19 أبريل، 2024، والساعة الآن 8:42 صباحًا بتوقيت نواكشوط
Google search engine

الإسلاموية: الطريق إلى مراقي السلطة المميتة

مركز مبدأ – “الإسلام هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه، وقيادته وسلطانه وشرائعه، والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المؤمنة، التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع”

سيد قطب من كتاب في ظلال القرآن.

حين كان القيادي في الجماعة الإسلامية عاصم عبد الماجد يهتف في جموع الإسلاميين الغاضبين من فوق منصة ميدان رابعة العدوية عقب انقلاب 3 يوليو، بأن الأسطول السادس الأمريكي سيتحرك ضد الجيش المصري وسيجبره على إعادة د/محمد مرسي (الرئيس الإسلامي الذي خلعه الجيش بدعم من مظاهرات حاشدة) إلى الحكم، لتهتف الجموع خلفه بابتهاج: “الله أكبر” -لم يكن يعطي الإعلام المؤيد لانقلاب الجيش فرصةً للاستدلال على أن الإسلام السياسي “عميل لأمريكا” ويطالبها صراحةً للتدخل العسكري من أجل إعادته إلى السلطة فحسب، بل كان بذلك يعلن انقلاباً جذرياً على السبب الحاسم في تشكّل الإسلام السياسي كرد سياسي وثقافي على الاختراق الاستعماري للمجتمعات الإسلامية، فـ”الهوية الإسلامية تأسست كمركز لمقاومة الاستعمار في (أواخر) القرن التاسع عشر، وتأثيرات الحداثة بمختلف مراحلها”(1).

 

وإذا كانت الحركات اليسارية والقومية التي عرفها العالم العربي اعتبرت أن قضيتها المركزية هي الاستقلال السياسي والاقتصادي عن الاستعمار مع تبني الفلسفة والأطر السياسية الغربية في سبيل ذلك، فالفاعلية السياسية والاجتماعية والإيديولوجية للإسلاموية انبنت، كما أحاول التوضيح هنا، على ضرورة القضاء على الاستعمار ورواسبه الثقافية الممثلة في العلمانية، وضرورة التصدي للغزو الثقافي للمجتمعات المسلمة ومواجهة التغريب بالأسلمة.

 

يقول فرانسوا بورجا، “إذا كنا نريد التوصل إلى فحوى ظاهرة الإسلام السياسي، فعلينا أن نبحث عن أصلها في العلاقة الجدلية بين الاستعمار والقضاء عليه بدلاً من أن نحصر تحليلنا في إطار ما يٌفترض أنه عودة عالمية لأهمية عنصر الدين” (2) ولا شك أن مهمةً من هذا النوع ستتطلب فهمًا ديناميكياً للتطورات التي لحقت بالظاهرة الإسلامية (يقتصر الحديث هنا عن الإسلاموية في مصر) بعيداً عن النظرة السكونية وغير التاريخية، وكذلك التركيز في آن معاً على الفعل والممارسة والأفكار والإيديولوجيا، وذلك على الضد من المنظور التشميلي الذي يميل لرؤية جماعات شديدة التباين من منظور لا تاريخي ولا سياسي وبلا سياق (والنزع من السياق هي الآلية المثالية للتعميم) وبالتالي سنكون مضطرين إلى تجاوز التأمل الفلسفي إلى التحليل التاريخي الذي يأخذ في اعتباره العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 

 

 

تحديث الإسلام لمواجهة الحداثة: ما تيسر من السلفية الأولى

 

يحدد الباحث الإيراني بهروز غماري تبريزي 4 فترات مميزة في بناء الردود الإسلامية على الحداثة الأوروبية، وهي 1-الاختراق الاستعماري للمجتمعات الإسلامية واتجاه جمال الدين الأفغاني المعادي له، على أسس سلفية، في أواخر القرن التاسع عشر. 2-انهيار الدولة العثمانية وصعود حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن أفندي البنا. 3-إقامة باكستان وتأسيس مفهوم “الدولة الإسلامية” أو الحاكمية الإلهية عند أبي الأعلى المودودي. 4-تثوير مشروع الإخوان المسلمين (الإصلاحي) على يد الأديب سيد قطب (3).

 

كانت الحركة السلفية التي قادها جمال الدين الأفغاني (1838-1897) ومن بعده المصلح المصري محمد عبده (1849-1905) تروم الرد على أسطورة “المعجزة الأوروبية” القائمة على فكرة أن أوروبا في الأصل تقدمية على نحو فريد(4) وأصبح مفهوم التقدم ضمن هذه الأسطورة معياراً أوروبياً اٌعتبرت بواسطته الديناميكيات التاريخية للعالم غير الأوروبي محض انحراف، وتحوَّل غير الغربي وفقاً للمعيارية الأوروبية إلى “ما قبل الحديث” ومن ثمّ كان التحديث يعني ضمناً التغريب، فردت مدرسة الإحياء الإسلامي بإيديولوجيا مضادة تعتبر أن التقدم ملمح فريد من ملامح الإسلام، وأن أوروبا حاكت النهضة الإسلامية في العصور الوسطى.

 

كان الأفغاني العالم المسلم الرائد يعي بدقة الفرق بين التحديث والتغريب، وكان رفضه للتماهي مع التغريب أرضية مناسبة ومٌحصنة لانتقاد العلماء التقليديين الذين ساووا بين الحداثة والتغريب أو تبنوا مقلوب النزعة المركزية الأوروبية (التي ترى التقدم حكراً على الرجل الأبيض) إسلامياً، وذلك على عكس الذين انخرطوا مبكراً في السياق التغريبي الذين كانوا موضع انتقاد من مواطنيهم وليسوا أهلاً، حينذاك، لإسداء النصح والتوجيه؛ فقد كانت نظرية الأفغاني الكلاسيكية الداعية إلى نقل العلوم والتكنولوجيا ووسائل الإدارة العقلانية الحديثة مع رفضه الشديد للتغريب، تستند على قناعة مفادها أن التحديث مشروع إسلامي يجب إنجازه، عبر التواصل مع، والارتباط بالتراث الإسلامي وليس من خلال القطيعة معه كما فعلت أوروبا مع ماضيها المسيحي؛ فقد كان يعتقد بإمكانية الاستفادة من العلوم والتكنولوجيا الغربية دون دفع ثمنها بالهوية الثقافية(5).

 

وفي الوقت الذي اتهم فيه الأفغاني العلماء التقليديين الذين يعارضون نقل العلوم الحديثة بـ “العداء للإسلام” هاجم السيد أحمد خان رائد الاتجاه التغريبي في الهند واتهمه بالعجز عن التفرقة بين التحديث والتغريب والاستخفاف بمصلحة الوطن والتورط في محو آثار الحماس الديني والوطني ضد الاستعمار(6).

 

بعد قرن تقريباً أصبحت فكرة تحصيل العلوم التقنية الغربية مع رفض أساسها العلماني فكرة ذهبية عند جميع الحركات الإسلامية المعتدلة والراديكالية في وقت واحد.

 

بالطبع لم يكن الأفغاني يتصور ما سيؤول إليه تقسيمه، فـ “المناضل النموذجي (لدى هذه الحركات) هو طالب في كلية حديثة علمانية مع ميل إلى فروع العلوم التطبيقية” (7) ولم يكن يتصور- في هذا التأسيس المبكر للفكر الإسلامي الحديث- إمكانية وجود حداثات متعددة، أو نماذج مختلفة من الحداثة، لكنه كان يدرك أن أي نظرية للتحديث مناوئة للهوية الإسلامية (التي يحاول الاستعمار إبعاد المسلمين عنه كما يقول) وممهورة بطابع تغريبي ستكون مرفوضة من قبل الشعوب المسلمة التي تعاني غزواً استعمارياً ومحاولات حثيثة لتجريدها من هويتها.

 

ويفارق إدراك الأفغاني للهوية إدراك معظم الحركات الإسلامية التي أتت بعده، حيث اختزلتها في بعدها الديني، فهي بالنسبة إليه ليست محددة بالعقيدة فقط بل تمتد لتشمل السمات العرقية والإقليمية، وكذلك اللغة التي تعد جزءاً عضوياً من وجودها التاريخي، وكان هذا واضحاً في دفاعه القومية الهندية التي تجمع المسلمين والهندوس، بدلاً من الدعوة إلى تمييز المسلمين عند مواطنيهم والاندماج مع أخوتهم في العقيدة في البلدان الأخرى.

 

لكن دفاع الأفغاني المرموق عن الاندماج القومي للمسلمين في الهند لم يلبث أن طغت عليه دعوة تقويّة ولدت في الهند عام 1927 وهي جمعية التبليغ التي أسسها محمد إلياس، الذي أقلقه اندماج الأقلية المسلمة في الهند، ولم يعد هناك ما يميزهم عن الهندوس، وتبنت “التبليغ” استراتيجية القطيعة مع المجتمع المحيط عبر إبراز التمايز الجذري بين المسلمين وغيرهم بتقليد سيرة وسلوك الني محمد (ص) حرفياً. وخلال نصف قرن تنامت جمعية التبليغ في العالم حتى أصبحت في الثمانينيات أهم منظمة دولية إسلامية(8).

 

في المجمل، بنى الأفغاني خطابه الحداثوي على فرضية فصل منجزات الحداثة التقنية والإدارية عن الظروف الاجتماعية التاريخية التي نشأت فيها، واستفاد من الفلسفة السياسية الحديثة في تنفيذ انقلاب بعيد الأثر على التراث السياسي السني الذي تجمد عند مفاهيم الحكم بالغلبة وتوريث الملٌك، وذلك بتأييده الحكم الدستوري الذي يقيد سلطة الحاكم، مع الاحتجاج عليه بمقولات إسلامية.

 

في الثمانينيات سيعتبر راشد الغنوشي قائد الحركة الإسلامية في تونس، جمال الدين الأفغاني ومن بعده محمد عبده ورشيد رضا (1935-1865) (الذين مهدوا الأرض للإخوان المسلمين) “مسئولين عن تقديم مجموعة من التنازلات المؤسفة للغرب، وذلك عندما ركزوا اهتمامهم على إضفاء طابع الحداثة على الإسلام بدلاً من إضفاء الطابع الإسلامي على الحداثة” بينما طالب عبد السلام ياسين، القيادي الإسلامي في المغرب، بوضعهم في سياقهم، خاصة أنهم “وجدوا أنفسهم فجأة وجهاً لوجه أمام غرب متفوق، مقتحم، عنيف، استعماري، ومختلف، فرأوا أنه من الضروري أن يقدموا تنازلات في بعض أمور الإيمان” ويستشهد ياسين على ذلك بتشكيك محمد عبده في أمور الجن والملائكة، في سبيل إضفاء الطابع العقلاني على الدين الإسلامي، واعتبر أن مثل هذه التنازلات “تتنافى تماماً مع بعض بنود الإيمان” لكنه في النهاية يلتمس لهم العذر لأنه كان من المتعذر أن يتوافر لهم وسائل فهم الغرب كما توافرت للأجيال اللاحقة من المصلحين(9).

 

حسن البنا: مأسسة التدين وتنظيم السلفية

 

كانت الخلافة العثمانية حتى وهي في أضعف حالتها تحتكر تمثيل الإسلام، وبسقوطها أصبح الإسلام بلا رأس، ومع ذلك فقد “كان انتهاء الخلافة فرصة ذهبية للأفندية المتدينين المحافظين الراغبين في التحرك في المجال العام والمطالبة بالسلطة باسم الدين” أبرز  هؤلاء الأفندية هو حسن البنا (1906- 1949) الذي وضع اللبنات الأولى للإسلام الساسي، من خلال طرح مفهوم جديد كلياً للإسلام أساسه أن “الإسلام مشروع شامل لترتيب الحياة”(10).

 

لم يطرح البنا نظرية سياسية محددة لكنه طرح رسالة عامة بالغة القوة على الجمهور الذي تحكمه سياسة معلمنة -بشكل شبه تام- في ظل حكم دستوري وبرلماني، تنادي هذه الرسالة بالضرورة الملحة والحاسمة لـ”تمكين المسلمين من استعادة قوة دينهم والتصدي لكل الاتجاهات التدخلية كالليبرالية العلمانية والماركسية” (أنور عبد الملك 1983) فـ “الإسلام هو الحل” والتغريب هو المشكلة، هذه العمومية هي ما مكنته من تجميع أكبر عدد الأعضاء الذين يميلون إلى العموميات ويتخيلون هم تفاصيلها.

 

ملأ الإخوان تدريجياً الفراغ الذي خلقه سقوط الخلافة، وكذلك أصحبت الجماعة هي “الامتداد ذا الصبغة المؤسساتية لنشاط الأفغاني ومحمد عبده” (11) فقد تأثر البنا بالقومية الإسلامية التي طرحتها جريدة “العروة الوثقى” التي كان الأفغاني ومحمد عبده ينشرانها من باريس في أواخر القرن التاسع عشر، كما تأثر بالشيخ السوري المصري رشيد رضا الذي اعتبر سقوط الخلافة انتكاسة إسلامية لا يمكن تمريرها.

 

وفيما كان البنا يعارض إطلاق صفة حزب سياسي على جماعته كان يعد لمشروع أسلمة واسع النطاق يرمي لمحو آثار العلمانية المتفشية في الأوساط المتعلمة وانتشار مظاهر التحديث الغربي في مجتمع إسلامي هو مصر، هذه الأسلمة وإن كانت ترفض السيطرة على السلطة من خلال الثورة فهي مؤسسة على فكرة أن الدولة الإسلامية المرجوة ستخرج من قلب المجتمع قويم الإيمان. فالبنا لم يكن ليرتضي مجرد الممارسة السياسية المباشرة بل كان يطمح لإعادة تنظيم المجتمع وفق رؤية إسلامية تقطع مع الحداثة المؤسسة على أنقاض الدين، وفي الوقت نفسه مع الخطاب الديني الرسمي الخاضع للنظام الاجتماعي القائم.

 

وحين كان البؤس يتراكم على ضفاف النيل بسبب التشكيلة الاقتصادية (شبه الإقطاعية) التي نشرت الفاقة والعوز في كل مكان وعجزت عن خلق تضامنيات بديلة عن تلك الموروثة والقائمة على الفعل الخيري، وحين كان جنود الاحتلال الإنجليزي يتجولون في شوارع القاهرة ومدن القناة، ومظاهر التحديث تقف شاهدةً على تصدع الذهنية الجماعية بفعل التغلغل الاستعماري الذي همّش القيم والمثل والتشريعات الإسلامية، كان حسن البنا يكون رابطة صلبة من “المؤمنين الحقيقيين” الذين أعاطهم رؤية شاملة وعامة يؤمنون بها وينتسبون إليها ورسم لهم الطريق إلى تجاوز الحداثة (مصدر الشرور الأخلاقية والاجتماعية جميعها) عبر الأسلمة من فوق؛ أي بواسطة ممارسة الضغوط على الدولة لتحرير الإسلام من دائرة الحياة الخاصة الذي حبسته فيها الدولة، والكفاح من أجل عودة الدين إلى دائرة القانون العمومي، كتمهيد لإعادة مجد الأمة الإسلامية، وكذلك عبر الأسلمة من تحت من خلال خلق أنماط وممارسات تقويّة تتمظهر في الخطاب المؤسس على معجم ديني والزي المحتشم والعلاقات المنضبطة مع الجنس الآخر والتربية الرشيدة وتكوين “أسر إسلامية” بهدف عزل “المؤمنين” إيديولوجياً وشكليّا في إطار الحياة اليومية.

