صدر مؤخرا عن مطبعة دار المعارف بالرباط، كتاب – للدكتور عباس الجراري تحت عنوان “بحوث مغربية في الفكر الإسلامي؟. ويقع هذا الكتاب في 191 صفحة من القطع المتوسط، ويلاحظ القارئ، وهو يتتبع مختلف الموضوعات الواردة في هذا الكتاب، أن غاية المؤلف تكمن في توضيح بعض الجوانب من الفكر الإسلامي، فيما يرتبط منه بالتراث أو يمس الواقع، وهي جوانب تكشف منظورا مغربيا، انطلاقا من عوامل التأثير البيئية، أو لما له من صلات بمميزات الموروث الحضاري والثقافي.
لدق أراد الدكتور عباس الجراري أن يكشف من خلال كتابه عن الهوية والكيان والشخصية المغربية ويؤكد على مدى حضور الفكر المغربي بكل مقوماته الثابتة والمتحركة، الإبداعية، والمتجددة. وقد تميز الدكتور الجراري، مع قليلين جدا، بأمانة الموقف وعلمية المنهج، وعلانية القناعة، وهو يتناول بالدراسة والتحليل التراث الحضاري المغربي، وكذا الفكر الإسلامي، ومن ثم جاءت أحكامه موضوعية، وتمخض عنها الموقف العلمي النزيه الذي تميز به من غيره. ومن هذا المنطلق واصل الأستاذ رحلته متتبعا لمكامن القوة في الفكر الإسلامي، معززا قناعته بأن للأمة العربية الإسلامية عطاؤها الوفير، وأن العقل العربي الإسلامي له الكثير من الخصوصيات والقدرات على مواكبة العصر، ومن ثم إيجاد الصيغة المناسبة للتزاوج بين التراث والمعاصرة…
ولا شك أن الدعوة الإسلامية تستند إلى منطلقات، وتسعة إلى أهداف تجعلها تجمع بين الرسالة الدينية، وبين تنظيم كيان ينسجم مع هذه الرسالة، وهي بذلك ترتكز على فلسفة متكاملة تتميز بمبادئ قوية، وأداة رابطة، وتنحصر هذه المبادئ في: التوحيد- العدل والمساواة بين الناس جميعا ثم الشورى، أما الأداة فتتمثل في الخلافة التي أحدثت لملء الفراغ الذي واجه المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي واجبة وجوب تطبيق المبادئ.
لكن الجدل القائم حول الخلاقة، جعل الفقهاء يضعون أسئلة حول الخلافة نفسها؟ فبعضهم قال بالجواز بينما رفض البعض الآخر ذلك. ومع هذا، فقد طرح الفقهاء وجوب الخلافة بقولهم: “نصبة الإمام واجبة” وقد استندوا في وجوبها إلى القرآن (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). وقد أكد ابن حزم على ضرورة إسناد الأمر لمن ينوب عن أفراد الأسرة في تدبير شؤونها,. فالدولة في الإسلام لا بد أن يكون على رأسها سلطة تأمر وتنهي وتصدر الأحكام وتسهر على تطبيقها وتنفيذها، وذلك في نطاق التعاون على البر والتقوى ومحاربة الإثم والعدوان. (ص 15).
وإضافة إلى هذا كله، تحدث الكاتب عن ارتباط الخلافة بالشرعية، فهي حلافة واجدة غير متعددة طالما أن الدولة تعيش وحدة متكاملة وتامة، مما جعل فقه السياسة الإسلامي ينتهي إلى أنه “لا يجوز عقد الإمامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة” (ص 16).
فالنص على الوحدة يقتضي وجود الكيان ذي النظام المتكامل والمتماسك وفق النموذج الصحيح الذي عرفته الدولة الإسلامية لأول عهودها. (ص17). فالأساس الذي تقوم عليه أداة الحكم في الإسلام يتجلى في عقد يبرم بين الحاكم والمحكومين، وهذا العقد يعرف بالبيعة، وتعني: “العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه من الأمر على المنشط والمكره..” وعلى هذا النسق – يقول الأستاذ المؤلف – كانت بيعات المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى نفس النسق تمت بيعة الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم. وقد ارتبطت البيعة بظاهرة الترشيح للخلافة، ومثل الأستاذ بكتابة أبي بكر البيعة لعمر ابن الخطاب وتشكيل هذا الأخير لمجلس شورى مكون من ستة أعضاء، ومثل هذا الأسلوب سيعر مرحلة مضبوطة في عهد معاوية حين أخذ البيعة بالخلافة بعده لولي عهده ولده اليزيد، وأمر كهذا، يرى الأستاذ أن دوافعه نابعة من ثقة الأمة في الخليفة. فالبيعة إذن تتم عن رضى واختيار بين طريفين، شرطة رعاية مصالح الأمة والسهر على شؤون أبنائها، والسعي إلى توفير أسباب الأمن والرخاء. وهذا يدل أيضا – كما يقول الأستاذ – على أن الأمة هي مصدر السيادة، وأن الخليفة إنما يستمد نفوذه من خذا المصدر، وفي نطاق هذا التلاحم بين الخليفة والأمة يكمن إدراك سر الخطاب الجمعة الذي جاءت عليه آيات قرآنية كثيرة. وإذا كان هذا الاختيار مرتبطا بالصيغة الإجماعية، فإنه يقوم على شروط لا بد من توافرها في الخليفة وهي أربعة كما حددها العلماء، وهي: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء. مما يؤثر في الرأي والعمل ( ص 21)، أما وجبات الإمام والتزاماته، وحددها العلماء – كما يقول المؤلف – في عشرة أمور وهي: حفظ الدين على الأصول وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وحماية البيعة والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود وتحصين الثغور، وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا: وتقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير تقصير، واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء، وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال…” ( ص22 و 23)..
وهكذا إذا قام الإمام بحق الرعية وجب لهم عليه حقان: الطاعة والنصرة. أما ما يخرج به عن الإمامة فشيآن: الحرج في عدالته والنقص في بدنه، وحتى يؤدي الإمام واجباته كاملة، حدد له الشرع حقوقا تتلخص في السمع والطاعة والامتثال، ومن هنا أحل الله تعالى البيعة مكانة جليلة ومرموقة في قوله عز وجل: (إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله…). ويعتقد الأستاذ أن إلزامية الطاعة هي التي جعلت النبي عليه السلام يربطها بالاستطاعة وما تطيقه الأمة, وهذه الإلزامية تعني وضوح الرؤية إلى جانب وضوح المبادئ والأهداف..ومثل هذا الموقف ينطلق من الحرص على الوحدة والجماعة، وهذه الوحدة قائمة على أساس ثابت وصحيح. وهو الوضع الذي عرفه المغرب، وميزه عن باقي الأقطار العربية الأخرى، “فالمتتبع للتاريخ الإسلامي في المغرب ينتبه إلى بعض الظواهر التي لازمت نظام الحكم فيه، على الرغم من تعدد الدول التي تعاقبت عليه” (ص 28) وهنا يشير المؤلف إلى ثلاثة من تلك الظواهر وهي:
1- ارتكاز النظام على الإمامة الشرعية وإمارة المومنين.
2- مراعاة شروط الإمامة والعلم منها خاصة.
3- اعتماد البيعة في اختيار الإمام وإسناد الأمر إليه، وتنظيم العلاقة بينه وبين الأمة على أساها، ومثل المؤلف لأول بيعة قدمها المغاربة للمولى إدريس إلى البيعة الأخيرة التي تمت في نطاق استكمال الوحدة الترابية. فضلا عن تجديد هذه البيعة في المناسبات، وخاصة في حفل الولاء الذي يقام في اليوم الثاني من عيد العرش. بعد هذا يتحدث الكاتب عن الكيفية التي تتم لها البيعة، :فهي تكون كتوبة وعليها إمضاءات المبايعين، وربما وثقت بالإشهاد العدلي” (ص 30) فهي إذن ليست مجرد عقد صوري. ولكنها تثبت على العطس ممن ذلك مدى تحمل المسؤولية..فالتزام المغاربة بالبيعة هو التزام بالشريعة، وهو هدف لا يقوم إلا إذا توفرت روابط متينة يشد عراها وعي اجتماعي ينطلق من قيم كامنة في العمق بإيمان، وبحث على الانضباط والانتظام في كيان له مصداقيته ومرجعيته” (ص 36).
ولم يفت الكاتب أن ينبه في نهاية هذا العرض إلى تمثل صحيح لفلسفة الحكم في الإسلام، وإلى تحليل علمي لواقع المسلمين اليوم، انطلاقا من تفكير اجتهادي حر، وتوفيق عقلي بين مبادئ الشرع ومقتضيات العصر، وذلك من أجل حياة إنسانية يسودها العدل والمساواة والعزة والكرامة والسعادة..” (ص 37).
***
وتناول الأستاذ في الموضوع الثاني من الكتاب: “أسباب انتشار المذهب المالكي في المغرب” وهو نص المدرس الذي ألقاه بأمر من صاحب الجلالة إبان الدروس الحسنية الرمضانية لسنة 1985 في الرباط. وقد انطلق فيه الكاتب من الحديث النبوي الشريف “يوشك أن يضرب الناس كباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”. تناول الأستاذ هذا الموضوع من خلال قسمين اثنين مع تمهيد توضيحي. وهكذا أوضح في البداية أن إجماع المغاربة على المذهب الملكي يعتبر ظاهرة التوحد الذي يترجم ميلهم إلى الاتصال والالتقاء، وإلى التجمع والانصهار والاندماج بسبب الاستقرار السياسي متميزة في الفكر المغربي، طالما أن المغاربة ميالون إلى …والفكر، وهذه الاختيار للمذهب المالكي – يقول الأستاذ – قد تم على مرحلتين لا تتمثل الأول في اختيار الخط السين، بينما الثانية فتكمن في اعتناق المغاربة للإسلام عن اقتناع، حيث “وجدوا فيه الحل لمشكل عقدي مزمن، طالما عانوا منه منذ الديانات الأولى التي عرفوها في المراحل البدائية وما شاع فيها من معتقدات”.
أما أسباب اختيار المذهب المالكي، فيطرحها الأستاذ المؤلف من خلال زاويتين اثنتين: أسباب وعوامل داخلية، وأخرى خارجية ذات صبغة تاريخية سياسية. فالأسباب والعوامل الداخلية تنسجم مع الكيان الذهني المغربي الميال إلى الاعتدال والنزوع إلى العمل أكثر من القول، وحدد الأستاذ في هذا المحور خمسة أسباب هي – مكانة الإمام مالك العلمية وانتماؤه للمدينة المنورة – الأمانة العملية التي كان عليها الإمام مالك، وهي صفة جيل عليها المغاربة فضلا عن ضبطهم وما عرفوا به من تحرز وتورع – طبيعة المذهب الذي يعتمد على الأثر والرواية، وهو بذلك يوافق مزاج المغاربة الميال إلى اليسر والوضوح إضافة إلى ما يتسم به المذهب من اعتدال وتوسط – نضالية المذهب التي تتجلى في التحام فقهائه مع الجماهير وقضايا الوطن والأمة والمسلمين – تجدد المذهب باستمرار، خاصة ما يتعلق بالذرائع والمصالح المرسلة وما تعطيه من مرونة وقابلية للتكيف مع أية بيئة وفي أي عصر.
أما العوامل الخارجية، فقد حصرها الأستاذ في خمسة محاور هي:
1 – رحلة المغاربة إلى الحجاز بغية أداء فريضة الحج أو طلب العلم، ولعلهم بذلك، كانوا يستحضرون الحديث النبوي الشريف: “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”.
2- تبادل الوفود والبعثات بين المراكز الثلاثة المهمة في مجال العلم والحضارة بالمغرب الإسلامي، وقد سار هذا التبادل في اتجاهين اثنين: الأول من المغرب إلى الأندلس والقيروان، والثاني من الأندلس والقيروان إلى المغرب.
3- توقيت اختيار المغاربة للمذهب المالكي، إذ إنهم عرفوا ظروفا تاريخية عاش فيها المغرب مخاضا تمثل في وجود الخوارج والاعتزال وذهب أبي حنيفة ومذهب الأوزاعي ولم يتخلص المغاربة من تعدد هذه التيارات إلا بعد مجيء المولى إدريس، إذ رحبوا به وبايعوه تم الاختيار، ويعود سبب ذلك إلى أن المولى إدريس من آل البيت، والمغاربة معروفون بحبهم لآل البيت، فضلا عما يوجد من تعاطف بين الأدراسة والإمام مالك، وهو تعاطف يتخذ مظهرين هما:
أ- أن مالكا يروي في موطاه عن عبد الله الكامل والد المولى إدريس.
ب- أن مالكا له موقف من العباسيين، وهو موقف كان لصالح أخ المولى إدريس المعروف (بالنفس الزكية).
4- تقوية المذهب في ظل المرابطين الذين اعتمدوه واتخذوه حركة تقود نضالهم نحو تحقيق الإصلاح وتصحيح أوضاع المسلمين.
5- استمرارية مساندة الدولة المغربية للمذهب المالكي وحمايته من الانحرافات والتيارات المتطرفة قضاء يوسف بن تاشفين على البورغواطيين، وقضاء المولى إسماعيل على العكاكزة…..ولا شك أن الهدف من هذه الحماية – يقول الأستاذ – وهو الحفاظ على نقاء العقيدة وصفائها وعلى وحدة المغرب وكيانه….
وفي الموضوع الثلاث، تحدث الأستاذ المؤلف عن الدين في وسطيته وتجديده وسياق الشخصية المغربية، انطلاقا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، “لا يزال أهل المغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة….” وهو نص المحاضرة التي شار فيها الأستاذ في الدروس الحسنية في شهر رمضان لعام 1986. وقد تناول المؤلف موضوعه هذا من خلال محورين: أولهما: عن الشخصية في سياقها مع الدين….
ثانيهما: الميل عند المغاربة إلى الوسطية والاستعداد للتجديد
فالشخصية تعني عند الكاتب، الكيان القائم على مجموعة من العناصر المادية والمعنوية تتصل بالجسم والعقل والروح، والإرادة والشعور، (ص 62) وهي أيضا كيان ذهني يرتكز على قيم ومقومات قادرة على إبراز الخصوصيات المميزة للناس عن غيرهم، وهي خصوصيات تتسم بالثبوت لارتباطها بعوامل تارة، وبالتطور والتغير لخضوعها لعناصر متحركة، إضافة إلا هذا أن الشخصية – كما يقول الأستاذ – تنبثق من مكونات تلتقي على صعيد البيئة، وتنصهر في بوثقة العوامل الفاعلة فيها حضاريا وثقافيا، ( ص 63). ويرى الأستاذ أن هذه البيئة بعنصريها الطبيعي والبشري أفرزت أوضاعا اقتصادية وظروفا إنمائية ونظما اجتماعية. (ص 64) يم ما لبث الكاتب بعد ذلك أن أبرز مختلف مقومات العنصر الثقافي، وهو عنصر تتعدد منابعه وتتنوع مصادره وملامحه الأصيلة القديمة والمستمرة سواء ما يتعلق بالتراث الشعبي أم المدرسي، ويضيف الأستاذ إلى هذا كله، اللغة العربية، وتأتي طليعة هذه المكونات الثقافية.
وهذا يكشف عن “هوية مغربية عربية إسلامية متماسكة لا تعرف التمزق أو التصدع منذ الفتح الإسلامي إلى المرحلة الحديثة؟؟..وعن هذه الشخصية في سياستها مع التدين، يلاحظ الأستاذ أن هذا التدين يدل على ميل فطري إلى الوحدانية. “فالإسلام احتوى الشخصية المغربية احتواء كاملا وأعاد تكوينها بالتصحيح والتقويم..” ومن ثم تتحدد جملة خصائص حصرها الأستاذ المؤلف في خمس نقط هي:
1- الاعتدال وعدم التطرف.
2- التقرب إلى الله وخشيته والاحتراز في العمل والسلوك.
3- تهذيب الغرائز والطبائع وتقويم الضمير الفردي، وتقريبه بوعي للضمير الجمعي.
4- الرضى والقناعة والقدرة على تجاوز تناقضات الواقع.
5- عدم الانشغال بالغيب في اطمئنان لما أخبر الله له، مع الاستعداد للعالم الآخر ويوم الحساب.
فالعقيدة الإسلامية كانت دائما نبراسا للمغاربة، وقاعدة لسلوكهم وعلاقاتهم، ومقياسا يميزون به الفاسد من الصالح، وممن هنا عمل المغاربة على تحقيق التوازن والشمول.
أما عن ظاهرتي الوسطية والتجديد – باعتبارهما من أبرز نتائج التفاعل القائم بين الإسلام والشخصية المغربية- فتتجلى بقول الأستاذ في عدة مظاهر ذكر منها ثلاثة وهي:
1- التمسك بالاعتدال المذهبي ورفض التطرف.
2- الوسطية بني العقل والنقل في مسائل العقيدة.
3- التوازن بين الشريعة والحقيقة.
وقد فصل الكاتب القول في هذه النقط الثلاث مستنتجا في النهاية أن التزام المغاربة بالإسلام في وسطية واعتدال “أتاح لهم أن يكونوا على مر التاريخ مهيئين للحفاظ على الدين، مستعدين لتجديد أمره، على الرغم من اقتران التجديد بالاتباع “الذي يعني أنهم يتبعون الحق ويقتنعون بالدليل”… من غير جرح ولا تعديل، متحملين في ذلك مسؤوليتهم كاملة. وهذا هو الذي حدا بهم للأخذ بالمذهب المالكي الذي أجمعوا عليه وتوحدوا في ظله.
***
أما الموضوع الرابع فهو “موقف الغزالي عن إشكالية التوفيق بين المحكمة والشريعة، وقد قدم الأستاذ الجراري هذا البحث في الدورة الثانية لأكاديمية المملكة المغربية لسنة 1985.
اعتبر الأستاذ أن عصر الغزالي من أغنة عصور الفكر الإسلامي وأخصبها، إلى جانب ما عرفه هذا العصر أيضا من صراع بين تيارات ومذاهب، وهكذا ظهرت عدة إشكاليات فكرية احتد حولها النقاش، واتخذت فيها مواقف متباينة، وتأتي إشكالي التوفيق بين العقل والنقل في طليعة ما يشغل فكر المسلمين في ذلك العصر”. وهي قضية قديمة ظهرت مع بداية احتكاك الفكر الإسلامي بالفلسفة اليونانية، أدار النقاش حولها أبو يوسف يعقوب الكندي، و”كان أول الذين اتخذوا موقف الملائمة بين الدين والفلسفة”، إلى أن اتسع نطاق هذا البحث التوفيقي على يد جماعة من الفلاسفة أبرزهم أبو نصر محمد الفارابي وأبو علي الحسين بن سينا. أما الغزالي قد تعامل مع هذه الإشكالية من موقع يتسم بالرفض الفلسفة والإعراض على العقل ومعارضته، وهذا لا يعني إنكار أبي حامد الغزالي للفلسفة، بقدر ما يعني سعيه إلى عملية توفيقية يتناول فيها القضايا الفلسفية من متظور إسلامي، وبمنهج نقدي متميز، وقد تأثر الغزالي في ذلك بعوامل ثلاثة:
أولهما: يتمثل في المرحلة التي مر منها تكوينه العملي. ومدى تكور تفكيره.
الثاني: تكشف عنه نوعية القضايا التي شغلت فكر المسلمين.
الثلاث: يكمن في طبيعة تفكير الغزالي وهو يتعامل مع تلك القضايا بموعية انتقادية من غير تصلب في الرأي، ودون لجوء إلى أحكام مسبقة، وهذا التعامل مع إشكالية التوفيق – يقول الأستاذ – يظهر من خلال محورين اثنين هما:
1- رد الغزالي على الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق قبله.
2- تأثره ببعض النظريات الفلسفية الدخيلة.
ويبرز المؤلف أن منهج الغزالي كان يقوم على الشك، “من لم يشك لم ينظر. ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمة والضلال”. فقد تجلى الغزالي عن التقليد. وانتقل منه إلى الحس، ليلجأ فيما بعد إلى العقل فبل أن ينتهي إلى الدوق والكشف المؤديين إلى المعرفة القبلية، فهو يعتمد في منهجه على مقاييس متكاملة. فشكه كان منهجيا، توسل به للوصول إلى اليقين، على أنه في تناوله لقضية التوفيق بين الدين والفلسفة، كأن يجمع بين الشرع والعقل مشبها هذا الأخير بالبصر والقرآن بالشمس.
لقد كان الغزالي – يقول الأستاذ يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
الأول: مراجعة الفلاسفة المسلمين في تناولهم لقضية التوفيق بين الدين والفلسفة.
الثاني: تحصين عقيدة العوام.
الثالث: إزالة ما كان للفلاسفة من مكانة في نفوس البعض..
أما محاولته التوفيقية وما فرضت عليه من انتقاد الفلاسفة، فقد سلك في ذلك الموضوعية؛ حيث بدأ بالتعرف إلى مختلف المسائل المطروحة والتعريف بها..وما كان للفلاسفة من آراء ونظريات فيها، ظهر ذلك واضحا في كتابه (مقاصد الفلاسفة) الذي يعتبر تمهيدا لـ (تهافت الفلاسفة). وقد اقتصر الغزالي في انتقاده للفلاسفة على ثلاثة منن علومهم هي: المنطقية والإلهية والطبيعية، لما فيها من تعارض مع الدين، وهنا يقف الأستاذ المؤلف عند أهم القضايا التي ناقش فيها الغزالي الفلاسفة، يتتبع أقوالهم وردودهم، يفند أدلتها التي اعتبرها قائمة على مسلمات ظنية، “والغزالي في مناقشته لهذه المسائل الفلسفية بالبراهين العقلية والرياضية، يعتمد كذلك على النصوص النقلية”. وعلى الغرم ممن انتقاد الغزالي للفلاسفة والرد عليهم، فإنه لم يكن – كما يؤكد الأستاذ – يسعى إلى التشكيك في الفلسفة وتحطيمها، بقدر ما كان يسعى إلى إزالة ما كان مطروحا في سياق يتعارض مع الدين، وهو بذلك يقدم محاولة عميقة للتوفيق بين الحكمة والشريعة. ولا شك أن الغزالي تأثر بالأفلوطينية “التي يبدو في جوانب من تأملاته الصوفية الذوقية، وكأنه يحاول الملاءمة بينها وبين الإسلام…ولعل أبرز تلك الجوانب، إشادته بالعقل..فقد قرنه بذات ملك من الملائكة..كما فسره بالنور معتمدا في ذلك على بعض النصوص من القرآن والحديث, وهكذا يعتبر الغزالي أن الإيمان والمعرفة أنوار تتفاوت في البشر. بعد هذا يعتبر الغزالي أن النور الحق هو الله تعالي، وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له…” ويضيف الأستاذ قائلا بأن الغزالي “لم يكن يجد كبير عناء في التوفيق بين النظرية الأفلوطينية وتأملاته الصوفية الذوقية، وما قادت إليه من التوسل ببعض النصوص للاحتجاج بها…” لقد فتح الغزالي الباب لفكر لإسلامي جديد، يجمع بين الفلسفة والتصوف، مما جعل البغض يأخذون عليه اتجاهه التوفيقي وينتقدونه فيه من أمثال معاصره محمد بن الوليد الطرطوشي وتقي الدين أحمد بن تيمية وغيرهما. ويرى الأستاذ المؤلف في نهاية هذا الموضوع أنه “مهما يكن، فقد عمل الغزالي على إقامة كيان فكري فلسفي إسلامي..” وهو في كل هذا لم يكن متعسفا ولا منحازا ولا راغبا في أن يثبت التوفيق….,لكنه قام بهذا العمل من منطلق العالم المسلم المسلح بتجربة فكرية عميقة، والمتمكن من علوم الفلسفة وأدواتها المنهجية، والمعتز بشخصيته ودينه…” ولم يخف الأستاذ مدى التوفيق الذي صادف الغزالي وهو يطرح على محك البحث النقدي مجموع العناصر التي تناولها في التوفيق، وأعاد تأملها ودراستها، ولا شك أن العصر الذي عاش فيه الغزالي كان أحوج إلى توضيح الأفكار وكشف الزائف منها. والصحيح، وهو ما قام به الغزالي في عمله التوفيقي بين الحكمة والشريعة.
***
وفي موضوع “استخلاص التصور السليم لمعاملة غير المسلمين في ديار الإسلام في الوقت الحاضر”، الذي كتبه الدكتور الجراري باقتراح من المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن عام 1984، حدد الأستاذ في البداية مختلف المفاهيم الواردة في العنوان، ليخلص فيما بعد إلى نقطة الارتكاز في “التصور” تكمن في “مواطنه تراعي جدلية الدولة والإنسان في ظل الإسلام، من حيث أن لكل منهما طبيعة ذات خصوصيات”، فالدولة الإسلامية لا بد أن تقوم على نظام يستمد روحه وأحكامه من الشرعية، اعتبارا ممن كون الإسلام “رسالة إنسانية سامية تبدأ من الدعوة إلى التوحيد، وتنتهي إلى التبشير بالوحدة التي ينصهر داخل بوثقتها كل الناس تحقيقا للعدل والمساواة والحرية والطمأنينة والسعادة والكرامة”. وفي هذا الإطار – يقول الأستاذ – تشمل الدولة الإسلامية كل الأفراد والجماعات التي تعيش في كنفها، والتي ترتبط ليس بآصرة الجنس أو العنصر أو العصبية؛ ولكن برابطة الروح والفكر والثقافة والقيم والتقاليد وأساليب الاستثمار والإنتاج وأنماط العيش والسلوك”, ويعتبر الإنسان يضيف الأستاذ المؤلف، المنطلق في هذه الرابطة الإنسية باعتباره مجموعة من القدرات والطاقات التي من أهمها غريزته، ثم روحانيته وعقله الذي “يتدخل ليعمل في الوعي والإحساس والإرادة والفكر، فيوجه ويخطط وينقد ويضبط حركية الإنسان، وهذا ما يعطي المواطنة مفهومها الحق”, وهي مواطنة شريفة ومسؤولة، ويقول الأستاذ – وتستمد شرفها ومسؤوليتها من تكريم الله تعالى للإنسان يورى الأستاذ أن هذا التكريم، له عدة مظاهر أبرزها القرآن الكريم، واكتفى المؤلف منها بذكر مظهرين اثنين:
الأول: القدرة على حمل الأمانة، ويرتبط ذلك بتحمل المسؤولية.
الثاني: القدرة على التعايش والتساكن، وقبول المخالفة في العقيدة على أساس التسامح الذي دعا إليه الإسلام وهو نتيجة بالديانات الأخرى، وبالحقيقة التي تمثلها فضلا عن “إيمانه بالحوار، وتفتحه على مجالات الإنسانية في حريتها وحركيتها وسعيها الدائب نحو التطور والتقدم…ثم اعتماده على البحث الدائم في الكون، لإمكان استثمار معطياته وخبراته لصالح البشرية..وهو في النهاية. نتيجة ارتباطه بالمشكلات التي يعانيها الناس في واقعهم المحسوس..”. وهكذا يرسم الإسلام المواطنة كما ينبغي أن تكون في دياره. فهذه المواطنة حسب اعتقاده الأستاذ الجراري تقتضي أسسا أربعة وهي المساواة والحرية والهوية والتنمية, وبعد أن فصل الكاتب القول في هذه الأسس، خلص إلى “أن مواطنة تقوم على هذه الأسس الأربعة، كفيلة بضمان الوحدة في ديار الإسلام، بدءا من الفرد إلى الدولة مرورا بالأسرة والمدرسة وغيرها من الأجهزة والمؤسسات وما يلهم بينهما من علاقات وروابط قائمة على قواعد وقوانين وأعراف..” أما عن الأقلية في المجتمع، خاصة تلك التي تكون على صعيد العقيدة والدين، “فلا تكفي وحدها للتميز عن هذا المجتمع..” بل إنها “لا تكفي لخلق كيان مستقل..فالإدارة المستمرة لجميع أفراد الدولة هي الإرادة الجماعية، وبها يكونون مواطنين أحرارا..:” وفي نهاية هذا الموضوع ينبه الأستاذ إلى المؤامرات التي تدبر للمسلمين، وهي مؤامرات تسعى إلى تجريد الفكر الإسلامي من مفاهيم الدولة والوحدة…وترسيخ الانفصالية والعرقية والطائفية والعشرية..حتى يسهل فرض الهيمنة على ديار المسلمين..” كما ينبه إلى أن الاستعمار يوم كان يلقي بظله على الدول العربية والإسلامية، حاول أن يركز على الأقليات الدينية والجنسية واللغوية لعزلها وضرب الأغلبية بها”. علاوة على هذا، نبه الأستاذ أيضا إلى “أن القوى العالمية..تتجه اليوم إلى إحياء النزاعات القبلية والنعرات العنصرية والخلافات الدينية، لتكريس التشتت والتمزق داخل الكيانات الوطنية…” فموضوع الأقليات – يقول الأستاذ – “يمكن أن يكون مصدر قوة ورخاء إن نظر إليه بروح وطني جماعي وفكر متفتح متعقل، ويمكن في نفس الوقت أن يكون وبالا وخسرانا إن ترك للعابثين بمصير الشعوب يستغلونه..” ومن هنا، يرى الأستاذ أن على المسلمين توجيه هذا الموضوع انطلاقا من تقوية الإيمان وتثبيت السلم، ونشر القيم الخلقية، ومحاربة التمزق، ومواجهة التخلف، حتى تعيش الأجيال القادمة حرة موحدة وكريمة.
***
أما آخر موضوع في هذا الكتاب، فتتناول فيه الأستاذ المؤلف “خطبة الجمعة وقضايا الفكر الإسلامي”، قدمه في الملتقى العالمي الأول بخطباء الجمعة في المغرب الذي انعقد بفاس سنة 1987. في البداية تحدث الكاتب عن الخطابة كفن من فنون القول، شار عند اليونان والرومان، وازدهر عند العرب نظرا للمكانة التي حظي بها في المجتمع العربي، كما أبرز الكاتب إن فن الخطابة كثيرا مع كان وسيلة الدعوة إلى السلم وإلى إصلاح ذات البين، إضافة إلى هذا، تحدث المؤلف عن الخصائص المميزة في العصر الجاهلي كالقصر والإيجاز والاستشهاد بالشعر، وشيوع السجع، أما في ظل الإسلام، فقد شهد ف الخطابة مزيدا من الازدهار، عملت على إذكائه عدة أسباب تأتي في طليعتها ما كان عليه المجتمع الإسلامي من حرية وشورى وعدل ومساواة، مما أكسب الخلفاء مكانة فاقت منزلة الشعراء، وهكذا تطور هذا الفن، “وكانت فعاليته قوية في نشر الدعوة الجديدة، وبذلك اشتهر كثير من الخطباء يأتي على رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، وفي ظل هذا الازدهار، ظهرت أنواع متعددة من الخطابة، ومن أبرزها خصائص هذا الفن في العهد الإسلامي، فهي نفسها التي عرفت في العصر الجاهلي، إلا ما كان من السجع الذي بدأ يختفي. “واختفاؤه أو تحقيقه لم يحل دون العناية بالخطب وتنقيحها..” ومن السمات الجديدة التي اكتسبتها الخطابة الإسلامية، الطول بخطبة الرسول في حجة الوداع وغيرها، إلى جانب افتتاح الخطب بالتجميد وبالصلاة على الرسول الكريم، واعتمادها على آيات قرآنية وأحاديث نبوية فضلا عن الدعاء.
إن لخطبة الجمعة، يقول المؤلف، كيانا متميزا طالما أنها تتوسل بالكلمة. وهذه الخطبة لم تتوقف لارتباطها بالصلاة رغم تعرضها لمختلف مراحل المد والجزر “وهي من أجل ذلك تتطلع اليوم إلى أن تسترجع مكانتها” تسعا لواقع المسلمين المتحرك وما ينهض به الخطيب ممن دور فاعل في المجتمع، وأيضا ما يعرفه الفكر الإسلامي من تطور وسط إيديولوجيات وتيارات تسعى إلى نسف هذا الفكر، وبث روح التشكيك والإلحاد في نفوس الشباب، ومن هنا يقول الكاتب: “كان على خطيب الجمعة أن يعرف بحقيقة الفكر الإسلامي في مختلف قضاياه – أصولا وتاريخا وواقعا وآفاق مستقبل – مع الإلحاح على خصوصياته ومميزاته..” وذلك حتى يتسنى له رصد كل المشكلات التي تتحدى الفكر الإسلامي، وقد اكتفى الأستاذ بذكر اثنين تقوم كل منهما على أسس مغلوطة ومزيفة، وهما:
الأول: أن الدين متجاوز، وهي مقولة يروجها الفكر الإلحادي.
الثانية: أن الفكر الإسلامي عاجز عن حل المشكلات التي تواجه المسلمين اليوم..
وهكذا، يدحض الأستاذ المؤلف هذه الآراء، ويرد عليها بوعي عميق متبصر، وفهم صحيح؛ مستندا في ذلك على كثير من الحقائق التي تبين إلى أي حد أعمى الحقد قلوب الملحدين وغيرهم ممن ساهموا في ممارسة الضغط على المسلمين مما ترتب عنه تعطيل البحث العلمي وتخلي المسلمين عن أسبابه ومناهجه، وشيوع التقليد. وانتشار الشعوذة والتزييف، وتأخر التعليم…” بعدها أشار الأستاذ إلى المهمة الصعبة التي تقع على عاتق الخطيب والتي تتمثل في كونه مطالب بإلقاء الأضواء الكاشفة على الإسلام ومبادئه وبراهينه وقضاياه، لمزيد من الإقناع به. فمسؤولية الخطيب تكمن في أنه يواجه مرة كل أسبوع جمهورا من المسلمين..مما يجعل هذا الخطيب مطالبا بالتنويع والتجديد، “وهذا ما يفرض عليه العناية بخطبته موضوعا ومحتوى وصياغة وإلقاء..” فإذا حقق نجاحا في مهمته، فسيكون ذلك عاملا فعالا على تشجيع الناس لحضور الجمعة والمواظبة عليها. وحتى يستطيع الخطيب يقول الأستاذ القيام بعبء الخطبة الثقيل، فإن شروطا كثيرة ينبغي أن تتوفر فيه ليكون قدوة يحتذى. ومن هنا كان لا بد من تأطير الخطباء وتزويدهم بكل ما يمكن أن يفيدهم في مهمتهم.