16 أبريل، 2024، والساعة الآن 10:48 مساءً بتوقيت نواكشوط
Google search engine

الربيع العربي… هل توقف؟ / د. السيد ولد أباه

ذكرت لي شخصية دبلوماسية عربية مرموقة شاركت في «منتدى اسبن» المغلق، الذي التأم الأسبوع الماضي بمراكش بحضور 26 وزير خارجية سابق من البلدان العربية والغربية أن الموقف كما توصل إليه المنتدى يتلخص في عبارتين: «انهيار مؤسسي جذري لبلدان الربيع العربي، وضياع الرؤية والتوجه لدى القوى

الدولية التي واكبت التحولات وشجعتها». بعد فترة الحماس المشروع والأمل الجارف، تزايد الشعور بالخطر والقلق من سير الأحداث في البلدان الخمسة التي مر بها «الربيع العربي»: احتقان سياسي وأمني وأفق مسدود في مصر وأزمة سياسية خانقة في تونس وفتنة أهلية وانفلات أمني في ليبيا، ومسار انتقالي متعطل في اليمن، وحرب أهلية حقيقية في سوريا. بعد حركية الثورة دخلت المنطقة العربية منعرج الأزمة، أي أزمات الانتقال والتحول التي توشك أن تصبح أزمات بنيوية عميقة، تطال شكل النظام السياسي والهياكل المؤسسية للدولة والأنساق الاجتماعية العميقة. كتب الفيلسوف السويسري الأشهر «جان جاك روسو» قبيل اندلاع الثورة الفرنسية :«إننا نقترب من حالة الأزمة ومن عصر الثورات، من يمكنه أن يخبرنا حول ماذا سيقع حينئذ؟». يقف الفكر العربي اليوم أمام سؤال مماثل ، بعد أن دخلت المنطقة عصر الثورات وتفاقمت أزماتها الداخلية في أوجهها المختلفة.

ويمكنني القول بعد حضور العديد من الندوات والمؤتمرات الاستشرافية للوضع العربي بعد التحولات الأخيرة الجزم بأن مصائر المنطقة العربية غدت ضبابية قاتمة، لا أحد يمكنه المجازفة بتحديدها بدقة وجلاء. ليس من همنا في هذا الحيز رصد أوجه أزمات التحول الراهنة في أبعادها السياسية والقانونية والمجتمعية التي سبق أن نبهنا إليها مبكراً في هذه الصفحة، وفي الكتاب الذي تتبعنا فيه ديناميكية «الثورات العربية الجديدة»، وإنما حسبنا التوقف عند الأفق التأويلي للحظة التحول التي اعتبرت تدشيناً لزمن سياسي عربي جديد.

تحيل مقولة الثورة في منابعها الفلسفية الأصلية إلى تصور جديد للزمن بصفته محرك التاريخ وصانع المعنى وأفق التحرر الإنساني. بهذه الخلفية أثرت الثورتان الفرنسية والأميركية في العقل السياسي الحديث وصاغتا الأطر الأيديولوجية والنظرية للأنساق الفكرية والمجتمعية المعاصرة. في الثورة يخرج الزمن السياسي من منطق الانتظام المؤسسي وهوية الجسم الاجتماعي الموحد، لكي تنفتح لحظة إعادة البناء الجذري وتشكل الشرعيات الجديدة ومراجعة النظم الاجتماعية والبنيات الدستورية والقانونية. حدث الثورة إذن يتنزل على الخيط الدقيق بين خطر التفكك والفوضى وزخم الأمل الطوبائي الخصب بتحقيق المثل الإنسانية المطلقة التي يتم الالتفاف حولها في أي نسق سياسي قائم مهما كانت شرعيته وعدالته. وما يبقى من الثورات الكبرى بعد انحسار زخمها الحدثي الاحتفائي هو الوعود التي تحملها والآفاق الرحبة التي تدشنها.