 

 

 

سيد قطب: الحد الأقصى من القداسة الثورية

 

في السنوات الأولى من ثورة 52 في مصر لعب الإخوان المسلمين دوراً سياسياً من الطراز الأول، ووضحت المهارة السياسية للجماعة برهانها على قدرة الضباط الأحرار في الوصول إلى السلطة والمحافظة على موقعهم فيها، إدراكاً منها بأن نظام الملكية وصل إلى نهايته وأن الوفد (حزب البرجوازية المصرية العريق) فقد جزءاً كبيراً من شعبيته بسبب سياساته المهادنة نسبياً للاستعمار وخططه الاقتصادية التي تخدم كبار الملاك، وحين صفى النظام الجديد الأحزاب القديمة وأهمها الوفد ساندته الجماعة بحماسة، وكذلك حين اصطدم بالشيوعيين. وكانت الإخوان تطمح إلى ممارسة دور المرجعية السياسية للنظام الوليد، الذي انتسب بعض قادته إليها، ومن ثم يمكنها من خلاله السيطرة على السكان والتحكم في حيواتهم اليومية وفرض مبادئ الإسلام عليهم.

 

في المقابل كان القيادي الكاريزمائي جمال عبد الناصر يدرك أن الإخوان هي منافسه الوحيد والخطير، لذا انقلب على الجماعة وحاول استئصالها بعد أزمة “مارس 1954” وأصبح النظام (شبه الاشتراكي) الخصم الوحيد الكابح للإسلام السياسي والمقيد لحركته. وفي هكذا سياق وجّه إيديولوجي الجماعة الرئيسي سيد قطب (1906-1966) نقداً جذرياً لشرعية ووجود النظام الناصري وللنظم العلمانية كافةً التي يعتبرها التجسيد العصري للجاهلية.

 

لم يمكن من الممكن تمرير رسالة كهذه من قبل حسن البنا الذي عاش ومات في نظام ملكي قائم على شرعية وراثية ودستور ونظام برلماني بعيد تماماً عن خطاب ثوري، كما هو الحال عندما عبّر قطب عن أقصى درجات الرفض الجذري لأي مشروعية تنتزع سلطة الله في الحكم وتمنحها للبشر. فقد تأثر سيد قطب بأفكار أبي الأعلى المودودي (1903-1979) التي تٌرجمت كتاباته ونٌشرت في مصر عام 1951 والتي كانت عبارة عن أول محاولة جادة للتنظير للدولة الإسلامية التي أقيمت في باكستان عام 1947 عقب الانفصال عن الهند.

 

ولم يكن أبو الأعلى قبل التقسيم يمتلك أي تصور لاهوتي بشأن الدولة، على العكس كان يعتقد أن الهنود يشكلون أمة واحدة وينبغي أن يتحدوا ضد المستعمرين الإنجليز، إلا أن إقامة باكستان على أساس ديني كان له أبلغ الأثر على فكره، فقد أعاد بناء تصوراته في المراحل الأولى من فترة ما بعد التقسيم، وشيّد أطروحتها من المواد الأولية في الوثيقة التأسيسية لدولة باكستان والتي أكدت “أن السيادة على الكون كله لله سبحانه وتعالى وحده، والسلطة التي فوضها لدولة باكستان من خلال شعبها كي تمارَس في الحدود التي فرضها (الله) كأمانة مقدسة”(12).

 

طوّر أبو الأعلى فكرة “السيادة لله” الواردة في الميثاق إلى مفهوم “الحاكمية” الذي يمهّد نظرياً لإنجاز التغيير الاجتماعي المنشود من أعلى إلى أسفل، ومن خلاله تمكَّن المودودي من إبدال المخطط الزماني في التاريخ الإسلامي (الجاهلية كمرحلة تسبق ظهور الإسلام) بفكرة إيديولوجية تعتبر الجاهلية حالة اجتماعية تهجر فيها الأمة أسلوب حياتها الإسلامي ويحكمها “الكفار”.

 

مفهوم “الجاهلية كحالة اجتماعية” هذا وجد في الحالة الذهنية لسيد قطب صدىً قوياً، وعندما وضع قطب نظريته عن الحاكمية الإلهية تبيّن أن تحليله انفصل عن الفلسفة الأصلية لمؤسس الإخوان (13) فمثلما تحول أبو الأعلى المودودي من كاتب إسلامي يكتب تحت سقف الملكية في الهند ويرتضي بالنظام الاجتماعي القائم إلى منظِّر الدولة الإسلامية، كان سيد قطب يقوم بالتحوّل في الخطاب الإسلامي -بلغة يظنها الجميع عنيفة لكنها لا تختلف عن الخطاب الماركسي السائد حينها إلا في المحتوى- الذي بدأه البنا تحت سقف الملكية في مصر إلى التنظير للطليعة المؤمنة التي تضع لنفسها هدفاً محدداً:

 

الاستيلاء الثوري على السلطة، في اقتباسٍ مباشرٍ من فكرة الحزب الطليعي الماركسية وضرورة الاستيلاء على السلطة لإقامة دكتاتورية البروليتاريا، فالثورة بالنسبة إلى “الطليعة الثورية” الماركسية و”الطليعة المؤمنة” القطبية هي الوسيلة الوحيدة لـ”التطهر من كل الوحل القديم ولامتلاك القدرة على بناء العالم الجديد”(14) والعالم الذي ستبنيه “الطبقة الثورية” أو “الحركة الإسلامية” سيكون عالماً جديداً لأنه العالم الأول من نوعه الذي لن يكون فيه الإنسان عبداً لـ”رأس المال” أو لـ”أنظمة الشرك”.

 

انقلب سيد قطب على تصور البنا المثالي والقائل بأن الدولة الإسلامية ستخرج من قلب المجتمع الإسلامي، ولم يكن ذلك الانقلاب ممكناً بدون الاقتباس الاستراتيجي من الأفكار الماركسية وبرامجها الحركية التي تعتبر وجود “الحزب الثوري” و”الاستيلاء على السلطة” -بدلاً من نظرية التدرج (15) عند البنا- مسألتين حاسمتين لإقامة العالم الجديد، وفي ظل اندلاع التجارب الثورية من فيتنام إلى كوبا مروراً بالجزائر.

 

ولكي يعطي أفكاره مزيداً من القوة كان الضروري الإحالة إلى ابن تيمية الذي يعتبر أن الحاكم لا يعود مسلماً عندما لا يفرض الشريعة، وأن المسلم لا يعود مسلماً عندما لا يحافظ على الشريعة، هذا التعزيز الذي استدعاه قطب لدعم أفكاره لم يكن استمراراً للتراث الإسلامي القروسطي في العصر الحديث كما يذهب الطرح الاستشراقي، بل كان حيلة كتابية بارعة من سيد قطب لإخفاء التأثيرات الحداثية تحت موثوقية ابن تيمية الإسلامية.

 

والحال أن نصوص قطب تبرهن على المدى الذي وصلت إليه قوة التغيير التي أحدثتها حركات التحرر الوطني الكبرى على إيديولوجيا الإسلام السياسي، وتكشف في المقابل دلالة اهتمام أحد رموز تلك المرحلة وهو جمال عبد الناصر بالمسألة الدينية ودمجها داخل خطابه التحرري وحرصه على عدم فرض علمانية لائكية تعطي فرصة للحركة الإسلامية في الاستدلال على اتهامه بالعداء للإسلام، وهكذا كان التأثير بين المتضادات متبادل وإن كان غير متكافئ ولا منظور بشكل كافٍ.

 

في النهاية هذا التثوير الذي أنجزه سيد قطب لم يرجح فرصة الإسلام السياسي السني في الوصول للسلطة بحكم الهيمنة السياسية والإيديولوجية للقومية التي كانت ترى فيه منافساً رجعياً، وبحكم مركزية وفاعلية دولة الرفاه الناصرية التي أمنت لنفسها قاعدة اجتماعية عريضة وصلبة، مما جعل كتابات سيد قطب طي النسيان في مصر إلى أن أعيد استلهامها في السبعينيات مع تلميذه شكري مصطفى ومن بعده عبد السلام فرج، الذين جسدا الشكل الأكثر ثورية في حراك الصحوة الإسلامية التي جرى استنزافها في لعبة الشد والجذب السياسية، في وقت انتقلت أفكار سيد قطب إلى إيران على يد علي شريعتي المنظر الأول للثورة الإسلامية الذي حولها إلى وقود نظري في مسيرة الدفع بأول مشروع سياسي ذي أهداف دينية إلى مراقي السلطة، ومنذ تلك اللحظة أصبحت طهران مركز جذب إيديولوجي ونموذج يٌحتذى ومصدر إلهام سياسي للحركات الإسلامية في كافة البلدان العربية السنية، لتعود بضاعة قطب إلى الصحوة محملة بالأمل وإشكاليات لا حصر لها.

 

 

 

طريق الإسلاميين للسلطة مفتوحة وملغّمة

 

رغم أن القومية العربية في نسختها الناصرية (وهي النسخة الأكثر شعبية في العالم العربي) احتفظت منذ البداية بالعنصر الديني في بنيتها الإيديولوجية كما ظهر في “فلسفة الثورة” وفي “ميثاق العمل الوطني” إلا أنها ابتعدت شيئاً فشيئاً عن الإسلام كإطار مرجعي، بهدف إنجاز مشروع التحديث وفق خطة مستلهمة من “الماركسية بمفهومها ذي الطابع الحديث للعالم وبرؤيتها العالمية للمجتمع، حيث تعطي الشعوب نفس الأمل، وبتفسيرها للظاهرة الاستعمارية، وبمنهجها العملي في التحديث والتنمية؛ فبذلك كله كانت  الماركسية تقدم إضافات رائعة لمجموعة من أساليب العمل القومية، واستمدت الأنظمة العربية نسبة كبيرة من شرعيتها عن طريق توظيفها لهذه الأساليب لإيجاد علاقة سياسية واقتصادية جديدة مع الغرب” (ماكسيم رودونسون 1972).

 

ومع انكشاف المشروع القومي بفعل هزيمة 67 “حاول الإسلام السياسي أن يستحوذ على المكانة التاريخية للناصرية مع توظيف قدرتها على تحريك الجماهير في مشروع سياسي تفقد فيه العلمانية مكانتها تاريخياً (16) فالخطاب الإسلامي وهو في سبيله لإعادة ترميم ذاته اتهم القومية العلمانية بعجزها عن تحقيق الاستقلال الكامل عن الاستعمار، في ظل استعارتها للعلمانية كإطار مرجعي (مفروض من أعلى) واستمرار المؤسسات القضائية والتشريعات ذات الطابع الغربي، وبالتالي كانت القومية في نظره مجرد استمرار للهيمنة الثقافية على المجتمعات المسلمة.

 

لكن قبل الحديث عن وراثة الإسلاموية للمشروع القومي سيكون علينا التأكيد أن الواقع لم يكن بهذا القدر من الوضوح في تسلسل الأحداث، وأن التنظير الثقافوي له يطمسه أكثر؛ فظهور الإسلاموية في السبعينيات لم يكن موقفاً ارتدادياً لـ”مجتمع مصدوم” يحتمي بالتراث ويحن إلى الماضي كآلية دفاعية تحقق نوعاً من العزاء للذات وتداوي “الجرح النرجسي” العربي (حسب الطرح الحداثوي) بل كان رداً إيديولوجياً ذا طابع احتجاجي، تطور على مدار عدة عقود، على الهيمنة الثقافية الغربية على “المجتمعات الإسلامية” ولم تكن الإسلاموية كذلك انبثاقاً مباشراً من سياق هزيمة المشروع النهضوي القومي، هذا ما حدث ما تيار آخر؛

 

حيث تشكّل جيل يساري جديد (ناصري وشيوعي) سيّطر على الجامعات وبدأ يشق طريقه نحو المصانع وتجنيد العمال وتوّج مسيرته السياسية بمظاهرات الخبز (يناير 1977) التي كادت أن تطيح بالسادات لولا تدخل الجيش، وبعدها بدأت تصفية هذا الجيل عبر القضاء على التطور الديمقراطي المحدود الذي كان قد سمح للخلايا الإسلامية أن تقوم بالتواصل والتفاعل مع الجماهير من خلال الانتخابات ودور النشر الخاصة وفي الأساس: المساجد.

 

بل يمكن القول إن انخراط اليسار الكامل (بكل أطيافه) في القضية الوطنية المتعلقة بتحرير الأرض والمواجهة العسكرية مع إسرائيل ومعارضة الأفق الاستسلامي الذي اجترحه أنور السادات، على حساب القضية الاجتماعية، في وقت بدأت فيه التحولات الدرامية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع الانتقال منذ عام 1974 من دولة الرعاية الاجتماعية إلى الدولة الليبرالية اقتصادياً والاستبدادية سياسياً، وما ترتب عليه من تعميق أزمة الفوارق الطبقية وتضاؤل مشروعية الدولة -عَزَلَ اليسار عن الشارع الذي بات مٌمهَداً لعودة الإسلاموية التي بدأت تسطو على وظائف الدولة الاجتماعية لتحقق هيمنتها الثقافية.

 

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى 3 أحداث خارجية دفعت الأمور إلى أقصى مدى لها: الطفرة في أسعار النفط عقب مواجهة 1973 بين مصر وإسرائيل، الاجتياح السوفيتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية التي أثبتت إمكان إقامة مملكة الله في الدنيا وتحدي الإمبريالية بجسارة؛ لتجتاح الصحوة الإسلامية المجتمعات الإسلامية برمتها منذ أواخر السبعينيات وحتى أواخر التسعينيات.

 

زعزع الاجتياح السوفيتي لأفغانستان صورة اليسار كحركة تحررية وتم تفسيره بوجود نزوع “استعماري” لدى قطب العالم الاشتراكي تجاه مجتمع مسلم فقير ومعزول، وقدمت الثورة الإسلامية نموذجاً يحتذى به في إمكانية تحطيم نظام معزول اجتماعياً ويمكن وصمه بالعلمانية والكفر، فيما خلقت الثروة النفطية نخبة برجوازية متدينة في مصر (العائدين من الخليج) غير مدينة للدولة بشيء، بل هي تسعى لإزاحة النخبة الحاكمة التي تبني شرعيتها على تحقيق الاستقلال الوطني وقد تجمدت على نفسها لتمنع أي شكل من أشكال الحراك الاجتماعي؛

 

بهدف الوصول إلى الموارد وتكريس قيادتها ونمط تدينيها، في وقت تتخلى فيه الدولة عن وظائفها الاجتماعية تاركة الشباب الحضري الفقير المتدفق على المدن (واستقروا في ضواحيها) والذي لم تعد تربطه بها رابطة حقيقية، نهباً للدعاية الإسلامية التي تنفق عليها البرجوازية الورعة بسخاء؛ “لم يستطع هؤلاء الوافدون الجدد أن يبلغوا قلب المدينةـ وفي الوقت نفسه أضحوا غرباء عن العلاقات الاجتماعية التقليدية، وعن الثقافة السياسية السائدة. هاته الفئة رغم وجودها على الهامش سياسياً واجتماعياً إلا أنها أصبحت المركز الديمغرافي الحالي للمجتمعات الإسلامية”(17).

 

انقسمت الحركة الإسلامية بين هذين الطرفين؛ فالبرجوازية المتدينة مالت إلى “أخلاقوية” الإخوان على حساب ثورية الجماعات الجهادية التي جعلت من الشباب الحضري الفقير وقوداً لها، واستغلت الدولة هذا الانقسام في استقطاب العناصر المعتدلة في الإسلام السياسي ممثلةً في جماعة الإخوان وسمحت لها بهامش كبير في المجال الاجتماعي وهامش محدود في المجال السياسي، والضغط على العناصر الأكثر راديكالية في الجماعة الإسلامية، بهدف تعزيز انقسام الحركة الإسلامية ومن ثمَّ إمكان السيطرة عليها.

 

مع بداية الألفية الثالثة حاولت الإيديولوجيات العلمانية استئناف المبادرة السياسية وسحب البساط من تحت أقدام الإسلام السياسي بعد عقدين “إسلاميين” استنفذت فيه الإسلاموية طاقتها ووصلت إمكانيتها في السيطرة على الشارع والجامعات إلى حدودها القصوى، وبدأت العلمانية تزاحمها بجدية في المجال السياسي، كما ظهر في عودة التيارات اليسارية والناصرية إلى الفعل الاحتجاجي وتأسيس شبكات التضامن مع القضية الفلسطينية التي يقف على قمة هرمها التنظيمي كوادر يسارية، وبعدها ظهور حركات كفاية وتضامن و6 إبريل وتصاعد الضغط العمالي من أسفل مستقلاً عن وصاية الإسلاميين، وتشكّل تيار ليبرالي جديد يخلق ويلبي في الوقت نفسه طموحات الطبقة الوسطى السياسية.

 

وحدث الأمر نفسه في المجال الاجتماعي بعد إفلات الجسد الرئيسي للطبقة الوسطى من قبضة الإسلاموية (ما عدا بعض الهوامش المتدينة) التي لم تعد تهتم، كما كان الحال في الثمانينيات والتسعينيات، بتجنيد أبنائها والتأثير على مجمل الطبقة إيديولوجياً، وعادت الجماعات الإسلامية لتقديم الخدمات الاجتماعية للطبقات الفقيرة عبر شبكات المساعدة والجمعيات الخيرية الملحقة بالمساجد، لضمان ولائها السياسي،

 

تزامناً مع موجة “الدقرطة” التي رعتها الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة بوش الابن عقب هجمات 11 سبتمبر، ثم أوباما من بعده، ورأت جماعة الإخوان نفسها الأكثر تأهيلاً واستعداداً لقطف ثمار الديمقراطية الآتية تحت ضغط الدولة الإمبريالية الكبرى (وقد ظهر ابتعاد الطبقة الوسطى عن الخطاب الإسلاموي في حالته القصوى في تظاهرات 30 يونيو الحاشدة في مصر -بغض النظر عن التجييش الإعلامي ضد الإسلام السياسي والدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية في تنظيم الحشد- فعجز الإخوان عن تحييد المجموعات غير الإسلامية واصطدامها السياسي بهم خلال المرحلة الانتقالية أغرى أجهزة الدولة الصلبة باللجوء إلى العنف مع اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة باطمئنان).

 

وقد دفع التوافق بين رغبة الإخوان المسلمين في الوصول للسلطة والرغبة الأمريكية في وضع تنظيم إسلامي على قمة المجتمع لاحتواء الشباب المسلم وقطع الطريق على التنظيمات الجهادية في استقطابه، في تعديل مواقف وسلوك الطرفين؛ فلم تعد الإخوان تمثل استعصاءً على الإمبريالية ومعادية لإسرائيل كما كان الحال في التسعينيات، حين اعترضت على اتفاقيات أوسلو، ولم تعد النخبة الأمريكية الحاكمة تنظر إلى الجماعة باعتبارها تمثل تهديداً لسيادتها أو لحليفها الاستراتيجي (إسرائيل) على المنطقة العربية.

 

ووصل الأمر إلى مدى غير مسبوق بعد ثورة 25 يناير (حيث بات من المؤكد أن الإخوان هي المرشح الأكيد للحلول محل نظام حسني مبارك) حين كثفت الجماعة جهودها لتطمين إسرائيل على تمسكها باتفاقية كامب ديفيد، بالإضافة إلى جولات عصام الحداد (الذي يتحدث الإنجليزية بطلاقة) للترويج لحكم الجماعة في مصر بالتذكير بالنموذج التركي الحليف الاستراتيجي لأمريكا رغم “إخوانيته” لذا لم يكن خطاب عاصم عبد الماجد (المٌرحب بتحرك عسكري أمريكي ضد مصر) مستهجناً لدى قيادة الجماعة ولا جماهيرها، الأمر الذي يطرح سؤالاً بالغة الأهمية: إذا كانت الإسلاموية في الأصل رد فعل إيديولوجي على الاختراق الاستعماري للمجتمعات المسلمة، فما الفائدة من وجودها إذا تماهت مع الإمبريالية الجديدة؟ ألا يٌشكل ذلك تدميراً لمصداقيتها الإيديولوجية والسياسية؟

 

وكنتيجة للتوافق سابق الذكر بدأت الأدبيات الإخوانية تتخلى عن مفهوم الخلافة نهائياً كما ظهر في مبادرة الإصلاح التي أصدرتها الجماعة عام 2004 التي جاءت غارقة في قضايا الشأن المصري البحت، كما سقط من شواغلها البعد الخارجي تماماً بما في ذلك القضيتين المركزيتين في العالم الإسلامي: فلسطين والعراق(18) وفي هذا المضمار انفتح الكادر الإخواني ودخل في تفصيلات الحياة ومعاركها، ما جعله أقرب إلى “العادية” وانتٌزعَت منه روح الاستعلاء والتفرد والإحساس المبالغ فيه بالرسالية التي تجعله مختلفاً بل ومٌميزاً في سلوكه وأفكاره وطريقته في الحياة؛ ليذهب إلى الأبد النقاء  الإيديولوجي الذي ميّز القواعد الإخوانية منذ أواخر السبعينيات باعتبارها تمثل “الجيل القرآني الفريد” الذي طالما نظّر له سيد قطب.

 

وإذا كانت الكوادر الإخوانية تستغرقها روح الزهد والتقشف وانصراف عن زينة الدنيا ومتاعها في عقدي الصحوة، حيث كان التزام القصد في النفقة والملبس أصلاً في السلوك الإسلامي، فإن النموذج الذي يحتذيه الشاب الإخواني حالياً هو نموذج “الجنتل مان” الذي يتمتع بالرفاهية تحت لافتة الأسلمة (19).

 

وإذا كان الإسلام السياسي قد طرح سؤال العدالة الاجتماعية في وقت باكر من تأسيسه، وعمقت أطروحات سيد قطب ومحمد الغزالي هذا المسعى في وقت لاحق، فإن “المبادرة الإصلاحية” التي طرحتها جماعة الإخوان المسلمين في 2004 وبرنامجها لانتخابات عام 2005 التي حصدت فيها نحو 20% من مقاعد الهيئة التشريعية، وبرنامج حزب الحرية والعدالة لانتخابات 2001/2012 التزمت فيهم الجماعة بالدفاع عن “اقتصاد السوق” مع تعبيرات فضفاضة عن التضامن والتكافل الاجتماعي، ومن ثَمَّ لم يبقى في جعبة الإسلاموية إلا تقرير المصير الثقافي للمجتمع أو الإلحاح على سؤال الهوية.

 

ورافق تلك التحولات العميقة خَصْم التدين المدرسي السلفي الأخلاقوي، الذي رعته المملكة السعودية طويلاً ودعمت نشره على نطاق واسع، والذي يفرز أتباعاً سلبيين تجاه مسائل المعارضة المنظمة للسلطة أو الضغط عليها والسعي لتحقيق العدل الاجتماعي بالتعاون مع التدين الفردي (النيوليبرالي) الرافض للجماعية والرغبة في التغيير أو صياغة بديل سياسي، ويعبر عنه الدعاة الجدد -من رصيد الإسلاموية النضالية وقلل من قدرتها على التعبئة السياسية وخطتها للمشاركة المباشرة في الحياة السياسية، في ظل منافسة الأنظمة (شبه العلمانية) للإسلاموية على أرضها واستعارة خطابها، واحتوائها للطرق الصوفية، وحد كل ذلك من فاعلية الالتزام السياسي للإسلاموية؛ فتلك الممارسات وإن كانت قد ساهمت في إضفاء طابع التدين على المجتمع بشكل عام إلا أنها قللّت من فرص الإسلاموية من الوصول إلى السلطة -سواء عبر ثورة أو عبر انتخابات -أو الاحتفاظ بها في حالة الوصول إليها، وما حدث في مصر مع الإخوان المسلمين، من وصول سريع إلى السلطة وسقوط سريع عن قمتها، شاهد في الصميم على أن الإسلاموية الآن في أكثر أيامها تأزماً ومستقبلها لا يمكن التنبؤ بأنه سيكون أفضل من حاضرها.

 

هوامش:

 

(1) تاريخ موجز للحِشمة الإسلامية، أحمد الشربيني، موقع منشور

(2) الإسلام السياسي صوت الجنوب، فرانسوا بورجا، ص 76 ط2 دار العالم الثالث 2001

(3) الإسلاموية والسعي إلى الحداثات البديلة، بهروز  غماري تبريزي، ص36 ترجمة أحمد محمود ط1 المركز  القومي للترجمة، مصر، 2018

(4) السابق ص35

(5) نفسه ص39

(6) بهروز مصدر سابق ص41

(7) يوم الله الحركات الأصولية المعاصرة في الديانات الثلاث، جيل كيبل، ص41 ترجمة كريم مروة ط1 دار قرطبة 1992

(8) كيبل مصدر سابق ص44

(9) بورجا مصدر سابق ص47 و48

(10) ظل الله ومملكته: رحلة الإسلام السُّني إلى “الإسلام السياسي” بلال علاء، موقع منشور، 2017/09/19

(11) بهروز مصدر سابق ص44

(12) نفسه ص48

(13) السابق ص51

(14) الاستراتيجية الطبقية للورة، جورج طرابيشي، ص 10 ط 2 دار الطليعة بيروت

(15) نظرية التدرج هي مراحل المشروع الإسلامي وفقاً لصياغة المؤسس، وهي: بناء الفرد المسلم؛ فالأسرة المسلمة؛ فالمجتمع المسلم؛ فالحكومة الإسلامية؛ فالدولة الإسلامية؛ فالخلافة الإسلامية؛ فأستاذية العالم. انظر: تحولات الإخوان المسلمين .. تفكك الإيديولوجيا ونهاية التنظيم، حسام تمام، مجلة رواق، عدد 43، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2006

(16) بورجا مصدر سابق ص50

(17) من أجل تحليل اجتماعي للحركات الإسلامية، جيل كيبل، من كتاب الإسلام السياسي وآفاق الديمقراطية في العالم الإسلامي، ص50 ط1 مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث 2000

(18) تمام، انظر الهامش رقم 15

(19) تمام مصدر سابق

المصدر : معهد العالم للدراسات

اقرأ أيضا على مبدأ
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة