الشباب بين الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية
عبد الكريم الحر امبيريك
حينما نتطرق للشباب كطاقة قادرة على البناء والتغيير فنحن نتكلم عن رهان مجتمع ما أو دولة أوحتى أمة… على مستقبلها، وهو موضوع آني لحظي يتطلب الكثير من الدراسة والتعمق خاصة في ظل رواج فكرة أهمية الحرية الفردية وهي المطلب الذي نادى به الليبراليون الأوائل من أمثال الفيلسوف الانجليزي جون استيوارت مل مع تحمل عبء مخالفة معلمه جريمي بنتام، – الذي كان ينادي بالجماعية معتبرا أن حرية الفرد في حرية الجماعة، رافضا وجود الحرية الفردية في ظل الجماعة-، ومدى امكانية تحمل الفرد “الشاب” مسؤولية هذه الحرية أمام القانون والجماعة، وهذا ما يحيلنا ضرورة إلى المسؤولية التي تقع على الجماعة اتجاه أحد أفرادها. فما هي الحرية كما تتكرس في الواقع المسؤول، وتعطي معنى للأفعال الإنسانية؟
يعتبر مفهوم الحرية مفهوما واسعا ومتشعبا وله تعريفات مختلفة، وذلك يرجع إلى كثرة مجالات الحرية فمثلا هناك الحرية الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك من الحريات بجانبيها الجماعي والفردي، وقد اقترن هذا المفهوم بالليبرالية “Libéralisme“، وهي الايديولوجيا التي تهتم بالدفاع عن الحرية، والمناداة بها، وخاصة الحرية الفردية. فالليبرالية ترفض السيطرة على الفرد، سواء من طرف السلطة أو المجتمع، والليبراليون يجعلون من الفرد مركزا وفاعلا، ويعتبرونه عنصرا لا يمكن الاستغناء عنه في تقدم المجتمع، ولذلك وجب احترام حريته، وتوفير كل ما من شأنه أن يحقق له الرفاه، والسهر على أمنه. ويعرف محمد عاطف غيث، الليبرالية بأنها: «مذهب أو توجه ايديولوجي يقوم على الاعتقاد في أهمية الفرد ورفاهيته… ومن أهم خصائص هذا المذهب معارضته لسيطرة الحكومة أو الطبقة العليا على الفرد… »[1]. وهذا ما يبين أن الليبرالية مذهب يهدف إلى حرية الفرد، ورفاهيه، داعيا إلى رفض كل ما من شأنه أن يعيق حريته، أو التدخل في أفعاله، كوسيلة ليكون الفرد فاعلا حرا، لا مفعولا به مجبرا.
وما يهمنا في هذه الورقة هو تقديم الحرية كما يراها جون استيوارت مل، الذي دأب إلىتجسيد الحرية في حدّ ذاتها freedom as such أي: لا الحرية كمفهوم ميتافيزيقي، بل الحرية التي تتجسد واقعيا، مضيفة القيمة المعنوية للفعل الإنساني بما في ذلك من مسؤوليات، وهذا ما ساهم في جعلها من بين أهم المفاهيم التي اتفق أغلب الفلاسفة المعاصرين على وجوب تحقيقها لضمان استقلالية الفرد عن طغيان الأغلبية. فالخوض في أشكال الحرية وغاياتها، وحدود ممارستها، يقتضي ضرورة الاحتواء على نموذج تطبيقي للمسؤولية في مجال الحرية، مفصلا طبيعة العلاقة التي من المفترض أن تكون بين المجتمع والفرد من جهة، وبين السلطة والحرية من جهة أخرى، متخذين من أهمية الفردانية شرطا لا غنى عنه لتحقيق مبدأ الحرية والوصول لمقتضى المسؤولية، التي لا يستقيم تحميلها للفرد بدون حصوله على حريته، واستقلاليته.
هذه المسؤولية التي ترتبط بالحرية اتباطا وثيقا لها تعارف عدة ومتنوعة، فالباحث عن مراد المسؤولية في الكتب التي تعرضت للحديث عنها يجد تعريفات متعددة متباينة العبارات، يقتصر كل تعريف منها على تبيان زاوية خاصة من زوايا المسؤولية بحيث لا نجد غالبا تعريفا جامعا مانعا للمسؤولية، ومن أكثر تلك التعريفات شيوعا هو أنها: «شعور الإنسان بالتزامه أخلاقياً بنتائج أعماله الإدارية فيحاسب عليها إن خيراً وإن شراً»[2]، ف«هي أمر داخلي شديد التعقيد في صميم الإنسان، على اتصال وثيق بكل من ميتافيزيقا وعلم الأخلاق والعلوم الإنسانية»[3].
ففي حالة ما أردنا أن يكون الفرد مسؤولا عن تصرفاته فلا بد من اعطائه حريته فمن المستحيل بل ومن الظلم تحميل الفرد مسؤولية فعل لم يكن حرا في اتيانه، فتحمل الفرد لمسؤوليته يقتضي تحديد علاقة الفرد بالمجتمع، وهذا ما جاء جون ستيوارت مل في كتابه “عن الحرية” لتأكيده، حيث يدور هذ المؤلف حول مبدأ الأفعال والمعاملات الاجتماعية مع الفرد، بأسلوب الإكراه أو بهدف السيطرة والتحكم، سواء كانت الوسيلة المتخذة في ذلك هي القوة المادية أو المعنوية، وهذا المبدأ حسب مل هو الغاية الوحيدة المكفولة للإنسانية، بشكل فردي أو جماعي. كما يؤكد على حرية الذات وضرورة إعطائها الاستقلالية التامة، وأن الهدف الوحيد إذا ما قمنا بممارسة الإكراه على الفرد أو استخدام القوة بشكل مشروع عليه، أو الوقوف بينه وبين إراداته وميولاته ورغباته، هو منعه وردعه من إلحاق الضرر بالأفراد الآخرين أو بالمصلحة العامة للمجتمع، وهذا ما يعني أن مل يشرع ممارسة الإكراه على الفرد في حالة واحدة لا غير، وهي: منعه من إلحاق الضرر بالآخرين، و أما «السؤال عما إذا كان الصالح العام سوف يستفيد من تدخل المجتمع أم لا؟ فهو سؤال مطروح للنقاش لكن لا مجال لطرح هذا السؤال على الإطلاق، إذا كانت تصرفات الفرد لا تمس مصالح شخص آخر غير مصالحه هو الخاصة. أو مادامت لا تمس مصالحهم إلا باختيارهم»[4]. فمثلا إذا قام تاجر ببيع بضاعة فاسدة للمشترين، ونجم عن ذلك ضرر لهم أو لم ينجم ضرر عنه، فإنه حسب مل قد توجب عليه العقاب الأخلاقي وان كانت ثمة قوانين تنص على عقوبات لمرتكبي مثل هذه الجرائم، فقد وجب تطبيقها عليه، لأنه قد ضر بالصالح العام عبر غشهم ببضاعة فاسدة، الشيء الذي من شأنه أن يضر بالصحة العمومية.
لكن من ناحية أخرى نجد مل يسلم بفكرة مفادها، أن الإنسان إذا قام بفعل لا يضر غيره لا يستوجب العقاب، لكن في نفس الوقت هذا الفعل الذي يضر بنفسه لا بالآخرين، قد يلحق ضررا بآخرين، كأقاربه، وأسرته وحتى معارفه، لأنه إذا وقع في الإدمان على فعل أفقده بمرور الزمن القدرة على الإحجام عن فعله وفقد بالتالي حريته في أن يفعل أو لا يفعل كلما يحدث لمتناولي المخدرات، فإنه بذلك يعرض أسرته على تناولها، ويؤثر تأثيرا سلبيا عاطفيا على معارفه، ومحيطه ككل وهذا ما يراه مل شيئا، يستوجب اللوم لأنه فعل غير أخلاقي، ويقرب لنا هذه الفكرة من خلال مثال: «فافترض أن شخصا ما يسمى “جورج بارنويل George Barnwell ” قتل عمه ليحصل على مال ينفقه على عشيقته، أو أنه فعل ذلك ليحصل على مال يستثمره في التجارة، فإنه يستحق الشنق في الحالتين سواء بسواء. وهناك من ناحية أخرى الشخص الذي يحزن أسرته لإدمانه عادات سيئة، انه يستحق اللوم لعقوقه أو جحوده… وبصفة عامة فإن كل من يفشل في الوفاء بواجبه تجاه مصالح الآخرين ومشاعرهم، دون أن يكون مضطرا إلى ذلك بسبب الوفاء بواجبات أعلى أو دون أن يبرر ما يسمح به من ايثار للذات، فإنه يعرض نفسه للامتهان الأخلاقي بسبب هذا الفشل»[5]، هذا المثال يحيلنا إلى المسؤولية الجماعية التي على المجتمع تحملها من أجل ضبط أفراده، ولتحقيق هذه المسؤولية كما يجب أن تكون فلا بد من وعي الفرد بحريته وحدودها، كوسيلة لمنع الضرر بالآخرين مما يجعلنا أمام حتمية احترام العلاقة البينية التي تربط الفرد بمجتمعه. هذه هي الحرية التي قال مل بضرورة تحققها، لكنها لم تكن محط اجماع حيث هناك من يرى أنها لا تعدو حرية إباحية تخول الفرد فعل ما يشاء.
وقد تعالت الأصوات التي تعارض آراءه التي أوردها في كتابه “عن الحرية” معتبرة أن الحرية التي نظر لها في كتابه المذكور إنما هي حرية كإباحة من أمثال الآنسة هيمالفراب التي اعتبرت أنه بكتابته لمؤلفه “عن الحرية” إنما هو يناقض أفكاره ويفندها بنفسه، وترجع ذلك، إلى تأثير هاريت تايلور زوجته عليه، مقدمة الكثير من الأدلة، وهو الشيء الذي يعارضه رونالد دووركين متفقا بذلك مع مل، فهو يرى أن مشكلة الآنسة هيمالفرب ومن قال برأيها، هي في سوء فهمهم لكتاب مل “عن الحرية”، لأنهم لا يرون فيه سوى دعوة لحرية الإباحة، وتنمية الفردانية والأنانية في الفرد، معتبرا أن هذه الاتهامات هي ما جاء مؤلف مل “عن الحرية” لعلاجها، لأنه في نظره مؤلف يدعو إلى الحرية بمعناها “الاستقلالية” وليس “الإباحة”.[6]
وهكذا إذا رأينا أن الحرية بما هي غياب أي مانع،
أو إكراه لا تتعارض ترتبط بالمسؤولية التي تهدف إلى تحقيق الحرية الواعية المسؤولة
ارتباطا وثيقا. فالحرية عند جون ستيوارت مل لا تتحقق إلا
بإعطاء الفرد حريته واستقلاليته، داخل المجتمع وهو المبدأ الذي أسست عليه المسؤولية
لأنها تقتضي وجود الحرية، مخالفا بذلك ما جاء في نظرية معلمه جيرمي بنتام
الذي أن الفرد جزء لا يتجزأ من المجتمع. فمسألة سلطة المجتمع على الفرد عند مل،
هي مسألة جوهرية، حيث دافع عن حرية الفرد معتبرا أن حريته مهددة من طرف الجماعة،
معتبرا أن لا حق للمجتمع في التدخل في شؤون الفرد إلا في حالة واحدة وهي في حالة
إلحاقه الضرر بالآخرين. لكنه مع لك يرى ضرورة عدم ترك الفرد خاضعا لنزواته
وميولاته دون توجيه أو إرشاد، ففي حالة ما قام الفرد بفعل من شأنه أن يضر بنفسه،
فإن المجتمع يتدخل ليرشده إلى الطريق الصحيح دون ممارسة أي إكراه أو عنف عليه،
وذلك عن طريق التربية والبرامج التوجيهية الإرشادية. وهذا ما يمكننا من القول: إن الحرية
الفردية، والمسؤولية الجماعية هما وجهان لعملة واحدة، مرهونة بمدى صحة فهم الشباب
لهذه الحرية وحدودها، ووعي المجتمع بمسؤوعيتها نحو الفرد.
[1] محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، حرف “L”، Libéralisme، الليبرالية، دار المعرفة الجامعية، 40 ــ ش ــ سويترـــ اسكندرية، 1979م، ص 271.
[2] مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1979م.
[3] الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الأول “الاصطلاحات والمفاهيم”، مسؤولية، ط1، معهد الإنماء العربي1986، ص744.
[4] جون ستيوارت مل، نصوص مجمعة، مذهب المنفعة العامة وعن الحرية، ترجمة وتقديم وتعليق إمام عبد الفتاح إمام وميشيل ميتياس: (أسس الليبرالية السياسية)، مكتبة مدبولي، مصر ــــ القاهرة 1996م، ص208.
[5] جون ستيوارت مل، نصوص مجمعة، مذهب المنفعة العامة وعن الحرية، مصدر سبق ذكره، ص214 ـــــ 215.
[6] نقصد هنا من اتهموا جون ستيوارت مل حول نظريته، حيث قالوا أن نظريته في الحرية التي أوردها في كتابه عن الحرية هي نظرية تجعل من الحرية الفردية إباحة ليس إلا من أمثال الآنسة هيمالفرب وهو الشيء الذي نفاه مل في كتابه المذكور آنفا، مما جعلنا نصفهم بعدم الإحاطة أو سوء فهم لفكر مل وهو نفس الشيء الذي قال به رونالد دووركين في كتابه أخذ الحقوق على محمل الجد، وللتعمق أكثر في هذه الفكرة انظر نفس الكتاب، الفصل 11.