعلقةً بإدارة الدولة والاقتصاد والسياسة الخارجية… والحرب أيضًا.

الشيخ عبد الله بن بيه و إشكاليات تجديد مناهج التفكير الشرعي

محاضرة مقدمة في المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية (مبدأ) في ندوة “المشروع الفري للشيخ العلامة عبد الله بن بيه ”

د. محمد المهدي محمد البشير

هناك شبه اتفاق بين المؤرخين على أن الإسلام- بشقيه الدين المنزل و الاجتهاد المنبثق عنه – ظل لمدة اثني عشر قرنا هو المرجعية الوحيدة التي يقتبس منها الأفراد تصوراتهم العقدية و قيمهم الخلقية و على هديها تحاول الجماعة المسلمة أن تعيد صياغة علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية و تسن مختلف نظمها و قوانينها ، و تؤسس القواد المحددة لمفهوم الحق و الخير و العدل و الجمال لديها ، و لكن ما ان برزت الدولة الحديثة بمؤسساتها القائمة على رؤية جديدة للعلاقات الاجتماعية و السياسية حتى بدأ تأثير الشريعة الإسلامية يتقلص تدريجيا  نتيجة تعطيل آلية الاجتهاد و التجديد و التي هي وسيلة الدين الإسلامي لمواكبة التحولات الاجتماعية المتسارعة مما أدى إلى :

  • انهيار نظام الخلافة الإسلامية على المستوى السياسي
  • تقلص دائرة تأثير الشريعة الإسلامية في المجال التشريعي
  • حلول القوانين الوضعية محل النظم الإسلامية في أكثر مجالات الحياة أهمية (القضاء و الاقتصاد و السياسة )

حدث هذا بعد أن كانت الشريعة الإسلامية – كما يقول جون راولز- قانونا أخلاقيا أنشأ مجتمعا  جيد التنظيم و ساعد على استمراره ، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر و على يد الاستعمار الأوروبي تفكك النظام الاقتصادي – الاجتماعي و السياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا أي أن الشريعة نفسها أفرغت من مضمونها و اقتصرت  و اقتصرت على تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدول الحديثة بالمادة الخام “الدولة المستحيلة “.

وقد أدى هذا الوضع – كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه – إلى أن تكون” الشريعة خارج المجال اليومي للحياة ، أي خارج الممارسة في الواقع في أغلب الأقطار ” (تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع) .

و قد ربط الشيخ عبد الله بن بيه هذا التحول الجذري الذي حدث في العالم الإسلامي بالثورة العلمية التي أدت إلى تحولات اجتماعية و سياسية لم تعرف البشرية لها مثيلا ، حيث يقول ” مسيرة الحياة تشهد تغيرات هائلة و تطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة ، للتمازج بين الأمم و التزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات و التطاول إلى فضاء المعتقدات ” ويلفت النظر إلى مدى قوة تأثير هذا التحول على النظام الاجتماعي و إلى خطر المآلات التي قد يقود إليها بسبب أن ” الأنظمة الدولية و المواثيق العالمية و نظم المبادلات و المعاملات قد أصبحت جزءا من النظم المحلية و تسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق علي اسم العولمة و العالمية ” التجديد بين الدعوة و الدعوى”.

لقد أحدث هذا التحول – لأول مرة في التاريخ الإسلامي – صدمة عنيفة للعقل المسلم الذي لم يكن يتصور أن هناك نظاما – في الوجود – يمكن أن يطيح في أن ينافس الشريعة الإسلامية خارج المجال الإسلامي أحرى أن يوجد نظام يزاحمها في عقر دارها فيختاره المسلمون و يتبنونه من غير ردة عن الإسلام أو إكراه على ترك شريعتهم .

و قد فرض هذا الواقع نفسه على المسلمين مما جعل كثيرا من المفكرين و الفقهاء المجتهدين يكرسون حياتهم لعلاج هذه الظاهرة قبل الإجابة عن الأسئلة المفتاحية ماذا نجدد ؟ و كيف ؟ و “بم ” و من ” ؟ . فكثر الكلام عن التجديد و قل المجددون .

و قد اتخذت دعوات المجددين طرائق قددا ، فكان منهم من ركز على إصلاح العقيدة و منهم من اهتم بالسياسة ، و منهم من ولى وجهه شطر  الأخلاق أو التعلم و منهم من بشر بتجديد شامل ينطلق من شمولية الإسلام و لكنه لم يهتم بتجديد طرائق التفكير و منهاج الاجتهاد و إصلاح العقل المسلم الذي تحول في عصور الانحطاط من أداة توليد للفكر و تحليل له ونقد إلى أداة تسجيل و استظهار حيث ركزت أكثرت الدعوات على إحياء السلوك الإسلامي و توظيف الأدوات و المعارف التي وظفها العلماء الأقدمون في التفكير و الاستنباط فأعدوا الأدوات و المعارف التي وظفها العلماء الأقدمون في التفكير و الاستنباط فاعدوا مقولاتهم الجزئية في غير زمانها و احيوا خلافاتهم التاريخية بعد أن ماتت مع أصحابها ، فشغلهم ذلك عن التصدي لمهمة التجديد ،و الإجابة عن الإشكاليات المعاصرة . لكن خطابهم لقي رواجا شعبيا كبيرا وهو ما أدى – كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه إلى –

“إقبال الناس على أحكام الشريعة دون أن يحيطوا علما بمصادرها ومواردها وجزئيات نصوصيات و كليات نصوصها”.

“بروز سوق ظاهرية قل علمها و ضاق فهمها ، استظهروا بعض الجزئيات دون ردها إلى الكليات فغاب عنهم الجمع و الفرق و التعليل ، فلم يصيبوا في التنزيل ”

“قيام نابتة علمانية –كرد فعل – كادت أن تودع الدين و تلوذ بأذيال الغرب ، بحثا عن الخلاص ، و فرارا من  منطق لم تعهده ، و منطلقات لم تعرف مداها و مستقبل لم يهيئه حاضرها “(تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع ).

و من يتبع إنتاج الشيخ العلامة عبد الله بن بيه المعرفي الغزير و يحاول استيعاب منهجه التجديدي ، ونسقه الفكري ، يجد انه ينطلق من إشكالات تجديد مناهج التفكير الشرعي و طرائق الاستنباط أولا ، بدءا بتحديد مفهوم التجديد و موضوعه و مراجعة أدواته حيث يقول “إن للتجديد أدواته ، كما لكل بناء أدواته ، قبل الشروع في البناء علينا أن نخترع الأدوات أو تفحص ما لدينا من الأدوات ، نرى صلاحها و صلوحيتها “(التجديد بين الدعوة و الدعوي ).

و تأسيسا على هذا المنهج الأصولي و الرؤية الفكرية يعيد طرح مجموعة من الأسئلة التي يرى أنه يتعين على العلماء الإجابة عنها و هي :

  • ما مدى استجابة التشريع للقضايا البشرية المتجددة ، رغم أن نصوصها محدودة ووقائع الحياة غير متناهية؟
  • ما مدى ملاءمة التشريع للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة ؟
  • ما هي المكانة الممنوحة للاجتهاد البشري المؤطر بالوحي الإلهي ؟(مقاصد الشريعة ).

و هذا ما جعله ينطلق في منهجه التجديدي من أصول الفقه ، باعتبار ذلك هو المدخل الصحيح لتجديد الفقه و التفكير ، لأن التجديد في أصول الفقه هو بالضرورة التجديد في الفقه ذاته ، لأنه هو المستهدف في الأصل و النتيجة المتوخاة ” ولان “القضايا الفقهية – التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية و القانونية التي تحكم النسق السلوكي و المعياري في حياة الفرد و الجماعة يجب أن تواكب مسيرة الحياة ” (التجديد بين الدعوة و الدعوي ).

و قد حصر الشيخ وظيفة أصول الفقه في غايتين تشريعيتين هما الاستنباط ، و الانضباط بهدف التوسط بين الوحي و العقل و بين الأوامر الشرعية في إطلاقها الأزلي و بين الواقع الإنساني بعديه الزماني و المكاني “و بين أن ” أصول الفقه في الوقت الحاضر لا يفضي إلى إنتاج الأحكام في مستجدات الوقائع ” مستدلا على ذلك بواقع المجامع الفقهية نتيجة ” وجود عجز في التواصل بين الواقع و بين الإحكام و أحيانا إلى عدم الانضباط في الاستنتاج و الاستنباط “و أعاد سبب ذلك إلى عدم مراجعة أدوات توليد الأحكام و الاجتهاد المعطلة “,(فقه الواقع و التوقع).

و قد فتح الشيخ المجال أمام العلماء – في كل زمان ومكان – لإعادة رسم مقاصد الشريعة حسب حاجات الاجتماع البشري ، وتطور المعرفة و الواقع الدولي انطلاقا من روح الشريعة و قواعد التشريع ، بشرط التقيد بقواعد أصول الفقه بدل التقوقع في “المقاصد” التي حددها إمام الحرمين أو الشاطبي ، أو الطاهر  بن عاشور كما لو كان تطور الاجتماع قد توقف ، حيث يقول “المقاصد الكبرى التي تحكم الشريعة لا يمكن ادعاء الحصر فيها فكل عالم يقترح مقصدا بناء على ما فهمه (مقاصد الشريعة ).

فالشيخ يدعو إلى مقاصد متجددة بتجدد المعرفة و رقي العقل  ، و تطور الاجتماع البشري ،كما ينادي بضرورة توظيف عناصر معرفية جديدة لهم “دلالات الألفاظ ” ، إذ يرى أن عملية الفهم تتعلق بموضوع : “دراسة الظاهرة اللغوية في علاقتها بالوحي ،وليس ذلك خاصا بحضارتنا ،فموضوع الظاهر ة اللغوية شغل الدراسات الغربية في ميدان اللسانيات و بخاصة في الهيرمينوطقيا وهي تفسير النصوص المقدسة أو ما عبر عنه بول ريكو بأنه : فن تأويل النصوص في سياق مؤلف النصوص و متلقيها الأوائل” .(التجديد بين الدعوة و الدعوي )

وقد  سبق للشيخ في كتابه (أمالي الدلالات) أن أصل لهذه المسألة – من داخل التراث الإسلامي – حيث ذكر قول الجصاص إن “اللغة العربية لا شأن لها في الدلالات “وإنما يختص أهل اللغة بمعرفة الأسماء و الألفاظ الموضوعة لمسمياتها بأن يقولوا إن العرب سمت كذا بكذا فأما المعاني و دلالات الكلام فليس يختص أهل اللغة بمعرفتها دون غيرهم ممن ليس من أهلها فقولهم قال  ذلك بعض أهل اللغة ساقط لا اعتبار له “.

من هنا اقترح الشيخ أن تنطلق عملية التجديد من : “وضع مقدمة لدراسة الظاهرة اللغوية من كل جوانبها و نواحيها و زواياها لاستخراج خباياها انطلاقا من ثلاثي : الوضع و الاستعمال و الحمل ” معتبرا أن انقسام الدلالة إلى (حقيقة وضعية ، و حقيقة عرفية و حقيقة شرعية ، ومجاز ) ،نما يعود إلى “توصيف الظاهرة اللغوية من حيث تطور الدلالة ” بسبب عامل الزمن و الاستعمال .

و يقترح اعتماد مقاربة تختصر التجديد في ثلاثة أجناس “تشتمل على أنواع كثيرة هي لب التجديد ، و مضطرب المجتهدين ، و مراد مراداتهم و تعاملهم و تحملهم ” و هي :

1 مدلول الدليل

2 منظومة التعديل

3 مباءة التنزيل

أولا : مدلول الدليل

ويرد به دلالات الألفاظ التي تمثل المرحلة للتعامل مع النص ، لكنه يدخل فيها دراسة الظاهرة اللغوية .

ثانيا : منظومة التعديل : الجواب عن لِمَ ؟

و يريد بها معقول النص ،أو مقاصد الشريعة الكلية و الجزئية ، الأصلية و التبعية ، لأنها بيئة العلل كليها و جزئيها ،و يدعو الشيخ إلى : “التعامل مع المقاصد تعاملا جديدا كأدوات فاعلة في مختلف أبواب أصول الفقه حيث يكون تفعيل المقاصد من خلال أدوات الإنتاج و الاستثمار موسعا لأوعية الاستنباط ، و جهاز استشعار في مجال الالتقاط ، لان المقاصد من دون هذا التفاعل مع المركب الأصولي تبقى صورا بلا روح ،واعية فارغة بلا محتوى ” وقد بين الشيخ أن بعض المقاصد هي مجرد حكم و إشارات لا تصلح للعلية ، و لهذا وضع خمسة ضوابط للتعاطي مع المقاصد حتى يراعيها المجتهد عند توليد الأحكام حتى لا يقع في خطا التعامل و خطا التداول (التجديد بين الدعوة و الدعوي ).

و قد خلص الشيخ إلى أن ”  التعليل في الأحكام من أهم موارد الاجتهاد و أعظم قواعد الاعتماد ” و اقترح أن يصبح القياس جزاءا من منظومة التعديل و ليس كتابا مستقلا “.

و قريب من هذا قول الشيخ عبد الوهاب خلاف ” كان مجتهدوا الصحابة يعملون لمطلق المصلحة لا قيام شاهد بالاعتبار ، و هاديهم في هذا فطرة سليمة و نظر صحح [ثم] صار الاعتبار لمصالح خاصة و المرجع إلى قواعد موضوعية .وبهذا بدأت تضيق دائرة التشريع و تلتزم في القضاء طرق خاصة و المرجع إلى قواعد موضوعية . وبهذا بدأت تضيق دائرة التشريع و تلتزم في القضاء طرق خاصة للوصول إلى الحق و تغل اليد عن تنفيذ ما قد يكون فيه بعض الإصلاح و كان هؤلاء المجتهدون في بعض الأحوال بحرج هذه القيود و ضيق قواعدهم بمصالح العباد فكانوا يخرجون من هذا الضيق بما يدعونه الاستحسان . و من أمثلة هذا عقد المزارعة فهو على قواعد اجتهادهم باطل لكنهم لما رأوه ضروريا لمصالح الناس أجازوه بطريق الاستحسان ،و ما هذا الاستحسان إلا بقية من روح الاجتهاد الفطري الذي كان سبيل السلف الأول ”

و هو ما عبر عنه الإمام محمد أبو زهرة بقوله : ” إن التعليل هو الذي فتح عين الفقه بل إن التعليل هو الفقه ، أو  هو لباب الفقه ، و إن التعليل كما قلنا ليس الغرض منه إلا أن تعرف مقاصد الشارع الحكيم من النصوص “.

ثالثا مباءة التنزيل : الجواب عن كيف ؟

و يعني به ” تنزيل  الأحكام الشرعية على الوقائع باعتبار أن الأحكام الشرعية معلقة بعد النزول على وجود مشخص هو وجود الواقع ، أو الوجود الخارجي كما يسميه المناطقة “ولذلك كان خطاب الوضع ناظما للعلاقة بين خطاب التكليف بأصنافه و بين الواقع بسلاسته و رخائه و إكراهاته “.”إن التنزيل – كما يرى الشيخ – هو عبارة عن تطابق كامل بين الأحكام الشرعية و تفاصيل الواقع  المراد تطبيقها عليه ، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد ، في جدلية بين الواقع و بين الدليل الشرعي ، تدقق في الدليل بشقيه الكلي و الجزئي ، و في الواقع و المتوقع بتقلباته و غلباته و الأثر المحتمل للفتوى في صلاحه و فساده .

وقد اعتبر الشيخ أن “تجليات التنزيل في الشرع ” تبرز في إقرار  الشرع الإسلامي لجملة من المؤطرات لإنزال الحكم ، و التي و إن كانت لا تولد حكما بطبيعتها إلا أنها تصوغ مضمونه و أحيانا تمثل سببا أو مانعا ، و هذه المؤطرات هي:

1 العرف

2 إكراهات الحكم و النظام

3 اعتبار المتوقعات

4 مراعاة الحاجة

و قد اعتبر الشيخ أن الخلل الذي أصاب العقل الفقهي يعود إلى هذه الأمور الثلاثة

  • عالم التأويل
  • عالم التعليل
  • عالم التنزيل

و يحتاج الأمر  في بحث هذه القضايا إلى محددين أساسيين :

أولا : إلمام واسع بالواقع من كل جوانبه ورؤية شاملة لكن زواياه . وهو أمر يوجب على المجامع أن تعطي مكانة كبيرة للخبراء السياسيين و الاقتصاديين و أيضا للاجتماعيين دون إفراط في منحهم وظيفة إصدار الحكم الشرعي .

أما المحدد الثاني : فهو أن يرتفع أعضاء المجالس في معالجتهم للقضايا إلى النظر المتوازن بين الكلي و الجزئي بأن تضع نصب عيناها المقاصد الشرعية الأكيدة دون أن تغيب عن بصرها و بصيرتها النصوص الجزئية التي يؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد و موله و أن ذلك بعينه هو الوسطية .

و التجديد عند الشيخ عبد  الله بن  بيه يختلف عن الإصلاح و التنوير بالمفهوم الغربي ، وهو يبدأ من “مراجعة أدوات توليد الأحكام و إنتاجها و ضبط القواعد في عملية تأصيلية يمكن أن طلق عليها : التجديد”.

مشروع الشيخ مشروع مستوعب لمدارس التجديد

يقسم الشيخ عبد الله بن بيه مشاريع التجديد إلى اتجاهين :

  • اتجاه أصيل (الدعوة ) : يقول إنه مشروع جدير بالاندماج في جدول التجديد و هو يضم دعوات مقاربة يحاول بعضها التقريب و التسديد، لكنها يغلب عليها الجانب التعليمي التربوي دون جانب إنشاء الأحكام الذي هو الغاية المتوخاة لعملية تدوين الأصول .
  • اتجاه آخر : يرتكز على أربعة دعاوى لها طورتها على أصول الفقه بل على الشريعة و هي :
  • دعاوي الحكمة و المصلحة غير المنضبتين بضوابط التعليل ووسائل التنزيل مما سيحدث ارتجاجا في بناية الاجتهاد و زلزلة لأسسه .
  • الدعوية المقصدية مجردة عن مدارك الأصول و عارية عن لباس الأدلة و هي دعوى – و إن كان فيها شيء من الصدق – فإنها لا تجيب على كيف ؟ و هي إجابة لن تكون مماشية للموروث الفقهي إلا إذا تمسكت بعروة وثقى من أدلة الأصول و هي الدعوة التي أطقها الشيخ المجدد الطاهر بن عاشور .
  • دعوى تاريخية النص و ظرفيته ، – و هي مذهب عرف في الغرب بأنه توجه فلسفي يربط المعارف و الأفكار و الحقائق و القيم بوضع تاريخي محدد بدلا من اعتبارها حقائق ثابتة ، ة هذا من شأنه أن يقطع الصلة بالنصوص الشرعية “
  • دعوى الفطرة … و هي تقوم على الاعتماد على الفطرة الإنسانية في التجديد و هذه الدعوة يقول بها الدكتور حسن الترابي ” فالشريعة حاكمة ، و ما تركه عفوا فهو متروك لما يقدر فيه البشر فيعرفون و ينكرون وفقا لما تهتدي إليه الفطرة المنفعلة بمعاني الدين المنزل .

وقد بين الشيخ أن هذه الدعاوى و إن كانت “تتفاوت في خطورتها إلا أنها جميعا هروب من ديمومة النصوص و قفز  إلى المجهول “.

يفرق الشيخ عبد الله بن بيه تفريقا واضحا بين مستويين من التعامل مع الشريعة الإسلامية :

  • التعامل مع النصوص : أي مدلولات الألفاظ اللغوية و هذا يشترط فيه معرفة اللغة العربية . لكن الشيخ إنما يشترط معرفة متوسطة للغة العربية إذا انضمت إليها معرفة الأصول ، و توفرت شروط الاجتهاد الأخرى ، و يجعل بلوغ رتبة الاجتهاد في اللغة شرط كمال ، ثم إنه فتح أمام الفقيه فرصة الاستفادة من “تطور اللغة عرفا في سبيل مسائل فقهية معاصرة كمدلول القبض و التقابض في البيع ، كمدلول الحوز و الحيازة في الهبات … لأن اللغة كائن متطور بالعرف الاستعمالي للتمكين “.
  • التعامل مع المقاصد : “فالمقاصد لا تفتقر إلى اللغة افتقار الألفاظ إليها ، و هي ترجع إلى حكمة التشريع ، و معقولية النص ، و إلى جلب المصالح و درء المفاسد ، و هذا الأساس الثاني من ركائز الاجتهاد و تدخل فيه أدلة كثيرة : القياس ، و الاستحسان و سد الذرائع ، و المصالح المرسلة التي تنبني على المقاصد ” (أمالي الدلالات ).

و إذا كان الشيخ يرفض اعتبار المقاصد أدلة مستقلة يمكن الاعتماد عليها في توليد الأحكام الشرعية دون الاعتماد في توليد الأحكام الشرعية دون الشرعية دون الاعتماد على دليل أصولي يضبطها – فانه يرى أنه بالإمكان “أن تكون مرجحا لقول ضعيف بناء على كلي  المصلحة ، حيث يمكن ترجيح الضعيف في محل الحاجة عدولا عن الراجح إلى الضعيف بناء على مصلحة ، قال : و هذا ما نتعامل به في فقه الأقليات .

و يرى أن المقاصد يمكن أن تسهم في وضع فلسفة إسلامية شاملة تجيب عن الأسئلة التي يطرحها العصر في مختلف القضايا الكبرى التي تشغل الإنسان و شغلته منذ القدم في الكون و النظم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية لتفسير مختلف الظواهر الإنسانية و مظاهر العلاقات وتقديم قوانين عامة تنطلق من ثنائية الوحي و العقل “(التجديد بين الدعوة و الدعوي ).

و أخيرا اذكر أن الشيخ يدعوا إلى اعتماد العقل أصلا من أصول التجديد بدل المنطق و علم الكلام الذين أعتبرهما بعض من المجتهدين أصلين للاجتهاد .

مركز مبدأ ينظم ندوة كبرى حول المشروع الفكري للشيخ بن بيه

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية( مبدأ) ندوة كبرى  بعنوان المشروع الفكري و التجديدي للشيخ عبد الله بن بيه ، الندوة التي انعقدت يوم السادس و العشرين  من شهر مايو 2017 ، حاضر فيها كل من الدكتور السيد ولد أباه و الدكتور محمد المهدي محمد البشير اضافة الى الدكتور اسلم الطالب اعبيدي ، فيما ترأس الجلسة الوزير السابق و رئيس هيئة جائزة شنقيط أبوبكر ولد أحمد ،

الندوة شارك فيها العشرات من المثقفين و الباحثين اضافة الى جمع من الفقهاء و المهتمين بالأن الديني و بالمشروع الخاص بالشيخ عبد الله بن بيه .

كما هذه الندوة التي احتضنها القاعة الكبرى لفندق موريسانتر مثلت فرصة للاطلاع عن قرب على فكر العلامة عبد الله بن بيه الذي كان محط تقدير و احترام من جميع الحاضرين ، الذين اعتبروه ابن المحظرة الذي نقلها من المحلية الى عالمية و الذي جدد فعلا في الخطاب الديني المعاصر انطلاقا من وسائل و متطلبات عصره الراهنة التي تمثل المفتاح الاساسي للوقوف على مشكل التعصب و الترف الذي تمر به الامة الاسلامية .

 

معرض أهم اللحظات من اليوم الأول لندوة العدالة في موريتانيا

مشاركة القاضي الدكتور هاون الديقبي
الدكتورة أم كلثوم حامدينة نائبة رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية
الدكتورة عائشة بنت الحسن
رئيس المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية (مبدأ)الدكتور محمد سيد أحمد الوداني (بوياتي )
الجلسة الافتتاحية الرسمية بحضور الامين العام لوزارة العدل و الامين العام لوزارة الاتصال و الاعلام و العلاقة مع البرلمان و المجتمع المدني
من اليمين المختار ولد داهي و رئيس المركز محمد سيد أحمد فال و ممثل مشروع دولة القانون الشيخ ولد جدو
جانب من حضور الندوة في اليوم االول
عبدالله محمدو مدير مجلس ادارة تلفزيون الساحل
اليزابت شنكر مشاركة من المجتمع المدني
الاستاذ ابراهيم ولد بلال رئيس منظمة الساحل للتعليم وحقوق الانسان

مداخلة الدكتور هارون الديقبي في ندوة المركز و أبرز المداخلات حولها

د هاون الديقبي : مراجعة القانون الجنائي و صياغة سياسة جنائية أي خيارات بالنسبة لموريتانيا

تحدث المحاضر عن فكرة الجزاء في بعده الفلسفي و في بعده الإسلامي
و أضاف أن فكرة الجزاء في الاسلام تقوم على أساسين فكرة الوقائي و النفعي
الفقهاء الجزاء الاخروي بالحساب و الجزاء الدنيوي بالعقوبة
كما قدم المحاضر مقارنة بين العقوبة و التعويض
في القانون الجنائي الموريتاني
راى المحاضر شرخا بين الاعتماد على القانون الفرنسي و صولا الى القانون المنشئ للقانون الجنائي الذي يعد البداية الفعلية للجزاءات و مع ذلك بقي معتمدا على القانون الفرنسي ، و التعديل الذي شمله هو تعديل طفيف جدا
ليصل الى ماسمي في مرحلة لاحقة أسلمة القانون الجنائي الموريتاني هي نتاج موجة التعديلات و لم تعمل هذه التعديلات كبير تغيير
و دخلت التعديلات على عدة مواد اخرها 2011 ، التي أضافت فقط الغرامة
صعوبة ادخال التعديل على القوانين الجنائية بسبب المنظومة الاجتماعية
و نطالب بالتعديل و ليس الالغاء بسبب تعدد المدارس المرجعية في المجتمع الموريتاني و التي منها المدرسة الدينية و أخرى معاكسة .
الاختلال على مستولى المصطلحات
لم يكن القانون بكل ما فيه من مصادر اسلامية اضاف فقط مصطلحات على مستوى تقسيم الجرائم ، تعرض لوجود عدة مواد في النسخة العربية لم تصدر في الجريدة الرسمية و بالتالي
القانون الموريتاني قسم الجرائم الى تقسيم اسلامي في نسخته الفرنسية ، و لكن عكس هذا مع اللغة العربية و هو ما ظهر جليا في الجمع بين المدرسة العقابية الاسلامية و المدرسة الوضعية .
القانون الجنائي يعالج الجريمة بعقوبة مختلطة خاصة انه يصدر الاحكام العاقبية و لكنه يعتمد على العقوبة السالبة المتعلقة بالغرامات و سلب الحرية
و المنظومة الجنائية تعاني الكثير من المشاكل خاصة في عقوبة التعزير ، و هذا الامر جد خطير بالنسبة للمحاضر خاصة لان الشريعة الاسلامية اعدمت في الحرابة و
و يظهر الخلل في العديد من الجرائم المشابهة المتعلقة بالعصابة (عصابة الاشرار ) ، و شملت هذه العقوبة العديد من المجالات
و الدية تمثل مشكلة خاصة من بعدد سؤال هل الدية عقوبة او تعويض ، و مع ذلك حولها المشرع الموريتاني الى عقوبة هو امر مربك قانونيا و تفسير لا يعتمد الشرعية الجزائية


في ما يخص المصطلحات القانون الجنائي الموريتاني قال المحاضر الذي تطرق الى مصطلحات من قبيل
السجن المؤبد و هذه ليست موجودة في المنظومة الجنائية الموريتانية و مع ذلك هي غير موجودة في المنظومة التشريعية ، غياب الامور المتعلقة بالاطفال حيث لم يحدد العقوبة الجنائية المتعلقة بالعقوق (سنتين) و النشوز الذي زيد عن سنتين
تعليق رئيس الجلسة
قدم مجموعة من الاعتراضات على ما قدمه المحاضر ، و قدم توضيحات حول مختلف القضايا التي تطرق لها د هارون الديقبي ، و اعتبر القانون الجنائي قانونا موضوعيا
و اعتبر التعازير حكم موكول للقاضي و اعتبر تصنيف العلماء مرجعية لهذا التعزير الذي يحكم به القاضي ،
و تحدث عن القانون الخاص بقانون الطفل الذي اصبح هو المرجعية

المداخلات
د, أحمد امبارك
تطوير القضاء يبدأ باعادة تكوين القاضي ، و النصوص و المعدات لا تفيد شيئا ما لم يتغير القاي نفسه الذي عليه ان يتمتع بأخلاق و قيم ، و الدليل على ذلك التعلاعب الكبير بالقضاء الظاهر في الرشاوي و غيرها ، و أركز على تكوين القاضي ، لترتكز مهمته على نفسه
المختار أحمد بادي ، مستشار في محكمة الحسابات
قدم ملاحظة حول الحبس الاحتياطي
لقد تطور هذا الامر بايجاد قاضي مختص في هذا النوع من الامور خاصة في فرنسا
القاضي ، أحمد ألبو رئيس محكمة السبخة
اعتبر المحاضر لم يترق الى الموضوع ، كان يجب التركيز على القانون الجنائي بصفة اشمل ، و هو ليس تلك المظومة التقليدية التي تطورت كثيرا ، القانون الجنائي هو قانون اصلاحي و ليس عقابي ، كيف نتعامل مع الجانحين و هل هناك سجون اصلاحية ، هل هناك مصحات نفسية من اجل علاج المدنين و غيرهم يجب ان تكون هذه القضية هي الضرورة حيث ان الواقع يتطلب اسئلة اكثر شمولا من نقاش الامور الدقيقة ، كيف تعامل القانون الجنائي مع القضايا الحديثة ، مثل “شبيكو” و غيرها من الظواهر التي
لمام ابراهيم امبيريك ، رئيس منظمة غير حكومية
ما هي اسباب و دوافع الجرائم و ما هي الحلول ؟
يجب العمل على الوقاية من الجريمة ، التي لا توجد الا بقيام دولة المؤسسات و هو ما يفرض استقلالية القاضي .
لذلك علينا الحد من عمليات التدخل في القضاء و التي تؤدي الى اطلاق سراح أغلب المجرمين و اصحاب الجرائم و هو ما يدفع بالعشرات الى الجريمة بسبب أن القضاة يحكمون بالهوى وليس بالقانون الموجود امامه
كيف يمكن التغلب على الصعوب التي يعاني منها القضاء ؟
ما هي الافاق و المستقبلية لوضعية العدالة في موريتاني؟
العيد ولد ولد أمليح ، من المجتمع المدني
طالب بضرورة تفريغ القضاء من الشحنة الاجتماعية و ان يكون الجميع بالتساوي امام القضاء ، و ان المحسوبية هي المؤثر السلبي في مسالة القضاء ، و بالتالي يجب تجنيب هذه المؤسسة مركزية النخبة الاجتماعية ، وان المطالبة بالحقوق ضرورية و الناس لن تقبل هذا بعد هذا اليوم لذلك ، و بالتالي يجب ان تبنى الوحدة الوطنية على التعليم و التشارك و الحصول على الفرص ، و طالب بالمصراحة قبل المصالحة كأساس للعدالة
باب أحمد عبد الله
قدم حو تعريف العدالة من مختلف القوانين و ، العدل اساس الملك و العمران ، شعار المسلمين اذا كمتم بين الناس احكموا بالعدل ،
يجب ان يتمتع القضاء بالحرية الكاملة و ان يكون مفصولا عن جميع السلطات و هي مهمة تمارس باستقلال بعيدا عن جميع السلطات
عبد الوهاب و لد أعمر ،
علق على المادة السابعة من القانون الجنائي الموريتاني ، ة اعتبر ان المشكلة التي تعاني منها هي غياب المتخصصين ، و رد أن عقوبات الاعدام و الرم هي عقوبات مثبة في الاسلام و التاريخ الاسلامي و أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم (ماعز) ، الرجم طبقا ايضا في عهد عمر بن الخطاب
و عدد اصناف الردة التي من بنها سب النبي ، و الذي عقوبته و قدم عدة أدلة من الكتاب و السنة على ساب النبي في قتل كعب بن الاشرف الذي سب النبي صلى الله عليه وسلم ،
د ,أسماء بنت عبد الرحمن
اذا خالت القاعدة القانونية من عنصر الجزاء تصبح عرفا
و القانون تالموريتاني يمارس الجزاء دون عدل و مشكلة القضاء الموريتاني و طالبت باستقالة القضاة في حال ممارسة أي ضغوط من الجهات التنفيذية
تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية ، و اعتبر ان السلطة التنفيذية هي مشرفة على اختيار القضاة و هو ما يجعل هذا مشكل ، و ان اشراف اللجنة الوطنية للمسابقات على مسابقة القضاة هو نوع من التدخل ،
هل عقوبة الاعدام طبقت عقوبة الاعدام و قانون تجريم الانقلابات
د , محمد محمود ديداه
ثمة عوائق دينية امام مراجعة القانون الجنائي
العائق الثاني اصبح قواعد عامة و تفرعت عنه العديد من المراجعات و اصبح القانون متقادماع على بعض الفروض,
و اعتبر ان الدية ليست عقوبة و انما تعويض
محمد المامي ولد مولاي اعل
ما هو المخرج القانوي و الشرعي و من تعطيل القانون المتعلق بالحدود في القانون الجنائي
ألا يمكن اعتبار الاكراهات و الالتزامات الدولية عام من اعوام الرمادة السيادية
انتشار الجرائم العنيفة و الناتجة من تعاطي الخدرات ، اضافة الى جرائم الاغتصاب و المجتمع المدني ينادي بتشديد العقوبات ، و القانو يعتبرها زنا اضافىة الى الاكراه
فهل من الاولى ان نجل الاغتصاب من جرائم الحرابة
عبد الله ولد محمدو
لا يمكن بناء الدول دون الاعتماد على عدة مجلات كالتعليم و القضاء باعتبار اساس التنمية و السلم و مجال الاعلام و الاتصال ، و نشر ثقافة القضاء و العدل و هو السبيل الوحيد لبناء القناعات
ضرورة وجود نقد باعتبار الكمال شيء مفقود في العمل البشري ،و اعتبر نفسه من ضحايا العدالة في هذه البلاد و تم سجني بدون بينة قضائية و تم اطلاق سراح بطريقة اكثر استغرابا ، و هذا يضع الكثير من الاستشكالات حول مسألة العدالة في موريتانيا ,
و يجب التأسي بالقضاء الاسلامي و ذلك لن يتم الا من خلا القضاة و الذين يتحملون المسؤولية
العدالة مجموعة الاجراءات المنصوص عليها في القانون بل هي نشر العدل و المظالم التي حدثت في البلاد من قبيل الفساد و العبودبة و المظالم العسكرية كيف يرد القضاء على هذه الاستشكلات
هل مهمة القاضي هي تحقيق العدالة او فقط تطبيق القانون ؟
د. ديدي و لد السالك
كيف استمر القانون الجنائي الى اليوم ، و الذي تم انتقاده من قبل كل الخبراء القانويين في موريتانيا ، و الذي لم يأتي في مناخ عادي بل كان مناخا عسكرا ، ثم ان موريتانيا موقعة على العديد من الاتفاقيات الدولية ، ثم ان مضمون القانون الجنائي قد اختفى بسبب التفريعات الكثيرة التي انبثقت عنه ؟
هل هناك في موريتانيا مسالة قضائية ، حيث ان مختلف المنازل تجد أن الشباب يتعاطى المخدرات و الازمة الان هي ازمة تسرب مدرسي ، حيث بات تعاطي المخدرات بات شيئا علنيا
كما ان السجون هي مدارس لتخريج المجرمين ، و العامل اصبحت فيه السجون مدارس لاصلاح الاجيال ، ادارة السجون
اميد ولد عبد الودود
كيف تقراون المشهد الان خاصة بسبب انتشار الجريمة ؟
ماهي المبررات الاستراتيجية لتعطيل العدود ؟ خاصة ان الشركاء للدول المطبقة للحدود لم تواجه مشاكل من الشركاء
لماذا نحن نسعى الى القطيعة مع التاريخ الاسلامي الموريتاني
الشيخ و لد اباه
يجب وضع القاضي في ظروف حسنة حتى يستطيع ان يتعامل مع القضاء ، و اعتبر وجود العدالة مرهون بوضعية القاضي
تعقيب من رئيس الجلسة
اعتبر تعطيل الحديد ، هو من جراء ظروف قائمة و مع ذلك لا يجب المطالبة بالغائها لاحتمال قيام الظروف المناسبة لتطبيقها
القوانين و ضعت لنيل الحقوق و مع ذلك هي تعيق الكثير من الحقوق بسبب طول المسطرة و بالتالي على القاضي ان يجمع بين الاثنين و ان كان القاضي غير مسموح له بالتوسع في التفسير .

مركز مبدأ ينظم ندوة حول واقع العدالة في موريتانيا

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية (مبدأ) ندوة علمية حول العدالة في موريتانيا الواقع و الافاق و تستمر هذه الندوة التي يحتضنها فندق موريسانتر لمدة يومين ,

الندوة  التي افتتحها الأمين العام لوزارة العدل و الأمين العام لوزارة الإعلام و الاتصال و العلاقات مع البرلمان و المجتمع المدني إضافة إلى ممثل مشروع دولة القانون الممول من الاتحاد الأوروبي ، ستشمل العديد من المحاضرات و النقاشات حول العدالة في موريتانيا

وقد شهد اليوم الأول من الندوة العديد من المحاضرات قدم أولاها الدكتور القاضي هارون الديقبي ، و التي ناقشت القانون الجنائي الموريتاني و كيفية و تحسينه ، في ما كانت المحاضرة الثانية حول المسطرة القضائية الموريتانية و مدى الاستقلالية

 

وقد اختتمت جميع المحاضرات بنقاش مفتوح أمام الحضور المكون من المختصين في القضاء من قضاة و محامون و عدول منفذين و موثقين إضافة إلى أعضاء من المجتمع المدني و الحركات الحقوقية في موريتانيا و جمع من الإعلاميين و المختصين في المجالات ذات العلاقة ,

و ستسمر المحاضرات لليوم الثاني من خلال جلستين تشمل كل منهما عدة محاضرات و نقاشات حول موضوع العدالة

 

 

 

موريتانيا ورحلة البحث عن الذات:بين ترسيم العربية والتمكين للفرنسية

 

محمد ولد سيد احمد فال – رئيس المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية (مبدأ)

 

 

تطرح قضية تغلغل (1) الثقافة الفرنسية في الجهاز الإداري الموريتاني إشكالية تتجاوز بعد اللغة لتطال حدود الهوية، ولقد عمل الاستخدام الاجتماعي والسياسي الحالي للمعرفة

 

الاستعمارية مجسدا في اللغة الفرنسية بالإدارة على توتير العلاقة بين الإنسان الموريتاني وذاته والمواطن ودولته والتأسيس لعلاقة قلقة مع الذات والتاريخ.

 

لقد استعانت الدولة الوطنية في نشأتها أساسا بالمترجمين وعمال الإدارة الفرنسية على قيادة دفة البلاد الجديدة المنبثقة وسط مجتمع تقليدي، وارتبطت الحظوة المعرفية بمدى القرب من المرجعية الفكرية للفرنسيين وتملك الرؤية الثقافية للمستعمر ودرجت الأدبيات الإدارية للفرنسيين على اعتبار علماء الدين الموريتانيين الأجلاء أميين لعدم تحدثهم الفرنسية.

 

ولم تتمكن الدولة الناشئة من تحقيق القطيعة المطلوبة بين الماضي الاستعماري والحاضر المستقل فبات ينظر إليها كصنيعة استعمارية لتولي المقربين للثقافة الفرنسية زمام قيادتها، وظلت الفرنسية لغة الإدارة بامتياز مع أنها لم تتسلل إلى المحيط الشعبي الذي تغريه الوضعية الاقتصادية وغياب الإرث الدولتي للبلد بالإبقاء على قليل صلة بالإدارة.

ولقد شهد مسار التخلص من عقدة اللغة الفرنسية احتكاكات متعددة اكتسى بعضها لبوسا وطنيا في أحداث 1966 وثوريا في قرارات 1973*، وظلت المحاولات المتقطعة للتنصل والانسلاخ من الماضي الثقيل محكومة بسياق اقتصادي ضاغط وتاريخ ملح يقترب من الحاضر.

وعلي الرغم من انقضاء أزيد من نصف قرن على استقلال البلاد فان التوجهات التحررية تجلت أساسا في قرارات ظرفية أو إعلانات مبدئية لا تجد تجذيرا لها في الواقع بفعل العلاقة التاريخية المستبدة مستعمِر/مستعمَر و إكراهات الأنماط المقولبة التي تلصق أحيانا بالعربية من عجز عن مواكبة التطورات وعزلة في السياق .

ويحس المعربون العزلة في وطنهم من حيث فرص النفاذ إلى الوظيفة العمومية والترقي في الجهاز الإداري وسط نصوص نظرية تحتضنهم وواقع عملي يلفظهم في ما يجسد حقيقة الانفصام القائم بين النظرية والتطبيق.

 

وعلى الرغم من أن قضية التعريب باتت محسومة من الناحية الدستورية باعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية، فإن الإدارة الموريتانية ما زالت عصية على التعريب بإرادة من بعض السياسيين الموريتانيين ودعم من الفرنسيين وفي غياب كامل لأي مبادرة من شأنها ضمان تجاوز الوضع الراهن.

 

وتأسيسا على ملاحظة انسلاخ النصوص القانونية من محيطها وسعيا إلى ضمان التصالح مع الذات بالترسيم الفعلي للعربية، تستمد التساؤلات التالية وجاهتها وتؤسس لمشروعيتها: هل تكفي الآليات التنظيرية لتمكين الموريتاني من التصالح مع ذاته بتطبيق الترسيم الفعلي للغة العربية وتمكين المعربين من تجاوز عقدة تفوق المعرفة الاستعمارية؟ ما تجليات تلك العقدة وإلى أي حد ساهم النظام الرسمي في تجذيرها بالفعل أو بغياب الفعل؟ وما الآليات الكفيلة بالتخلص من الشعور المستبد بالدونية لدى المعربين تبعا لمساءلة النظام الإداري المعمول به وأملا في تعزيز الآليات الذاتية والموضوعية.

 

تأصيل:

” ظهر إسم موريتانيا لأول مرة في وثيقة للوزارة الكولونيالية الفرنسية في دجمبر 1899 وذلك أثناء تشييد المستعمر الفرنسي لقواعده في السنغال(2)، وقد عرفت هذه

المنطقة عدة مسميات اعتمد بعضها على معايير غير جغرافية لتحديد فضائها الجغرافي مثل العناصر الثقافية وأسلوب الحياة، ومن هذه المسميات : بلاد شنقيط ، أرض

الملثمين ، بلاد السيبة ، المنكب البرزخي ، بلاد التكرور ،أرض الرجال.

 

وتبعا لتعدد زوايا الرؤية والعصور تعددت زوايا معالجة الموضوع من قبل الباحثين بحساب مدى إيلاء الاهتمام حال التعريف للعناصر الثقافية أو السكانية أو السلطوية،

وفي هذا السياق اعتمد المؤرخ الموريتاني المختار ولد حامدن(3) على اللغة والعادات والتقاليد والتاريخ لتحديد وحدة المنطقة التاريخية والبشرية.

 

و اعتمد الباحث الانجليزي نوريس (Norris) على الخصائص اللغوية والأدبية باعتبارها المميزات الأساسية للشناقطة.

 

أما تيودور مونو(T. Monod)الذي وضع خريطة للمجموعات الثقافية بالصحراء الكبرى فقد انطلق من تنوع وأشكال رحل الجمل وخلص إلى أن ميزات الشناقطة يصعب تحديد أصولها كما عمد باحثون آخرون إلى معيار اللهجة الحسا نية لتحديد المجال الجغرافي.

 

وعلى المستوى الإداري لم تعرف المنطقة قيام سلطة مركزية توحد كل أطرافها وسكانها المتصلين في أرجائها كما لم تخضع لحكم سلالة بشرية أو ثقافية أو حضارية واحدة.

ومنذ قيام دولة المرابطين في القرن الخامس الهجرى (426 – 441 هـ) ظلت المنطقة بدون سلطان مركزي قبل أن يخضعها الفرنسيون لاستعمارهم بداية القرن الـ20.

 

“ومع ذلك فقد ظل التاريخ السياسي القريب لموريتانيا وثيق الصلة بالتحولات الكبرى التي مرت بها المنطقة الشمالية لإفريقيا، رغم ما يميزه من سمات خصوصية أبرزها دينامية نشوء الكيان السياسي الموريتاني في ظرفية تحكمها إحداثيات زمانية ومكانية تنضح بمؤشرات وضع داخلي متأزم و إرادة استعمارية مترددة وحركية استقطاب إقليمي مزدوج”(4)

 

و كان من الواضح كما تبين الأدبيات الاستعمارية ضرورة وجود منطقة عازلة بين الفضائين العربي المتوسطي والإفريقي للحد من المد الديني والثقافي العربي في تلك الربوع منذ ظهور الدولة المرابطية4، وهو ما سيؤثر لا حقا على المعطي الثقافي بالمنطقة بما فيه مكانة العربية ودورها في تشكل الذات والهوية بموريتانيا.

“وتتشكل الساكنة من أغلبية عربية وأقليات زنجية من مجموعات البولار السنونكية والوولف يدينون جميعهم بالإسلام” وشكلت مدارسهم حصنا كبيرا لمقاومة الاختراق الثقافي الغربي وساهم فقهاؤهم في نشر الدين الإسلامي والتمكين للثقافة العربية بإفريقيا.

 

إن إكراهات النشأة وتنازع النخبة حول هوية الانتماء وحتي مشروعية وجود الكيان الجديد ولدت تذبذبا مشهودا لدي النخبة السياسية الوطنية الحاكمة في رسم المشروع الوطني للدولة الجديدة وتحديد هويتها الثقافية وعلاقتها بالمحيط الإقليمي.

 

إلا أننا نلمس بصفة جلية في الخطاب السياسي للرئيس الأول المختار ولد داداه وعيا متزايدا بهذه الإشكالية ضمن مشروع بناء “الأمة الموريتانية””إننا أمة تنشأ6، ولدينا الوعي بذلك، فلنبن الأمة الموريتانية،إن موريتانيا هي بالفعل جسر طبيعي وهمزة وصل بين العالم العربي المتوسطي والعالم الإفريقي الأسود”……مع ذلك فهو لا يريد القطيعة مع فرنسا في نفس اللحظات ويشدد على ضرورة الحفاظ على علاقة قوية معها إنه باختصار يدرك كل الأبعاد والتحديات المحيطة به التي تهدد هوية الكيان الناشئ ووحدة ذاته.

 

إن استقراء تاريخ ونشأة وتطور الدولة الوطنية يعكس بجلاء حقيقة أن إحدى سمات الإشكالية الكبرى التي طرحت على مسار تكوين الكيان السياسي الموريتاني المستقل كانت مسألة الهوية الثقافية السياسية للبلد.

 

و على الرغم من تجلي الانتماء العربي وعراقه هذا الانتماء إلا أن المشروع الاستعماري الفرنسي مافتئ يعمل على طمس هوية البلد من خلال سياساته الثقافية والترتيبات الاندماجية الإقليمية.

 

ولقد شكلت الورقة الثقافية إحدى أبرز تجليات الصراع السياسي الداخلي بين المجموعات الموريتانية المختلفة ،فركز التيار القومي العربي ، الذي ترجع جذوره الأولى إلى بوادر نشوء الحركة الوطنية ،على المطالبة بانتهاج التعريب الشامل في مجالات الثقافة والإدارة والأشغال وهو ما سيترتب عليه الأخذ بمبدأ ترسيخ اللغة العربية الذي تبناه مؤتمر حزب الشعب الحاكم المنعقد 1966م الأمر الذي مهد لإرساء إصلاح تربوي يقضي بإلزامية وترسيم اللغة العربية في المدارس الحكومية.

 

وقد أفضى القرار مع ما يحمله من إرادة في التصالح مع الذات، ولو بالتقسيط،إلى أزمة داخلية عنيفة تمثلت في احتجاج مجموعة تضم تسعة عشر إطارا تنتمي إلى الأقليات الزنجية حيث اعتبرت أن هذا القرار بادرة “للتحكم السلطوي ” ولممارسة هيمنة عرقية وفرض الاستلاب الثقافي على الأقليات ثم تحول الاحتجاج إلي صدامات عنيفة ذهب ضحيتها بعض القتلى والجرحى من الجانبين ورغم احتواء الأزمة بسرعة إلا أنها خلفت جروحا عميقة ستمتد أثارها غضة في المراحل التالية وبالرغم من تكرير الانتماء المزدوج

 

الموريتاني عبر مقولة الأمة المندمجة الغنية بتعددها واختلاف مكوناتها فان كل تلك التأكيدات والخطوات لم توفق عمليا في حسم إشكالية الهوية ومكانة اللغة العربية .

 

غير أن خط التعريب وتركيز الهوية العربية للبلد قطع خطوات ملموسة بعد انضمام موريتانيا إلي الجامعة العربية عام 1973 واعتماد سياسة الاستقلال الثقافي (7) وتدعيم الأصالة التي أدت في ما بعد إلي الإصلاحات التعليمية وتكريس اللغة العربية كلغة عمل و إدارة بعدما كانت الفرنسية لغة العمل بموجب الدستور.

 

ثم ظهرت في ما بعد حركات قومية (8)(عربية الناصريون البعثيون حركة اللجان الثورية ) التي سعت إلى توطيد المكسب وإذكاء البعد العربي في البلاد.

ا

لحسم المؤجل:

لم تحظ إشكالية الهوية وتوابعها بمكانة متقدمة ضمن أولويات الحكام الموريتانيين منذ ظهور الدولة الوطنية وباتت تثار أساسا وفق ردات فعل طارئة أو ردا على

مستجد ضاغط ، وظلت البلاد محكومة في الجانب النظري باللغة العربية لغة رسمية وفي الجانب التطبيقي باللغة الفرنسية لغة عمل.

 

ولقد تسببت المراوحة بين تسييس النظام التربوي تعريبا وفرنسة في خلق جيلين متغايرين يسكنان الأرض ذاتها ويتكلم بعضهم لغات لا تمت إليها ولئن كان من الإنصاف الاعتراف بأن الخطأ لا يتحمله صغار القوميتين الذين كانوا ضحية نظام تربوي غير متوازن فإن الخطيئة تعود بالأساس إلى غياب الوعي الكافي لدى النخب الحاكمة بضرورة إيجاد حسم نهائي لإشكال الهوية وبمتطلبات التمكين للغة العربية وفاء للدستور و للتاريخ و للحاضر والمستقبل.

 

وفي ظل الانفصام الحاصل بين النظرية والتطبيق باتت المخرجات التربوية بعيدة كل البعد عن متطلبات السوق وعملت المؤسسات التعليمة على تخريج أجيال عاجزة تحمل شهادات غير مطلوبة وخبرات ناقصة وظلت السوق مغلقة أمام المعربين ومفتوحة أمام أقلية تتحدث باللغة الفرنسية تجد ذاتها أكثر حظوة في النفاذ إلى المراتب الإدارية وأقل شعورا بضرورات التصالح مع مكونات الذاتية الثقافية للبلد.

 

وفي كل عقدين تقريبا كانت الأحداث البسيطة والحوادث العرضية تنذر بانفجار و انشقاق اجتماعي شعاره اللغة ومن ورائه الهوية وكأن الدولة التي ينبغي أن تتفرغ لمعارك التنمية لم تحسم بعد أولوياتها في خيار الهوية بل باتت تؤجل في كل مرة الحسم أو تعمد إلى الطرق على أبواب مفتوحة حسم فيها الدستور منذ ظهور الدولة الوطنية وبات التجسيد العملي يعوزه تطبيق النصوص القانونية.

 

وفي عامنا هذا تكررت الأحداث ذاتها بعد تصريحات لمسؤولين حكوميين عن مكانة اللغة وعادت إشكالية اللغة من جديد بقوة بعد تبادل للاتهامات بشأن سعي بعض الأطراف بتصريحاته الهادفة إلى التعريب وتخوف بعض الطلبة الزنوج من فرض إلزامية التعريب بما يترتب على ذلك من إقصاء ممنهج من سوق العمل.

 

وانبرى القوميون من الفئتين مشجعين أو مستهجنين للقرارات الجديدة وفي كل الحالات تغيب المعالجة العقلانية ويطغي الطابع الاستعراضي الذي لا يسعي لمناقشة كنه الموضوع بقدر ما يهدف إلى الالتفاف عليه بالأساس أو كسب معركة إعلامية تتجدد كل سنتين ويكتفي أصحابها بالتمترس وراء عبارات القهر والإقصاء من جهة أو الانغلاق والعمالة من جهة أخرى.

 

تجليات مفارقة:

تعيش موريتانيا تناقضا صارخا بين الجانب النظري القاضي بترسيم العربية وفق مقتضيات الدستور وبين الجانب التطبيقي في الترسيم الفعلي للفرنسية.

 

وتكشف المتابعة الميدانية للحضور الفعلي و القيمي لهذه المعاناة في واقع التداول اليومي والأمثال الشعبية وللتندر والتنكيت ولم تتمكن الدولة الوطنية في مسارها الاستقلالي من التملص من هذه المفارقة في تصوراتها أو ممارساتها فاستسلمت لواقع ضاغط ولم تتملك الشجاعة اللازمة لبدء خطوة الترسيم الفعلي للعربية.

 

حتى رواد الإصلاحات التربوية الموريتانيين كانوا يرسلون أبناءهم صباحا إلى المراكز الفرنسية لتلقي الدروس وينعشون المحاضرات مساء حول واجب التعريب، كل ذلك إيمانا بأن المستقبل الوظيفي يفرض التعاطي بالفرنسية وتشكيكا بقدرة اللغة العربية على المواكبة أو المنافسة والتي لم تعد تطعم خبزا ولا تفتح آفاق عمل بالمفهوم البراغماتي الخالص.

 

لقد ساهمت عوامل متعددة في تعزيز هذا الحضور الدائم للفرنسية والإبقاء على اللغة العربية خارج التداول اليومي ومن بينها الارتباط التاريخي العلائقي مستعمر مستعمر وندرة العنصر البشري المتخصص في المجالات الفنية عند تأسيس الدولة وعدم مواكبة النظام التعليمي لمقتضيات التعريب وحرص النخب الجديدة في الدولة على الظهور بمظهر المنفتح الحداثي.

 

وظلت النظرة الممتهنة لخريجي اللغة العربية في المرفق العمومي من أكبر تجذرات التفرنس بالإدارة الموريتانية ومع هذه تجذر الظاهرة لم يعد تملك الإرادة السياسية لوحده كافيا للقضاء عليها ولا إعلانات الشرف أو المبادئ ما لم تتنزل ضمن مسار عام شجاع وجريء غايته التطابق مع القوانين المنظمة والتصالح مع ذاتية الشعب المسلوبة دون خوف ولا تسييس بتكريس التطبيق الفعلي للغة العربية لغة للادارة الموريتانية.

 

إن الاختيار، و الحسم بالنسبة للعربية في الواقع نظري، لأنه ليس اختيارا سياسيا وإنما هو حسم حضاري ووجداني. لا أحد يمكنه أن يتجرأ إلى حد أن يدوس تراكم القرون ويحرم ويسب الأجيال القادمة. الاختيار الوحيد الممكن والمعقول، بالنسبة لنظام جديد نابع من اختيار الشعب، هو إعطاء المشاكل الأساسية المعطلة حلولها وتحقيق ما عجزت أو امتنعت عنه الأحكام محل الجدل في جميع مناحي الحياة العامة، انسجاما وتطبيقا لتطلعات أغلبية المواطنين.

 

ويربط العديد من الباحثين الموريتانيين بين واجب الدولة في حماية حدودها وواجبها في الدفاع عن مقدساتها الثقافية.

 

“إذا كان واجب الدول أن تدافع، لكي تستحق اسمها وشرعيتها، عن حوزتها الترابية والوجود المادي لسكانها، فإن عليها أيضا بنفس الإلحاح أن تدافع عن روح شعبها،

الكائن المعنوي والاجتماعي، أي الخصوصية والتميز الثقافيين.

 

إن الشعب مستقل عن المجال الجغرافي، إنه موجود كتأكيد هوية وانسجام مجموعة مترتبة حول قيم معنوية واجتماعية. إن أي شعب يؤكد وجوده المستقل ويشارك بفعالية في التعددية المنتجة للتقدم بدفاعه عن خصوصيته.

 

إن الشعوب الصغيرة في العالم المتخلف مهددة في كينونتها بخطر الغرق في الفضلات الطاغية للثقافة الغربية. إن فرض ثقافة أجنبية ومكافحة الثقافة الوطنية، بمشاركة الأقوياء، يهدد بإيصالنا إلى حال اللاعودة: وضعية الاستلاب وقطع الجذور”(9)

 

ولا يعدم الباحثون تقديم أمثلة الذوبان الحضاري للشعوب المستلبة وكيف انقرضت روحيا وقيميا وهي موجودة.

 

إننا نعرف مصير حضارات الهنود الحمر، قبل الكولومبية. هذه الحضارات اللامعة انهارت بسبب الهجوم الشرس عليها من قبل الأوربيين. إن الهنود الحمر بعد فقدان ثقافتهم فقدوا توازنهم، بعد السيطرة عليهم واستلام الكنيسة المسيحية لهم وتعاملها معهم كأطفال، إنهم قد فقدوا كل طعم وكل ذوق للحياة وعاشوا في بؤس معنوي تعس. إنهم لم يعودوا يستوعبوا أي شييء، ويتصرفون فقط كالآلات وفقدوا الذاكرة المباشرة. نتذكر الحادثة الشهيرة المثيرة للشفقة: كانت الكنيسة تدق الجرس عند منتصف الليل لتذكرهم بالواجب الزوجي، لأنهم إذا تركوا لمبادرتهم الخاصة حتى ذلك لن يطرق لهم بالا.

 

ويربط العديد من الموريتانيين بين بقاء الكيان الموريتاني بمدى محافظته على لغته العربية.

 

إن الحفاظ على الروح والثقافة الوطنية يمر بالحفاظ والدفاع عن اللغة العربية. إذا بقيت اللغة العربية في هامشيتها، محاربة على النسق الحالي، مع مباركة الدولة، فإن مصير موريتانيا قد ختم: شعب مسلوب سيفقد كل صواب ومعنى في الحياة وكل رجاء في المستقبل.

 

في ما يخص اللغة العربية يبدو أن هناك أحكاما مسبقة وعقد خارجة عن الزمن والعقل يصعب، موضوعيا، استيعابها.

 

إنه أصبح الآن من المتعارف عليه عند المربين والمفكرين أن أي شعب لا يمكن له أن يتفتق ويصل إلى النمو بدون لغته الخاصة. إن أمثلة اليابان والصين وفيتنام وماليزيا تبرهن بشكل رائع على دور اللغة الوطنية في التقدم والتطور، أمامنا إذا: إما مثل اليابان و الصين وماليزيا وإما نماذج هايتي و قوادلوبه. فلنختر بينها.

معارضون:

كلما أثيرت قضية اللغة العربية في موريتانيا يراهن الطرح التغريبي على رفع لافتة الفرنسية كعنصر محدد للأقليات الإفريقية متناسين إسهامات المجموعات الموريتانية الإفريقية في مقاومة الغزو الاستعماري واختراق اللغة الفرنسية وتحول قراها إلى قلاع حقيقية لمقاومة الثقافة الاستعمارية (10) .

 

تعددت مبررات رفض التعريب العملي من قبل النخبة المستغربة و كانت اليافطات التي يحملها معارضو التعريب هي أن التعريب سيتسبب في فقدان العشرات لوظائفهم وفي غلق الإدارة أمام الطلبة الجدد المفرنسين متناسين أن التمكين للفرنسية تسبب في تعطيل الآلاف المعربين الذين لم تفتح الإدارة أمامهم أصلا وتعمل المنظومة التربوية سنويا على تخريج المئات منهم ليزيدوا معدل البطالة.

 

وعادوا مجددا إلى تكرار سيمفونية الإقصاء والقهر الثقافي للأقليات بينما يعني تطبيق الفعلي لترسيم العربية وجوبا خلق الوعي بالذاتية الثقافية السليبة بمكوناتها المتعددة وإسهاماتها في إغناء التاريخ المشترك للبلد المتنوع.

 

وكثيرا ما لا تطرح بالنسبة للنخبة المستغربة إشكالية تطوير اللغات المحلية بإلحاح و إنما فقط متطلبات الحفاظ على الفرنسية مشجبا للتصدي للتصالح مع التاريخ والهوية الوطنية في تغافل تام عن بديهة أن الفرنسية دخيلة بالنسبة للمعربين و بالنسبة للأفارقة أيضا وهي لغة أجنبية لا يعني متطلب الانفتاح عليها ضرورة التمكين لها على حساب اللغات الوطنية.

معركة الهوية : مخاطر التسييس والانغلاق

إن واجب الترسيم الفعلي للغة العربية بموريتانيا لغة إدارة وعمل وكجزء حاسم من التعاطي مع إشكالات الهوية باتت تطرح بإلحاح وفي ظل تجذر الخرق يبدو الخروج عليه نوعا من العبثية مؤلم ولكنه مطلوب. وتبدو واجبات النخبة أكثر تأكيدا في الاضطلاع بدورها في هذا السياق.

 

إن قضية التمكين للعربية يتعين انتزاعها من لوثة التسييس الذي أضر كثيرا بالنظرة إلى العربية وبات بعض ينظر إليها لغة يعني تعميمها قهر الأقليات مع أن هذه الأقليات لم تعرف يوما قبل الاستعمار إلا العربية لغة علم وعمل حتى ولو راهنت بعض نخبها المغربة على التعلق بجدار سميك من الدفاع عن الفرنسية لا دفاعا عن اللغات الوطنية بل سعيا خالصا للحؤول دون التمكين للعربية.

 

وكثيرا ما عانت إشكالية اللغة من التوظيف السياسي في موريتانيا مع أن الإشكال في هذا الصدد هو إشكال قانوني بامتياز، وفي حالات عديدة تتهدد الاعتزاز بالهوية مخاطر الإقصاء للآخر والانغلاق على الذات وقد أخطا الكثير من المدافعين عن اللغة العربية في موريتانيا وباتت أطروحاتهم تشي بقدر من الانغلاقية والفوقية بل والعدائية حيال اللغات الاخري وحيال الانفتاح وأساءوا للطرح بقدر ما أساء المتنكرون لأحقيتها.

 

إن تكريس العربية بهذا المفهوم العملي والقانوني يحمل في حد ذاته تطويرا للغات الوطنية لأن العملية تعني بالأساس وفاء المجموعة الوطنية لقيمها الذاتية التي تشكل ضمانة استمرارها وخشبة خلاصها من كل سلب واستلاب حضاري، ومن هذا المنظور قد يفهم تلقائيا أن أية عملية استعادة وتثمين للهوية الثقافية تشمل وجوبا تعزيز المكونات الثقافية الأخرى من بولارية و سوننكية ولفية و ويتم النظر إلى التمكين للغة العربية كجزء من مسار تصالح مع المكونات الذاتية بما فيها اللغات الوطنية

.

ولا إشكال في ضرورات التعايش بين اللغات وواجب التطوير المستمر للغات الوطنية التي تم في الثمانينات تأسيس معهد لتطويرها إلا أن طبيعة الأداتية والتسييس وفق المقاربات التي كانت طاغية حالت دون استدامته وإعطائه الزخم المناسب والدور المطلوب.

ما العمل؟ آليات التصالح مع الذات والقانون

إن المفارقة التي كانت محل مساءلة طيلة الصفحات السابقة تقتضي التسلح بالشجاعة اللازمة والوفاء للمطلب الجماهيري الملح والواجب الدستوري من قبل السلطات الموريتانية بالعمل على التمكين للعربية في محيطها الطبيعي.

 

غير أن المقاربة الشاملة تستدعي في البدء تخليص العملية من كل شوائب الاقصائية و الاستلاب والسياسوية ومباشرة الاجرءات التي بدونها تتحول عملية تكريس التعريب من محطة متدرجة ضمن محطات استعادة هوية أمة بما فيها تطوير اللغات الوطنية إلى مجرد سيطرة مكونة على أخرى مما يضر طابع التناغم والتكامل بين هذه المكونات.

 

من هذه الإجراءات:

– العمل على تكريس التصالح مع المقتضيات القانونية بترسيم اللغة العربية فعلا لا قولا لا سيما في الإدارات؛

– مراجعة النظام التربوي بما يكفل المزيد من الاهتمام بالعربية وضمان التواصل بين الأجيال المختلفة (الشعب الواحد باللغة الواحدة)

– تطوير اللغات الوطنية بإعادة افتتاح المعهد الوطني لتعليم اللغات وتأهيله و تشجيع المراكز والبحوث حول التاريخ الوطني في تعدده البناء وثرائه المشهود؛

– تكريس سياسة تعليمية منفتحة تجعل من تعلم اللغات الأجنبية أولويتها دون إحلالها المكانة الرسمية؛

– تشجيع الاندماج المجتمعي وتعزيز أبعاد التنوع؛

– تدعيم البحوث حول الهوية الوطنية ومناقشة أبعادها دون طابوهات ولا تسييس.

 

 

 

—————————————–

1- يمكن الرجوع إلى كتاب التوغل في موريتانيا،تأليف الرائد جيليى،ترجمة محمد ولد حمينا.

2- الهوية والانتماء في المجتمع الموريتاني،د/الشيح أحمد الجيلاني،دار يوسف بن تاشفين،ص176

3- حياة موريتانيا- التاريخ السياسي،المختار ولد حامدن،دار الغرب الإسلامي،الطبعة الأولى

4- السيد ولد اباه،موريتانيا الثقافة والدولة والمجتمع/مركز دراسات الوحدة،ص112.

5- تاريخ موريتانيا،العناصر الأساسية،د/حماه الله ولد السالم،مطبعة النجاح الجديدة،الدار البيضاء2007، ص 42.

6- المختار ولد داداه/موريتانيا على درب التحديات،دار النشر كارتالا باريس 2006 ص،149.6

7- يمكن التوسع في مقولة الاستقلال الثقافي وعلاقته بالهوية في كتاب المجتمع السياسي فيليب بيرو،ترجمة محمد عرب صاصيلا،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،الدار البيضاء،ص113.7

8- انظر كتاب موريتانيا المعاصرة/شهادات ووثائق/سيد اعمر ولد سيخنا،دار الفكر،نواكشوط،ص158

9- محمد يحظيه ولد ابريد الليل/ورقة مقدمة إلى الندوة التي نظمها منتدى الفكر والحوار حول الديمقراطية،2007في نواكشوط.

10- أنظر تاريخ قبائل البيظان/عرب الصحراء،تأليف الشيخ موسى كامرا،تحقيق حماه الله ولد السالم،دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،ص11

 

 

 

 

______________________________

 

البيبليو غرافيا

1) موريتانيا في الذاكرة العربية/د حماه الله ولد السالم/الطبعة الأولى /مركز البحوث والدراسات العربية/بيروت/لبنان2005 – مركز دراسات الوحدة العربية /ط الاولى/بيروت لبنان/2005

2) السياق والأنساق في الثقافة الموريتانية/محمد ولد عبدى/دار نينوى للنشر /سورية/دمشق2009

3) الامارات والنظام الاميرى الموريتاني/د محمد المختار ولد السعد/الطبعة الأولى/ نوفمبر2007

4) المجتمع البيضانى فى القرن التاسع عشر/محمد ولد محمدن/منشورات معهد الدراسات الافريقية2001

5) تاريخ موريتانيا العناصر الأساسية/د حماه الله/مطبعة النجاح الجديدة/الدار البيضاء/2007

6) الفتاوى والتاريخ/محمد المختار ولد السعد/دار الغرب الاسلامى/الطبعة الاولى2000

7) موريتانيا المعاصرة/سيد أعمر ولد شيخنا/دار الفكر/نواكشوط موريتانيا2010-

8) موريتانيا على درب التحديات/المختار ولد داداه /كارتالا/باريس2006

9) صحراء الملثمين /د النانى ولد الحسين/ دار المدار الاسلامى /البعة الاولى /2007

10) حياة موريتانيا/التاريخ السياسي/المختار ولد حامد/دار الغرب الاسلامى/الطبعة الاولى/2000

11) قبايل البيضان عرب الصحراء الكبرى /الشيخ موسى كمرا/تحقيق د حماه الله ولد السالم/دار الكتاب العلمية /الطبعة الأولى/2009

12) الفقه والمجتمع والسلطة /يحي ولد البراء /المعهد الموريتاني للبحث العلمي.

13) الزوايا فى بلاد شنقيط في مواجهة الاستعمار ايزيد بيه ولد محمد محمود/المطبعة الوطنية/الطبعة الثانية 2003

14) التوغل الاستعماري في موريتانيا/الرائد جلييه/ترجمة محمدو ولد حمينا/الطبعة الأولى /دار الضياء /2007

15) موريتانيا الثقافة والدولة والمجتمع/مجموعة باحثين /مركز دراسات الوحدة العرب

16) Tribus ethnies et pouvoir en mauritanie \Philip marchesin\Editions KARTHALA paris