28 مارس، 2024، والساعة الآن 3:46 مساءً بتوقيت نواكشوط
Google search engine

أساليب هشام جعَيْط

 هشام جعَيْط

إعداد وتنسيق الملف – ساسي جبيل

الملحق الثقافي – الاتحاد

-1-

أساليب هشام جعَيْط

 «الأسلوب هو الإنسان»… هذه العبارة الشّهيرة مقتطفة من الخطاب الّذي ألقاه بوفون Buffon في الأكاديميّة الفرنسيّة في يوم استقباله بها يوم 25 أغسطس 1753، وهذا الخطاب معروف بعنوان «خطاب في الأسلوب». أمّا عبارة «الأسلوب هو الإنسان» فما فتئت تؤوّل على أساس كونها قد قيلت في مديح أصالة الكتّاب العظام، وتبرير شغفهم المتأجّج بالكتابة.

 والمتأمّل في كلّ ما كتبه المفكّر والمؤرّخ التونسيّ هشام جعَيْط لا بدّ أن يلاحظ تنوّع المواضيع الّتي طرقها، والتي تتوزع على محاور ثلاثة: كتب ذات طابع فكري فلسفي ثقافي، وكتب في الكتابة التّاريخيّة، وكتب في الدّين.

   والسّؤال: هل اقتضى هذا التنوّع تنوّعاً في أساليب الكتابة؟ أم أنّ المواضيع المطروقة عولجت دائماً بنفس الأسلوب، هو أسلوب جعَيْط في الكتابة؟

من هذا التّساؤل يمكن أن نشتقّ فرضيّتين:

 أولاهما أنّ الأسلوب هو الإنسان: ونفترض أنّ كلّ ما كتبه المؤلّف جعَيْط إنّما يحيل على«الإنسان» جعَيْط الّذي بدأت تطفو، منذ كتابه الأوّل«الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي»، مقاطع من سيرته الفكريّة. والحقّ أنّه توجد قرائن كثيرة تدلّ على أنّ سيرة هذا المفكّر والمؤرّخ الفذّ متناثرة في متونه تارة على نحو صريح شبيه بالاعترافات، وطوراً على نحو مباغت تنبثق فيه العبارة عفو الخاطر. ولعلّ مقدّمات الكتب هي المواضع البارزة الّتي كانت «أنا» المؤرّخ تتجلّى فيها على نحو سافر، من قبيل «انطلق هذا التّفكير أساساً من تجربتي كإنسان تونسيّ […] إنّني لم أكن في تونس مرتاحاً إلى أيّ محيط معيّن»، أو«ومن واجبي أن أقول للقارئ، إنّ المقصود هنا هو كتاب وضعه رجل تربّى في كنف التّقليد الإسلامي.

 ولا نرى فائدة في الإكثار من هذه الأمثلة، فالغاية من إيراد بعضها هو إظهار هذا الطّابع الذّاتي الّذي وسم أسلوب جعَيْط في بعض ما كتب. وهو في الواقع طابع لا يرسم قلق ذات كانت تستشعر«أزمة الثّقافة الإسلاميّة»، وهي تطرق أبواب الحداثة بعوائق كثيرة، بقدر ما يسم أزمة خطاب جديد هو الخطاب الجامعيّ، أو خطاب الجامعة، الّذي كان يجاهد لافتكاك حقيقة قد سكنت طويلاً في رحاب الجامع، وانقطعت بانكفائها الطّويل على نفسها عن حركة التّاريخ. هذا الانتقال من«خطاب الجامع» إلى«خطاب الجامعة» هو انتقال ثوريّ من خطاب أنتجه «مفكّرو الإسلام القدامى» في فضاء الجامع إلى خطاب أنشأه«مفكّرو الإسلام الجدد»في رحاب الجامعة. وهو لا محالة خطاب جديد غايته فهم الطّرق الّتي بفضلها استطاع الإسلام أن ينبني تاريخيّاً، وإخضاع المعرفة القديمة للنّقد و«مقاربة مختلف أوجه تلك الحقيقة الحيّة الّتي تدعى الإسلام من منظور مناهج البحث العلميّ وأسئلة العلوم الإنسانيّة». ضمن هذا الخطاب الجامعيّ تتنزّل كتابات هشام جعَيْط، رفقة كوكبة من مفكّري الإسلام الجدد.

 هذا الأسلوب يقودنا إلى الفرضيّة الثّانية الّتي تحملنا على تأويل لفظ الأسلوب بوصفه طريقة مخصوصة في التّفسير. ولا نعني من لفظ التّفسير كلّ أنواع التّفسير الّتي ضبطتها إبستمولوجيا العلوم، وإنّما نوع واحد فقط هو التّفسير التّاريخيّ، أو التّفسير الّذي اعتنت به إبستمولوجيا الكتابة التّاريخيّة. في هذا المجال يمكن أن يفاجأ القارئ بتنوّع التّفاسير التّاريخيّة عند جعَيْط.

 هذا التنوّع هو الذي فرض علينا أن نجعل عنوان هذا الملفّ «أساليب جعَيْط»، واقتضى منّا تنويعاً في المقاربات والاختصاصات لقراءة مدوّنة جعَيْط من زوايا نظر مختلفة لا غاية من هذا التّنويع سوى الإجابة عن سؤال:

كيف كتب جعَيْط ما كتب طيلة أربعين سنة ونيف؟ علّنا من خلال الجواب (أو الأجوبة) نضيء مشكلاً يخصّ كلّ الكتّاب الكبار: هل للمؤلّف في أيّ مجال من مجالات الإبداع أسلوب واحد في الكتابة والتّفكير؟ أم له أكثر من أسلوب؟

 ثانيهما أنّ الأسلوب هو الإنسان: هي فرضيّة تحيل على تنّوع أساليب الكتابة عند جعَيْط كلّما تغيّر موضوع الكتابة، سواء في التّاريخ أو الفكر أو الدّين. فأسلوب المؤرّخ المحلّل للوقائع والأحداث التّاريخيّة، غير أسلوب المفكّر المتفلسف في علاقة الإسلام بأوروبا وسائر الحضارات، وكلاهما غير أسلوب المؤرّخ المسلم، وهو يعيد قراءة السّيرة بأسلوب المؤمن العقلانيّ.

 بقيت الإشارة إلى أن المشاركين في هذا الملف هم: حسونة المصباحي ونسرين السنوسي وألفة يوسف ومحمد بن الطيب والعادل خضر وفوزي البدوي ونبيل خلدون قريسة، وقد قرأ كل منهم منجز جعَيْط بطريقته..

 مؤلفاته

 * ولد المفكّر والمؤرخ التونسي هشام جعَيْط في تونس العاصمة في السادس من شهر ديسمبر- كانون الأول 1936.

 * درس في «المدرسة الصادقيّة» وهناك تعلم الفرنسية

 * التحق بدار المعلمين العليا في باريس، وحصل على شهادة التبريز عام 1962.

 * عمل أستاذا في كلية الشريعة وأصول الدين لمدة خمسة أعوام.

 قدم للمكتبة العربية مجموعة قيمة من المؤلفات والدراسات والبحوث منها:

 * الشّخصيّة العربية الإسلامية والمصير العربي.

 * أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة.

 * أزمة الثقافة الإسلاميّة.

 * الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية.

 * الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر

 * في السيرة النبوية1- الوحي والقرآن والنّبوّة.

* في السيرة النبوية 2 – تاريخية الدعوة المحمدية.

 ، في السيرة النبوية 3 – مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام.

-2-

الباحث عن الحقيقة

حسونة المصباحي

 

منذ ستينيّات القرن الماضي، تمكن التونسي هشام جعَيْط من خلال مؤلفاته المتعددة من أن يفرض نفسه في نفس المكانة المرموقة التي يحتلها مفكرون مغاربة كبار مثل عبد العروي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون.

 ورغم الصعوبات التي اعترضته عبر مختلف مراحل مسيرته، ظلّ محافظاً على استقلاليته الفكرية، متخذاً مواقف جريئة وشجاعة غالباً ما سببت له مضايقات ومشاكل مع النظام. ويتميز هشام جعَيْط بحس نقدي رفيع، وبمعرفة واسعة بالتاريخ العربي- الإسلامي، وبالتاريخ الأوروبي، وبالفلسفة الغربية منذ الإغريق وحتى العصر الحاضر. فالرجل معروف بقراءته المعمقة، وبحرصه الشديد على مواكبة كلّ ما يجدّ من جديد في المجالات الآنفة الذكر. وربما لهذا السبب، نأى بنفسه منذ البداية عن الهيجان السياسي والأيديولوجي الذي كان ولا يزال يعصف بالعلم العربي منذ الخمسينات من القرن الماضي، ليوجّه اهتماماته وجهوده إلى القضايا الحارقة والموجعة على جميع المستويات. كما أنه أعاد قراءة التاريخ العربي- الإسلامي مقدماً أفكاراً وأطروحات جديدة وفريدة من نوعها في هذا المجال.

 وينتمي هشام جعَيْط إلى عائلة من البورجوازية المحافظة. وكان والده من كبار شيوخ جامع الزيتونة، وفيه درّس الفقه وعلوم اللغة. يقول عن عائلته: «وسطي العائلي كان بالفعل وسطاً متديّناً ومحافظاً. لكنه كان أيضاً مكتسباً لثقافة عتيدة. فوالدي كان شيخاً في جامع الزيتونة. وجدي كان من كبار الكتّاب بحسب النمط القديم. وفي صباي، تعلمت الكثير من جدي الذي كان متصوفاً ينتمي إلى الطريقة «التيجانيّة» عارفاً بالشعر والأدب، ومولعاً بقراءة الحديث بصوت عالٍ عن ولَعٍ تقيٍّ وليس عن ولَعِ فضول». وقد اختار الشيخ الوالد أن يدخل ابنه وهو في الخامسة من عمره الى المدرسة العصرية المتمثلة في «المدرسة الصادقيّة» التي أنشأها المصلح الكبير خير الدين باشا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لرغبته في أن يتعلم ابنه الفرنسية مثلما كان حال أبناء البورجوازية في تلك الفترة. وحتى سن الثامنة عشرة، ظل الفتى هشام جعَيْط منسجما مع الوسط العائلي، مقتدياً بنواميسه وتقاليده. ومع اقترابه من سنّ العشرين، شرع الفتى هشام جعَيْط يظهر تمرداً على الوسط العائلي بتأثير قراءاته للكتب الفلسفية، والكتب التي تتحدث عن الثورة الفرنسية. وقد أحدث اكتشافه للفلسفة منعرجاً حاسماً في مسيرته. يقول: «كان اكتشاف الفلسفة بالنسبة لي بمثابة الفتح والتجلي. ولست أعني بذلك الميتافيزيقا فقط، بل وأيضاً علم النفس والمنطق والأخلاق. غير أن الفلسفة المثالية أدخلت الاضطراب في نفسي، إذ إنها تضع مسألة وجود الكون على محكّ التساؤل. وصار هذا التساؤل يلازمني طوال حياتي تقريباً. كما انفتحت على علم النفس الفرويدي. وعندئذ بدأت تذوب عندي بديهيّات أساسيّة. ثم اكتشفت علم البيولوجيا، ونظرية التطور. وهذا كله أثار إعجابي واندهاشي في نفس الوقت. وأعترف أن قراءاتي في مجال الفلسفة سببت لي أزمة قوية أنهكتني على مدى أشهر».

بعد إحرازه شهادة البكالوريا، انطلق هشام جعَيْط إلى باريس ليلتحق بدار المعلمين العليا التي يدرس فيه ألمع الطلبة. وقد وجد في الأوساط المثقفة والأكاديمية هناك ما ساعده على تعميق قراءاته التي لم تقتصر على مؤلفات سارتر وكامو ونيتشه وهيدغر وشوبنهاور وهيغل، بل تعدت ذلك لتشمل التاريخ العربي- الإسلامي. وعن ذلك يقول: «في فترة الدراسة في فرنسا، اخترت في وقت ما الابتعاد عن الميتافيزيقا لأنها حيّرت ذهني لأنغمس في قراءات معمقة عن التاريخ العربي- الإسلامي. ويمكنني أن أقول: إن التاريخ لعب دوراً هاماً وأساسيّاً في تركيب قناعاتي وبلورتها. وربما لهذا السبب لا زلت مهووسا بمعجزة وجود العالم، ووجود الحياة».

  بعد حصوله على شهادة التبريز عام 1962، عاد جعَيْط الى تونس ليعمل أستاذاً في كلية الشريعة وأصول الدين. وعلى مدى خمسة أعوام، ظلّ مواظباً على القيام بهذا العمل معانياً ما سوف يسميه في ما بعد بـ «المنفى الداخلي». فقد بدت له تونس بلداً يعيش تخلفاً فكرياً وثقافياً مرعباً، لذا كان عليه أن يعيش متوحداً بنفسه منصرفاً إلى القراءة، وصارفاً اهتمامه في هذه المرة إلى أعمال المؤرخين الكبار من أمثال الطبري وابن خلدون وابن سعد. وتحت تأثير قراءاته، أصبح يولي اهتماماً كبيراً للخطاب السياسي والحضاري في تونس، وفي بلدان المشرق العربي، وفي ما يسمى بالعالم الثالث. كما اهتم بالفكر الديني وبالفكر القومي، وتأثر في أواخر الستينات من القرن الماضي بأفكار ميشال عفلق، وعبد الله العروي ومحمد اقبال الذي بدا له متقدما على الفلاسفة الفرنسيين في بعض أطروحاته، إذ إنه كان عارفاً بفلسفة كل من نيتشه وهيغل.

وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي، أصدر كتاباً مهماً آخر: «أوروبا والإسلام» لاقى رواجا واسعاً في البلدان الغربية وترجم إلى اللغتين الإسبانية والإنجليزية. وهو يقول إن كتابه المذكور لم يكن يهدف إلى تقديم انجازات اوروبا بطريقة مدرسية وإنما هو استقراء للثقافة الغربيّة، وتأمل في مصيرها. وقد صدر كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق في نفس السنة محتوياً على تحليل لافت للانتباه، لكن جعَيْط يرى أن إدوارد سعيد لم يكن يعرف الاستشراق وما كتبه عنه ليس بذي قيمة. بل واعتبره «سطحيّا» و «تهجمياً» و«أيديولوجياً»، لكنه اعترف مع ذلك أن في الاستشراق جانباً غير منصف للإسلام وللعرب.

 في الثمانينات من القرن الماضي، أصدر جعَيْط كتابه الرفيع الآخر عن تاريخ الكوفة ليقدم من خلال تاريخ هذه المدينة رؤية جديدة للتاريخ الاسلامي. وبعدها انشغل بسيرة الرسول، وبقضية الوحي منجزاً حول هذا المجال كتباً مثيرة للاهتمام.

 ومنذ بداية ما سمي بـ«الربيع العربي»، لم ينقطع الدكتور هشام جعَيْط عن التدخل في الجدل القائم حول العديد من القضايا الملتصقة بالديمقراطية، ونظام الحكم، وغير ذلك.

-3-

العروي وجعَيْط وحداثة السبعينيّات

التاريخ و«المستقبل الممكن»

كتابة: إدريس الجباري

ترجمة :نسرين السنوسي

 «عندما يقول هشام جعَيْط: «والمفكّرون الجيّدون يعقّدون الأمور […] بالطبع أستثني في عمق التّفكير عبد الله العروي…»، فإنّ هذا الكلام ليس من قبيل المجاملات أو الإعجاب، وإنّما هو رأي ذو طابع معرفيّ فيه الكثير من الاحترام للمفكّر المغربي الّذي خصّص له جعَيْط بضع صفحات من كتابه أوروبا والإسلام.

 ولا عجب في ذلك، فالرّجلان، جعَيْط والعروي، كالتّوأم متشابهان في الاختصاص والصّناعة، وبين مسارهما البيوغرافي، ومسيرتهما الفكريّة نقاط تقاطع كثيرة حاول إدريس الجبّاري إبرازها وتفسيرها في هذه المقالة الّتي لم يترجم منها إلاّ المقاطع الّتي تظهر وجوه الشّبه هذه.

إنّ عبد الله العروي وهشام جعَيْط كانا بلا شكّ نتاج عصرهما الموسوم بتحوّلات اجتماعيّة عميقة، وبمناخ سياسيّ مضطَّرب. لذلك تحدّد على نحو منطقيّ تمثيلهما وظيفة المثقّف الاجتماعيّة بهذا السّياق، كما سعت كتاباتهما إلى الموازنة بين طموحاتهما والقيود الّتي أنتجتها وقائع المغرب المستقلّ.

 فقد أكّد عبد الله العروي منذ الصّفحة الأولى من أزمة المثقّفين العرب أنّ «المثقّف العربيّ، والثّوريّ، والمسؤول» مُدَانٌ بـ [حتميّة] الاختيار بين توجّهات لا يستطيع الأخذ بها في آن واحد: أي أن يختار بين الوظيفة البيداغوجيّة، أو الالتزام النّضاليّ في الميدان السّياسيّ، أو الإبداع الثّقافيّ الأدبيّ أو الفلسفيّ.

 وفي اليوم التالي لـ «مظاهرات الخبز» الّتي هزّت تونس في 1984، كان هشام جعَيْط يصوغ ملاحظة شبيهة [بما يراه العروي] تخصّ دوره باعتباره مثقّفا: «إنّي أتوجّس خيفة من أجل هذا البلد… وهذا يأتي دائماً من فقدان الذّكاء والشّخصيّة. فليتحمّل أولئك الّذين يشعرون بأنّهم مسؤولون مسؤوليّتهم. وللمثقّف مسؤوليّته الخاصّة به، مسؤوليّة أن يفكّر وأن يمنح جوهر فكره».

 لقد استحضر جعَيْط مفهوم المسؤوليّة ليصف وظيفة المثقّف الاجتماعيّة، ويمكن أن نضيف إليها وظيفة السَّطْوَة [العلميّة] وامتلاك المعرفة، والاستقلاليّة. ولأنّه لا يمكننا فحص كلّ مُتَغَيَّر منها بما يلزم من عناية سنركّز [النّظر] في المسؤوليّة الّتي تُلْزِمُ هذَيْن المثقّفيْن بالتّدخّل في الجدل الفكريّ، وفي الجهود والضّغوط الّتي سُلِّطَت ضدّ استقلالهما والّتي ظهرت في صلتهما بالسُّلَط السّياسيّة. وسنتبيّن أنّ تلك السّنة 1974 كانت أوج المسارات الشّخصيّة حيث اصطدمت أفكار «التّقدّم» المثاليّة الّتي تشكّلت في الخارج بالواقع الوطنيّ، بعد العودة إلى البلد الأمّ. وسنؤسّس رابطاً بين مسيرتَيْهما الخاصَّتَيْن وطبيعة التزامهما. ونرجو أن نبيّن أنّ موقفهما الفكريّ، المتجرّد من السّياسة في الظّاهر، والموسوم بـ «عدم الالتزام النّضالي» كان يسعى في الواقع إلى إعادة بناء دور المثقّف في المجتمع وصورته، مع تأكيد قدرته على إنتاج خطاب نافع.

 روح المجتمع.. شعاراته

إننا لا نبحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان ولا مكان، بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير وحسب، بل لأننا نعتقد أن نجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء. لهذا السبب نحرص على البدء بوصف الواقع المجتمعي: آخذين المفاهيم أولاً كشعارات تحدد الأهداف وتنير مسار النشاط القومي، وانطلاقا من تلك الشعارات نتوخى الوصول إلى مفاهيم معقولة صافية من جهة، ونلتمس من جهة ثانية حقيقة المجتمع العربي الراهن، رافضين البدء بمفاهيم مسبقة نحكم بها على صحة الشعارات، إلى جانب تخلينا عن لعبة تصور واقع خيالي نعتبره مثلاً أعلى نقيس عليه الشعارات، لأننا نعتقد أن أيسر مدخل إلى روح أي مجتمع هو مجموع شعارات ذلك المجتمع.

 عبد الله العروي

 كتاب: مفهوم الحرية، ص 5

الالتزام العامّ بوصفه ممارسة تاريخانيّة

المثقَّف بين الفاعلية والانكفاء

كان موقف المؤرّخَيْن الفكريّ موقف انسحاب، وهو موقف ناتج عن تجربتهما أثناء سنوات الستّينيّات المضطربة في المغرب الأقصى وفي تونس، بعد عودتهما من الخارج. ومنذ سفرهما إلى باريس في بداية الخمسينيّات تغيّر المغرب كثيرا في الواقع، بفضل دعم الدّول المستقلّة وتشكيل علاقات قوّة جديدة، وتوظيف خطوط كبرى من سياسات

 التّطوّر.

 ويبدو أنّ التّجربة والحساسيّة المُكتسبَتَيْن خارج بلاد المغرب لم تُعِدَّهُمَا ليواجها واقع البلد تحت أَسْر مخاوف استقلال غير مؤكّد. وقد كانت مكانة المثقّفين في المؤسّسات الوطنيّة الجديدة المغربيّة والتّونسيّة وصلتهم بالسّياسة تمثّل رهانا مهمّا. فأثناء تركيز مصادر السّلطة وأشكالها، كانت الدّولة المستقلّة تنتدب الوطنيّين الّذين اكتسبوا في الخارج مؤهّلات أرقى، مقابل مناصب وامتيازات مادّيّة. وقد التزم المفكّران بمسار أكاديميّ بدأ مع هشام جعيّط سنة 1962، ومع عبدالله العروي سنة 1964. وقد انْتُدِبَا دون عُسر نظراً إلى سنّهما ومؤهّلاتهما وحاجة الدّولة المستقلّة إلى الخبراء، وأسهما في حركة تكوين الجامعات الوطنيّة في المغرب.

  لكن ألا يشهد قرار التّوجّه نحو الجامعة بإرادة الابتعاد عن بيئة سياسيّة قامعة؟ إذ من الممكن أن تبدو الجامعة مثل برج عاجيّ حيث لا تكاد الصّراعات السيّاسيّة– بالرّغم من حضورها– تلمح، أو مثل مكان كانت فيه معايير السّلوك مألوفة عندهما، واتّخذت فيه الصّراعات السّياسيّة شكل نزاعات أفكار. وحتّى إن تعذّر علينا أن نقيس أهميّة النّزاعات السّياسيّة داخل الجامعة فإنّه يمكن أن نحلّل إدراك العرويّ وجعيّط لها، منذ اللّحظة الّتي أخذت فيها الجامعة شكل مكان سياسيّ بامتياز، وبدأ الحرم الجامعيّ يعيش على إيقاع الاحتجاج الطُّلاّبيّ.

سنوات الرّصاص

 كانت هذه الوضعيّة داخل الجامعة تعكس على نحو أوسع الظّرف السّياسيّ في السّتّينيّات، في مجتمع قد عرف منعطف الأنظمة الاستبداديّ، في تونس تماماً كما في المغرب. ففي المغرب أخذ الصّراع بين اليسار والمخزن (الحكومة) بخصوص إعلان الدّستور والزّيادة في المؤسّسات السّياسيّة منعرجاً جديداً بعد مظاهرات الدّار البيضاء يوم 23 مارس 1965 الّتي أوقعت البلاد في فترة استبداد عُرِفَت باسم «سنوات الرّصاص».

 أمّا في تونس، فبعد حملة أولى ضدّ القمع سنة 1963، لاحقت الدّولة في 1968 حركات المعارضة اليساريّة، بينما كانت تواجه انتقادات بخصوص ميزانيّتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وخاصّة فيما يتعلّق بالخطّة الوطنيّة الّتي قام بها الوزير أحمد بن صالح. وفي كلتا الحالتين كان بالإمكان انتظار أن يأخذ المثقّفون موقفاً واضحاً حتّى يشجبوا الاضطهادَ وتوجّهَ الأنظمة السّياسيّة، وذلك إن لم تضع هيمنة الخطابات الرّسميّة أيّ عقبة.

 وكانت هياكل الدّولة تراقب وسائل الاتّصال بالجماهير، وخطابات الحسن الثّاني وبورقيبة، فارضة على نحو منتظم نظرتها لدى عامّة النّاس. وهكذا أسهم بورقيبة «الّذي كان يحكم البلد بخطاب المؤرّخ» حسب عبارة جعَيْط، في أن يجعل من المؤرّخين المحترفين كتّابًا [في يد] الدّولة الّتي تريد المغالطة من أجل إضفاء شرعيّة سياسيّة.

  استهداف المثقفين

وقد قاسم العروي وجعَيْط بقيّة مثقّفي المغرب ذوي الحسّ النّقديّ إحساساً بزوال الوهم، وقد قادهما الضّيق من الجامعة والسّياق السّياسيّ التّسلّطي إلى الانكفاء على الذّات والانعزال. فقد دفع العروي ثمن مظاهر خطابه الماركسيّة، في حين كانت السّلطات المغربيّة تحارب الأيديولوجيا الشّيوعيّة الّتي كانت تراها عاملاً من عوامل الاضطراب، لذلك منع عليه، طيلة سنوات عديدة، أن يُدَرِّس في جامعة الرّباط، حتّى لا تثير أفكاره ضروب توتّر جديد في الأوساط الطّلاّبيّة. لقد كانت الإيديولوجيا الماركسيّة قادرة على جلب الجماهير، بينما كان المخزن قد أقام إستراتيجيّته على إضفاء الشّرعيّة على التّراث، الّذي كان موصولا بقوى العلماء المحافظة.

 وإنّه لفي هذا السّياق ذاته قد عبّر العرويّ عن خيبة أمله في رواية نصف سير ذاتيّة عنوانها الغُرْبَة، تشهد بوضعيّة المفارقة الّتي يكون فيها [الإنسان]، لمّا يجد نفسه مغترباً في وسطه الأصليّ، و[يجد نفسه] فريسة لضرب من المنفى الدّاخليّ.

 أمّا في تونس فقد فسح الحبيب بورقيبة المجال لمشروع وطنيّ حديث قد قام على إصلاح عميق للعقليّات و«نهوض أخلاقيّ» للأُمّة. وقد تكفّلت «الكلمة» بهذا المشروع، أي بوساطة الخطاب العموميّ، حيث كان الزّعيم يتّجه بالقول إلى الشّعب اتّجاها مباشراً بفضل وسائل الاتّصال الحديثة. وهذا بلا شكّ ما يفسّر حدّة القمع المسلّط على حركات الاحتجاج اليساريّة الّتي كانت تدين إيديولوجيا النّظام، متحدّية بذلك حكمَ بورقيبة، لمّا اقترح سياسة المراحل، خاصّة أنّ هؤلاء كانوا من الطّبقات المحظوظة في تونس المعاصرة: من الفرنكوفونيّين، المتعلّمين، الحداثيّين. وفي كلتا الحالتين، استهدفت السّلطات المثقّفين: فقد عدّت تعارضهم في الرّأي منبع انقسام في اللّحظة الّتي كانت فيها تسعى إلى فرض إجماعٍ وضرب من الأدلجة للجماهير الشّعبيّة.

 إلى المُغْتَربات

 ولم يكن العروي وجعيّط قادِرَيْن في هذا السّياق على ممارسة مهنتهما الأكاديميّة بحِسّ نقديّ، وكانا مُحِقَّيْن في الخشية على سلامتهما البدنيّة، لذلك اختار كلاهما الانسحاب من المجال العموميّ بأخذ مسافَة منه. وسنة 1967 دُعِيَ العروي، بعد نجاح كتابه الأوّل الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة إلى أن يشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة لوس أنجلوس المَهِيبة. وقد قبل العرض الّذي مكّنه من الابتعاد عن المغرب.

 أمّا جعَيْط فقد أصبح من جهته صورة من المثقّف الغرامشي الّذي- في وضع قمعيّ غاشم- ينعزل داخل حقل أفكاره عوض أن يتحرّك في الحياة العامّة. وقد أثارت الاضطرابات الّتي كانت الجامعة مسرحاً لها بعد النّكسة العربيّة في 1967 ردَّ فعل السّلطات الّتي نظّمت حملة عامّة ضدّ «المحرّضين على التّخريب». وقد تهجّم بورقيبة نفسه على «الثّائرين» وأعطى تعليمات تقضي بقمعهم. وكان مناضلو حركة آفاق التّونسيّة والقوميّون العرب موضوعَ تتبّعات قضائيّة ومحاكمات يمكن التّنبّؤ بنتائجها. وقد قرّر هشام جعيّط، بعد أن أقحمته السّلطات في هذا الانقلاب الجامعيّ، أن ينقطع عن مساره الأكاديميّ ويرحل شبه منفيّ إلى فرنسا. وقد كانت العودة إلى مسقط الرّأس، بوصفها خيبة أمل واستياءً وقلقا شخصيّا، قد شملت أبعادها كامل نطاق المجتمع: تلك هي لا محالة الخلاصة الّتي خرج بها العروي وجعيّط لمّا صارا واعيين بالمسافة الفاصلة بين مُثُلُهِمَا العُلْيَا والواقع الاجتماعيّ، وبغياب آليات المشاركة، وبمَنَاخ عامّ من الرّكود والتّدهور.

 لحظة المُسَاءَلة

 إنّ الاغتراب، من حيث يدفع الفرد إلى الاستبطان، يغذّي الفكر ويمكن أن يشجّع على أخذ الكلمة. غير أنّه يتطلّب خاصّة الإبداع الفكريّ، حتّى يتمكّن [الإنسان] من إعطاء معنى لما في عالمه من اضطراب داخليّ. وليس من المصادفة أنّ هَذَيْن الكاتبَيْن قد استعملا المقالة بوصفها جنسا من الكتابة: فمن ناحية، تحرّر المقالة الكاتب من عدّة مواضعات أكاديميّة، وتسمح له بتقديم فكره باعتباره إنتاجا قيد الإعداد. ومن ناحية أخرى، تمكّنه المقالة من البحث عن ذاته أثناء الكتابة. وفي كلتا الحالتين ينتقل المفكّران من عدم الالتزام إلى تحمّل المسؤوليّة، وذلك لأنّهما يستخدمان الاغتراب المعيش، ليطوّرا فكراً مكتوباً، وليبرّرا تدخّلهما في الجدل العموميّ.

 ومن الصّعب أن نحدّد اللّحظة الحاسمة، إلاّ أننّا نسجّل تبدّلا في المواقف بُعيْد ذهاب العروي وجعيّط إلى الخارج. لكن بعد ثلاث سنوات قضّاها العروي في كاليفورنيا، قرّر فجأة العودة إلى المغرب، وقد فسّر ذلك بتأكيد خشيته من فقدان هويّته إن هو بقي في الولايات المتّحدة لفترة أطول وفي الأثناء ألَّف [كتاب] أزمة المثقّفين العرب ونشره، وهو تعبيرٌ يواجه وضعاً سياسيّاً قد اشتدّت فيه ممارسات الدّولة الاستبداديّة. فقد أدّت في الواقع محاولتا الانقلاب على الحسن الثّاني في 1971 و1972– وهما محاولتان قد أجهضتهما الدّولة- إلى تصلّب النّظام، وإلى استعمال القمع البوليسيّ وإلى تجميع السّلطات على نحو ما فتئ يزداد بروزا. وقد شملت الاعتقالات الجماعيّة أوساطا «حسّاسة» كالجيش، وكذلك قطاعات اجتماعيّة عُدَّت خَطَرًا على النّظام القائم. وقد تمّ حلُّ جمعيّة الطَّلَبَة المغاربة UNEM وأُوقِفَ بعض أعضائها سنة 1973.

 أمّا جعيّط فقد غادر، من جهته، تونس حيث لم يكن في استطاعته أن يعبّر عن مشاغله: فقد كان يستحضر «العجز» الفكريّ المغربيّ و«المقاومات الدّاخليّة والضّغوط الخارجيّة».

 وفي فرنسا فحسب قرّر أن يتكلّم بدافع القلق والواجب، أمام ما يعتبره بمثابة «استقالة جماعيّة من العقل النّقديّ» من قبل المثقّفين التّونسيّين، وهو حكم قاسٍ، قد اصطبغ إلى حدّ مّا بمثاليّة الموقف الفكريّ. ويبدو أنّ هذه البيئة الجديدة قد حرّرت المفكّر من القيود الّتي كانت تضايق رغبته في التّعبير. ولعلّ الرّجوع إلى الغرب قد أنعش المُثُل العُليا. وسمح المنفى بجعل تحليله راديكاليّا شأنه شأن مفكّرين آخرين من العالم العربيّ على غرار إدوارد سعيد أو محمّد أركون.

 ومع ذلك يُحْتَمَلُ أنّه كان لعزل أحمد بن صالح من الحكومة، وانتهاء التّجربة الاشتراكيّة بتونس في 1969 ضلعا في قرار نشره مقالا. فإذا كانت البحوث الّتي أجراها جعَيْط من أجل كتابه قد أُنْجِزَت في تونس بداية من عَامَيْ 1963 و1964 فإنّ رهان هذا العمل الفكريّ قد أخذ بُعدا جديدا عقب إدانة وزير الفلاحة والماليّة سنة 1970. لقد تراجع بورقيبة بعد أن اعترف بفشل هذا التوجّه السّياسيّ الاشتراكيّ. ومنذئذ كان ينقص النّظام مشروع وطنيّ موجّه لإصلاح تونس والسّير بها نحو الحداثة. وإنّه بهذا العنوان قد أغرت مقالة جعَيْط جمهور القرّاء بوصفها مجموعة اقتراحات متماسكة قد نشرت في منعرج موسوم في الوقت نفسه بمراجعة النّظام لذاته ولإيديولوجيته، وبغياب بديل يمكن الاطمئنان إليه.

 عودة إلى الفاعلية

 وهكذا أضحت المقالة عند العروي وجعَيْط عملا ملتزماً يعرب عن وَعي المؤرّخَيْن الفكريّ. فلم تكن إصداراتهما وسيلة للتّأثير في جمهور مخصوص، ونَيْل العِرْفَان منه، ولا هي تمثّل إنجازاً في المجال الثّقافيّ، وإنّما كانت تُسْهِمُ في ديناميّة التّغيير. فهل لنا أن نستنتج أنّهما قد أصبحا بذلك فاعلَيْن في المجال العموميّ؟ من العسير أن نقدّم إجابة عن هذا التّساؤل. ورغم أنّه من الصّعب تقدير مدى تأثيرهما، فقد منحَتْهُمَا كتاباتهما شُهرة وشرعيّةً مكّنتاهما من أن يعبّرا عن آرائهما علانية، وذلك لأنّهما مؤرّخان، وفي آن واحد لأنّ إسهاماتهما كانت مختلفة من حيث النّوعيّة عن إسهامات الجامعيّين بالمعنى الدّقيق للكلمة.

 لقد كان الكاتبان باختيارهما النّشر في فرنسا، باللّغة الفرنسيّة وبأسلوب معقّد ودقيق ونقديّ، يَحُدَّانِ فورا من جمهور قرّائهما. ولم تُعِرْ سلطات البلدَيْن الكثير من الاهتمام لكتب لم يكن لها تأثير شامل في المَيْدَانَيْن الثّقافيّ والسّياسيّ الوطنيّ التّونسيّ والمغربيّ.

 كان جعَيْط والعروي بإنتاجهما خطاب قطيعة يواجهان جماعات وتيّارات فكريّة جيّدة التّغلغل، كانا يجدان نفسيهما في أغلب الأحيان في خلاف معها. فهل يمكن أن نفسّر ما في مواقفهما من بعض الرّاديكاليّة بصعوبة اندماجهما في فضاء وشبكات فكريّة لم ترحّب بهما؟ ومعلوم في الواقع ما للشّبكات الفكريّة والجماعات من أهميّة في تكوين أفكار جديدة. ويمكن أن نسوق مثال استقبال مقالة كان هشام جعَيْط قد نشرها عام 1976 في مجلّة «أفريقيا الفتيّة» Jeune Afrique عنوانها «خصوصيّة الإسلام وحيويّته»، كان فيها يدافع عن فكرة [مفادها] أنّ الحضارة الإسلاميّة لم تكن سبب الانحطاط ولكنّها بخلاف ذلك يمكن أن تكون منبع تجديد ونهضة. وقد جعله خطاب كهذا يعارض التيّاران اللّيبيراليّ واليساريّ، وكلاهما في غاية اللاّئكيّة في مستوى الجوهر، ويعارض كذلك تيّار الزّيتونة الإصلاحيّ، سواء أكان الأمر يتعلّق بشكله أم بغايته. وهكذا وجد هشام جعَيْط نفسه منعزلا داخل مساره الفكريّ.

 وفي المغرب وجد العروي نفسه في تعارض مع الاتّجاه ما بعد البنيويّ الّذي كان يهيمن على التّيّار التّحديثيّ ذي الأيديولوجيا غير التّقليديّة، في قلب المجال الثّقافيّ، ممثّلا بالأساس بوجوه مثل عبد الكبير الخطيبي، وأعضاء الحركة الثّقافيّة والأدبيّة «أنفاس» souffles.

 وقد وضع العرويّ، بانخراطه في إطار نظريّ ماركسيّ، تطوير البُنَى المادّيّة في مركز تحليله، بدل [طرح] الأسئلة الفلسفيّة للإبستمولوجيا، أو ذات تعبير أدبيّ. لكن يبدو أنّه لم يكن لأفكاره التّأثير المتوَقَّع، بما في ذلك لدى زملائه الجامعيّين الّذين كان وضعهم مشابها. وفي 1974 أي بعد وقت وجيز من أزمة المثقّفين العرب، شارك العروي في جدل نظّمته مجلّة Lamalif برفقة أستاذَيْن شابَّيْن هما عالم الاقتصاد عبدالعزيز بلاّل وعالم الاجتماع محمّد قسّوس. وكان النّقاش، الّذي قد نُشِرَ في شكل مقالة، يتناول موضوع التّخلّف التّاريخيّ والتّراث. وتبيّن فحوى المحادثات أنّ العروي بدفاعه عن قيمة التّفكير التّاريخانيّ، كان يبتعد عن اهتمامات زَميلَيه، ويمكن أن نحدّد هذه اللّحظة بوصفها أصل انكفاء فكره نحو إشكاليّات ذات طابع نظريّ.

 وقد فسح العروي، رغم عزلته النّسبيّة، مجالا للتّفكير مكّن المفكّرين المغاربة الشّبّان النّقّاد من ربط تاريخ الإرث العربيّ الإسلاميّ بتفكير كونيّ. وقد اعترف هشام جعَيْط نفسه بديْنه له. فالمفكّران كلاهما قد جسّما جيلا جديدا من المثقّفين المغاربة. وعلينا الآن أن نعيد الاعتبار إلى طبيعة تحليلهما المتعلّقة بأُسس أزمة الحداثة في المغرب، وإلى الاقتراحات الّتي كوّناها لتجاوز الأزمة. فقد امتدح هذا وذاك، عَبْرَ سَبِيلَيْن مُخْتَلْفَيْن، ضرورةَ إعادة تأريخ المشروع الوطنيّ المغربيّ.

 إعادة تّأريخ المشروع الوطنيّ

 كَيْفَ تُرْجِمَ المَعِيش في نظام التّفكير؟ إنّ تلخيص كلام هذين المفكّرين على مسائل معقّدة جدّا كالتّخلّف التّاريخيّ والحداثة في المغرب– وهي مسائل لا تتطابق إلاّ مع فصل واحد من فصول مقالاتهما الخاصّة- يعرّضنا- بما لا يمكن اجتنابه- إلى فقدان التّدقيق وتحديد الفوارق البسيطة. لقد أقام كلّ من العروي وجعَيْط رابطاً بين فكرة التّخلّف التّاريخيّ في العالم العربيّ وغياب العقلانيّة أمام تغيّر المجتمع: فالأوّل أي العروي قد فضح «التّراث… [بوصفه] أسوأ السّياسات»، متبنّيا موقفا قاطعا يؤيّد به الفكر التّاريخاني الماركسيّ، بينما حدّد جعَيْط شروط الإصلاح الّتي يمكن لها أن تستجيب لحاجات التّغيير، مع بقائه وفيّا لمكوّنات الشّخصيّة التّاريخيّة التّونسيّة.

 الإرث الثّقافيّ.. أساس التّجديد

 لقد تميّز هشام جعَيْط طَوْعًا من العروي في مستوى الرّؤية الّتي انطلاقا منها كان يجيب عن الأسئلة الكبرى: فقد كان في دراسته أكثر وضوحاً، وتبنّى مبدأ الخصوصيّة الثّقافيّة بدلا من كونيّة شاملة. ففي أَثَرِهِ لا تعود أزمة المجتمع التّونسيّ إلى رفض التّغيير، وإنّما هي راجعة إلى تغيير مفرط قد جاء على حساب «شخصيّة» هذا المجتمع التّاريخيّة. وهو يعتبر أنّ المشروع الوطنيّ يضع مصير تونس بين البحث عن القوّة الّتي تميّز الدّولة الوطنيّة الحديثة المتمركزة، ومآل ذاك البحث المأسويّ، الّذي أخذ شكل قلق واغتراب ثقافيّ واجتماعيّ.

 وقد تناول جعَيْط [مسألتي] التّغيير والهويّة في خطابه العموميّ. وتوجّهت مقاربته إلى إعادة تأهيل التّراث العربيّ الإسلاميّ وإلى البحث فيه عن منهل من مناهل الحركيّة والتّناسق من أجل المشروع الوطنيّ. وقد اقتضى إدماجُ التّراث الثّقافي إعادةَ توظيف الفكر التّاريخيّ في الخطاب العموميّ، لأنّ، ما بعد التّغيير التّاريخيّ، تظلّ بعض الخصائص العميقة باقية، ومعها يبقى «الاستمرار البنيويّ» الّذي يقوم بالضّرورة مقام نقطة الانطلاق في كلّ مشروع مجتمعيّ إصلاحيّ.

 وثمّة أيضا، دون أدنى شكّ، نزوع تنظيميّ عند الدّولة والمجتمع في الإسلام الّذي سيظهر في شكل آخر. وفي انتظار ما يمكن أن يؤول إليه المجتمع الكونيّ في المستقبل، تظلّ مهمّة قوى التّجديد متمثّلة في عقلنة هذه البنية المعطاة في التّاريخ، وفي تحديثها وأنسنتها.

 ورغم ذلك، سعى المشروع الوطنيّ إلى تحقيق قطيعة جذريّة متجاهلا هذه الخصّيصة، متصوّرا الشّخصيّة مجرّد «نقطة انطلاق» تقليديّة، والتّغيّر «نقطة وصول» حديث، في حين أنّ هذين المفهومين يكوّنان علاقة جدليّة مستمرّة.

 ونتيجة لذلك، يشكو المشروع الوطنيّ من تَناقض في مستويَين: أوّلا يواصل النّظام بناءه الوطنيّ بالدّفاع عن الخصوصيّة الوطنيّة في إطار ضيّق، وبالبحث عن العظمة والقوّة، في حين لا يمكن لهذين الهدفَين أن يتحقّقا دون إعادة تأهيل القوميّة العربيّة بشكل أو بآخر، ذلك أنّ «العظَمة [المنشودة]» كانت في الماضي من أُسُس القوميّة العربيّة. وثانيا كان جعَيْط يهاجم عقليّات النّخبة الحاكمة. وهذه النّخبة قد تبنّت الحداثة الغربيّة على حساب الشّخصيّة التّاريخيّة، واختارت أن تتّبع إصلاحا يُهمل واقع الوجود التّونسيّ. إلاّ أنّ هذا الواقع يتطلّب إعادة التّفكير في المشروع الوطنيّ الإصلاحيّ في ثلاثة اتّجاهات لتجاوز العجز عن تحقيق الحداثة: وهي الصّلة بالدّين والفرد وشكل السّياسة.

 مشروع بورقيبة

 بورقيبة «الّذي كان يحكم البلد بخطاب المؤرّخ» حسب عبارة جعَيْط، أسهم في أن يجعل من المؤرّخين المحترفين كتّابًا [في يد] الدّولة الّتي تريد المغالطة من أجل إضفاء شرعيّة سياسيّة.

 لقد فسح الحبيب بورقيبة المجال لمشروع وطنيّ حديث قام على إصلاح عميق للعقليّات و«نهوض أخلاقيّ» للأُمّة. وقد تكفّلت «الكلمة» بهذا المشروع، أي بواسطة الخطاب العموميّ، حيث كان الزّعيم يتّجه بالقول إلى الشّعب اتّجاهاً مباشراً بفضل وسائل الاتّصال الحديثة. وهذا بلا شكّ ما يفسّر حدّة القمع المسلّط على حركات الاحتجاج اليساريّة الّتي كانت تدين أيديولوجيا النّظام.

 تحرُّر.. وتحرير

 ليس من المصادفة أنّ هَذَيْن الكاتبَيْن قد استعملا المقالة بوصفها جنساً من الكتابة: فمن ناحية، تحرّر المقالة الكاتب من عدّة مواضعات أكاديميّة، وتسمح له بتقديم فكره باعتباره إنتاجاً قيد الإعداد. ومن ناحية أخرى، تمكّنه المقالة من البحث عن ذاته أثناء الكتابة. وفي كلتا الحالتين ينتقل المفكّران من عدم الالتزام إلى تحمّل المسؤوليّة، وذلك لأنّهما يستخدمان الاغتراب المعيش، ليطوّرا فكراً مكتوباً، وليبرّرا تدخّلهما في الجدل العموميّ.

 خَيْبَة

 عبّر عبد الله العروي عن خيبته في رواية نصف سيرذاتية بعنوان «الغربة»، كما تبدّت لمحات من اليأس في كتابه «اليتيم» وفي اليوميات..

 يروي في «اليتيم» هذه القصة:

 «لبعض الكتاب الطليان قصة مؤثرة جداً، قصة مناضل قاوم الفاشية وبرهن على شجاعة وثبات ضمنا له إعجاب الجميع. لم يجرؤ خصومه على سجنه أو قتله أو نفيه وتركوه يحمل مشعل المعارضة، ولما توفي سمح لأنصاره أن ينظموا حفلاً تأبينياً. أقيم الحفل وحضره آلاف من الناس، تتابع الخطباء ونوّهوا بإخلاصه ووفاته، والكلمات تتضخم والتصفيقات تحتد والحماس يقوى، ثم يباغت القارئ شعور غريب مؤلم أن الأيام قد حولت ذلك المناضل المقدام في المرحلة الأخيرة إلى دمية ينفخ فيها الريح. تحتمل القصة تأويلات مختلفة. إيجابية وسلبية، لكن يطفو فوق كل تأويل واقع مأساة رجل كان أكبر بكثير من اللباس الذي فصله له القدر».

 عبد الله العروي، اليتيم ص 49

اقرأ أيضا على مبدأ
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة