د/ محمدو ولد محمد المختار
لا خلاف حول أن صعوبات كبيرة اكتنفت البدايات الأولى لنشأة الدولة الوطنية في موريتانيا، بل إن قيام هذه الدولة، قد مثل عن حق قهرا فعليا للكثير من الصعوبات والتحديات التي صاحبت وربما ميزت ظروف نشأة هذا الكيان عن سواه، ولعل هذا ما يجعل من الحديث عن تشكل هوية وطنية جامعة بين الموريتانيين عشية قيام كيانهم الوطني أمرا في غاية الصعوبة والالتباس،
وهو ما يفسر إلى حد بعيد وجود مشاريع بديلة عن الكيان الموريتاني الحالي لدى بعض النخب آنذاك ، تزامن معظمها مع مساعي قيامه، فغياب إرث مركزي للدولة الوليدة وعدم وجود تقاليد سلطوية أو تنظيمية مركزية راسخة لفترة طويلة في هذه البقعة من الأرض، فضلا عن وجود صعوبات جمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وبنيوية وجيوستراتيجية وحتى ثقافية، كلها أمور وقفت بحزم في وجه بناء الدولة الموريتانية الحديثة، وبالتالي في وجه تبلور هوية وطنية واضحة لهذه الدولة .
غير أن الحديث عن الهوية الوطنية في موريتانيا وفي غيرها فضلا عما يطرحه المفهوم من الإشكالات، يبقى حديثا نسبيا وإشكاليا ، ذلك أن الهوية بطبيعتها ليست شيئا ناجزا يكون أو لا يكون ، فالهويات هي من صنع أهلها ، ومن هنا ربما يتأتى لنا الاعتقاد بوجود حد أدنى مفترض من الاتفاق حول هوية موريتانية على نحو ما ، الأمر سمح بقيام الكيان الموريتاني الحالي وبالاتفاق حول رموزها العامة ، ومع تسليمنا بأن الهوية التاريخية والحضارية لسكان هذه المنطقة من العالم قد حسمت منذ قرون، فإن قيام الدولة الوطنية الموريتانية الحديثة في ظل حصول اختراق ثقافي استعماري فرانكفوني هدد ولا يزال تلك الهوية الحضارية التاريخية للشعب الموريتاني، وما زال يطرح علينا كموريتانيين وبإلحاح كبير سؤالا أساسيا وصعبا مفاده عن أية هوية وطنية لموريتانيا يمكننا أن نتحدث اليوم؟ ، وهل يمكننا الحديث بثقة عن هذه الهوية رغم ما نراه ونشهده من عوامل التهديد للهويات الوطنية الكبرى وفي مقدمتها عامل تيار العولمة الجارف، الذي يقوم على المزيد من اختراق الحدود الجغرافية والثقافية وعلى دعم وسائل الاتصال والتواصل الثقافي والإعلامي والاقتصادي والتجاري بين الشعوب ، يعزز ذلك تدفق غير مسبوق للمعلومات والأفكار في هذا العالم، الذي يصفه أحد مفكري العولمة الأمركيين المدافعين عن الأمركة بالمسطح، للتأكيد على عدم وجود أية كوابح حقيقية تعيق في نظره إمكانية هيمنة بعض الثقافات على بعضها .
إذن هل نحن الموريتانيين فعلا نمتلك تصورا مشتركا وناجزا لهويتنا الوطنية في الوقت الراهن، وخاصة في بعدها الثقافي؟، وهل تتناقض هذه الهوية إن وجدت مع حقوق الجميع في المواطنة وفي الخصوصية الثقافية ؟ ثم إلى أي مدى يمكن القول بأن بناء دولة المواطنة أصبح ضرورة قصوى لبقاء الكيانات الوطنية؟ وحلا سلميا للتناقضات الثقافية في البلدان ذات التعدد الإثني كبلادنا . لاشك أن الإجابة على هذه التساؤلات ليست بالشيء الهين ، لأنها تقتضي أولا أن نحدد معنى ومفهوم الهوية الوطنية وربط ذلك بوعينا كموريتانيين لهذا المفهوم، وثانيا البحث في انعكاسات ومخاطر التأخر في تكريس قيم دولة المواطنة في بلادنا باعتباره يمثل واحدا من أبرز التحديات التي ما زالت تعيق بناء اللحمة الوطنية وتهدد في الصميم استمرار واستقرار البلد لما ينطوي عليه من غياب الشعور بالانتماء إليه والتضحية في سبيله .
مفهوم الهوية الوطنية :
لعله من الصعب تحديد مفهوم الهوية، ففضلا عن صعوبة تحديد المفاهيم في العلوم الاجتماعية والانسانية ، فإن هذا المفهوم يقال عنه أنه بقدر ما هو ضروري فهو غامض ويصعب تحديده ، بل يستعصي على حد تعبير المفكر الأمريكي الشهير “هنتكتون” على طرق القياس العادية ، كما أنه عند أبرز باحثي الهوية في القرن العشرين “اريك أريكسون” مفهوم متعارف عليه تماما ولكنه غامض ولا يسبر له غور .
ومهما يكن فإن معظم التعريفات التي قدمها الباحثون للهوية ترتد إلى أصل مشترك يجعها تعني: شعور الفرد أو الجماعة بذاتها ، فهي نتاج وعينا بذواتنا أو بكوننا نشعر باختلافنا عن الآخر، وبأننا نمتلك من الخصائص ما يجعلنا نشعر حتى بتميز كل واحد منا واختلافه عن الغير ، ولعل هذا ما يجعل لكل منا هويته الخاصة التي قد لا يدركها بنفسه فورا بمجرد ولادته، ولكنها أي هذه الهوية الشخصية الإرادية أحيانا واللاإرادية أحيانا أخرى لكونه تتحدد لحظة مولد كل واحد منا ، وذلك من خلال : الاسم والجنس والأبوين والمواطنة . تبقى حقيقة واقعية ، بل ضرورة لا بد منها .
الهوية على هذا النحو تبدو إذن أمرا ضروريا ولا مناص سواء للفرد أو الجماعة من حسمها لأنها هي التي تجعلنا نحدد نقاط الشبه والاختلاف بيننا والآخرين، ويعتقد دارسوها والباحثون في موضوعاتها المختلفة أن لها خصائص ومصادر نوجزها فيما يلي:
أما الخصائص فمن أهمها :
– كونها ذات خاصية فردية وجماعية، وإذا كان الفرد يستطيع من حين لآخر إعادة تحديد هويته الإرادية أو الاختيارية، فإن قدرة الجماعة على ذلك تبدو أقل بكثير .
– كونها في الغالب مركبة، والأشخاص معنيون بصناعة هوياتهم التي هي: ما يعتقدون أنهم عليه أو ما يريدون أن يكونوا عليه .
– كونها متعددة سواء للفرد أو للجماعات، فقد تكون نسبية أو إقليمية أو اقتصادية أو ثقافية أو سياسية أو وطنية.
– كونها وإن كانت تتحدد بواسطة الذات، فإنها نتاج للتفاعل بين هذه الذات والآخر، فنحن لسنا دائما كما نعرف أنفسنا، وإنما كما يرانا الآخر أيضا. تركيا والغرب حاليا وموريتانيا والعالم العربي سابقا وليس الآن طبعا .
– كونها نسبية بمعنى أن هوية فرد ما أو جماعة قد ترتبط بحالة بعينها، وهنا يسوقون مثالا شهيرا بأن عالمة نفس بين عدد من علماء النفس ستميل إلى اعتبار نفسها امرأة، أما إذا كانت بين عدد من النساء غير العالمات فستميل إلى تعريف نفسها كعالمة نفس .
( أنظر في تفصيل هذه الخصائص صاموئيل هنتكتون، أمريكا الأنا والآخر تعريب د/ يوسف محمد الصواني ، منشورات المركز العالمي لدرسات وابحاث الكتاب الأخضر ، 2006 ، ص 43- 46 ) .
أما مصادر الهوية الوطنية فهي عديدة منها :
– مصادر نسبية: مثل السلالة والجنس والقرابة الاثنية وهي قرابة موسعة والعنصر
– مصادر ثقافية: مثل العشيرة، الاثنية بمعنى نمط الحياة، واللغة والدين والجنسية والحضارة .
– مصادر ترابية أو جغرافيا مثل : الجيرة والقرية والبلدة والمدينة والمحافظة والولاية والاقليم والبلد والمنطقة الجغرافية والقارة والجهة على كوكب الأرض .
– مصادر سياسية : مثل الفصيل، والجماعة، والزعيم، وجماعة المصلحة، والحركة ، والقضية، والحزب، والايديولوجية، والدولة
– مصادر اقتصادية مثل : الوظيفة والمهنة ، والحرف أو الصنعة ، وفريق العمل ، ورب العمل ، والصناعة ، والقطاع الاقتصادي ، والرابطة المهنية ، والطبقة .
– مصادر اجتماعية مثل : الأصدقاء ، والنادي ، والفريق ، والزملاء ، وشلة الترفيه والمركز الاجتماعي . ( أنظر في هذه المصادر : هنتكتون نفس المرجع السابق ص 50 )
الهوية الوطنية الموريتانية :
هل لنا كموريتانيين في ضوء ما تقدم عن الخصائص والمصادر العامة للهوية أن نتحدث اليوم عن هوية وطنية خاصة بنا، وما ملامح هذه الهوية ؟. لعل الإجابة على السؤال الأساس في تقديري، تبدأ أولا بتحديد ما هو متفق عليه بين جميع الموريتانيين كثوابت لهذه الهوية الوطنية المشتركة مثل: الكيان السياسي ( الدولة الوطنية ) والدين الإسلامي والموقع الجغرافي والتعدد الإثني. وثانيا بما هو خلافي بينهم ويحتاجون فيه إلى مزيد من الوقت والجهد والتفاهم والتسامح حتى يعذر بعضهم البعض فيه ويقبله شريكا في الوطن بصرف النظر عنه.
1 – ثوابت مشتركة للهوية الوطنية
هذه الثوابت والمحددات والمصادر الأساسية والمشتركة للهوية الوطنية بين جميع الموريتانيين ربما تحتاج منا عرضها على نحو موجز فيما يلي :
– الدولة الوطنية:
رغم واقعية هذا المصدر السياسي والقانوني للهوية الوطنية لجميع الموريتانيين الذي هو الدولة الوطنية الراهنة، فإن ظروف نشأة هذا الكيان ومدى الاتفاق حول رموزه المختلفة ( العلم ، النشيد، الشعارات ) ، ناهيك عن نظرة البعض إليه تارة باعتباره جزء لا يتجزأ من كل ، هو الكل العربي أو الإفريقي أو الإسلامي ما يعني قبول هويته في هذا الإطار أوذاك ، وتارة ككيان قائم بذاته لا عربي ولا افريقي بالمعنى الجيني، هي أمور تضيف مزيدا من الغموض على هذا المصدر من مصادر الهوية الوطنية. فالعلاقة بين القطري والقومي والأممي وبين الأصلي والوافد وبين الانتماء الجغرافي والانتماء الثقافي ما زالت تقسم الموريتانيين حول هويتهم الدوليتية تلك .
– الدين الإسلامي :
يحلو للكثير منا اعتبار الدين الإسلامي المقوم الأساسي الأول من مقومات الهوية الوطنية لنا كموريتانيين، على اعتبار أن جل إن لم نقل كل الموريتانيين يتقاسمون هذا المعتقد ، ولكن إذا كان لهذا المقوم أهميته الخاصة في بلد كباكستان المسلمة في مواجهة الهند الهندوسية وفي إيران للتأكيد على خصوصية الثورة الإيرانية ذات التوجه الإسلامي الشيعي تحديدا ، إلا أن هذا المقوم ربما يطرح علينا اليوم كموريتانيين الكثير من الأسئلة؟ ففضلا عن طبيعة النظام السياسي الوضعي أو إن شئتم اللائكي واختلافنا حول مضمون هذا المقوم الذي وصل أحيانا إلى حد رفض – ولفترة طويلة- قيام كيان سياسي ضيق (حزب سياسي) ينفرد بحمل لواء الإسلام رفضا لما يصفه البعض بخوصصة هذا المقوم، ناهيك عما يعنيه ذلك من إشكال في حالة ما إذا لم يعد هذا الدين جامعا أو مانعا لهذه الهوية ، بمعنى أن الانتماء إلى الهوية الموريتانية يفترض دوام اعتناق الدين الإسلامي ، كما قد يجيز ولمجرد الدخول في الإسلام إمكانية أن يصبح الشخص موريتانيا من حيث الهوية على الأقل .
– التسليم بواقع التنوع الإثني :
يسلم الموريتانيون اليوم بأنهم بلد متعدد الأعراق والإثنيات، تتعايش فيه أغلبية عربية واضحة على الأقل بالمعنى الثقافي( تتشارك هذه الأغلبية اللغة والقيم والزي والعادات والتاريخ ) وأقليات زنجية بولارية وتكرورية وولفية لها مميزاتها الخاصة وإن كانت تتقاسم مع مجموع الموريتانيين الدين والبلد والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك ،فضلا عن الكثير من القواسم الحضارية الأخرى ) .
وهذا يفترض في المضمون الثقافي له ضرورة التعايش والتفاعل والتثاقف بين اللغة الرسمية للأغلبية واللغات الوطنية للأقليات الأخرى ، كما يفترض دينيا ضرورة النصرة وتحقق الأخوة الدينية والوطنية ، أما قانونيا فلا بد من التأكيد على حق الجميع في مواطنة كاملة وصادقة تحفظ الحقوق وتؤدي الواجبات بصرف النظر عن أي اعتبارات لونية أو عرقية أو لغوية أو فئوية أو جهوية أو سياسية طبعا أو غيرها .
– الموقع الجغرافي :
بما أن الموقع الجغرافي هو أحد ثوابت الهوية الوطنية، فإن وجود الإقليم الموريتاني بين فضاءين عربي شمال إفريقي (المغرب العربي) وزنجي غرب افريقي يحتم بناء العلاقات الجيوستراتيجة في ضوء تلك الاعتبارات وعدم الاعتراض على تفعيل أي منها. بصرف النظر عن اعتبارات المفاضلة أحيانا بناء على معايير موضوعية اقتصادية أو سياسية أو واقعية مصلحيه .
ورغم ذلك كله، فقد تمكن الموريتانيون الأوائل من تأسيس كيانهم القطري تماما كما حصل مع نظرائهم في العديد من بلدان العالم الثالث الأخرى، والشعب الموريتاني اليوم يمتلك كيانا وطنيا يخصه له رموزه الخاصة التي تميزه غالبا عن جميع كيانات الأرض الأخرى ، غير أن ذلك لا يعني إطلاقا أن هذا البلد قد تمكن بالفعل من حسم جميع الإشكالات التي فرضها عليه قيام هذا الكيان الجديد، كما أن أوضاعه العامة كانت ولا تزال وسوف تبقى بحاجة إلى مزيد الاستجابة الذاتية ، فالشعوب إذا لم تنمو وتتقدم غالبا ما تندثر وتنعدم ؟ . ومسار بناء الدولة الوطنية لم يخلو في كثير من الأحيان من تعثرات وانحرافات قعدت به عن بلوغ بعض الأهداف الوطنية الكبرى، وفي مقدمتها هدف حسم هوية وطنية جامعة بين كل الموريتانيين، ما جعلنا للأسف نواجه اليوم تحديات جسام تنذر بمخاطر جمة على وحدة بلدنا الوطنية ، وعلى أمنه وسلمه واستقراره .
فلم نتمكن حتى الآن من تجاوز إشكال الانتقال من وضع اللادولة السيبوي الضارب والمتجذر في العمق البنيوي للمجتمع إلى وضع دولة المواطنة بما يفرضه هذا الوضع من ضرورات الالتزام والانضباط والشعور بالانتماء والولاء لهذا الكيان، أي من ترسيخ لمفهوم الدولة الوطنية على حساب الولاءات والانتماءات الضيقة القبلية والفئوية والجهوية وغيرها. ناهيك عن إشكال حسم الهوية الوطنية الجامعة للدولة الجديدة . والساهرة على سبك ودمج كل مكونات النسيج الاجتماعي العنصرية والفئوية في الكيان الجديد .
كما أن أوضاع بلدنا العامة وعلى جميع الصعد ما زالت بعيدة عن تحقيق المطالب الملحة والتطلعات المشروعة لشعبنا، فعلى الصعيد الاقتصادي مازال وضع الاقتصاد الوطني يعكس الكثير من مكامن الضعف والقصور ومن التخلف عن ركب الأمم المتقدمة، بل والعجز غالبا عن الاستجابة الذاتية للاحتياجات الأساسية لمعظم المواطنين، فلا تزال أغلبية كبيرة من السكان تعيش تحت جميع الخطوط الحمراء للفقر وتعاني من الحرمان والعوز ومن فقدان القدرة على تدبير مأكلها ومشربها وصحتها، وقد ضاعف من هذا العجز الاعتماد المبكر للاقتصاد الوطني على الوصفات الجاهزة المقدمة تحت شروط المؤسسات المالية الدولية، وفي ظل غياب تقاليد نظام حكم ديمقراطي راسخ يفعل من دور الرقابة الشعبية ويجعل المجتمع قادرا على التحكم في مصيره وفي مقدراته العامة، كما أن تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي والتمكين لمافيات ومضاربي رأسمال المال الخاص بشقيه الأجنبي والوطني أدى بدوره إلى الإجهاز الكلي على مقدرات هذا الاقتصاد وإلى انتشار الفساد المالي والإداري وغياب الشفافية في تدبير بنياته وهيئاته ومؤسساته المختلفة .
وقد أنعكس هذا الوضع على الوضع الاجتماعي مظهرا بوضوح عجز الدولة الموريتانية إلى الآن عن صهر جميع مكونات شعبها في لحمة واحدة ونسيج وطني منسجم، وحول هوية وطنية جامعة، تحترم حقوق المواطنة الصادقة والصحيحة وتقدس واجبها، ما جعلنا نشاهد من حين لآخر وعبر حقب مختلفة مظاهر الانقسام والتفكك ونسمع دعاوى غير مسبوقة إلى المحاصصة الفئوية والعنصرية والانفصال والتمزيق والتشطير، لهذا الكيان غير الراسخ المتسم بالهشاشة وضعف الانتماء، بل وبغياب الولاء للدولة لدى الكثير من شرائحه وفيئاته وقبائله .وهذا يعني أن الدولة الوطنية الموريتانية- ورغم مضي هذه الفترة الطويلة نسبيا من عمرها- لم تستطع إلى الآن أن تكون بديلا حقيقيا لولاءات بعضنا الضيقة ولم تتمكن من ترسيخ مفهومها ومن جعلها أكثر إقناعا وإنصافا لكل مواطنيها .
كما أنها على الصعيد الثقافي ما زالت تعاني التذبذب والاضطراب في خياراتها التربوية ، وتنتقل من نظام تربوي إلى آخر سعيا للتكيف مع مشكلات الاختراق الفرانكفوني ، الذي تفاقم وتعاظم دوره خلال الخمسين سنة الماضية، بسبب التبعية الثقافية والاقتصادية التي رسخها المستخلفون عن الاستعمار في هذه الأرض بعد أن تمكنت أجيال المقاومة الثقافية الباسلة من تأجيل ذلك الاختراق طيلة حقبة الاستعمار المباشر، وهكذا بفعل هذه التبعية المقيتة يتم إلى الآن العمل على تعطيل ترسيم اللغة الرسمية والدستورية للبلاد أي العربية ، وعدم التمكن من تفعيل اللغات الوطنية الأخرى بما يجعلها أداة للتواصل والتثاقف بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني.
إن الإبقاء على اللغة الفرنسية وجعلها لغة للتعلم والعمل والإدارة والاقتصاد يفقد شعبنا قدرته على التواصل مع جذوره الثقافية والحضارية، ويجعله عاجزا عن الابداع والنهوض الحضاري ومستلبا في هويته وفي ثوابته وقيمه الدينية والثقافية.
تحديات بناء دولة المواطنة
لا شك أن من أهدافنا وتطلعاتنا المشروعة في الفترة القادمة أن نرى بلدنا وقد انتقل من وهدة التخلف إلى بحبوحة التنمية والاستقرار، وأصبحت وحدته الوطنية وثوابتها الحضارية أكثر رسوخا وتجذرا ، خصوصا أن ما يصدر اليوم من تصريحات وبيانات ومواقف عن بعض النخب السياسية في البلاد يعكس بجلاء حجم الاختلاف حول ما يجب أن يكون ثوابت وطنية، كما ينذر بمخاطر جمة على نسيج وحدتنا الوطنية ، ولعل هذا ما يدعو إلى أن نجعل من أولوياتنا ضرورة حسم هذه الثوابت والتصدي بحزم لكل من يسعى إلى المساس بها تشويها أو تشكيكا، فلا مساومة مثلا :
– حول الهوية العربية الثقافية لهذا البلد . هوية تنغمس بعمق في روح الحضارة الإسلامية العربية والإفريقية .
– لا قفز بالمطلق حول حقيقة التنوع الاثني لمكوناته، وحول حق كل هذه المكونات في احترام حقوقها الوطنية وخصوصياته الثقافية في إطار دولة الحق والقانون.
– لا تنازل عن النظام الجمهوري الديمقراطي القائم على استقلال القضاء واحترام الحقوق والحريات وعلى الاقرار بمبدأ التداول السلمي على السلطة وعلى حقوق المواطنة الكاملة والصادقة.
إن الاستمرار في الاختلاف حول هذه الثوابت لا ينذر فقط ببقاء تلك الاختلافات ولا بتعاظمها وإنما بالعجز عن بناء الذات الوطنية الموريتانية في ضوئها، وما ينجر عنه ذلك من مخاطر جسيمة على مستقبل البلد ، غير أن بناء هذه الذات الوطنية لا يتم يقينا في ظل غياب الشعور لدى البعض بالولاء والانتماء لوطن واحد لكل أبنائه ، فالدولة التي تكرس الغبن وتفاوتالفرص والحظوظ بين مواطنيها ، تخلق بالضرورة الإحساس بالحرمان وبعدم المساواة الوطنية لدى الكثيرين منهم . ولهذا فإن دولة المواطنة القائمة على المساواة بين الجميع والتي ترفض أي شكل من أشكال التمييز بين مواطنينها ، على أساس الجنس أو اللون أو العنصر أو اللغة أو المركز الاجتماعي أو أي أساس آخر ، هي الدولة القادرة أكثر على تحقيق الانسجام بين مكونات شعبها مهما تعددت وعلى تحقيق ما تصبو إليه من أهداف بما فيها أهداف المواطنة نفسها أي :
1 – تحقيق المساواة التامة بين جميع المواطنين فى الواجبات والحقوق
2- تعزيز قيم الولاء والإنتماء لدى الكافة .
3 – مشاركة الجميع فى القرار الوطني باعتبار أن المواطن يجب أن يكون شريكا أساسيا وفاعلا فى صنع القرارات العامة المتعلقة بحياته ومجتمعه .
إن هذه الأهداف هي ما يجعل للمواطنة بالضرورة أهمية خاصة تختلف بها عن الجنسية التي هي مجرد رابطة قانونية، ذلك أن المواطنة شعور وانتماء قبل كل شيء ورابطة معنوية يحسها حتى أولئك الذين يتمتعون بتعدد في جنسياتهم تجاه أوطانهم الأصلية، وهو ما يجعل من الخطأ الاعتقاد أن كل حاملي جنسية بلد ما يشعرون بالضرورة بصدق الانتماء إليه . وبالتالي الاستعداد عند الضرورة للدفاع عنه والموت في سبيله حرصا على بقائه واستمراره .
فالشعور بالمواطنة الصحيحة والصادقة، هو الذي يؤدي بالمجتمعات إلى خلق التجانس والانسجام الاجتماعي بين مختلف مكوناتها ويضعف الإحساس بأهمية التقوقع داخل أطر الانتماءات الضيقة، كما أن هذا الشعور هو الذي يخلق أيضا ويعزز من فكرة الأهداف المشتركة التي يسعى الجميع إلى تحقيقها، لما في ذلك من خير يعود إلى الجميع أيضا.
أما بأية وسائل نحقق هذه الأهداف وكيف؟ ، فذلك ما اعتقد أن تلاقي الإرادات الصادقة والواعية بكل المخاطر التي تتهدد بلادنا كفيل به ، غير أننا مع ذلك لا يجب أن نقلل من حجم العقبات التي تقف في وجه تحقيقه ، فالتوظيف السياسي للمشكلات العالقة وطغيان النزعات التفردية والاستئثارية بتدبير الِشأن العام بعيدا عن أي شكل من أشكال المشاركة السياسية في الحياة العامة ، ناهيك عن خطاب التقليل والتهوين من المخاطر التي تتهدد البلد والتي في مقدمتها يقينا مخاطر عدم الاندماج الاجتماعي والإرهاب والجريمة المنظمة والاختلالات الديمغرافية بفعل الهجرة والتجنيس غير القانوني . كلها أمور ما زالت تهدد مستقبل كيان الوطن الموريتاني الواحد وتجعله أكثر عرضة لمخاطر التمزق والاندثار لا قدر الله .
د/ محمدو ولد محمد المختار
باحث وأستاذ جامعي