فإذا كانت الثورة الفرنسية في جانب منها هي حصيلة تأليفية لقيم النهضة الأوروبية والإصلاح الديني وفكر الأنوار، فإنها في جانب آخر منها هي مدونة حقوق الإنسان وأحلام الكونية الإنسانية التي حملتها مشروعاً مفتوحاً للبشرية (على الرغم من سوء استخدامه واستغلاله في الحروب الإمبراطورية والسياسات الاستعمارية التوسعية)، بل إن الثورة البلشفية على قساوتها وفظائع جرائمها حملت وعوداً خصبة مماثلة غذت المخيال الجماعي للطبقات المسحوقة والشعوب المقهورة، هل تحمل الثورات العربية الراهنة مثل هذه الوعود الخصبة؟ وهل تدشن بالفعل هذا الأفق التأويلي للزمن؟

لا مناص من الإقرار بأن الانتفاضات الشعبية العربية حملت في عفويتها وسلميتها وأجوائها الاحتفائية حلم التحول الجذري وطوبائية التحرر والانفكاك من قيود التسلط والاستبداد، إلى حد أن العديد من كبار المفكرين الغربيين اعتبروا «الربيع العربي» محطة فاصلة في مسار البشرية التي دخلت مجدداً عصر الثورة بعد انحساره ونضوبه، بيد أن عوائق ومصاعب الانتقال الديمقراطي التي عرفتها بلدان «الربيع العربي» سرعان ما صرفت الاهتمام إلى الإشكالين الجوهريين اللذين يطرحهما الوضع العربي الراهن وهما: علاقة الديمقراطية التعددية في شرعيتها الإجرائية بأطر المشروعية الدينية والقيمية للمجتمع، وضبط الخط الفاصل بين مقتضيات ومآلات المنافسة الانتخابية من جهة والضمانات المؤسسية البنيوية للممارسة الديمقراطية من جهة أخرى (للحيلولة دون شبح الديكتاتوريات الانتخابية). لم تعد حركية الثورة قوة دافعة راهناً في الشارع العربي المحبط، وإنما تحولت المقولة إما إلى خلفية ومرتكز للشرعية لأنظمة ورثت الأحكام التسلطية المخلوعة، أو إلى ورقة تعبوية للحركات الاحتجاجية التي تسعى دون نجاح إلى استئناف الزخم الأصلي للثورات.

لا يبدو أن أياً من البلدان العربية الأخرى مرشحة لسيناريو ثورات «الربيع العربي»، وإن كان بعضها يشهد نفس عوامل الاحتقان والتأزم التي قادت إلى مشهد التغيير الجذري الجارف: انهيار اقتصادي وأزمات اجتماعية خانقة وبنية سياسية تسلطية… في تونس حيث كنت الأسبوع الماضي ، قابلت أحد وزراء «الترويكا» الحاكمة، الذي صارحني، بأن التجربة التونسية فشلت لحد الآن في تقديم النموذج المغري للتحول الثوري الناجع. وقد اعتبر محدثي أن الخطر الذي يتهدد الحالة التونسية هو أن تفضي إشكالات ومصاعب التحول الانتقالي إلى مزيد من تردي الأوضاع المعيشة والأمنية، فبفقد شعار الثورة بريقه، مما بدت مؤشراته تخرج للعلن.

إن مكمن الخطر أن الثورات من حيث تعطيل للشرعيات القائمة وتقويض للنظم المؤسسية ولموازين الحكامة السياسية لا يمكن أن تتجاوز وضعها الاستثنائي بصفتها لحظة فارقة ومؤسسة، وعندما تتحول إلى وضع دائم تفضي إلى الفوضى والتفكك في الوقت الذي تغدو مجرد حركية عقيمة وهشة المخزون الرمزي والدلالي. ولذا فإن التحدي المطروح راهناً بقوة في الساحة العربية هو إخراج مطالب التغيير النوعي عن رمزية الثورة ومرجعيتها بتنزيلها في دائرة الصراع السياسي السلمي وموازينه الواقعية. كان العالم النفساني الفرنسي «جاك لاكان» يقول إن مفهوم الثورة ارتبط أصلًا بحركة النجوم، التي هي وحدها تثور، وذلك ما يؤدي بها إلى العودة دوماً لمواقعها الأصلية، وثورات النجوم لا تختلف عن ثورات البشر.

اقرأ أيضا على مبدأ
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة