19 مارس، 2024، والساعة الآن 3:37 صباحًا بتوقيت نواكشوط
Google search engine

الدين السكوني والدين الحركي عند هنري برغسون (Henri Bergson (1859-1941

إسماعيل الموساوي
باحث مغربي متخصص في الفلسفة. حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش

“قد نرى في الماضي، أو في الحاضر، مجتمعات إنسانية لا حظ لها من علم أو فن أو فلسفة، ولكن لا نعرف مجتمعا لا دين له” هنري برغسون Henri Bergson
تقديم إشكالي:
تطمح هذه الدراسة في معالجة قضية أساسية شغلت بال الكثير من المفكرين والفلاسفة على مر العصور، وهي قضية الدين[1]؛ هذه الأخيرة التي حاول أن يتصدى لها العقل الإنساني بكل ما أوتي من قوة، محاولاً الإجابة عن مجموعة من المشكلات التي كانت تعترضه من قبيل: مصير الإنسان بعد الموت، وغايته من وجوده في هذا الوجود، وغيرها كثير من قبيل هذه المشكلات… ويعزى اختيارنا للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون Henri Bergson في هذا السياق لكون أن الحديث حوله في الدراسات العربية التي أنجزت عادة ما ينظر إلى فلسفته، باعتبارها فلسفة طبيعية تطورية تأخذ من مبدأي التغير والصيرورة في الحياة ما تفسر به جميع الموضوعات المطروحة في الكون، وهذا الأمر لا نختلف فيه إذا توقفنا عند كتاباته الأولى[2]، وإنما نؤيده ونقر على صحته، أما إذا رجعنا إلى كتاباته الأخيرة، ولاسيما كتابه المعنون بـ “منبعا الأخلاق والدين” Les Deux Sources de la Morale et De la Religion 1992، فإنبرغسون يعيد فيه الاعتبار للقضايا الروحية والأخلاقية والدينية من خلال بسطه لرأيه في الدين والأخلاق، ودورهما في الحياة الإنسانية ومستقبلها. وكما يقول المفكر عبد الرحمان بدوي، إن هذا الكتاب “مزيج من التصوف والفلسفة الخلقية والتأملات السياسية ذات النزعة الحالمة”[3]. إذن، فكيف تصور برغسون قضية الدين؟ وما تفسيره لها؟ وما الفرق بين الدين السكوني والدين الحركي عند برغسون؟ وما علاقة الدين عند برغسون بالتجربة الصوفية الحقة، باعتبارها حلا لمشكلة الله عنده؟
نحتاج في نظرنا للإجابة عن هذه الإشكالات المطروحة على الأقل إلى المحاور التالية:
1. الدين عند برغسون
– الدين السكوني عند برغسون ووظيفته الأسطورية
– الدين الحركي عند برغسون غايته الاتصال بالله
2. التجربة الصوفية الحقة وحل مشكلة الله عند برغسون
1- الدين عند برغسون:
إن برغسون يَجمع بين الأخلاق والدين لكونه يرى أن للاثنين معا ينبوعين أساسيين؛ وهما: الانفتاح والانغلاق، ولهذا نجده يعتبر الأخلاق نوعين، وهي: أخلاق منغلقة Morale Close، وأخلاق مفتوحة Morale Ouverte؛ فالأولى هي “أخلاق الجماعات المغلقة، وهي تلك المجتمعات التي تشبه في بعض الوجوه خلايا النمل أو بيوت النحل”[4]. أما الثانية، فهي “أخلاق تتجاوز حدود الجماعة، وهي أخلاق مليئة بالحركة والخلق والإبداع، وعليها يتوقف مصير الإنسانية؛ لأنها هي التي تفتح أمام التطور البشري أفقا واسعا لا نهائيا”[5]. وعليه، يقر برغسون أن هناك تشابها حاصلا بين المجتمعات البشرية البدائية، وبين خلايا النحل أو بيوت النمل التي ذكرناها آنفا، وهذا الحكم لا يسري فقط على المجتمعات البدائية، وإنما إذا عمّقنا النظر في مجتمعاتنا المتحضرة، فإننا سنجدها لازالت منغلقة على نفسها؛ لأنها تضم البعض وتطرد غيرهم، وذلك لكونها حسب برغسون تقوم على الإلزام Obligation، “لأن الإلزام هو من الضرورة بمثابة العادة من الطبيعة”[6] والشعور بالضرورة، وإن كان مصحوباً بالشعور بالتملص منها، هو ما يسمى بالإلزام، فهذا الأخير تفرضه الجماعة بمثابة نظام من العادات يسعى إلى تحقيق ما يسمى بوحدة المجتمع من خلال تماسك أفراده وحمايته من العدو الخارجي.
واضح إذن، أن برغسون يدعونا إلى البحث عن الأخلاق المفتوحة، وهي التي يجسدها لنا في القول التالي: “الواقع أننا لو تعمقنا الأخلاق الجديدة التي يجيئ بها مثل هؤلاء “الأبطال”[7] لوجدنا أنها تعبر عن اتحادهم بالمصدر الأصلي للحياة، أو بالوثبة الحيوية نفسها؛ وهذا الاتحاد هو الأصل في شعورهم بالتحدي من ربقة الطبيعة وأسر المدينة”[8]؛ أي أن برغسون يفتح الأخلاق أمام إمكان جديد متحرر أكثر من قيود المادة ومرتبط أكثر باليقظة الفكرية والإلهام الروحي والحدس الصوفي.
فإذا كان برغسون يميز في الأخلاق بين نوعين كما رأينا، أخلاق مفتوحة وأخلاق منغلقة، فإننا نجد نفس التصنيف في الدين من خلال تمييزه بين الدين السكوني Religion Statique، والدين الحركي Religion Dynamique.
– الدين السكوني عند برغسون ووظيفته الأسطورية
ينطلق برغسون من فكرة قوامها أنه لا يمكن أن نجد في الماضي أو الحاضر أو المستقبل مجتمعات من دون دين، و”قد نرى في الماضي، أو في الحاضر، مجتمعات إنسانية لا حظ لها من علم أو فن أو فلسفة، ولكن لا نعرف مجتمعا لا دين له”[9]، وذلك راجع إلى إيمان الإنسان منذ القدم بأشياء خرافية وسحرية يلجأ إليها، لتفسير ما يعترضه من مشاكل دنيوية، فإذا كان الحيوان يجهل الخرافات جهلاً تاماً، فإن الإنسان على العكس من ذلك، هو الحيوان الوحيد الذي يعلق أماله الكبرى في صميم وجوده على أمور وهمية وغير معقولة، وظواهر غيبية غير مفهومة، وقوى سحرية غير ملموسة[10]. مما يبين أن الدين كان وثيق الصلة بالسحر والخرافات، والأساطير. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الدين كان وليد حاجة إنسانية..
وتجدر الإشارة كذلك، إلى أن هناك تمييزا يضعه برغسون في غاية الأهمية بين النباتات والحيوانات من جهة والإنسان من جهة ثانية، حيث إن الأولى تحيا غارقة في طمأنينة مطلقة لا يكاد يطلع عليها الإنسان، لكونها تحيا في “الآن L’instant “، كما لو أنها كانت تنعم بالأبدية ليس فيها موضع للقلق أو اللهفة أو السأم، لكونها تعيش في لحظتها ولا تعطي أية أهمية لتابعات هذه اللحظة. أما الإنسان، فهو “الحيوان الوحيد الذي لا يضمن فعله، فيتردد ويتخبط، ثم يبني مشاريعه، وهو مؤمل في النجاح، مشفق أن يخفق. هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه ميت لا محالة. أما غيره مما في الطبيعة، فيتفتح ويزدهر في هدوء تام، وطمأنينة كاملة”[11]، وليس من شك في أن يقظة العقل عند الإنسان قد تفضي إلى “قلق بشري Inquiétude Humaine” يكون هو الكفيل بالقضاء على نظام الطبيعة[12]، ومع ذلك فإن الإنسان يحب أن يعرف أكثر وأفضل في ما يقع في الوجود بالمقارنة مع الكائنات الأخرى التي تتوفر على مفاهيم خارجية وسطحية. أما الإنسان، فيحتوي على مفاهيم داخلية وعميقة[13]، بفضل هذه الأخيرة يسبر أغوار جميع الموضوعات الموجودة في الكون.
وعلى إثر هذا التمييز، نجد الحيوان حسب برغسون بأنه يحقق ما عليه انطلاقاً من الغريزة، التي بفضلها تتحقق الأفعال الضرورية للحياة الجمعية، التي توحدهم في شكل جماعة. أما الإنسان، فيحقق ذلك انطلاقاً من توفره على العقل، إلا أن توفره على هذا الأخير، قد يجعل من المرء يبحث عما يخدم مصلحته الخاصة، مما قد يحول دون تحقيق ما يسمى المصلحة العامة، ومعنى هذا بأن يقظة العقل التي تحدثنا عنها آنفا، قد تكون ضارة بالجماعة والفرد في نفس الآن. كما أن الطبيعة هي من وضعت الغريزة ووضعت العقل حسب برغسون، وهي وحدها من يحق لها إعادة خلق التوازن الذي تسبب العقل في زعزعة استقراره، فيكون الملجأ إذن انطلاقاً من هذا إلى الدين الساكن الذي تتخلله الخرافات والأساطير. وعليه، تهب الطبيعة الإنسان وظيفة أسطورية Fonction Fabulatrice التي “تنسب إلى العقل، وليست مع ذلك من العقل المحض، تحقق هذا الغرض، فقد أوجدت الدين الذي كان موضوع حديثنا وحتى والذي أسميناه سكونياً، وكان بودنا أن نسميه طبيعياً لو لم يكتسب هذا التعبير معنى آخر”[14]، وبمقتضى هذه الوظيفة الأسطورية يستطيع المرء أن يخترع شخصيات يخلع عليها صوراً متباينة، وأشكالاً متعددة، وينسب إليها صفات وأخلاقاً وتاريخاُ بأكمله، وهذه الشخصيات قد تكون “أرواحاً” بادئ الأمر، ثم تستحيل إلا “آلهة” أو “قوى إلهية” فيما بعد، ولكن المهم أن الوظيفة الأسطورية هي التي تحملنا على الظن بأن تلك القوى الإلهية تراقبنا، وأنها تطلب منا الخضوع والولاء لذلك “المجتمع” الذي قد تُحدثنا أنفسنا بالتمرد عليه بالخرافات Superstitieux فذلك لأن من شأن “الوظيفة الأسطورية أن تهبه شيئاً من الثقة أو طمأنينة، إذ هي التي تمده بفكرة “الخلود الشخصي” فلا تلبث النفس أن تطمئن إلى بقائها بعد الموت، على الرغم من إدراكها لواقعة الموت الأليمة التي لا مفر منها.
إن وظيفة الدين السكوني تكمن بالأساس في أنه “رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة ما في اشتغال العقل مما قد يشل قوى الفرد ويحل تماسك المجتمع”[15]، لأن العقل عائق يعكر الصفاء الذي نلمسه في كل ما عداه، وأنه لابد من التغلب على هذا العائق، وإعادة التوازن. ومن هنا يكون الدين السكوني حسب برغسون رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة ضد ما أدى إليه العقل من تفرقة الفرد عن الجماعة وتفرقة الجماعة عن الفرد، مما أدى إلى تفكيك بعضهما عن بعض، ففي الدين السكوني هنا تشبث بالحياة حتى وإن أدرك العقل بأن نهايته محتومة بالموت، وبالإضافة إلى إخلاص الفرد إلى الجماعة، وإن كان يأمره عقله بالتفرد، وذلك عن طريق الطقوس السحرية لأن “السحر هو جزء لا يتجزأ من الدين السكوني، أو ربما كان الأصح أن نقول إن الدين والسحر قد صدر عن أصل واحد، وهما في العادة يسيران دائما جنبا إلى جنب”[16] وهذا كله طبعا، عند المجتمعات البدائية.
– الدين الحركي عند برغسون غايته الاتصال بالله.
يربط برغسون الدين الحركي بالتجربة روحية التي تجد مصدرها في الحدس الصوفي لا في الغريزة. أما غايته، فتحدد أساسا في الاتصال بالله لا بالتشبث بالمجتمع كما هو الحال في الدين السكوني، عن طريق الانفصال عن الحياة ومثيراتها التي قد تحول دون تحقيق هذه الغاية السامية. إن الدين الحركي حسب برغسون يحقق للإنسان الطمأنينة والسكينة Sérénité مثل الدين السكوني إلا أنها في هذه المرة بشكل أسمى وأرقى من الدين السكوني، فأين نجد هذا النوع من الدين وتجلياته حسب برغسون؟
يخبرنا برغسون بأن هذا النوع من الدين يمكن العثور عليه عند المتصوفة المسيحيين الآتية أسماؤهم، والذين يعتبر برغسون تصوفهم تصوفاً كاملاً لا يشوبه النقصان، من أمثال “القديس بولس، والقديسة تريزا، والقديسة كاترين دوسيين، والقديس فرانسوا، وجان دارك، وكثير غيرهم”[17]، وقد يكون هؤلاء من وجهة نظر برغسون تختلف تجربتهم الصوفية من شخص للأخر إلا أنه هناك ما يوحدهم، وهو كونهم “جميعا يصدرون عن احتكاك مباشر أو اتصال فعال بالجهد الخالق الذي يكمن من وراء الحياة، وهذا الجهد من الله إن لم يكن هو نفسه”[18]. وعلى هذا الأساس، تكون غاية التصوف عند برغسون “اتصال بالجهد المبدع الخالق الذي ينجلي عن الحياة، ومن تم اِتحاد جزئي به، وهذا الجهد هو شيء من الله، إن لم يكن هو الله ذاته، والصوفي الكبير هو ذلك الإنسان الذي يتخطى الحدود التي رسمتها للنوع البشري، ويكمل بهذا فعل الله”[19].
إن التصوف الحقيقي عند برغسون أمر يصعب بلوغه، إلا أن هذا لا يعني بأن بذور الصوفية لم توجد في كل مكان وزمان، فالصوفي العظيم حسب برغسون هو تلك الشخصية التي استطاعت أن تتحرر من كل قيود المادة لكي تربط الاتصال بالفعل الإلهي نفسه، ويحدثنا برغسون بأن فلاسفة اليونان قد حاولوا أن يسمو بأنفسهم نحو تحقيق هذا المستوى إلا أن تجربتهم باءت بالفشل نظرا لنزعتهم العقلية المحضة التي منعتهم من الوصول إلى التصوف الحقيقي الذي يمتزج فيه النظر بالعمل، فيقدم لنا مثال الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي قدم العمل L’action كمجرد تضاؤل للنظر La contemplation، بينما التصوف الحقيقي هو في صميمه “فعل، وخلق، وحب”[20]، بمعنى أن أفلوطين قد حاول قدر الإمكان أن يسمو بنفسه إلى هذا المقام، إلا أنه لم يستطع أن يحول التأمل إلى عمل الذي تحدد بفضله إرادة الإنسان بإرادة الله[21]، وكذلك البوذية التي لم تجهل المحبة، إلا أن قولهم بالتشاؤم واستئصال إرادة الحياة قد منع معظم الفلسفات الهندية من أن ترقى إلى التصوف الكامل والحقيقي.
إن المتصوفة الحقيقيين حسب برغسون رجال “عمل لا تأمل أو نظر”، كما يحضر ذلك في تجارب رجال ونساء من قبيل القديس بولس، وجاك دارك، والقديسة تريزا، والمسيح الذي يعتبره برغسون أكبر شخصية صوفية عرفها التاريخ، حيث يمكننا القول إن كل المتصوفة إن هم إلا أتباع أصليون للمسيح الذي هو مثلهم الأعلى، وذلك من خلال أن الصوفي المسيحي ينتابه شعور بالحب، وهذا ليس حكراً على حب الإنسان لله، وإنما هو حب لجميع الناس، وكأن الصوفي يحب من خلال الله كل الإنسانية حبا إلهيا وليس هذا الحب سوى الأخوة التي يوصي بها الفلاسفة باسم العقل، وحجتهم في ذلك أن البشر يشتركون في جوهر عقلي واحد.
يتضح إذن من خلال ما سلف، أن برغسون يقرن بين الصوفية الحقة والمسيحية وذلك من خلال أن كل منهما شرط للأخرى من غير تحديد، وكأن برغسون يريد بأن يخبرنا بأنه كان في الأصل سوى مسيحية المسيح.
2- التجربة الصوفية الحقة وحل مشكلة الله عند برغسون
يرى برغسون أن التجربة الصوفية هي التي تقدم لنا الحل الوحيد لمشكلة الله كحل تجريبي، مع العلم أن هذه التجربة لا يمكن لها أن توصلنا إلى اليقين النهائي والحاسم، وبالرغم من ذلك، فبإمكانها أن تقدم لنا حلا احتماليا يمكن زيادته إلى الاحتمالات السالفة، فنكون بهذا قد وصلنا على الأقل إلى ما يقربنا إلى اليقين. فكلما انفتحت التجربة الصوفية على التأويل العقلي كلما كشفنا عن مضامين فلسفية عميقة لم يكن بودنا معرفتها، فالتجربة الصوفية (القائمة على الحدس الصوفي) هي السبيل الأوحد لتكملة تلك النظرات الميتافيزيقية الناقصة[22]، لأن الميتافيزيقا لا يمكن لها أن تكتمل إلا بفضل التجمع المطرد للنتائج المحصلة، بعدما كانت مذهباً منغلقاً على نفسه.
فما هي إذن أبرز هذه الاحتمالات التي تقدمها لنا التجربة الصوفية لحل مشكلة الله؟
يجيبنا برغسون بأن هذه الاحتمالات الجديدة التي تجيئ بها التجربة الصوفية؛ فهي أولاً أن الله محبة، وأنه موضوع محبة[23]، هذا بالإضافة إلى تفسير نظرية الخلق، باعتبار أن الله لم يخلقنا إلا لكي نحبه، يقول برغسون: “إن ثمة موجودات قد دعيت إلى الوجود، وكتب لها أن تُحَب وتُحِب: فإن الطاقة الخلاقة لا تعرف إلا بهذا الحب نفسه، ولما كانت تلك الموجودات متمايزة عن الله الذي هو تلك الطاقة نفسها، فلم يكن من الممكن لها أن تظهر إلا في عالم (أو كون). ولهذا فقد تحتم ظهور العالم، وفي هذا الجزء المعين من الكون الذي هو كوكبنا، بل ربما في كل نظامنا الكوكبي بأجمعه قد تحتم على تلك الموجودات من أجل الظهور أن تكون نوعاً، وهذا النوع بدوره قد استلزم مجموعة أخرى من الأنواع كانت منه بمثابة العوامل الممهدة، أو القوى المدعمة، أو الفضلات المتبقية”[24].
إن برغسون قد رفض جميع الأدلة التقليدية التي تثبت وجود الله، كدليل أرسطو بالمحرك الأول، ودليل الغائية، وكذلك الدليل الأنطولوجي، ليقر بصحة الدليل الصوفي الذي يوصلنا إلى حقيقة الحضرة الإلهية La présence Divine؛ لأن برغسون قد أدرك بأن الفلسفة عندما تحاول أن تتحدث عن الله، فإن الله الذي تقدمه بعيداً كل البعد عن تصور الله كما هو معبود عند عامة الناس. أما الله عند الصوفية، فهو أبعد ما يكون عند تصور الفلاسفة والعلماء له، لأنه الحياة والمحبة. وعلى هذا الأساس، فإن الصوفيين يحملون هم تحقيق الآمال الإنسانية عن طريق المحبة، والتعاطف، والغبطة الروحية، وإذا كان الكثيرون قد لا يجدون حلا لمشكلة الشر التي تؤرق عقولهم وقلوبهم، فإن الصوفية هم الكفيلون بإظهارها على أن ثمة غبطة روحية عميقة تعلو على اللذة والألم معاً، وتلك هي الحالة النفسية النهائية التي يصل إليها الصوفي في خاتمة المطاف[25]. وكأن برغسون أراد أن يقول لنا إن مجموع المشاكل الأخلاقية والإلهية المطروحة قد نجد حلاً لها عند المتصوف الحقيقي والكامل، انطلاقا من إقراره بعقيدة المحبة التي يأتلف الكون جميعه بفضلها.
على سبيل الختم:
لقد حاولنا قدر الإمكان في هذه الدراسة أن نلامس قضية الدين عند برغسون وما تطرحه من إشكالات فلسفية، من خلال كتابه منبع الأخلاق والدين، وعموماً يمكن القول إن برغسون في معالجته لهذه القضية قد تبنى نفس التمييز الذي تبناه كما أثبتا في الأخلاق بين أخلاق منغلقة وأخلاق مفتوحة، وذلك من خلال ينبوعين أساسيين، وهما: الانغلاق والانفتاح؛ فنفس الأمر وجدناه في معالجته لقضية الدين، إذ يميز في هذا الأخير بين نوعين، وهما: الدين السكوني والدين الحركي؛ فالأول ليس من نتاج العقل، بل ترجع نشأته لوظيفته الخرافية والأسطورية، ولما كان العقل يميل إلى فصل الفرد عن المجتمع، فإن الطبيعة تقوم ضد هذه القوة العقلية المفرقة للمجتمعات. إن هذا الدين السكوني هو احتياط ضد الخطر الذي يتعرض له المرء متى فكر في ذاته ولم يفكر إلا في ذاته، وهذا رد فعل يقوم به الدين السكوني من الطبيعة ضد العقل. أما الثاني، فهو دين يولد كما أثبتنا من اتصال بالذات الإلهية والمجهود الخالق للحياة. وعليه، يكون الدين الحركي يستمد مبادئه من التصوف الذي يطمئن النفس، ومصدر هذا الجهد الخلاق يأتي من الله. كما أنه ليس في التصوف الحقيقي والكامل” تأمل ولا نظر” كما كان عند المتصوفة القدماء، وإنما تسمو الذات الإنسانية إلى ما تصبو إليه بـ “العمل لا بالنظر أو التأمل”.

المراجع المعتمدة:
– بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلاسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، بيروت.
– زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي.
– هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971
– Henri Bergson, Creative Evolution(1944), tr: Arthur Mitchell, The modern library, New York,
________________________________________
[1] نعلم أن هذا المجال الذي نتحدث عنه يدخل في إطار مبحث “فلسفة الدين” وما تثيره من إشكالات حول الدين وقضاياه، وقد حظينا بشرف دراسة هذا المبحث القيم على يد الدكتور: محمد البوغالي، سنة: 2013-2014 ضمن المواد المبرمجة في إطار التكوين العام لماستر “الفلسفة تأويل وإبداع” الذي تشرف على تنسيقه الدكتورة: ثريا بركان.
[2] نقصد بالكتابات الأولى لبرغسون:
– “رسالة في معطيات الشعور المباشرةEssai sur Les données immédiates de la Conscience 1889 ”
– “المادة والذاكرة، رسالة في علاقة الجسد بالنفس” “1896Matière et Mémoire; essai sur la relation du corps et de l’esprit ”
[3] بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلاسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، بيروت، ص 325
[4] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 188
[5] نفس المرجع، نفس الصفحة
[6] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 19
[7] المقصود هنا حسب برغسون: (المتصوفة الذين أخذوا التصوف الحق بـ “العمل لا بالتأمل”) كما سنرى في ما يلي من هذه الدراسة.
[8] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، نوابع الفكر الغربي، ص 194
[9] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 113
[10] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، نوابع الفكر الغربي، ص ص 198-199
[11] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 218
[12] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 199
[13] Henri Bergson, Creative Evolution)1944), tr: Arthur Mitchell, The modern library, New York, p: 3
[14] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 219
[15] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[16] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 201
[17] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 244
[18] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 201
[19] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 236
[20] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 202
[21] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد المنعم، الهيئة المصرية العامة لتأليف والنشر، الطبعة الأولى 1971، ص 237
[22] زكريا إبراهيم، برغسون، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، بدون سنة النشر، نوابع الفكر الغربي، ص 205
[23] نفسه، ص 206
[24] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[25] نفس المرجع، ص 207

 

اقرأ أيضا على مبدأ
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة